شهادات ومذكرات
علي حسين: هيرتا موللر.. خياطة الكلمات تحتفل بعامها الـ "70"
(الوطن هو ما لا يستطيع الإنسان تحمله عندما يعيش فيه، ولا يستطيع نسيانه عندما يبتعد عنه).. هيرتا موللر
صنفت باعتبارها من "أعداء الشعب"، لأنها تنتمي الى الأقلية الألمانية، في بلاد مثل رومانيا كانت السلطات تعتقد أن هذه الأقلية مسؤولة عن فظائع النازية.. هيرتا موللر المولودة في إحدى قرى رومانيا في السابع عشر من آب عام 1953، تتذكر حكاية أمها التي سيقت عام 1945 إلى روسيا للعمل خمس سنوات في المزارع الشعبية لتعود عام 1950 حليقة الرأس، هزيلة يلتصق جلدها بعضامها، بعد ستين عاماً تقرر موللر أن تعيد نسج حكاية أمها من خلال روايتها"أرجوحة النفس "، وسيكون البطل رجلاً "ليوبولد أوبيرغ"، الذي يعتقل ضمن مجموعة من شباب القرية من أصول ألمانية ليُرحل إلى إحدى المناطق في روسيا، هناك يتعرض إلى أقسى أنواع الإذلال والتنكيل، إلا ان وصية جدته التي قالت له حين تمّ تسفيره : "إنه سيعود حتماً الى بلاده "، تجعله يصر على الاستمرار في الحياة ومواجهة المصاعب بإرادة قوية ورغبة في العيش بحرية.
يروي أوبيرغ تفاصيل حياته في المعسكر، وتتداخل معها حكايات رفاقه لتتحول الرواية إلى حكايات عن أيام العذاب والقتل ونجده في لحظات اليأس ينسى وصية جدته ويتمنى لو يموت ليرتاح من عذاب الأسر اليومي
تقدّم هيرتا موللر في روايتها "أرجوحة النفس" عبر أربعة وستّين فصلاً، صورة متكاملة عن التهميش الذي يتعرض له الإنسان، وكيف يتم تحطيم الناس لمجرد الاختلاف معهم في الهوية والعرق.. تتذكر أنها ملأت أربعة دفاتر مدرسية وهي تستمع لحكايات العائدين من المعسكرات الروسية التي فيها كانت تلغى الاسماء لتتحول إلى "هو، وهي"، فالبشر : "نصف الجائعين ليسوا ذكوراً ولا إناثاً، إنهم بلا جنــس كالأشياء". وبطل الرواية يصر على أن يتجاوز محنته وأن ينجو من قبضة الظلم :"إنني نجوت من قبضته... إنني أتناول الحياة حرفياً". قالت موللر إنها كتبت هذه الرواية : "تخليداً لأصدقائي الذين قتلوا بسبب الظلم والتمييز " .
لم يكن من وجود للكتب في منزل أهلها. توفي والدها وهي صغير’ بعد ان جُند في الحرب العالمية الثانية . تقول في حوار معها : "الوحيد، الذي امتلك مكتبة، كان أحد أعمامي، صاحب القناعة النازية. مكتبة، احتوت بالتأكيد على مختلف مؤلفات الفكر النازي، فقد اتصف بكونه أيديولوجيا قرويا مجنونا. حينما مات في "ساحة القتال" سنة 1945، ووصل الروس الذين اقترفوا كل أنواع الفظاعة داخل قريتنا، تحولت جدتي إلى كائن مرعوب. أساؤوا التقدير، كي يميزوا بين الكتب المورِّطة من غيرها، فألقوا بها كلها في موقد، ما منحهم إمكانية التدفؤ لمدة يومين. لقد عشنا، رعبا شديدا " .
كانت موللر في الثانية عشرة من عمره عندما تولى تشاوشيسكو السلطة عام 1965، بينما كانت تدرس الأدب الألماني والروماني في إحدى الجامعات في أوائل السبعينيات. تعرضت للضغوط من الأجهزة الأمنية للتعاون في تقديم معلومات عن زملائها : "كان أحد هذه الضغوط هو أن والدي كان يبلغ من العمر 17 عاماً عندما انضم إلى قوات الأمن الخاصة. لقد فكرت، أنا في عمره لكنني واحدة مختلفة. لا يمكنني الاعتراض على ما فعله. لكنني لن اتحول إلى مرآة له " .
في سن المراهقة كتبت مجموعة قصائد، لكن ذات يوم قلت لنفسي :"هذا يكفي، كل العالم بإمكانه أن يفعل ما أقوم به ثم توقفت. ولم أعاود الأمر، إلا بعد مرور فترة طويلة " اصبحت بعد سنوات واحدة من حلقة المثقفين المستقلين، تعرضت إلى مضايقات من الأجهزة الأمنية، وعندما أصدرت أول كتاب لها العام 1982 وكان مجموعة قصصية بعنوان "المنخفضات"، وضعت الرقابة يدها عليه ومنعته. ولم يمض عامان حتى صدرت هذه المجموعة في ألمانيا. وفي هذه القصص، تصف هيرتا الحياة البسيطة في قريتها التي عاشت فيها طفولتها، هاجمتها الصحافة الرومانية واعتبرتها خائنة، منعت من العمل في الصحافة، فاضطرت الى العمل مترجمة في مصنع حتى العام 1979. ولم تلبث أن صُرفت من عملها جراء رفضها التعاون مع الأجهزة الأمنية..تم تسفيرها بطريقة غير شرعية لتصل الى المانيا برفقة زوجها عام 1987، عندما سقط نظام تشاوشيسكو عام 1989 حاولت الرجوع الى رومانيا لكن السلطات الالمانية حذرتها :"ظنوا أنني قد لا اعود حية ثانية". شاهدت محاكمة الرئيس الروماني تشاوشيسكو من على شاشة التلفزيون، تألمت لمشهد إعدامه :"بكيت طوال هذا اليوم، لا يمكنك مشاهدة شخص يُطلق عليه النار. على الرغم من أنني كنت أتمنى ذلك لمدة 20 عاماً، لم أكن أريد حقاً رؤيته " .
عندما حصلت على جائزة نوبل للاداب عام 2009 صرحت موللر للصحفيين بأنها لم تكت ترغب أبدًا في أن تصبح كاتبة. عندما كانت طفلة، كانت تحلم بالعمل كخياطة، لكنها بدأت بالكتابة بدافع الخوف. ارادت ان تمزج بين المهنتين الخياطة والكتابة لتصبح " خياطة للكلمات، كتاباتها تبدو للقارئ احيانا غامضة لكنها حادة وجارحة .فيما اكد بيان لجنة جائزة نوبل للاداب بان :" كتابات موللر قد عكست حياةَ المحرومين بتركيزِ لغة الشعر، وصدقِ ووضوحِ لغة النثر"
احتفلت ميللر في بيتها الواقع في احدى ضواحي برلين بعيد ميلادها الـ " 70 " قالت لمراسل دير شبيغل ان كل ما كتبته ومازلت اكتبه هو الدافاع عن المظلومين واضافت ساظل أكتب حتى لو لم يكن هناك سوى شخص واحد في هذا العالم يتعرض للظلم .
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية