شهادات ومذكرات

عبد السلام فاروق: وحيد النقاش في ذكراه

"الأهرام" أعرق وأهم الصحف العربية والشرق أوسطية، وهي تتربع على قمة الصحف المصرية تاريخاً وتأثيراً وقيادة.

وإذا كنت من المهتمين، مثلي، بأرشيف الأهرام الصحفي، فستكتشف كنوزاً لا حصر لها من المواد الإخبارية والمعرفية والتاريخية ما قد يغرق في بحره الباحثون والمنقبون عن أسرار التاريخ. غير أن هناك نوع آخر من التنقيب لا عن تراث الأخبار، ولكن عن تراثنا البشري من الصحفيين الذين انتموا للأهرام وتركوا بصمة قد يتناساها الناس، ونظل نحن كصحفيين معاصرين ننتمي للأهرام نذكرها وننقلها ونعيد طرحها كنوع من الامتنان لهؤلاء المؤثرين، وكمحاولة للتذكير برموز صحفية نسيناها في خضم الأيام ومر السنين.

ومن بين كنوز الأهرام الصحفية، أديب ومترجم وصحفي هو (وحيد النقاش)، لعل كثيرين لا يعرفونه؛ ربما لأنه عاش الفترة الأطول من حياته في فرنسا، ولأن حياته نفسها قصيرة لم تزد عن 34 عاماً، لكن رغم قصرها تركت أثراً قوياً عميق الغور.

طيف من الماضي

ولد وحيد النقاش في السادس من مايو 1937، في قرية "منية سمنود" مركز أجا دقهلية، وهي كأية قرية مصرية يشكل الفقر معلمها الرئيسي، لذلك كان غريبا أن يقدم الفتي القروي على اختيار دراسة اللغة الفرنسية في كلية الآداب، تلك اللغة التي اقترنت في ذلك الوقت بالطبقة المترفة. درس وحيد النقاش اللغة الفرنسية في كلية الآداب، وعندما تخرج عمل فترة قصيرة في مركز الفنون الشعبية، ثم انتقل إلى «الأهرام» ليعمل محررًا أدبيًا في القسم الثقافي مع الدكتور لويس عوض عام 1962، وقبيل هزيمة 67 بشهر واحد سافر إلى باريس ليحصل على درجة الدكتوراه عن موضوع «تطور الواقع الاجتماعي في مصر من خلال الفن المسرحي»؛ واستمر وحيد النقاش في أعقاب هزيمة يونيو يرسل للأهرام موضوعاته ورسائله وأفكاره الصحفية والأدبية.

بعد أن أنهى دراسته الثانوية نشر أول دراسة أدبية له بمجلة الأدب اللبنانية ببيروت في عدد شهر يوليو 1954 عن عشر قصص عالمية، ونشر بعد ذلك في مجلات الأدب والشعر والمسرح إضافة إلى «الأهرام» الذى نشر فيه أكثر مقالاته بداية من موضوع «الأجانب وتراثنا الشعبي» فى 2 نوفمبر1962، حتى «الملك يونيسكو فى مقبرة الأكاديمية» فى 9 أبريل 1971، وعندما سافر إلى باريس لدراسة الدكتوراه، وما لبثت هزيمة يونيو أن داهمت الجميع، وكان وحيد مغتربا فى باريس يرسل للأهرام موضوعاته ورسائله الأدبية والمسرحية، وركز كل طاقاته فى إنجاز رسالة الدكتوراه وإمداد الأهرام والمجلات بالموضوعات والترجمات والدراسات المهمة. كانت رحلته في الحياة قصيرة سريعة إذ رحل عن عالمنا في 20 أكتوبر عام 1971.

في ذكرى رحيله عام 2005 أصدر المجلس الأعلى للثقافة كتابا عن وحيد النقاش بعنوان «إسراءات الرجل الطيف» للدكتورة عبير سلامة. شمل دراسة عنه وعن ترجماته التي أنجزها في رحلة عمره القصيرة، كما ضم ست قصص قصيرة ورواية واحدة وخمس مسرحيات هي حصاد رحلة وحيد النقاش في الحياة، إلى جانب ترجمة قصيدة واحدة، وعشرات الدراسات والرسائل الأدبية والتعليقات والمتابعات.

اشتقاق جديد

"إسراءات" كلمة اختارها وحيد النقاش، لترجمة كلمة Visitations الفرنسية، عنوان أحد كتب جان جيرودو التي يتأمل فيها مراحل عملية الإبداع، وهي جمع كلمة "إسراء" كما في السورة القرآنية، والكلمة تحمل معني الزيارة المعجزة خارج حدود المكان الواقعي والزمان. ولو حررناها من المعني الديني لأصبحت زيارة الأطياف لخيالنا، أو اللحظة التي يتلمس فيها خيال الفنان معالم الشخصية التي يبدعها. لقد كان وحيد النقاش نفسه كطيف إنساني عاش وفكر وكتب وأبدع ونال الدكتوراه وترك بصمة في حياة لم تطل ولم تزد عن ثلاثة عقود ونصف!

بدأ وحيد النقاش رحلته الأدبية بترجمة أعمال روائيين وجوديين متأثراً بالفلسفة الوجودية التي كانت إحدي صيحات الأدب والفلسفة حينئذ. فترجم قصتين للأديب الإيطالى ألبرتو مورافيا ولجان بول سارتر: قصة «الفرقة» ولمارسلان: قصة الثوب، ولياسونار كواباتا قصتين.

لم تخضع اختيارات وحيد النقاش لمبدأ المصادفة، بل لمنطق الفن العميق المؤثر، حيث ترجم أيضا مسرحية «وردة لكل عام» للأمريكى تينيسى ويليامز، وهي مسرحية بالغة الرهافة والشعرية وترجم أيضًا مسرحية «يرفا» للكاتب «فرمكو جارثيا كوركا» التى استوحاها من التراث الشعبى الاسبانى وأغانى الغجر والفلاحين وحكاياتهم البريئة.

ارتفع وحيد النقاش بعد رحيله إلى مستوي الرمز الدال علي جوهر جيل كانت أحلامه أكبر من إمكانات واقعه، فانتهي إلى الهزيمة ولم ينل سوي السراب، وقد عبر هو نفسه عن هذا الجوهر الحزين في أوراقه، وجمعت اختياراته النقدية وترجماته "بين الحس الاجتماعي المرهق بالخيبة والتعاسة، والحس النضالي المرهف بأدوات الفكر الثوري، والحس العدمي المشبع بعبث الوجود الإنساني”.

في حضن الغربة

مثلت ثقافة الغرب بالنسبة لوحيد النقاش وجيله حلا جزئيا للفجوة العميقة بين الطموح والقدرات.

لم يشأ الاعتماد علي غيره للوصول إلى الحل، فأقدم علي الترجمة بنفسه، لذلك اتسمت مختاراته المتنوعة من الآداب الأجنبية بكونها تشبع حاجة ثقافية ذاتية تؤرخ لتطوره الروحي، وتعكس تطور بلاده الثقافي والاجتماعي، فالرحلة التي قطعها من الفكر الوجودي إلى الفكر الثوري جسدتها قرارات حياته العملية التي أكدها بترك الوظيفة في مركز الفنون الشعبية، بعد أشهر قليلة من التحاقه بها عقب تخرجه، ليعمل محررا أدبيا في الأهرام ، ثم توٌجها بالسفر إلى باريس للحصول علي درجة الدكتوراه .

كانت أطروحة وحيد النقاش في جامعة السوربون عن تطور الواقع الاجتماعي في مصر من خلال الفن المسرحي، ولما كان يعي أن النجاح في الحياة بتقديم الخبرة الواعية للإنسانية كلها يفوق ما قد تمنحه له شهادة دكتوراه - انطلق براقب فعاليات الحياة الثقافية والاجتماعية في فرنسا، مقدما لبلاده أهم التجارب الثرية في الفن والحياة، مع العناية بالمضامين النضالية داخل الأشكال الجديدة، مثلما فعل حين كتب في إحدى رسائله في سنة 1968 عن فيلم (رعاة الفوضى) للمخرج اليوناني نيكوباباتاكيس، وترجم بيانه الثوري.

رسائل من باريس

كتب وحيد النقاش للأهرام سلسلة من الرسائل الأدبية والفكرية والنقدية..

بدت رسائل وحيد النقاش من باريس انعكاسا إيجابيا مثاليا لأصداء هزيمة 1967، فهو لم ينسحق أمامها ولم يهرب بتبرئة الذات أو جلدها، بل تجاوز اللحظة النفسية القاسية، ومضى بوعي عقلاني يفتح للأمل أبوابا متعددة، مُلقيا جزءا كبيرا من مسئولية المستقبل على الأدب والفن، ومانحا عنايته الكبرى للتجارب الملتزمة، بخاصة إذا صدرت من عرب المهجر أو كانت موجهة لهم، لقهر عزلتهم اللغوية وبؤسهم الثقافي، وهم بطبيعة الحال لا ينتظرون مساعدة من أحد لتحطيم تلك العزلة وقهر ذلك البؤس، فبلادهم التي تبيعهم والاقتصاد الفرنسي الذي يشتريهم لا يوليانهم أية رعاية.

ومن هنا حرص وحيد على أن يتبع مجموعة مناضلة من شباب المسرح العربي في باريس وهم يتنقلون على طول الحزام الدائري الذي يحيط بها..." يحركهم إحساس طاغ بالالتزام الاجتماعي والسياسي من خلال المسرح، ولذلك عملوا بكل ما يملكون - وهم لا يملكون سوى طاقاتهم الفكرية والفنية - على ألا تنغلق دائرة العزلة على تلك التجمعات المهاجرة، التي تضطرها ظروف معينة إلى أن تعيش حياة المهجر والغربة، وتمنيت أن توجد تلك الروح على حركة المسرح في أقاليم بلادنا.

لم يعش وحيد النقاش حتى يدرك لحظة الانتصار في حرب أكتوبر المجيدة. بل عانَي مرارة الشعور بالهزيمة، وكابد فكر النضال حتى ذبل وذاب وغاب عن المشهد في أكتوبر 1971.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم