شهادات ومذكرات
علي حسين: بول أوستر يكافح السرطان بالأدب ومقاومة العنف
في بداية شهر تشرين الثاني من هذا العام تصدر رواية جديدة للكاتب الامريكي بول أوستر بعنوان " بومغارتنر " وستصدر لها ترجمة عربية قام بها المترجم والباحث سعد البازعي .. الرواية الثامنة عشر للكاتب الشهير وصفها الناشر بانها " رواية غنية بالحنان والذكاء، وعين أوستر الحريصة على الجمال فى أصغر اللحظات العابرة من الحياة العادية، يتساءل بومغارتنر: لماذا نتذكر لحظات معينة وننسى أخرى؟". ويضيف ان بول أوستر يقدم للقراء تحفة فنية، تتألم مع اهتزازات الحب الدائم".
بول اوستر الذي اعلنت زوجته الكاتبة " سيري هاستفيت " في آذار الماضي عن اصابته بمرض السرطان، وانه يخضع للعلاج في احدى مستشفيات نيويورك قائلة:" إنّني أعيش في مكان صرت أسمّيه بلاد السرطان"، كان قد اصدر في كانون الثاني من هذا العام كتاب بمئة صفحة بعنوان " أمة الدم " وفيه يتساءل عن السبب الذي جعل امريكا البلاد الاكثر عنفا في العالم ..يقول ان فكرة الكتاب خطرت له عندما جاءه زوج ابنته المصور" سبنسر أوستراندر "، ذات يوم منزعجا جدا من عنف السلاح الذي كان يراه من حوله، قال له إنه قرر السفر في جميع أنحاء البلاد، وتصوير مواقع جميع عمليات إطلاق النار الجماعية
يقدم اوستر في " أمة الدم " وجهة نظره عما حل بامريكا في العقود الاخيرة من عنف بسبب استخدام السلاح، سيقوم زوج ابنته بسلسلة من الرحلات على مدار عامين ونصف التقط خلالها عشرات الصور التي ما ان راها الروائي الشهير حتى قال له:" أعتقد أن هذه صور مقنعة للغاية، وربما إذا جمعتها معا كنوع من الكتب، يمكنني كتابة نص يتوافق معها." .
يقول اوستر لصحيفة الغارديان انه منذ منذ بداية حياته كان يعرف أن جده مات عندما كان والده صبيا صغيرا .. يقول ان كتابه " امة الدم هو محاولة لتأمل دور السلاح في التاريخ والمجتمع الأميركيين، وفي حياته هو الخاصة أيضاً، إذ ينبئنا عن تعرفه التدريجي على الأسلحة منذ ألعاب الطفولة إلى المسدسات التي جربها في المخيم الصيفي والبندقية ذات الفوهتين التي جربها في مزرعة صديق له، وينبئنا عن انضمامه إلى البحرية التجارية والتقائه بأشخاص من الجنوب الأميركي وعجبه من علاقتهم بالأسلحة النارية.
بعد ما يقرب اكثر من ثلاثين عاما وثمانية عشر رواية وكتب سيرة وقصص ومقالات، من الصعب التفكير في كاتب أمريكي معاصر يثير مزيداً من النقاش مع كل عمل جديد مثل بول أوستر. يقول: «كل هذا غريب لدرجة أني لا أستطيع أن أتفهم كل هذا الاهتمام»، يرفض التحليلات النقدية المفرطة في المديح: " الكثير من النقاد لديهم وجهة نظر، ويحاولون التعبير عن هذا الموقف من خلال استخدامي كمثال. لكني أنا نفسي، أعيش في داخلي، لا أحاول أبداً وضع تسميات على ما أفعله. أنا فقط أتبع أنفي، فانا فنان الجوع الذي يحبّ رائحة الطعام"، يجد أن ما يكتبه هو تمثيل للواقع الذي نعيشه كل يوم: " أحاول فقط تمثيل العالم كما مررت به. هذا ما تحتويه معظم كتبي" . ينتقد النقّاد الذين ينسون أنه بدأ حياته الأدبية شاعراً: " ما زلت أشعر أنني شاعر. لا أشعر أنني أكتب الروايات بالطريقة التي يكتب بها الآخرون الروايات. أعتقد أني شاعر رواية أكثر من روائي" .
يعترف بول أوستر أنه متأثر جداً بـ (صامويل بيكيت) الذي شاهده ذات يوم بوجهه المتجهم يجلس في إحدى مقاهي باريس، وحين قرر الاقتراب منه للسلام عليه، منعته ملامحة التي تشي بعدم الاهتمام بالآخرين، يشعر " بقرب غير عادي" من (إدغار ألن بو) و(ناثانيال هاوثورن) الكتّاب الأكثر رومانسية بالنسبة له لأنهم " كانوا أول من كتب بصوت أميركي أصيل" . يعترف بأن أعماله تحبط الأمريكيين وتغيظهم.
بول أوستر المولود في الثالث من فبراير عام 1947، يعدّ اليوم من أشهر كتاب أمريكا الأحياء، يعترف أنه لا يطمح بالحصول على جائزة نوبل، يجد صعوبة في كتابة رواياته على الآلة الكاتبة، ويخشى استخدام الكومبيوتر، يكتب بقلم حبر، يعترف أن الكتابة باليد تتيح للكاتب الانغماس في السرد والشعور بأهمية عمله، يصرّ على تسمية هذه الطريقة بـ " القراءة بأصابعي"، ويعلّق قائلاً: " من المدهش أن عدد الأخطاء التي ستعثر عليها أصابعك لم تلاحظها عيناك قط، ولهذا كتبتُ دائماً باليد. في الغالب مع قلم حبر، ولكن في بعض الأحيان مع قلم رصاص، وخاصة بالنسبة للتصحيحات. إذا تمكّنتُ من الكتابة مباشرة على آلة كاتبة أو حاسوب، فسأفعل ذلك. لكن لوحات المفاتيح لطالما أرهبتني. لم أكن قادراً على التفكير بوضوح مع أصابعي في هذا الموقف. القلم يُشعرك أن الكلمات تخرج من جسدك ثم تحفر في الصفحة. الكتابة كانت دائما أشبه بملامسة شيء جيد. إنها تجربة مادية». يعترف أنه في بداياته كان شغوفاً بالآلة الكاتبة، ينظر إلى صورة هيمنغواي كيف يجلس أمام الآلة الكاتبة، فيقرر أن يقلده، فيشترى آلة كاتبة. كان ذلك عام 1974،وبمبلغ كان كبيراً آنذاك؛ 40 دولاراً. هذه الآلة التي أراد أن يخلّدها بقصة قصيرة، كان قد كتب عليها (ثلاثية نيويورك) و(قصر القمر) و(في بلاد الأشياء الأخيرة). نصحته زوجته باستخدام الكومبيوتر، لكنه شعر بالغربة: «بدأت أبدو كعدّو للتقدم، وإنسان وثني يتشبث بالعادات القديمة في عالم من الرقميين. سخر مني أصدقائي، قالوا إنني رجعي" .
في السادسة عشرة من عمره قرر أن يصبح كاتباً بعد أن جرب العديد من المهن: بائع لبطاقات في ملاعب البيسبول، مترجم على ظهر ناقلة نفط عملاقة: «كنت أريد أن أكون كاتباً، لأنني لم أعتقد أنني يمكن أن أفعل أي شيء آخر، لذلك قرأت وقرأت، وكتبت قصصاً قصيرة وحلمت بالفرار من الواقع».
سيعثر في ذلك الوقت على روايات (فرجينيا وولف): «كانت واحدة من أجمل الروايات التي قرأتها على الإطلاق. اخترقتني وجعلتني أرتعش، وكنت على وشك البكاء. كانت الموسيقى المنبعثة من جُملها الطويلة المزمنة، وعمق شعورها البسيط، والإيقاعات الخفية لبُنيتها تتحرك أمامي إلى درجة أنني كنت أقرأها ببطء قدر المستطاع، حيث أتناول الفقرات ثلاث وأربع مرات». يتوفى والده ويترك له ما يكفي من المال للتفرغ لمهنة الكتابة. الكتاب الأول سيضع له عنوان (اختراع العزلة)( )، وهو أشبه بلحظة تأمل يتذكر فيها والده الذي كان يمثل بالنسبة له روحاً انفرادية ترفض الخضوع للآخرين، يصف والده بالرجل غير المرئي، وسيكتب في ما بعد عن صفات هذا الأب في روايته (غير مرئي)، عن الرجل الذي لم يكن غريب الأطوار فقط على أسرته، بل حتى على الأصدقاء والجيران وزملاء العمل، وكل من عرفه في حياته، حيث أصر حتى اللحظة الأخيرة من حياته أن يعيش بعيداً عن الناس، معزولاً في عالم اخترعه لنفسه.
رُفضت روايته الأولى (مدينة الزجاج) من معظم دور النشر الأمريكية، لكنها ستصدر بعد عامين لتشكل الجزء الأول من ثلاثية (نيويورك)، والتي سينشر بعد عام الجزء الثاني منها بعنوان (الأشباح) ثم الثالث (الحجرة المقفلة)، وستشكل هذه الثلاثية بدايته الأدبية الحقيقية.
كثيراً ما يصرح بول أوستر أنه يكتب روايات تنتمي إلى نمط روايات التحري. وهو يعترف أنه جاء إلى عالم الرواية بعد إلمامه العميق بأكثر من ثقافة، فقد عمل مترجماً عن الفرنسية، واشتهر بترجماته لأشعار بودلير، وبكتابة قصائد تقترب من أجواء الشاعر الفرنسي الشهير، يقول إن رواياته تستعين بألغاز من كافكا وبالصمت الذي يهيمن على شخصيات صموئيل بيكيت. تحقق ثلاثية نيويورك بعد أن صدرت بطبعة كاملة عام 1987 نجاحاً كبيراً تلفت إليه أصحاب دور النشر.
تنتقل شخصياته في معظم رواياته من صدفة ربما لا يصدقها القارئ إلى صدف أُخرى تصنعها الظروف، وتبقى الصدفة ملازمة لأبطال رواياته: " الصدفة تحكم العالم، والعشوائية تلاحقنا كل يوم من حياتنا التي قد تؤخذ منا في أي لحظة بلا سبب" . في كل كتاب يثير سؤال النقاد حول الطريقة التي يكتب بها رواياته: " مع كل كتاب جديد أبدأه، أشعر بحاجتي إلى أن أتعلم طريقة كتابته أثناء العمل عليه. لا أكون متأكداً تماماً إلى أين سيصل، أو ما الذي سيحدث فصلاً تلو الآخر. فقط تكون البداية في رأسي. لكن عندما أبدأ الكتابة تتولد لديّ المزيد من الأفكار حول كيفية إكمال العمل" .
تختلف رواية (1234) عن جميع الروايات الأخرى التي كتبتها بول أوستر بأنها رواية الزمان والمكان، أمريكا في الخمسينات والستينات من القرن العشرين بالإضافة إلى سرد قصة حياة الشخصيات الرئيسية. وسنجد الأحداث التاريخية تقف في الصدارة: " لقد حاولت دائماً تحدي نفسي لأتخذ مقاربات جديدة للعمل في سرد القصص، وشعرت طوال الوقت أن هذا الكتاب الكبير كان بداخلي" .
يتأمل بول أوستر في مصير العالم ويتذكر ما كتبه في روايته (في بلاد الأشياء الأخيرة): " لست أتوقع منك أن تفهم. أنت لم ترَ شيئاً من هذا، وحتى لو حاولت فإنك لن تتمكّن من تخيله. هذه هي الأشياء الأخيرة. ترى منزلاً في اليوم الأول، وفي اليوم التالي يضمحل، شارعاً كنت اجتزته البارحة ما عاد موجوداً اليوم، حتى الطقس في تحول متواصل، نهار مشمس يليه نهار ماطر، نهار مثلج يليه نهار ضبابي، حرّ ثم برودة، ريح ثم سكون، فترة صقيع مرير، وبعدها شتاء حار.. لا شيء يدوم، هل تفهمني، ولا حتى الأفكار في داخلك.. حين يتوارى شيء ما فهذا يعني نهاية الأمر" . يصف لنا أن العالم أصبح فارغاً من الحياة.
في روايته الجديدة يروي لنا بول اوستر حكاية بومغارتنر البالغ من العمر 71 عامًا، والذي يكافح من أجل العيش في غياب زوجته آنا، التي قُتلت قبل تسع سنوات. قال الناشريعلق الناشر لكتب اوستر:" انا سعيد لأنه في هذه المرحلة من مسيرة بول أوستر الطويلة، أنتج هذه المنمنمة الدافئة والرائعة "
***
علي حسين – كاتب
رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية