شهادات ومذكرات
علي حسين: ليلى بعلبكي ترحل بعد أن كتبت بيان تمردها
في صيف عام 1964 وقفت فتاة تبلغ من العمر "28" عاما امام قاضي شرطة الاخلاق الذي سألها: لماذا تكتبين بهذه الطريقة؟ ارادت أن تقول: هل يحق لأحد ان يسأل فنانا لماذا يكتب هكذا؟، لكنها استدركت لتجيب على سؤال القاضي بصوت مرتفع: لانني اعتبر نفسي اتمتع بحرية الرأي والفكر والعمل الممنوحة لكل شخص في لبنان. يقول لها القاضي وهو ينظر الى تسريحة شعرها الغريبة: ألا يتهيج المراهقون بعد قراءة كتابك.. تصمت قليلا ثم تجيب: " الكتاب يتكلم عن البشر، عن الناس، عن الاشخاص، في هذا البلد. يصور الواقع بطريقة ادبية فنية، واذا كانت تجب مصادرته فالاصح ان يصادر البشر هنا لانهم مادته "
وعندما يسالها القاضبي ثانية: لماذا استخدمت بعض الكلمات الخادشة للحياء. تصمت، فبماذا تجيب وهل عليها ان تفسر لماذا يستخدم الاديب هذه الكلمة بالذات دون غيرها. انتهى الاستجواب: " كانت الدقائق ثقيلة تزحف في عيني، والصمت يزيد غضبي واستنكاري الاخرس، كان المقصود ان يشعرني القاضي بالخجل مما اكتب، وبالذنب، واحسست فقط انني وجدي في غابة، وكنت مليئة بالحزن، حخزن كبير يغرق العالم " – ليلى بعلبكي دفاعا عن الحرية مجلة حوار 1964 –
خارج المحكمة انقسمت الصحافة بين مدافع عن ليلى بعلبكي وبين من يرى ان ما كتبته يسيء للاخلاق العامة كتب يوسف الخال: " سوقوها للسحن ولا تخيبوا ظننا. الماء ركدت واسنت بما فيه الكفاية، وحان ان تحركها هذه الصخرة "، وكتب جميل جبر: " القضية التي اثارت اهل القلم عندنا تتجاوز ليلى بعلبكي وكتابها. انها قضية كرامة كاتب واحترام رأي " وكتب انسي الحاج في صحيفة النهار ان ليلى بعلبكي: " ذهبت ضحية لأنها امرأة ولانها معروفة ولأن رايها صريح في النظام البوليسي " واصدر عدد من الكتاب بيانا استنكروا فيه مصادرة الكتاب واستجواب مؤلفته امام شرطة الاخلاق.
كانت شرطة الاخلاق قد القت القبض على ليلى بعلبكي بعد مصادرة مجموعتها القصصية " سفينة حنان الى القمر "، تم احتجاز الكاتبة لعرضها على قاضي التحقيق. بعد ضغط الراي العام والصحافة صدر القرار بوقف التعقيبات الجارية ضد بحق ليلى بعلبكي التي ستكتب: " جاء يوم خلاصنا.. نعم خلاصنا نحن. الذين عي القضية قضيتهم. يشرفني ان اكون سبب هذا الحادث التاريخي ".
