شهادات ومذكرات
منظرو الاقتصاد (31): جيمس بيوكانن
(1919 – 2013) James Buchanan
هو الاقتصادي الامريكي الاستاذ في جامعة فرجينيا، الذي عُرف بكونه المؤسس الاول لنظرية الخيار العام Theory of Public Choice في الاقتصاد وأحد المتحمسين لاقتصاد السوق والمعارضين للتدخل السياسي في النشاط الاقتصادي. وهو مناوئ عنيد لكيفية تصميم برامج المساعدات الاجتماعية التي يراها عادة ما تبدأ باساس خاطئ وتنتهي الى نتيجة مخيبة. ولذلك ولأنه أشعل الشرارة الأولى لانطلاق مذهب الخيار العام وعززه بدراسات لاحقة اسهمت في تطوير ما يسمى الآن بالاقتصاد الدستوري والتحليل الاقتصادي لعملية اتخاذ القرارات السياسية في حقل النشاط الاقتصادي العام، فقد حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1986.
يعتبر بيوكانن ان هناك ركيزتين أساسيتين لمعنى الخيار العام: أولهما الدستور الامريكي الذي ينبغي ان يشكل القاعدة الصلدة الاولى لانطلاق كل التشريعات القانونية وسن قواعدها واصولها، وثانيهما هي الكيفية والصيغة التي تأخذها تلك القوانين والقواعد وتصنع منها نظاما عاما لا انحياز فيه. وهو هنا يسمي الشق الثاني مجازاً، بكيفية "ممارسة اللعبة" مع الحفاظ على جوهر قواعدها المبدأية الحيادية.
ولد بيوكانن في مرفريبورو في ولاية تنسي الجنوبية لعائلة فلاحية تنحدر من اصول ايرلندية-اسكتلندية وهو الابن الاكبر من بين ثلاثة اطفال. كان جده في زمن سابق حاكما لولاية تنسي لكن حكمه لم يكن شعبيا مما خلف في دواخل الشاب جيمس شعورا بالعزلة وبأنه ليس من الشباب الذين لهم ظهير مالي ومعنوي وروابط اجتماعية مهنية مؤثرة، الشعور الذي تعمق بعد فشل والده في تحقيق ما كان يطمح فيه ويعمل له جاهدا من مهنة زراعية ناجحة تخلف لاولاده ثروة مال وخبرة مهنية. عندما تزوج والده عام 1918 بدأ مباشرة بتحقيق حلمه المهني فاشترى حقلا كبيرا وقطعان من الماشية متكبدا في ذلك ديونا باهضة للبنوك والمستثمرين المحليين لكنه كان يراها استثمارا واعدا سيدر ثماره المجزية له ولاطفاله من بعده. ولكن لم تمض عشر سنوات على ذلك الاستثمار الثقيل في المال والجهد حتى تلقى الاقتصاد الامريكي عموما اقسى ضربة اقتصادية في تاريخه وهي ضربة الكساد العظيم التي عصفت بمشروع بيوكانن الاب الاستثماري فخسر كل شئ وتحطم حلمه الكبير امام عينيه. كان جيمس آنذاك بعمر عشر سنوات وكان يعمل في حقل ابيه عملا شاقا جنبا الى جنب مع حضوره المدرسة واجتهاده فيها. يصف جيمس فيما بعد تلك الايام من حياته العائلية قائلا: كانت حياة فقر وحرمان ولكن بكرامة. لم تدخل بيتنا الكهرباء ولم تكن لدينا مرافق صحية ولم تكن لدى الحقل اية معدات زراعية تعين الوالد غير الثيران والعربات الخشبية المتهالكة.
