شهادات ومذكرات
ليد مدرك: في رثاء دانييل دانيت
كتب: ليد مدرك
ترجمة: علي حمدان
***
دانيال دينيت، الذي توفي عن عمر يناهز 82 عامًا، كان من بين تلك الشخصيات الفلسفية التي يصعب مقاومة عدم قراءتها. كان عمله ذا صلة مباشرة بعلم الأحياء، والفيزياء، وعلم الكمبيوتر، وعلم النفس المعرفي، وجذب جميع القراء الفضوليين. عبر عن آراء جريئة وواضحة حول بعض أكبر الأسئلة المتعلقة بالوجود البشري: ما هو الوعي، وكيف يرتبط بالنشاط العصبي؟ هل لدينا إرادة حرة؟ كيف، إن حدث، نختلف عن أنظمة الذكاء الاصطناعي؟ وسؤال وضعه كأحد "الفرسان الأربعة" للإلحاد الجديد، جنبًا إلى جنب مع كريستوفر هيتشنز، ريتشارد دوكينز، وسام هاريس — هل الله موجود؟
كانت إجابات دانيال دينيت على هذه الأسئلة في كثير من الأحيان تثير حماسا كبيرا أو اختلافا — لكنها لم تُقَابَل أبدًا باللامبالاة. منذ بداية دراساته، كان دينيت حريصًا على إحداث فارق، وواثقًا من قدرته على تحقيق ذلك. كما وصف في مذكراته "كنت أفكر" (2023)، كطالب في السنة الأولى في جامعة ويسليان في ميدلتاون، كونيتيكت، قرأ كتب الفيلسوف وِيلارد كواين، وقرر أنه يجب أن "يذهب إلى هارفارد ويواجه هذا الرجل ويصحح له أخطائه!" وتابع ليفعل كلا الأمرين: انتقل إلى جامعة هارفارد في كامبريدج، ماساتشوستس، حيث انتقد تفسير كواين للغة العادية في أطروحته الشرفية.
وُلد دانييل دينيت في بوسطن، ماساتشوستس، في عام 1942، وقضى جزءاً من طفولته في بيروت، لبنان، لأن والده كان عميلاً سرياً في مكتب الخدمات الاستراتيجية الأمريكي. في عام 1947، توفي والده في حادث طائرة في إثيوبيا، وانتقلت العائلة مرة أخرى إلى بوسطن. بعد تخرجه من جامعة هارفارد، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد، المملكة المتحدة، في عام 1965، حيث استكشف مفهوم القصدية الذي سيشكل جزءاً كبيراً من اعماله اللاحقة. بعد فترة دامت ست سنوات في جامعة كاليفورنيا، إيرفين، انتقل إلى جامعة تافتس في ميدفورد، ماساتشوستس، التي أصبحت موطنه الأكاديمي.
كان دينييت يعتقد أن أفضل طريقة لصقل أفكاره هي مناقشتها مع طلاب الجامعة؛ حتى أنه قبل وفاته بأسبوعين، عقد محاضرة عبر الانترنت حول ورقة بحثية كان يعمل عليها. كان يرحب بالآراء المعارضة بعقل منفتح، ويساعد طلابه على التفكير بشكل اكثر انتقادا وصقل حججهم، حتى عندما تحدت أرائه.
إحدى مساعيه الرئيسية كانت وصف العقل البشري — وتحديدًا الوعي — بطريقة متأصلة بقوة في منظور الشخص الثالث، الذي أطلق عليه "علم الظواهر غير المتجانسة ". أراد الاعتماد على كل من الأدلة العلمية وعلم النفس الشعبي؛ الطرق النموذجية التي يفهم بها الناس ويفسرون ويتنبؤون بسلوكيات الآخرين. وذا طبقنا منظور الشخص الثالث على الوعي، فانه يعني ضمنا ان الناس لا يتمتعون بمعرفة متميزة عن تجاربهم الواعية الخاصة.
كان دينيت يريد كشف غموض الوعي، ودعا إلى إجراء أبحاث قائمة على البيانات لدراسته. ومن المهم أن يتضمن كشف الغموض هذا التخلي عن مفهوم "الكيفيات" ــ الجوانب التي لا يمكن وصفها والتي تتجلى في الشخص الأول في التجربة الواعية، مثل خضرة العشب أو حلاوة الشوكولاتة.
إن هذا النوع من الاختلاف الذي يتخيله الناس بين أي آلة وأي إنسان يعيش تجربة ما … هو اختلاف أنكره بشدة: "لا يوجد مثل هذا الاختلاف. يبدو أن الأمر الامر كما لوكان موجودا فقط،" كما كتب في كتابه "شرح الوعي" الصادر عام 1991. أثار هذا بطبيعة الحال انتقادات ونقاشات كبيرة.
بعض مناقشات دينييت مع الفلاسفة والعلماء الآخرين أصبحت مشهورة، مثل تلك التي كانت مع سام هاريس حول الإرادة الحرة. جادل دينييت بأن الناس يمتلكون حرية الإرادة بسبب قدرتهم على التأمل والتفكير وحتى التفكير في التفكير؛ وهي قدرات جادل دينييت بأنها تطورت من خلال التطور. يعتقد هاريس أن حرية الإرادة هي وهم.
تحولت مناظرات أخرى إلى خصومات طويلة الأمد، والتي كان يبدو أنه يستمتع بها أيضًا. أكد دينيت على أهمية الانتقاء الطبيعي في تطوير الصفات التكيفية. كانت هذه وأحدة من نقاط الخلاف الرئيسية بينه وبين عالم الاحياء ستيفان جاي جولد الذي دعا إلى وجهة نظر أكثر تعددية للتطور، حيث يعتبر الانتقاء الطبيعي أحد المبادئ المحتملة التي تطورت بها السمات.
وفقًا لدينيت، نشأت الاديان من مزيج من اللغة واهتمام البشر بالأحداث المثيرة للقلق. وقد ساهم هذان العاملان معا في تعزيز تطور الأوهام، او أنظمة الميمات التي تطورت ثقافيا والتي نشات بشكل طبيعي من يقظتنا الفطرية وتفاعلنا الاجتماعي." كما قال في كتابه "كنت افكر." وبالنسبة له كان الدين بمثابة تدجين لهذه الأوهام.
كان دينيت من رواد نشر المعرفة، حيث كان يترجم الأفكار المعقدة إلى عبارات واضحة ومثيرة في بعض الأحيان، ولكنها تجذب الانتباه دائمًا. كما ألقى محاضرات فلسفية مثيرة للتفكير في مؤتمر تيد، وقدّم تجربة "الدماغ في وعاء" الفكرية لجمهور هيئة الإذاعة البريطانية. وكان دينيت من رواد التعددية الفكرية الذين دافعوا بشراسة عن كسر صوامع المعرفة، وتعاون مع علماء الكمبيوتر لإنشاء روبوت على شكل إنسان، ومع علماء الإدراك لفهم تعقيدات الإدراك بشكل أفضل ومع علماء الأحياء لصقل روايته للتطور.
في وقت لاحق من حياته، واصل دينيت السعي وراء المغامرات. أحب الإبحار بقاربه الشراعي الذي يبلغ طوله 13 مترًا (سماه "زانثيب"، نسبة إلى زوجة سقراط)، وغنى في نوادي المرح وعزف على العديد من الآلات الموسيقية.
لقد عاش دينيت وفقاً لفلسفته. ففي عام 2006، وبعد جراحة في القلب استمرت تسع ساعات، كتب مقالاً بعنوان "الحمد لله!"، موضحاً أنه ممتن للموظفين الذين اعتنوا به، والعلماء الذين طوروا الدواء للسماح للأطباء بعلاجه، وحتى المراجعين الأقران ورؤساء تحرير المجلات الذين نشروا أعمال هؤلاء العلماء ــ وليس لله. وبالنسبة له، كان ينبغي أن نشكر مولدي، وناشري المعرفة والباحثين عن الحقيقة على مر التاريخ. ومن المناسب أن يُدرَج دينيت نفسه في هذه القائمة.
***
ليد مدرك