نهاية عام 1963 اصدرت ليلى بعلبكي مجموعة قصصية بعنوان " سفينة حنان الى القمر - تضم " 12 " قصة نشرت معظمها في عدد من المجلات منها " شعر، حوار، ادب "، وكانت القصص امتداد لوجه نظر الكاتبة عن الحياة، حيث تدور معظم احداث قصصها حول فتاة تطالب بحريتها، فنجدها في قصة " لم يعد صدرك مدينتي " تقدم لنا الفتاة التي غادرت قريتها الى باريس، تسخر من الذين يؤجلون مشاعرهم لتعلن: " انا امراة مجنونة ياعزيزي، وانت ! وانت ياعزيزي رجل عاقل رزين يؤمن بالمساقبل.. خذ مستقبلك لك. خذه على حذائي " – بعلبكي سفينة حنان الى القمر صادرة عن.ستهدي ليلى بعلبكي نسخة من امجموعتها القصصية الى الصحفي المصري مفيد فوزي الذي كان يكتب زاوية في صباح الخير باسم مستعار " نادية عابد ". في العدد الصادر 4 حزيران عام 1964 من محلة صباح الخير كتبت نادية عابد – مفيد فوزي -: " اهدتني السيدة ليلى بعلبكي، الاديبة اللبنانية كتابها الاخير.. عبارة عن مجموعة قصص لم أكن قد قرأتها من فبل.. تسلمت الهدية بلهفة.. أنا متحمسة للكاتبات والاديبات.. مضى الوقت الذي يعبر فيه الرجل عن احاسيس المرأة.. قلبت كتاب ليلى بعلبكي بسرعة وتوقفت عند مطوية. عدلت الصفحة ولمحت عيناي اربعة سطور غريبة (وسألته أتذكر كم كانت حلوها جارحا جدا، ولم يعد السيد يحتمل فهتاج، واخيرا نطقها بشراهة.. برغبة: لن تذهبي.. لحوس أذني، ثم شفتي، وحام فوقي، ثم ارتمى وهمس انه ملتذ وأنني طرية ناعمة مخيفة.. وانه افتقدني كثيراً) شعرت – هذا كلامي أنا – بقشعريرة وبتقزز، وقلت لنفسي بضيق: ياست ليلى بعلبكي.. لحوس إيه، وحام إيه، وطرية وناعمة إيه.. وادب إيه.. ملعون هذا الادب ياشيخة "— مجلة صباح الخير حزيران 1964 -. عندما قرأت ليلى بعلبكي كلمات مفيد فوزي شعرت بالاستياء، لكنها لم تتوقع هذه السطور الساخرة زوبعة ادت الى مصادرة المجموعة القصصية واعتقالها من قبل شرطة الاخلاق. كانت المجموعة قد اثارت النقاد، فقصصها الجريئة وتصويرها للعلاقة بين الرجل والمراة جعل صحفيا مثل سعيد فريحة يكتب في مجلته الصياد: " كيف يمكن لليلى بعلبكي ان تكتب ادب جنس ما دام ادي الجنس هو ادب التجارب، وليى فتاة شرقية ما تزال في عمر الورود "
لم تكن هذه هي المرة الاولى التي تتمرد فيها ليلى بعلبكي على واقعها، فابنة الجنوب اللبناني وقفت ذات يوم من شهر ايار عام 1959 لتلقي محاضرة بعنوان " نحن، بلا اقنعة " – نشرت خالدة سعيد نص المحاضرة في كتابها يوتوبيا المدينة المثقفة - ستتحول الى بيان لجيل جديد يرفض سلطة الكبار ويطالب بحريته، ويسعى للخلاص من هيمنة كل الكبار، من الأباء الى السلطة السياسية، يرفض القسمة الى حاكم ومحكوم، يرفض القيم التي لم يسهم في صنعها، ويرفض القوانين التي صنعت للقيود التي صُنعت للابناء والنساء والرعايا: " نحن.. جيل اليوم.. تفنن البعض في تسميتنا المتمردون، الكارثة، الضائعون. الشاذون، الفوضويون. المصيبة.. الى آخر ما هناك من القاب مرعبة " ووسط دهشة الحاضرين تعلن بصوت عال: " كل ما على الارض لا يمثلنا ولا يرضينا لأنه من صنع غيرنا ". اصدرت روايتها الاولى " أنا احيا " التي نشرتها مجلة شعر في ايلول من عام 1958، بعد ان روجت لها باعلان على صفختها الاخيرة جاء فيه: " ان هذه الرواية سيكون لها أثر بديع في مستقبل الرواية العربية وستصفها الناقدة يمني العيد فيما بعد بانها اولى الروايات النستئية الحديثة التي شكلت علامة بارزة على تطور الكتابة الروائية العربية ".