اجتاز جيمس المدارس المحلية ودخل جامعة تنسي فحصل على البكالوريوس عام 1940 وواصل الدراسة فنال الماجستير خلال سنة واحدة، أي في عام 1941. وكانت اجراس الحرب قد دقت آنذاك فلبى جيمس واجب الخدمة العسكرية وانخرط ضابطا في البحرية الامريكية وانتُخب عضوا في لجنة تخطيط العمليات مع الادميرال چستر نيمتز فذهب الى هونولولو - هاواي وبقي هناك لغاية انتهاء الحرب عام 1945. عاد بعد ذلك ليدخل جامعة شيكاغو لاكمال دراسته العليا في الاقتصاد مستفيدا من القانون الذي سمي GI Bill الصادر عام 1944 والذي يمنح من أدى الخدمة العسكرية خلال الحرب تسهيلات في الحصول على عمل وتدريب ومواصلة الدراسة. وهكذا حصل بيوكانن على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1948.
باستثناء خدمته في البحرية الامريكية، فان اغلب حياة بيوكانن المهنية كانت في الحقل الاكاديمي بين التدريس والبحث في جامعات عديدة. فبعد نيله الدكتوراه مباشرة حصل على عمل في جامعة تنسي لغاية 1951، ثم التحق بجامعة فلوريدا الحكومية لغاية 1956 حيث كان رئيسا لقسم الاقتصاد فيها لمدة سنتين. ومن فلوريدا ذهب الى جامعة فرجينيا - شارلوتسفل التي أسس وأدار فيها مركز توماس جيفرسن لدراسات الاقتصاد السياسي عام 1957، ثم سافر الى ايطاليا بمنحة فُلبرايت. وهناك درس الاتجاه النيوكلاسيكي في المالية العامة الذي تزعمه مافيو بانتليوني الذي كانت طروحاته مصدرا ملهما لما تطور لاحقا في نظرية الخيار العام، وكان بيوكانن قد أفرد فصلا خاصا عن التقليد الايطالي في المالية العامة في كتابه "النظرية المالية والاقتصاد السياسي" الذي نشره عام 1960. بعد تجربته في ايطاليا عاد كاستاذ وباحث زائر في جامعة كاليفورنيا- لوس انجلس، ثم الى معهد فرجينيا البوليتكنيكي في بلاكسبرگ الذي منحه لقب استاذ متميز عام 1969 ، واخيرا انتقل الى جامعة جورج ميسن في فيرفاكس عام 1983 والتي بقي فيها لحين تقاعده من الخدمة الجامعية.
يستطيع المرء ان يعود الى بعض الاحداث التي صاغت افكار وفلسفة بيوكانن. فبالاضافة الى نشأته في عائلة فلاحية مكافحة في ولاية جنوبية، فانه قد ذكر على ان الستة اشهر التي امضاها في تدريب البحرية في نيويورك اعطته دروسا بليغة في حياته، منها الوقوف على التمييز الطبقي الفاضح في المدينة الكبيرة بين خريجي جامعات الشمال الشرقي من البلاد عن زملائهم خريجي جامعات الجنوب التي كان يُنظر اليها بشكل استعلائي. ثم ان سنوات مابعد الحرب كانت قد انتجت الصراع الرسمي بين الاتجاه المحافظ والاتجاه الليبرالي، فتميزت تلك الفترة بولادة المقاومة المحافظة ضد التطلعات الديمقراطية والسياسات التقدمية كالعقد الجديد وقوانين منع الفصل العنصري في المدارس العامة.
بالاشتراك مع زميل آخر هو وورن نتر الذي عمل مستشارا مقربا من بيري گولدواتر، مرشح الرئاسة الجمهوري لعام 1964، نشر بيوكانن مقالا عن امكانية السلطات الحكومية ان تبيع بنايات وممتلكات المدارس العامة وتتخلى عن مسؤولياتها بوضع المناهج الدراسية والكتب المدرسية وتفتح الطريق للقطاع الخاص الذي سيطور انواعا من المدارس والمناهج بحيث يستطيع الآباء والامهات ان يختاروا ما يشاؤوا من خيارات لتعليم اطفالهم، حيث يتم ذلك عبر ميكانيكية الانتخابات الديمقراطية. لاقت هذه الفكرة دعما وتشجيعا من قبل زميله ملتن فريدمن الذي دعا هو الاخر لفك ارتباط المدارس العامة بالقطاع العام من اجل توسيع دائرة الاختيار.
أما عن التحاقه بجامعة شيكاغو فقد ذكر بيوكانن في مذكراته الصادرة عام 1992 انه في اول الامر شعر بان عدد من زملائه الذي بدأوا مرحلة الدكتوراه ربما كانت لهم ميولا اشتراكية، وكان من بينهم ملتن فريدمن وفريدرش هايك، الا ان الامر اختلف تماما عندما عرفهم جيدا من خلال تتلمذتهم جميعا في دروس فرانك نايت الذي كان يعتبر الاب الروحي لجمعية مونت بيلرن التي ضمت اغلب المحافظين والمتحمسين لاقتصاد السوق. وعندما أصبح فرانك نايت المشرف على رسالته الموسومة "العدالة المالية في الحكومة الفيدرالية" بدأ التأثير الاكبر على مفاهيمه وفلسفته، خاصة حول دور الاقتصاد والسياسة في المجتمع ودور المجتمع في صنع السياسيين وتكييف السياسة الاقتصادية. واضافة الى تأثره المباشر باستاذه هذا في شيكاغو ، فان التأثير الخارجي الكبير جاء من خلال دراسته العميقة لافكار وفلسفة الاقتصادي السويدي نت فكسل خاصة في مقال فكسل المنشور عام 1896 والموسوم "مبدأ جديد للضريبة العادلة" الذي يقول بيوكانن عنه بأنه المقال الذي فتح عينيه على حقل السلع العامة ودور الدولة في تمويلها، وبذلك رسخ لديه ايمانه باقتصاد السوق الحر. من بين طروحات فكسل التي وجدت لها جذبا خاصا عند بيوكانن هي معارضته للتوجه العام لفك الارتباط بين دفع الضرائب من قبل المواطنين والانتفاع المباشر منها، فهو يؤمن بأن الضرائب تصبح فريضة غير مبررة حين لايحصد الدافعون منها اي منفعة ملموسة. ومن وحي هذه الافكار نشر بيوكانن عام 1949 مقالة بعنوان "النظرية الخالصة للمالية الحكومية" التي طرحت افكارا اساسية جديدة في زمنها حول سياسة المالية العامة ودور السياسيين في صياغتها وأثرها على عامة الشعب، والتي قوامها الجوهري هو أن الدولة في ظل الديمقراطية لايمكنها ان تتصرف وكأنها الفاعل الوحيد في صياغة السياسة الاقتصادية والتصرف المطلق بأموال الشعب. يقول الاقتصادي توني أتكنسن بأن تلك المقالة كانت بمثابة "البيان الفلسفي" لبيوكانن.
وفي عام 1950 نشر بيوكانن مقالة بعنوان "الفيدرالية والعدالة المالية" وهي المقالة التي اعتبرت رائدة في قضية الضرائب وطريقة فرضها على السكان ومدى فاعليتها وعدالة تطبيقها. ومن خلال عمله في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية NBER دعا مع زميله رچرد مسگريف الى احلال العدالة "الافقية" في فرض الضرائب التي تعني معاملة المتساوين بشكل متساوي لتكون بدلا من العدالة "العمودية" التي تقوم على معاملة غير المتساوين بشكل غير متساو.
