شهادات ومذكرات
لطفية الدليمي: هدايا (الرفاعي)
كلُّ كتابٍ ينشره الدكتور عبد الجبار الرفاعي هو هدية حقيقية لقرّائه. أسبابُ هذا كثيرة لعلّ أوّلها هو حفره في أرض صلبة كأنّها الصخر. هو يعرف قبل سواه أنّ هذه التربة الصخرية قد لا تلين وتستوي أرضاً خصبة لزراعة الأفكار وتداولها في زمن قريب؛ لكنّه يعمل ويعمل من غير انقطاع. ليس للمجتهد سوى فضيلة العمل حتى لو بدا أنّ حصيلة عمله ماكثةٌ في أفق بعيد قد لا يبلغه في حياته.
قرأتُ قبل بضعة شهور كتاب الرفاعي (مسرّات القراءة ومخاضُ الكتابة: فصلٌ من سيرة كاتب). لم يخرج الرفاعي في كتابه هذا عن الملامح الجامعة التي صارت خصائص معروفة لكتاباته: النبرة الهادئة المتفكّرة لإنسان يسعى لأن يجد معنى وغاية لحياته من بوّابات معرفية مختلفة. الفارق الأوحد أنّ كتاب سيرته هذا حكى فيه الرفاعي عن جوانب مخصوصة من سيرته، وهي جوانب كان ضنيناً بها في كتبه السابقة لأنّه تناول فيها موضوعات فكرية دسمة بشأن (تثوير) الرؤية النسقية إلى الدين بدلاً من تمركزها على نواة لاهوتية أو فقهية صلبة. سيعرف القارئ بعد قراءة هذه السيرة الفكرية أيّ نوعٍ من البشر هو الدكتور الرفاعي، وأظنُّ أنّ أهمّ ما نتعلّمه من هذه السيرة هو ضرورةُ الإبتعاد عن رسم بروفايلات ثقافية مؤطّرة بحدودٍ خشنة نحن من يضعُ أبعادها وفقاً لأهوائنا ومشتهياتنا. كانت قراءة سيرة الرفاعي باعثة على نمط رفيع من الإثراء الفكري والمعرفة التنقيبية في عقل رأى ما لم نره وولج مناطق لم نلجها، وأعني بهذا تثقّفه وتعليمه في المدارس الدينية. أفضلُ مَنْ يكتب عن هذه المدارس وبيان فضائلها أو مثالبها هو من عايش هذه المدارس وعرف أسرارها وما يجري في باحاتها المغلقة.
كلّما قرأتُ كتاباً للرفاعي تذكّرتُ على الفور شخصيتيْن: واحدة من عصر التنوير والأخرى معاصرة لنا. الشخصية الأولى هي (فريدريك شلايرماخر Friedrich Schleiermacher)، الفيلسوف واللاهوتي الألماني الذي أتمنّى أن يقرأ كل من يستطيع القراءة كتابه (عن الدين: خطابٌ لمحتقريه من المثقفين)، وفيه يصف جمهرة من المثقفين الذين يتقذّرون من كل شأن ديني بسبب علموية ثقلت موازينها لديهم حتى أعمتهم عن كلّ رؤية مخالفة. أبان شلايرماخر بكلّ وضوح أنّ المسألة ناتجة عن سوء فهم مستديم: الدين كميتافيزيقا لا شأن له بسياسات الدين التي هي صناعة دنيوية مدفوعة بمصالح وانتفاعات تتخفّى في شكل ممارسات دينية. الشخصية الثانية هي جون بولكينغهورن John Polkinghorne، الذي عمل سنوات طويلة رئيساً لقسم الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية في جامعة كامبردج، وكان مفكّراً دينياً وكاتباً وقسّاً أنغليكانياً يقود الصلوات في قدّاس الأحد بالجامعة. كتب بولكينغهورن كتباً عديدة أراد فيها مثلاً التوفيق بين ميكانيك الكم والكاثوليكية!!، ومن البديهي أن تلقى أعماله إنتقادات قوية؛ لكن لا أحد أساء إلى مكانته العلمية أو سمعته الشخصية. أتذكّرُ مساجلاته مع ريتشارد دوكنز، كانت طافحة بالحيوية والجرأة الفكرية، وفي الوقت ذاته كانت مثالاً شاخصاً على قدرة العقول المبدعة على التفاعل الخلاق. لا أظنّ أحداً سينسى الوجه الصبوح للدكتور بولكينغهورن والذي يشي بروح مُحِبّة وعقل متصالح مع أفكاره بعيداً عن الأصولية الدوغمائية أو المصالح الشخصية المتقنّعة بأقنعة لاهوتية. من أراد معرفة شيء معقول عن أفكار بولكينغهورن فربما سيجد في كتابه (ما بعد العلم Beyond Science)، وهو مترجم إلى العربية، إطلالة على فكر الرجل ورؤاه.
التقيتُ الدكتور الرفاعي أوّل مرّة في معرض المدى للكتاب في أربيل عام 2013، وكان بصحبته الراحل (هاني فحص). كان الرجلان ثنائياً متوافقاً في الأفكار والخصال: سماحة وبشاشة وأريحية وانفتاح ثقافي على كلّ العلوم والنظريات والأنساق الثقافية. هذه الخصال أنت لا تفترضها افتراضاً بل تراها متجسّدة في الكلمات المنطوقة والعيون اللامعة ومخرجات العقول وسماحة الوجوه وانبساطها. الضد النوعي لهذه الوجوه تراه في الكثير من رجال دين أو مُدّعي تديّن موصوف بالحركية تمييزاً له عن التديّن التقليدي. تعجبُ من فرط انغلاق هذه الوجوه ويبوستها وتموضع عقول شخوصها على خطاب واحد ومقاربة واحدة تسعى لخلط الاوراق وتغليب الجانب السياسي -الحركي على القيمة الميتافيزيقية في الدين. وما عساها تكون النتيجة؟ المزيد من تنفير العقول وتعكير النفوس وسيادة خطاب الكراهية.
عمل الرفاعي في سنوات عديدة سابقة في أنطقة ثلاثة مترابطة عضوياً: أنسنة الدين، والتأكيد على جوهرانيته الميتافيزيقية المترفعة على السياسات الدينية، ومحاولة جعله نسقاً ثقافياً ذا تداول عام وليس شاناً حصرياً بالمدارس الفقهية التقليدية. أكّدت كتب الرفاعي هذا التوجّه، ثمّ تعاضد جهده التأليفي مع تأسيسه لِـ (مركز دراسات فلسفة الدين) الذي نشط في نشر مجلته التي ضمّت دراسات ثمينة لمفكّرين عالميين.
تلقّيتُ قبل أيام قليلة ثلاث هدايا ثمينة من الرفاعي، مثّلتْ امتداداً لنشاطه الفكري وإن جاوزتها قليلاً بالإنفتاح على موضوعات جديدة كما حصل في كتابه (ثناءٌ على الجيل الجديد). الكتابان الآخران هما: (مفارقات وأضداد) و (الدرس الفلسفي في المدارس الدينية). لو ألقى القارئ العجول نظرة على جداول محتويات هذه الكتب، وأجهد نفسه قليلاً وقرأ مقدّماتها فسيعرف أيّ ثراء فيها، ومستوى الدقّة والإنضباط في صياغة الكلام والأفكار بكيفية تريحُ القارئ المتمرّس الذي يعرف كيف السبيل لتمييز غثّ الكلام عن رفيعه. سنقرأ كلاماً نظيراً لهذه الشاكلة:
"هناك خبراء ممّن يمتلكون تكويناً أكاديمياً جاداً في الفلسفة والمنطق الحديث، لديهم معرفة جيدة باللغات الفرنسية والألمانية والإنكليزية، يتسيّدون المشهد الفلسفي في بعض البلدان العربية، ويحتفي بكتاباتهم الغزيرة جامعيون متديّنون؛ غير أنّهم يتفلسفون على طريقة الغزالي وابن تيمية، فيقدّمون قراءات موهمة ومضللة للفلسفة الحديثة، تلوّنها بألوان مشوّهة، وتقوّلُها ما لا تقول. القارئ الخبير يدركُ أنّهم يتفلسفون ضدّ الفلسفة"
سنخطئ كثيراً لو تصوّرنا أنّ جهود الرفاعي تندرجُ في سياق ما يعرفُ (تجديد الخطاب الديني). هي أقربُ لرؤية جديدة ومقاربة جديدة تتناغم مع جهد المنظّرين العالميين في موضوعة الأنساق الثقافية- ذلك الجهد الذي تأخرنا فيه كثيراً ودفعنا لقاءه أثماناً قاسية.
الدكتور الرفاعي معروف بكرم روحه؛ لذا فقد أسعدني كثيراً أن أرى معظم مؤلفاته معروضة مجاناً في موقع (هنداوي). من شواخص كرمه أيضاً أنّه أهداني نسخة من رواية عنوانها (زارع الريحان) كتبتها إبنة أخيه (هاجر القحطاني) التي أتمنّى أن نشهد لها بصمات مميزة في الثقافة العراقية.
أقولها ثانية: كُتُبُ الرفاعي هدايا مضمّخة بحبّ العالم والسعي لإشاعة السلام والحسّ الانساني الرفيع فيه. هذه أوّلُ مساعي الرفاعي وأسبَقُها على غيرها؛ أمّا المثابات الفكرية العالية فتلك تستلزم قراءة دقيقة هادئة لعقول بعيدة عن إدمان العنف وصناعة التجهيل المركّب.
الرفاعي يحفر في صخر اللاهوت القشري الصلب سعياً لبلوغ الجوهر الإنساني. لعلّه لن يلقى مكافأة مستحقّة لعمله، ولا أحسبه ينتظر مثل هذه المكافأة. حسبُهُ أنّه يُلقي بذاره في أرض صلبة وينتظر موسم الحصاد البعيد مع كثرة من الطامحين لرؤية الأفق الإنساني حتى لو كان غير مرئي في أيامنا المضبّبة.
***
لطفية الدليمي