شهادات ومذكرات
نبيل الربيعي: ثوار انتفاضة هور الغموكة.. ثوار من الزمن الآخر
بعد حقبة الستينيات وعند هذا التاريخ دخل العراق في الفراغ، في منعطف توقف عن إنتاج النماذج الوطنية الكبيرة، ومشاعية التفكير والرؤيا، فسلام عادل هو آخر الذين يذكرون هنا بإجلال، لاعتبارات خاصة، فالعناد والتمسك بالمبادئ كان ديدنهُ، مما صنع منه العظمة من الأعلى وجعلت لأول مرة في العصر الحديث ممكنة. أما ما صنعته القيادة من الأسفل فهو عزيز الحاج، الذي تزعم تنظيم القيادة المركزية وتركه بموقف لا يحسد عليه عبر لقاء على شاشات التلفزيون العراقي.
لكن لا أحد من بين من انغمسوا في تجربة الكفاح المسلح كان كاملاً، فعزيز الحاج لم يكن ضعيفاً بذاته، بل بالخلفية والايقاع المحيط به هو الذي اضعفه، لذلك كان على عزيز الحاج أن يفعل ما فعله لأنه لا يستطيع الموت بمرافقة الكذب أو لأجله، مع العلم أنه كان غير مؤهلاً تماماً ليقود الثورة في أهوار جنوب العراق، لذلك نجده قد صعد في أرجوحة الحلم المغلق، وهبط مضرجاً هبوطاً مدوياً يدل على المأساة، فكان رمزاً لحظة الإعلان المدوي عن الفراغ بكل تراجيديتها، كما كان نقطة دالة على انقطاع في الجانب الأهم من جوانب الشكل الوطني.
كانت انتفاضة الأهوار قد وقعت ضمن اخطر المنعطفات التاريخية في عموم تاريخ العراق، وكان ثوار الانتفاضة أمثولة من نوعٍ آخر، فالانتفاضة المسلحة التي قامت في الأهوار وقتها استمرت برمزيتها التي نجمت عنها، وخاصة بفرديتها، فالفرد الذي ينمو مع الأيام والوقائع انتهى بنهاية الحدث وتحول إلى ذكرى مستحيلة التكرار، والأشخاص صاروا حاضرين ملحقين بالحدث، كما هو حال الثائر خالد أحمد زكي، الذي كان يمتلك صفاة القائد بشجاعته وملكاته الشخصية، أو منجزه الحقيقي وحدود ما فعله، إلا أنه لم يكن مؤهلاً جسدياً للعمل الصعب الشاق في الأهوار، والنزعة الأرادوية في هذا المجال، لم تكن مفيدة دائماً ولا فعالة، بسبب ضخامة الصعوبات وتعددها، بينما وضع في الظل اسم شخص لعب الدور الأهم في كل تجربة الكفاح المسلح، وتميز بروح تطابق اللحظة التي مارس نضاله خلالها، وكان متميزاً وقيادياً ومشاكساً قرمطياً غريب الأطوار هو أمين الخيون.
في ص66 يتذكره الكاتب عبد الأمير الركابي في كتابه (انتفاضة الأهوار المسلحة في جنوب العراق 1967/1968م) قائلاً: (أمين الخيون هو حقاً الممثل الفعلي للتيار العراقي، ضمن ظاهرة الاتجاه إلى العمل المسلح، وتصوراته ومحاولاته بهذا الخصوص، تعود إلى أوقات مبكرة، ترجع لما قبل تأثيرات أمريكا اللاتينية وجيفارا، فأمين كان من المشاركين في المقاومة المسلحة التي جوبه بها انقلاب 1963 البعثي عام 1963 في الكاظمية شمال بغداد، حين قام مع رفاقه باحتلال مركز الشرطة هناك، واستولوا على اسلحته وجابهوا الحرس القومي ودبابات الإنقلابيين. وكان هنالك في خلفية المشهد أيضاً أبو جعفر المناقبي، والشخصية المتفانية من دون حساب، أو نوري كمال العاطفي الذي صفيّ على يد ناظم كزار، أو الملازم فاضل عباس، ومن بين هؤلاء لم يشارك الأول والثاني، في العمل المسلح بأي درجة... في حين كان الملازم فاضل عباس قد شارك في القاعدة الأولى مع أمين الخيون، وكان المشرف على التدريب على الأسلحة. وهو بالمناسبة من الهاربين من سجن الحلة).
علينا أن لا نغمط ونغفل دور الخيون في الدواية كلياً في مجريات العمل المسلح في الأهوار وما اطلق عليه اسم (منظمة الكفاح المسلح)، وهي المنظمة التي ظلت قائمة حتى بعد مجيء حكم البعث للسلطة عام 1968 وهروب أمين الخيون من السجن في الموقف العام في باب المعظم بمساعدة حارس ينتمي إلى الحركة الكردية قبل تصفية القيادة المركزية عام 1969. وقد فقد أمين الخيون أخيه نائب الضابط في القوة الجوية جميل الخيون في ظروف غامضة، ولم يعرف عنه أي شيء لحد الآن. وحالة أمين الخيون لعبت فيها قلة الخبرة، وعدم توفر الأشخاص المناسبين للمهمة، إضافة إلى الأخطاء التي كانت في هذا المجال الدقيق، غير قابلة للاستدراك وسرعان ما تنتهي إلى انهيار التجربة وفشلها.
أما جماعة الفرات الأوسط من تنظيم الكفاح المسلح فكان موسى تاج الدين أكثر اعضاء المنظمة أهمية، وقد عقدت له عدة لقاءات بخالد أحمد زكي في الحديقة العامة قرب المحطة العالمية في الكرخ، ثم اللقاءات استمرت في بيت (شهاب) في الحرية الثانية. فضلاً عن جماعة (كوادر الحزب) أو (فريق الكادر اللينيني) المتمثل بعزيز الحاج وحسين الكمر. وكان لكثرة الانشقاق قد تعرض البعض للتجميد من قبل الحزب (اللجنة المركزية)، فبدأ بتشكيل تكتل (وحدة اليسار)، وهكذا كان الحزب عموماً، يضم قبل انشقاق القيادة المركزية في 17 ايلول 1967 ثلاث تكتلات هي: (القيادة المؤقتة) أو (مصباح) و(فريق من الكادر اللينيني) و(وحدة اليسار). الأول يتزعمه عزيز الحاج وحسين الكمر، والثاني يقوده نجم، والثالث الأصغر بقيادة أمين الخيون.
كما لا ننسى الشخصية الاسطورية موسى عطية، فضلاً عن دور ضابط الصف المقاتل حسين محمد حسن السويعدي الذي شارك عام 1963 في انتفاضة الرشيد مع حسن سريع. ولدور محيسن نايف الذي ارتبط بانتفاضة فلاحي الغموكة، وهناك أيضاً عبد الجبار علي جبر الشمري؛ الذي فقد كفه وهو يعيد قنبلة يدوية وقعت وسط مجموعته في معركة هور الغموكة، ولولاه لقتل جميع رفاقه، وكذلك يجب أن لا يُنسى علي حسين بويجي، ذلك الشاب اللاهي الضحوك من أبناء مدينة الثورة (الصدر حالياً)، وتوفى في ظروف غامضة، ولا ننسى عقيل حبش ودوره في الانتفاضة، إلا أن الظروف لم تكن بجانبه فتم إلقاء القبض عليه من قبل الشرطة السيارة أولاً، فضلاً عن دور عبد الأمير الركابي الذي تخاذل فيما بعد وتعاون من اللجنة التحقيقية بعد إلقاء القبض على المجموعة. فضلاً عن دور ابن محلة الدوريين في بغداد عبد الله شهواز، وممن استشهدوا في المعركة خالد أحمد زكي ومحسن حواس، هما من قاتلا ببسالة ورضى مذهلين. قاد معركة هور الغموكة الشهيد خالد أحمد زكي، الذي ترك العمل مع البروفسور رسل وعاد للعراق لقيادة تجربته في الكفاح المسلح ضد نظام السلطة العارفية، وعند وصوله لبغداد اقتضت الضرورة لإقامة جهاز سري سمي (خط حسين)، وجرى لاحقاً تغيير اسمه إلى (خط هاشم)، حتى لقب خالد أحمد زكي بـ(أبو هاشم)، وكان دور هذا الجهاز أن يقوم بالمهام الخاصة من استخبارات ومراقبة وتأمين السلاح، والبدء بالتدريب على استعماله والقيام بمهمات الحماية. وكان السيد درعان (منعثر سوادي) الذي استشهد هو الآخر في المعركة, وهناك أشخاص آخرين لم يشاركوا في المعركة الفاصلة مع القوات الأمنية وقد اصيبوا بالذعر؛ هم كلٍ من: عبود خلاطي وحسين ياسين وموسى عطية، تركوا المجموعة في اليوم الثاني.
من خلال هذا البحث الموجز احاول أن ارسم قراءة عن انتفاضة الأهوار، التي وقعت ضمن أخطر المنعطفات التاريخية حقبة الستينيات، في وقت تنامي الصيغة الشيوعية المقاتلة وكسر القاعدة. هذا التحدي الذي اسهم بقوة في طمس أو منع العقل العراقي من التعرف على ذاتيته التي كانت تتطلب أن يضطلع الإنسان بمفرده فيتحمل مغبة وثقل الاختراق الدهري وسط المعاكسات الثقيلة والراسخة في العقل والسلوك. فانتفاضة الأهوار هي بداية نشأة وصيرورة في قلب المستقبل، لها قواعدها التي رسمتها وهي من تؤسسها لتحقيق أهدافها وفق مفاهيم ومقاييس الشيوعية.
***
نبيل عبد الأمير الربيعي