من خلال هذه التأثيرات أصبح بيوكانن، ربما، الاقتصادي الاول الذي التفت الى دور وتأثير الانتخابات السياسية في النظام الديمقراطي وسلوك السياسيين والناخبين والحكومة المنتخبة في ادارة اقتصاد البلاد والتصرف بثروته، وتحليل كل ذلك بموجب النظرية الاقتصادية. ولا يخفى بأن افكار مثل هذه اعتبرت خروجا عن نطاق الاقتصاد، أو بأفضل حال فهي محاولة لمزاوجة الاقتصاد مع حقول اخرى كالعلوم السياسية وعلم النفس وعلم الاجتماع والادارة. كانت تلك هي الخلفية التي أسست لبحوث بيوكانن اللاحقة وريادته في نشوء نظرية الخيار العام التي اصبحت فيما بعد حقلا اقتصاديا قائما بذاته ومزدهرا.
في عام 1962 نشر بيوكانن مع زميل آخر هو گوردن تولك كتابهما المعنون The Calculus of Consent الذي اُعتبر دراسة رائدة اثارت الانتباه الى سلوك السياسيين ومسؤولي الحكومة وكيفية صياغة القرارات الاقتصادية من قبلهم والتي تستحق ان تعامل بموجب الاعتبارات الاقتصادية التقليدية للمستهلكين والمنتجين كتعظيم المنفعة وتقليص الكلف وغيرها من أدوات الاقتصاد المعروفة. يقول بيوكانن ان الاهتمام بهذا الموضوع يعود الى اطلاق سياسة العقد الجديد التقدمية من قبل الرئيس روزفلت خلال الثلاثينات من القرن الماضي والتي جاءت مع افتراض ان موظفي الحكومة البيروقراطيين هم خدم للمصلحة العامة، منزهين في تصرفاتهم، وزاهدين في سلوكهم، ومتجردين من السعي وراء منافعهم الشخصية! والحقيقة كانت تقتضي ان نعاملهم مثل بقية افراد المجتمع حين ننظر الى سلوكهم في السوق الاقتصادي، ولنا ان نعرف بانهم كانوا يعملون بما يؤمّن اعادة انتخابهم أي انهم يسعون وراء المصلحة الشخصية قبل ان يفكروا بخدمة المصلحة العامة. وهنا يؤكد بيوكانن بأنه لا يتهم كل موظفي الحكومة الذين ينفذون سياسات الدولة بأنهم انانيون واشرار، انما هم بشر مثلنا جميعا يركضون وراء منافعهم لكن الفرق بيننا وبينهم هو اننا اذا اخطأنا في اتخاذ القرار فلا نضر الا انفسنا لكنهم حين يخطأون في قراراتهم سيكون الضرر ساريا على جميع افراد المجتمع، وهو الحال الذي يحصل في حالات فشل المشاريع العامة التي تكلف ميزانية الشعب اموالا طائلة وموارد وجهود عظيمة.
في عام 1967 نشر بيوكانن كتابه الموسوم "الديون العامة في المجتمع الديمقراطي" بالاشتراك مع رچرد واگنر، وهو العمل الذي اعتبره بيوكانن مكملا لمنهجه في نظرية الخيار العام، حيث ان الهدف هو تحليل عملية صنع القرار السياسي، خاصة في مجال الانفاق العام وتوازن الميزانية والعجز المالي. يقول بيوكانن " اذا كانت الحكومة التوتاليتارية تتجاوز حدودها بشكل طبيعي ومقبول فانه من غير المقبول ابدا ان تتخذ الحكومات الديمقراطية نفس المسعى، لكن ذلك حدث فعلا في الولايات المتحدة خلال الستينات عندما سعت حكومة لندن جونسن لمعالجة الفقر واحلال العدالة الاجتماعية عن طريق تكبد قدر ثقيل من الديون العامة. لقد فضلت الحكومة ان تمول برامج الرفاه الاجتماعي عن طريق تصعيد الديون العامة وليس من خلال الضرائب المحلية كما يفترض، اضافة الى ان سياسة الرفاه الاجتماعي نفسها فاقمت هذا التجاوز عندما سعت الى تقليل الضرائب المستحقة مسببة في ذلك العجز المالي العام.
في عام 1968 أمضى بروفسور بيوكانن سنة كاملة في جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلس ونشر بعدها كتاب "عرض السلع العامة والطلب عليها" والذي أظهر فيه تأثره الشديد بطروحات فكسل ولندال ومفاهيم الاجماع الشعبي والمشاركة الضريبية والدولة المثالية. وفيه أوضح اعتباره للمشاركة الضريبية كعامل فعال في توازن المالية العامة والخيار العام الذي يتحقق بقرار الاغلبية. وبذلك فالمنفعة الشخصية المتحققة في السلع العامة تشير الى اعظم قدر من كفاءة انتاج السلع العامة.
وفي كتابه المنشور عام 1969 بعنوان "الكلفة والاختيار" يناقش بيوكانن معنى وتأثير كلفة الفرصة ويعطي مثاله الكلاسيكي قائلا: ان الجهد الجسماني الذي يبذله الصياد ونوعية وسعر ادواته والوقت اللازم لصيد حيوان ما هي بمجملها عوامل تقرر قيمة لحم ذلك الحيوان لمستهلكيه لكن اختلاف المستهلكين سيقود الى اختلاف السعر من حالة لأخرى. ومن الجدير بالذكر هنا هو ان هذا العام نفسه شهد تأسيس مركز دراسات الخيار العام في جامعة فرجينيا الذي اصبح بيوكانن مديره الأول.
في عام 1973 قام بيوكانن بِحَث مناصريه لدعم وتفعيل اتجاه فكري معارض، ليس فقط لما تطرحه الحكومة من سياسة اقتصادية، انما معارض ايضا للفكر العام السائد Counter intelligentsia من اجل تغيير طريقة ونمط تفكير عامة الناس حول السياسات الحكومية. ومن خلال ذلك سعى الى كشف الدوافع الحقيقية وراء القرارات السياسية التي تحكم النشاط الاقتصادي، وبقي يثير التساؤل المستمر: لماذا علينا ان نفترض بأن مجرد ان تتدخل الحكومة سيؤدي ذلك الى علاج المشاكل الاقتصادية؟ أليس الشعب والقطاع الخاص قادر على حل المشاكل التي تواجهه؟ وعن دوره هذا يؤكد بيوكانن بأن مايفعله ليس نشاطا سياسيا لمواجهة الحكومة وانه لا يطمح ان يقود حركة اصلاحية معينة، انما كل مايطمح له هو ان يساهم في توجيه العامة الى زاوية النظر لدور السياسات الاقتصادية وتأمل عواقبها.
فهو يرى بان السياسة العامة ينبغي ان لا تنحصر بتوزيع الموارد بل ان عليها ان ترسم الخطط وتحدد "قوانين اللعبة" وتهتم بجانب التبادل وتحد من هيمنة الدوائر الحكومية على القرارات الاقتصادية. ومن مجمل مواقفه المعروفة اضافة الى رفض التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي ، وقوفه ضد الاتحادات العمالية والنقابات التي يسميها "حركات احتكار العمل"، ورفضه لافكار اليسار وما يسمى بالاتجاهات التقدمية، واختلافه مع المنهج الكينزي في الاقتصاد. كما انه وقف ضد قرارات ازالة الفصل العنصري في المدارس الحكومية.
يقول بعض النقاد في هذا الصدد انه بالرغم من محاولة بيوكانن ومثله فريدمن من الابتعاد عن الذكر المباشر للعنصر Race أو لثقافة جم كرو أو الاشارة المباشرة الى سكان السود والملونين، فأن القصد وراء السطور التي يكتبون لايخفى على أحد بل كان كافيا لتزويد العنصريين المفضوحين بما يحتاجونه من تبريرات واسلحة لاسناد مواقفهم العنصرية.
تقول نانسي مكلين في كتابها "الديمقراطية المكبلة: تاريخ اليمين المتطرف وخططه لادارة أمريكا" : لم يكن بيوكانن عنصريا ضد السود والملونين بقدر ما كان ضد الحكومة وسيطرتها على الاقتصاد ومختلف نواحي الحياة ، وضد الاتحادات خاصة اتحاد العمال وضد اليسار والمعالجات الكينزية وهو الذي يعتبر كل هؤلاء عبارة عن جبهة واحدة تقف ضد اقتصاد السوق الحر".
وفي عدة مقالات نشرتها صحيفة الاندبندنت وُصف بيوكانن بأنه معمار اليمين المتطرف. كما وُصفت مواقفه الفكرية من قبل بعض الاقتصاديين بأنها تبدو وكأنها "امبريالية اقتصادية"! وكان الاقتصادي الهندي مارتيا سن قد انبرى للدفاع عنه قائلا: ان لبيوكانن فضل كبير في تأسيس اخلاقية الاقتصاد وقد عمل اكثر من غيره على كشف الجانب الاجتماعي والسياسي والقانوني للاقتصاد. فمثلا ميز بيوكانن بين Politics و Policy فبينما تعنى الاولى بقوانين اللعبة، تهتم الثانية بالتركيز على الستراتيجيات التي يتخذها اللاعبون ومدى التزامهم بالقواعد والنظم المرسومة والى اي حد تكون تلك القواعد فاعلة ونافعة، وهي اسئلة تتحدد ضمن الفلسفة الاجتماعية السائدة. أما بأي اتجاه وبأي نوعية ترسم تلك الستراتيجيات فهذا سؤال يتكلف الاقتصاد بالاجابة عنه. ومن هنا نرى بأن بيوكانن كان رائدا بمزاوجة هذين الحقلين، وهو بهذا قد بعث الاقتصاد السياسي من جديد وصاغه بما يسمى اليوم بالاقتصاد السياسي الدستوري. وكان بيوكانن قد عرف دور الاقتصادي بأن مهمته هي التركيز على سياسة التبادل بين الموارد وليس ايجاد الطريقة المثلى لتوزيعها. ويصف نفسه بأنه اقتصادي مؤسسي يستحدم النظرية الاقتصادية في هدى رؤية جيمس مادسن للديمقراطية البرلمانية المثالية. وهو بذلك ينتقد ما سمي بـ Arrow Paradox التي تلخص فكرة الاقتصادي كنيث أررو ضد رجاحة الاغلبية.
في عام 1975 نشر بيوكانن كتابه الموسوم " حدود الحرية بين الفوضى والقمع" فقدم فيه مفهومه للعقد الاجتماعي وابدى دعمه لبعض مقومات العقد كإعادة توزيع الثروة والضمان الاجتماعي لكنه ركز على ان تكون الدولة فعالة منتجة وعارض بشدة تقليل او الغاء الضرائب على الملاك الكبار بل ذهب بعيدا لاقتراح ان يكون المعدل الحدي للضريبة اقرب الى 100%بعد حد معقول من الحيازة على الاملاك. واعتبر ذلك أمرا حاسما لمعنى اعادة التوزيع وتكافؤ الفرص. وكان ايضا قد سخر من دعاوى رفع الحد الادنى للاجور كوسيلة لزيادة العمالة، وقال ان هذا الادعاء كمن يدعي بأن الماء يجري الى الاعالي! فليس هناك من عاقل ان يصدق ذلك.
بقي ان نقول ان بيوكانن لم يكن معروفا باختلاطه الاجتماعي بل كان شخصا خشنا يحب الانعزال. في ايام خدمته في البحرية الامريكية التقى بالممرضة النرويجية آن بيك وتزوجها عام 1945 فعاشا معا لحين وفاتها عام 2005. لم ينجبا اطفالا بل كانا يمضيان اوقاتهما في مزرعتهما القريبة من بلاكسبرگ- فرجينيا يزرعان ويربيان الماشية. وقد واصل العيش في مزرعته وحيدا بعد وفاة زوجته ولحين وفاته عام 2013 عن عمر 93 عاما.
***
ا. د. مصدق الحبيب