شهادات ومذكرات

نبيه القاسم: في الذكرى الثالثة والثلاثين للكاتب يوسف إدريس الفارس الذي رحل

كان اللقاء بالكاتب يوسف إدريس وغيره من الكتّاب والشعراء المصريين حلما أتمنى تحقيقه منذ بدأت علاقتي بالقراءة والكتابة، وكان السّعي للقائه أوّل مهمّاتي يوم زرت القاهرة لأوّل مرة في شهر آذار 1983، يومها التقيتُ الكثيرين من الذين أحببتهم من خلال قراءاتي لما كتبوا أمثال إحسان عبد القدوس وعبد الرحمن الشرقاوي وتوفيق الحكيم ويوسف القعيد وثروت أباظه ويوسف إدريس.. كان اللقاء بإحسان عبد القدوس أجملها وأكثرها حيوية وأهميّة لما تميّز به المرحوم إحسان عبد القدوس من الرّقة والاطّلاع والثقافة والإدراك والوعي لمجريات الأمور.. وكان اللقاء بيوسف إدريس أشدّها حدّة ومُضايقة..

عندما أخبره رجل الأمن في مدخل بناية الأهرام أنّ كاتبا فلسطينيا يُريد مقابلته، رحبّ بي ودعاني إلى غرفته.. وعندما وصلت إليه في غرفة 619 في الطابق السادس من بناية الأهرام استقبلني سكرتيرُه ليعتذر بأنّ الدكتور يوسف مشغول جدّا في اجتماع خاص ويطلب تأجيل الزيارة.. شعرتُ بالإهانة.. فما معنى أن يُرحِّب ويدعو ثم يعتذر ويطلب التأجيل!! وتحسّستُ السبب وهو إخبار رجل الأمن له أنني أحمل جواز السفر الإسرائيلي.. وكان يوسف إدريس يومها من المعارضين لأيّ صورة من صور التطبيع مع إسرائيل.. حاول السكرتير أنْ يشرح لي مشاغل الدكتور وأنه يُرحِّب بي في الغد الساعة التاسعة صباحا.. ورغم شعوري بالغضب إلاّ أنني تراجعت وعدتُ في الغد وقابلته في مكتبه لوقت قصير حاول أن يكون في منتهى الدماثة والرّقة..

اللقاء الثاني بيوسف إدريس كان في ربيع 1988 وعَبر الصحافة.. فقد كانت أخبار الانتفاضة الفلسطينيّة شاغل الناس والصّحافة في مصر، وكانت الصحافة المصرية مشغولة بقضيّة طالب معهد الفنادق في بور سعيد الذي تحمَّس لدعوة يوسف إدريس التي نشرها في الأهرام. وطلب فيها بالخروج عن التأييد الكلامي للانتفاضة والعمل الفعلي، حيث قام هذا الطالب محمد حامد الحمامي بالمبادرة لتنظيم مهرجان طلابي لدعم الانتفاضة، فما كان من مدير المعهد إلاّ أن استدعى قوات الأمن التي اعتقلته ومن ثم طرده من المعهد..

وصدف خلال زيارتي لمجلة (المصوّر) أن طلب مني سكرتير تحريرها أحمد أبو كف أنْ أكتب للمصّور فتحمّست وكتبتُ تحيّة عاطفيّة للطالب محمد حامد الحمامي تحت عنوان (باقة ورد فلسطينية للطالب محمد حامد الحمامي) وفيها أنتقد موقفَ الكاتب يوسف إدريس الذي عرضه في مقالته الجوابية على تصرفات مدير المعهد وقوات الأمن قلت: (مشكلة الطالب محمد حامد الحمامي كما يراها الشبل الفلسطيني القابض على حجر ليست في فَصْله من معهد الفنادق في بور سعيد، وماذا سيكون مصير محمد حامد.. وإنّما المشكلة هي في موقف يوسف إدريس الذي نشر مقالة حماسية جميلة تدعو للخروج على الصمت وإعلان الموقف المتضامن مع الفلسطيني الثائر. وإذ وجدت دعوته الشجاعة مَن يُلبّيها.. كان يوسف إدريس وسط الأضواء الساحرة في بلاد الله القدسية يُحيط به الأمراء والوزراء والقادة وقادة الفكر تأخذه الضيافة العربية فيفضّل ترك الطالب محمد حامد إلى حين، ويروح يُدبّج المقالات عن مهرجان الجنادرية الثقافي الذي يُقيمه الحرس الوطني السعودي ويُعلن انبهاره الشديد بما لمس ورأى وسمع، ويؤكد أنّ الرحلة ستطول إلى أسابيع.. فمِن السعودية إلى المغرب.. ومن مهرجان إلى مؤتمر.. وللّه في خلقه شؤون.. وما بيد العبد غير الانصياع.. ولكنه وللأمانة يؤكد أنّه سيُتابع قضيّة الطالب محمد حامد الحمامي بعد عودته مباشرة).

وبحدّة أكثر قلت (ويرثي الشبل الفلسطيني لحالة المثقف العربي ويحزن لمصير الطالب محمد حامد الحمامي.. ويشتد عليه الغضب فيرمي بالحجر الأول ويصيب جنديّا مُدجّجا ويُهديه إلى مؤتمر الجنادريه علّه يُخرج المجتمعين من دائرة الأضواء والحلقات الزّاريّة وحفلات الكوكتيل والخطب التي لا طائل منها.. ويرمي بالحجر الثاني على رأس جندي سقطت خوذته للحظة فيشجّ رأسه.. ويُهديه للمَغرب العربي علّه بحجره يصل بين أجزاء الوطن العربي المُترهل من المحيط إلى الخليج. ويرمي بالحجر الثالث فيُعطب سيّارة مستوطن وقح جاء وأقام بيتا على أرض الشبل الفلسطيني ويُهديه للكاتب يوسف إدريس حيثما أراد له الله أن يكون، علّ هذا الحجر يُذكره بأنّ الكلمة موقف.. وليست كلاما فقط. والموقف عمل، والعمل تضحية.. فيعود إلى مصر على جناح السرعة ليشدّ من أزر الطالب محمد حامد الحمامي وينقل قضيته إلى كل بيت في مصر) ألخ..

لكن هذه التحيّة لم تُنشر في (المصوّر) لحساسيّة الموضوع كما فهمت. وكنت قد أودعتها في مكتب جريدة (الأهالي).

ووَعدت الصديقة الدكتورة فريدة النقاش بنشرها إذا لم تُنشر في (المصوّر) خلال أسبوعين، وبالفعل نشرتها في العدد 39 يونيو/ يوليو 1988 من مجلة (أدب ونقد).

اللقاء الثالث- خلال المشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب في شهر شباط 1989- كان الأجمل والأبقى في الذاكرة.. في مطعم الأهرام حيث دعانا لتناول السمك الفاخر، كان يوسف إدريس يتفجّر حيوية ويطلق النكات ويروي القصص ويُعلّق على كلّ حسناء تدخل.. والشاعر محمود درويش يقول له: حاسب يا دَك.. مُختصرا كلمة دكتور.. كانت جلسة رائعة جمعتني مع يوسف إدريس ومحمود درويش وسميح القاسم، كانت فرحة يوسف إدريس لا تُقدّر، يريد أن يحتضن العالم، فينتقل من موضوع إلى آخر وينثر النكات ويُعلن بين الفينة والأخرى أن محمود درويش وسميح القاسم أحبّ اثنين إلى قلبه، ويروي قصة قديمة وينتقل لأخرى جديدة.. ويستعيد الذكريات.. وروى لنا قصة قصيدة الشاعر المرحوم كامل الشناوي (لا تكذبي) وكيف أنّه كان هو المقصود حيث أنّ الشاعر المرحوم كامل الشناوي كان قد أحبّ فنّانة جميلة كان يوسف إدريس يعرفها وعلى علاقة صداقة معها.. ورغب كامل الشناوي أن يُعبّر لها عن حبّه الكبير بأن دعاها للاحتفال بعيد ميلادها وعندما حانت لحظة تقسيم الكعكة تبيّن أن الكعكة عالية جدا تتكوّن من عدة طبقات عجزت الحسناء في الوصول إليها، فما كان من يوسف إدريس الشاب الحِمِش إلا أنْ رفعها وقطعت الكعكة، فثارت ثورة العاشق كامل الشناوي وغضب، وكانت النتيجة قصيدته (لا تكذبي) وقطيعة حتى آخر يوم من حياته مع يوسف إدريس.. طبعا على ذمّة المرحوم يوسف إدريس.

بعد ساعات الجلوس في مطعم الأهرام طاف بنا يوسف إدريس في شوارع القاهرة مارّا بنا في مواقعها المهمة شارحا مُفصّلا مُعلقا.. ومحمود درويش إلى جانبه يُعلّق بنكتة على كل قصة ويذكّر سميح القاسم بهذه الحادثة وتلك.. وقصرت الشوارع رغم طولها وأسرعت عقارب الساعة رغم روتينها.. وانتهت الرحلة برفقة الكاتب يوسف إدريس لتكون آخر رحلة.. وآخر لقاء مع هذا العملاق الذي أحببته قبل أن أراه وأكلّمه.. هذا الفارس الذي شغل الناس وأنار العقول ورفض القبول بالمسلّمات، فكان يُثيرها عاصفة هوجاء لا تهدأ إلاّ بتحقيق ما يريد.. مات يوسف إدريس.. مات فارس الكلمة وملك ملوك القصة القصيرة العربية. 

***

د. نبيه القاسم

في المثقف اليوم