قضايا
محمد الزموري: هل يمكننا الاستغناء عن الدراسات الأحادية؟
في الوقت الذي كُتب الكثير مثلا عن الذكرى السنوية للثورة الروسية التي حدثت في عام 1917، هل تسائلنا أن هذا الحدث السياسي والاجتماعي البارز ربما لم يكن ليحدث لو لم ينشر كارل ماركس قبل ذلك بخمسين عامًا كتابه النظري الأساسي، المجلد الأول من " رأس المال ."
إن الدراسات الأحادية المهمة، في واقع الأمر، قادرة على تغيير مسار تطور المجتمعات، بل وحتى زعزعته. على سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى القوة الهائلة للتغيير الثقافي والاجتماعي التي أطلقها كتاب " تفسير الأحلام" لسيغموند فرويد. أو النظر إلى التأثير العميق الذي أحدثته أعمال تجديدية أخرى نُشرت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مثل " أساطير اليوم" لرولان بارت، و"أبوكاليبس" و"مندمجون" لأومبرتو إيكو، و"وسائل الاتصال" لمارشال ماكلوهان.
الدراسة الأحادية، يمكن أن تولّد قوة تغيير هائلة في المجتمع. فالتطور في الفكر العلمي وكذلك في الثقافة الاجتماعية اعتمد تاريخيًا على هذا النوع من الإنتاج النظري. ومع ذلك، تجدنا اليوم نتخلى تدريجيًا عن هذه الأداة الحيوية.
ما الذي يحدث؟
الجامعات العالمية تتخلى عن نموذج الإنتاج الثقافي القائم على الدراسات الأحادية، الذي كان لسنوات طويلة جزءًا أساسيًا من هويتها. القوانين الجديدة التي وُضعت لتقييم الأبحاث الأكاديمية من قبل وزارات التعليم العالي بدأت تقلل تدريجيًا من قيمة الدراسات الأحادية. في الوقت الحالي، تُمنح المقالات المنشورة في المجلات العلمية المصنفة ضمن الفئة "A" قيمة أعلى من الدراسات الأحادية. ومع ذلك، من الواضح أن كتابة مقال علمي تتطلب من الباحث جهدًا أقل بكثير مقارنة بإعداد دراسة أحادية. فالمقال، في المتوسط، لا يتجاوز طوله عشر صفحات، وهو ما يعادل عُشر حجم الدراسة الأحادية تقريبًا. وهذا يعني أنه لا يمكن للمقال أن يقدم تحليلًا عميقًا أو حججًا متكاملة كالتي تتميز بها الدراسات الأحادية.
لا يعني ذلك بالضرورة أن يكون الكتاب الثوري عملًا ضخمًا أو طويلًا. فقد يكون نصٌ مثل " الموضة" لجورج زيمل لا يتجاوز خمسين صفحة، لكنه بعد أكثر من قرن من نشره ما زال يُعتبر المرجع الأساسي للتأمل النظري في مفهوم الموضة. كما أن عملًا آخر لا يتجاوز مئة صفحة، مثل " إنتاج السلع بواسطة السلع" لبييرو سرافا، استطاع بدوره أن يُحدث ثورة في المفهوم السائد للنظرية الاقتصادية في القرن العشرين. ما يهم حقًا هو أن يكون الكاتب قادرًا على تشكيل عمله بأقصى حرية، بحيث يتمكن من التعبير عن أفكاره بوضوح وإبداع.
على النقيض، يواجه الكاتب عند إعداد مقال لمجلة علمية قيودًا صارمة، إذ يُطلب منه الالتزام بقالب دولي صارم لا يتيح له مساحة كافية للإبداع أو التجديد. وبالتالي، تضيع تلك القدرة التي تمتاز بها الدراسات الأحادية على إفساح المجال أمام الأفكار الجديدة. كما أشار الفيلسوف روبرتو إسبوزيتو في مجلة لإسبريسو: "هل يمكن أن نتخيل، في مجال الفلسفة، أن هابرماس ودريدا يبحثان عن مجلات من الفئة (A) لكتابة اثني عشر مقالًا صغيرًا؟" هل يمكن أن نتخيل هذين العملاقين الفكريين يتخليان عن قوة تأملاتهما المبتكرة التي يعبرون عنها في دراسات أحادية عميقة، لمجرد الامتثال إلى قالب مجلة علمية دولية؟
إن قضية الاختفاء التدريجي لنموذج الدراسة الأحادية من المشهد الثقافي لا تحظى باهتمام كبير اليوم، لكنها في غاية الأهمية. صحيح أننا نعيش في عصر الاتصالات الفورية وسرعة الإنترنت، لكن يجب أن نتساءل إذا ما كانت مجتمعاتنا قادرة على الاستغناء عن العمق والتأمل اللذين يوفرهما هذا النموذج من الإنتاج الفكري. هل يمكننا أن نسمح لأنفسنا بإضعاف قدرتنا على إنتاج ثقافة ذات قيمة حقيقية؟
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري