شهادات ومذكرات

جمال العتابي: المؤرخ د. حسين قاسم العزيز.. أين نحن منه الآن؟

عام 1972 أخصه بذكر أثير، لا لأنه إقترن بصدور جريدة  الفكرالجديد الأسبوعية، بل لأنه كان عام الانتساب لجيل من المثقفين والصحفيين والسياسيين، الجيل الواهب والموهوب، الذي طبع الحياة الفكرية بسماته المميزة .

في شقة صغيرة من عمارة سينما النجوم بشارع السعدون، بدأت التحضيرات الأولى لأصدار الجريدة، كل الوجوه أعرفها، سوى ذلك الوجه الأسمر الذي يدعوك للتأمل في حدقتي عينيه المتسعتين خلف عدسات نظارته المحدّبة بإفراط، لكنهما لايقويان على الحزن، قامة فارعة ممتلئة كشجرة أبنوس، مكلل بشعر فضي يغار منه الكهول، ليتني أفهم ما يخبأه هذا الوجه؟ أدرك بعد حين، أنه وجه حسين قاسم العزيز، صاحب امتياز الجريدة، المؤرخ الذي أثار  جدلاً واسعا في دراساته عن البابكية .

لم يكن للعزيز دور مميز في الجريدة، لأن فريق العمل ورئيس التحرير فخري كريم تبنوا  المهمة من ألفها إلى يائها، يساعده  نخبة من أبرز مثقفي وصحفيي العراق أذكر منهم:  فائق بطي، عبد الرزاق الصافي، يوسف الصائغ، سعدي يوسف، محمد الجزائري، شمران الياسري، رشدي العامل، محمد ملا كريم ، محمد كريم فتح الله، سعود الناصري، خالد الحلي، حسام الصفار مصمماً، كاتب السطور خطاطاً. في وقت لاحق أوكلت المهمة بالكامل للدكتورة سلوى زكو، التي استعانت بجيل جديد من الشباب أكملوا المشوار معها إلى النهاية.

كان الدكتور حسين منصرفاً لبحثه الأكاديمي كأستاذ في قسم التاريخ  لكلية الآداب بجامعة بغداد، أنجز العديد من المؤلفات، كتب ونشر العديد من الدراسات المهمة في تخصصه العلمي  في سنوات قصيرة من عمره الوظيفي، إذ صدر له: موجز تاريخ العرب والإسلام، التطورات الإقتصادية والإجتماعية، الجزيرة قبل الإسلام، دور المراكز الثقافية في تفاعل العرب والمسلمين الحضاري، وأشهر مؤلفاته: البابكية وانتفاضة الشعب الأذربيجاني ضد الخلافة العباسية، والمفصّل في نشأة نوروز الذهنية الإبداعية، وشرق الجزيرة العربية والأطماع الغربية .

ولعل خصيصة حسين قاسم، هي منهجه العلمي في البحث بمسارات التاريخ، وإعتماد التفسير المادي له، متيقناً ومتأثراً بأساتذته (السوفييت)، إذ تتلمذ في جامعة موسكو، وتخرج منها عام 1966، ونخص بالذكر منهم المؤرخ كوتولوف الذي أصدر كتابا ً عن ثورة العشرين وفق هذا المنهج .

صنع العزيز لنفسه تياراً صافياً يتدفق في شرايين الكتابة التاريخية، وهكذا  كلما أمعنا في سيرته الحافلة بالمنجز، استطعنا أن نتلمس مدى قدرة المؤرخ على البحث الأصيل، وهي تمثل أولى مراحل النضوج الفكري، وأولى حالات التسامي بالقدرات العلمية له .

قاسم العزيز المؤرخ والإنسان، يمكن أن يترك في ذات أي من معارفه وأصدقائه وتلامذته أثراً لاينسى، وهذا الأثر بإعتقادي لايمكن أن ينفصل عن تاريخ العراق ذاته، إذا أستطعنا أن ندلل على العلاقة بين تاريخه الشخصي وبين آثاره الإبداعية التي تؤلف فصول أيامه وأعماله معاً .

يقول عنه زميل دراسته في موسكو ضياء نافع: انه واحد من أعلام العراق المعاصر، مؤرخ شهير وأستاذ لامع، يبدو مهيباً، نعامله بإحترام، هادئاً بتصرفاته وطريقة حياته .أثار ضجة هائلة ونقاشات واسعة ومثيرة وصاخبة في أوساط المثقفين والمؤرخين العراقيين .

تستقبله بحرارة معاهد الدراسة ومراكز البحث الأكاديمية في السعودية، حين لايجد ملاذاً له في مثيلاتها بالوطن، بعد نيله شهادة الدكتوراه مباشرة، إذ سبقته كوكبة لامعة من عباقرة الأدب والعلم  كتدريسيين في الجامعات هناك بعد إنقلاب شباط 1963. أوليس هذا قدر العلماء الذين أسهموا في بناء الوطن؟ الذين أعييت نفسي في البحث عن صورة واحدة لأحدهم، موضوع إستذكارنا، فلم يسعفني (العنكبوت) ولا الصحافة المكتوبة، ولاالمقروءة أن تضيء المقالة بوجه حسين قاسم العزيز، فيا له من زمن أغبر تغرب فيه النجمات من السماء؟

يبقى العزيز في حياتنا، في أذهاننا، وفي دفاتر مذكراتنا، بل في تواريخنا المعيشة والمكتوبة، رائداً من رواد كتابة التاريخ، ومساهماً في حركة التنوير الفكري العراقي، أستاذاً وباحثاً وإنساناً، عاش أيامه الأخيرة معتكفاً في داره، في بحبوحة متواضعة من العيش، وكأن الإحالة على التقاعد هي إحالة إلى الموت، وإلى الشطب من سجل الأحياء، سوى بعض الأصدقاء وجاره محمود شكر الجبوري الخطاط، ورفيق دربه مكرم الطالباني القريب من منزله، يعاودونه ويردّون وحشته التي خففها تبنيه طفلة صغيرة، كبرت وتزوجت فملأت حياته وطراً .

كان حسين العزيز قلباً صافياً مفعماً بالحب لكل الناس، وصدراً لايتسع لضغينة، وروحا ً عامرة بالأمل . فأين نحن منه الآن؟ وأين تذكاراته الباقية بعد أن شغل الوسط الأكاديمي بالجدل والحوار؟ رحل بصمت بعد أن تقطع قلبه حسرات وأمنيات عزيزة لم تتحقق .

***

د. جمال العتّابي

في المثقف اليوم