اتذكر الرواية في غلافها الكريمي اللون والخطوط الخضراء التي تصور امرأة كأنها تقف وسط الطريق واسم ليلى بعلبكي على يمين الغلاف، وعبارة منشورات مجلة شعر والمكتبة العصرية اسفل الغلاف، عثرت عليها بين اكوام الكتب عند عبد الرحمن السامرائي " ابو عوف " الذي كان يتخذ من دكان صغير في بداية سوق السراي مقرا له، أذهب اليه كلما زرت شارع المتنبي، وكانت العربة التي يستخدمها في عرض الكتب وفي التنقل مصفوف عليها كتب من كل شكل ولون، وانا انبش فيها بحثا عن رواية او كتاب في المسرح، لمحت غلاف " انا احيا "، كان الاسم قد مر عليَّ كثيرا في المكتبة التي اعمل فيها والزبائن يبحثون عن روايتها هذه ورواية ثانية بعنوان " الآلهة الممسوخة ". وعندما سالت عنها ذات يوم المرحوم الناقد الكبير عبد الجبار داود البصري وكان من زبائن المكتبة قال لي بهدوءه المعهود وصوته الهاديء، انها كاتبة لبنانية جريئة اثارت ضجة في بداية الساينيات لكنها اعتزلت الكتابة منذ سنوات. ادرك الآن ان ذلك الفتى الذي التقط الكتاب من عربة " ابو عوف " كان متلهفا لكي يعرف: ماذا كانت تريد ان تقول ليلى بعلبكي، وماذا يحمل هذا الكتاب المُصفر من اسرار وخفايا؟. لم انتظر طويلا،جلست في مقهى صغير يقع في زاوية وسط سوق السراي، فتحت الصفحات برفق لاقرأ: " فكرت وانا اجتاز الرصيف، بين بيتنا ومحطة الترام: لمن هذا الشعر الدافئ المنثور على كتفي؟ أليس هو لي، كما لكل ححي شعره يتصرف به على هواه؟ الست حرة في أن اسخط على هذا الشعر، الذي يلفت إليه الانظار حتى أمسى وجودي سببا في وجوده. الستُ حرة في ان امنح حامل الموس لذة تقطيع خصلاته وبعثرتهاا بين قدميه، ليرميها حامل المكنسة، في تنكة قديمة صدئة. تمضي السطور من امام عيني سريعة، تعلن الروائية انها " من الآن وحتى المساء، سابني مستقبلا لحياتي "، التفت حولي فقد توقغت ان زبائن المقهى ينظرون اليَّ وانا اتلصص على حياة بطلة الرواية، اغلقت الكتاب ووضعته بين كتب كنت اشتريتها وقررت ان اكمل الرواية في البيت من دون ان يعرف احد بانني اغوص في حياة امراة تريد ان تتحرر.تمضي الصفحات سريعة، ها هي بطلة الرواية لينا تقع في غرام طالب عراقي " بهاء " يقدم نفسهلها: " طالب في السنة النهائية من الجامعة، من الريف العراقي.. سئمت الحياة وجسدي بدأ يهرم وانا مازلت في الخامسة والعشرين من عمري ". تاخذنا ليلى بعلبكي في رحلة استكشافية داخل عالم فتاة تجد نفسها ضحية الشرط الانساني القاس الذي يفرضه عليها المجتمع، بطلة الرواية لينا تعلن ثورتها على فراغ الحياة، وعلى كل ما مترسخ من تقاليد بالية في اذهان الناس، وتثور على عائلتها وعلى مرؤسها بالعمل، انها رواية هجائية تؤرخ لفترة مهمة من تاريخ الشعوب العربية.. وتقدم شهادة على ان الطريق مختلف بين الرجل والمراة: " فالمرأة تنشد التحرر والرجل لا يستجيب إلا لرواسبه ". اننا نحيا في رواية ليلى بعلبكي احساسها الداخلي وطريقة تخيلها للعالم الذي تريد العيش فيه، نحيا معها بطريقة صاخبة غربتها وتمردها. ان قصة التمرد عندها تبدأ: " حين وعينا فجأة انفسنا، ومررنا بيدنا على وجوهنا وصدورنا، نتحسس اجسادنا، وتلفتنا بحذر نتمعن في ماضينا. وحملقنا باستغراب، ننقب عن صلة تربطنا بالاشخاص حولنا. ثم قفزناعلى الطريق هاربين "، تكتب خالدة سعيد: " عبرت ليلى بعلبكي عن جيلها بلغة هذا الجيل، ودافعت عن مشروعية تمرده، ورفضه بلا اقنعة ولا مساومة " – يوتيبيا المدينة المثقفة – يصف انيس منصور رواية " انا احيا " بالبصقة في وجه القرن العشرين: " ولم تكن لليلى بعلبكي رسالة ابعد من ذلك، فقد جائت روايتها خلاصة ما لديها فقالت كلمتها واختفت" - مع الآخرين -.
عام 1960 تنشر روايتها الثانية والاخيرة "الآلهة الممسوخة " وفيها تقدم عالما جديدا لا صلة له بعالم " انا احيا".هناك اسرة تتكون من الزوج " نديم " استاذ التاريخ والزوجة " عايدة " التي تتلهف لانجاب طفل. الزوج يعيش في عالم غارق بذكريات العلاقات النسائية عندما كان يدرس في اوربا، مشغول بدروسه وابحاثه، يدمن الشرب تخلصا من هموم حياته الزوجية، فالزوجة الغنية والتي لاتملك جمالا قد خدعته عندما تزوجها واكتشف انها على علاقة سابقة برجل، تقتصر علاقته بها على شؤون حياتهم اليومية، يتجنب النوم معها. يسمع الناس تقول: " مسكين نديم.. هذه المراة مرعبة. تزوج دراهمها التي تطير ساقيها الرخوتين. وعايدة لاتهتم لهجر زوجها لها، حيث تعوضه بدمية كبيرة اسمتها " نانا " تنام معها على السرير وتحتضنها، تشير عايدة مطرجي ادريس " ان شخصيات رواية " الالهة الممسوخة " ليس فيها من يستطيع ان يخلق لدى القارئ حس المشاركة ". انها تقدم رواية عالمها مكون من افراد كل منهم يسعى الى ذاته بالطريقة التي يراها تحقق غايته: " غداً سامارس كل هنيهات يومي واهنأ بها ".
ليلى بعلبكي المولودة في احدى قرى النبطية بجنوب لبنان في التاسع عشر من تشرين الاول عام 1936 لعائلة كان الجد فقيها يعلم الاطفال القراءة والكتابة، والدها يكتب الشعر العامي، تغقت بجدها كثيرا وفي مكتبته الصغيرة قرأت كتاب نهج البلاغة وتعلقت باشعارابي تمام والبحتري وقالت لجدها ان المتنبي يحب نفسه كثيرا.اكملت دراستها الابندائية والثانوية، دخلت جامعة القديس يوسف لدراسة الادب الشرقي، لكنها ستتوقف عن الدراسة لتعمل سكرتيرة في مجلس النواب اللبناني بين عامي 1957 و1960، ثم كصحفية في عدة صحف يومية. بين عامي 1960- 1961 تسافر الى باريس لتبدا دراستها في السوربون تجذبها مقاهي باريس، كانت الوجودية آنذاك في اوج تالقها، تترك الجامعة من جديد.. تقرا فرانسو ساغان فتتعلق بها.. تعود الى بيروت تنشر روايتها الثانية ومجموعتها القصصية الوحيدة ".. عشية الحرب اللبنانية تهاجر الى لندن لتستقر هناك، بعد ان تزوجت.. تتوقف عن الكتابة.. تعود الى بيروت عام 1979، تقضي سنواتها بين بيروت ولندن تظهر فجاة عام 2009 في معرض بيروت للكتاب بعد ان اقنعتها دار الاداب باعادة نشر كتبها الثلاثة، كتبت ليلى بعلبكي عن حب لم تسعد به، وباتت سيدة تعيش عزلتها مع ذكريات الماضي الصاخبة، موهوبة ومستقلة تدرك ما يدور حولها. ارتابت بالعواطف، وعرفت ظلم السياسة وجدت في البيت ملاذها الاخير من عالم وصفته ذات يوم بانه منحاز للرجال صرخت " نحن مخاوقات نفكر، ونحس، ونعي، ونستسلم، ونقاوم ".رفضت ان تتحول الى اداة بيد المجتمع: " لن انتظر امام المرآة طويلا.. من انتظر، ولماذا انتظر؟ لانني انثى؟ انتظر من يرفع لي الحجارة.. من يطعمني اللقمة..انا سجينة و لايمكنني ان اتجاهل ذلك ".. عبرت عن جيلها بلغة الجيل نفسه، ودافعت عن مشروع تمردها. في سنواتها الاخيرة اختارت عزلتها الطوعية حتى اعلان خبر وفاتها يوم 21 من هذا الشهر تشرين الاول عام 2023 لتسدل الستار على صفحة مثيرة من تاريخ الرواية العربية.
***
علي حسين - رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية