شهادات ومذكرات
همنغواي بين ماركيز وكاسترو
في الثالث والعشرين من كانون الاول عام 1955 يصل الشاب البالغ من العمر" 28 "عاما " الى باريس قادما من روما التي قضى فيها فترة قصيرة حضر خلالها فعاليات مهرجان البندقية السينمائي، وكان قبلها قد تجول في البندقية وجنيف وارسل عددا من المقالات الى الصحيفة التي يعمل فيها بكولومبيا. كانت المقالة الاولى عن بابا الفاتيكان، وكتب ثلاث مقالات عن التنافس بين صوفيا لورين وجينا لولو بريجيدا، وكان فيها منحازا الى صوفيا لورين التي وجد انها تملك صورة اكثر جاذبية، بينما كان يرى بريجيدا اقل موهبة، في تلك الفترة التحق بدورة للاخراج السينمائي، لكنه سيتركها بعد ان شعر بالسأم، فقد وجد نفسه ميالا لكتابة السيناريو اكثر من الاخراج. كانت الايام الاخيرة من العام 1955 توشك على نهايتها، عندما قرر غابريل غارسيا ماركيز ان يركب القطار متجها الى باريس، وصل بعد ليلة ماطرة، ويخبرنا كاتب سيرته جيرالد مارتن ان ماركيز سكن في فندق رخيص يفضله المسافرون من امريكا اللاتينية وهو " فندق الفلاندر الكائن في الحي اللاتيني"– سيرة حياة ترجمة محمد درويش - عند وصوله الى باريس اتصل ماركيز بصديقه الصحفي الكولومبي بيلينيو أبوليو ميندوزا الذي كان قد وصل الى العاصمة الفرنسية قبل اشهر، كان ميندوزا قد اطلع على رواية ماركيز الاولى " عاصفة الاوراق "، التي لم تعجبه، وجدها بداية ادبية رديئة، ويتذكر انه عندما التقى بماركيز في باريس وجده صاحبه مملوء بالغرور وهو يتحدث عن روايته الجديدة " في ساعة نحس " والتي ستصدر عام 1962. كان ماركيز يامل ان يواصل العيش في باريس مدة طويلة معتمدا على المقالات التي تنشرها له الصحافة في كولومبيا، بعد اشهر يصف لنا ميندوزا الذي سيصبح واحدا من اقرب اصدقاء ماركيز – صدر له كتاب بعنوان " رائحة الجوافة وهو حوار طويل اجراه مع ماركيز – حال صاحبه بعد ان التقاه من جديد في آيار عام 1957 " وجدته اشد هزالا واكثر نحولا..كنزته الصوفية مثقوبة عند المرفقين. الماءيتسرب من نعل حذائه الى قدميه في اثناء سيره في الشارع، عظام وجنتيه في وجهه العربي بارزة على اوضح ما يكون " –سيرة حياة ترجمة محمد درويش-.
في مقال بعنوان الحياة في باريس الخمسينيات يكتب غابرييل غارسيا ماركيز :" عندما وصلت إلى باريس، لم أكن سوى شخص كاريبي خام. إنني في غاية الامتنان لتلك المدينة، التي اعطتني الكثير "، في منتصف العام 1957 وفيما كان ماركيز يتمشى في شارع " سان ميشيل”، لمح رجلا يرتدي " بنطال جينز وقميص مزكرش وعلى راسه قبعة "، للحظات قال لنفسه ان هذا الرجل هو " ارنست همنغواي "الذي كان يبلغ آنذاك الثامنة والخمسين من عمره، يكتب ماركيز :" كان يبدو عملاقا وكان من السهل التعرف عليه من بعيد، وبالرغم من كلّ هذا، لم تكن تبدو عليه علامات القوة الصارخة. كان يتميز بخصر رفيع ورجلين نحيلتين، تنتعلان حذاء كبيرا. يبدو حيويا وهو يتنقل ما بين أكشاك الكتب القديمة بين حشود من الشباب القادمة من جامعة السوربون، وكان من المستحيل أن يتوقع المرء بأنه قد تبقى أربع سنوات فقط لنهاية حياته".
يشعر ماركيز بالتردد وهو يشاهد كاتبه المفضل، فقد كان يتمنى ان يذهب باتجاهه ليطلب منه اجراء مقابلة صحفية، وفي الوقت نفسه كان يرغب بتقديم تحية الاعجاب الى المعلم، لكنه تراجع في اللحظة الاخيرة فقد كانت لغته الانكليزية متواضعة، فقرر ان ينادي من مكانه بصوت عال " مايسترو " يقول ماركيز :" كنت أبدو كطرزان وهو يصيح في الغابات ". أدرك همنغواي بأنه هو المقصود وسط هذا الحشد الكبير من الناس، لوح بيده وصاح بالاسبانية “وداعا يا صديقي".في تلك الفترة كان ماركيز في الثامنة والعشرين من عمره حصلت رواية " عاصفة الاوراق " على الجائزة الوطنية للادب في كولومبيا، لكنه يعيش الآن في باريس بلا نقود، يحرص على الذهاب الى المكتبات
ظل ماركيز طوال حياته الادبية يردد ان ويليام فوكنر وارنست همنغواي كان لهما التأثير الأكبر عليه، فروايات فوكنر الجنوبية الهمته اكتشاف قرية اكوندو الخيالية، وساعدته في اتكتشاف عالم طفولته في " أراكاتاكا "القرية التي ولد فيها،وقد أشار في مقابلة مع مجلة " باريس ريفيو " الى تلك الاجواء : "كان الجو، والاحباط، والحرارة في القرية تقريبا نفس ما شعرت به وانا اقرأ فوكنر " وسيكتب مقالا يشير فيه الى ان "فوكنر كاتب له علاقة كبيرة بروحي، لكن همنغواي هو أكثر من كان له علاقة بمهنتي - ليس فقط من أجل كتبه، ولكن لمعرفته المذهلة بالجوانب الحرفية في علم الكتابة ".ويضيف انه تعلم من همنغواي ايضا ان "الراحة الاقتصادية والصحة الجيدة تساعد على الكتابة ". كان من الصعب على ماركيز مقابلة فوكنر الذي سيرحل عن عالمنا عام 1962، لكنه حاول اكثر من مرة ان يلتقي بهمنغواي خصوصا عندما كان الاخير يقيم في كوبا، وكانت صورة همنغواي توحي له بان صاحب الشيخ والبحر ييبدو على الدوام قريبا من الموت، كان همنغواي قد قال للصحفي الأمريكي هوتشنر بأن الكتابة إذا تحولت إلى خطيئة ومصدر للسعادة، عندها لن يمنع الكاتب عن مواصلة الكتابة سوى الموت" – بابا همنغواي ترجمة ماهر البطوطي -، ويعلق ماركيز قائلا :" لا أعتقد أن كاتبا ما قد قدّم نصيحة بهذه القيمة فيما يتعلق بمشروع الكتابة، حيث أجد أن ما قاله همنغواي يعتبر وسيلة نادرة لمواجهة تحدّي الصفحة البيضاء صباح كلّ يوم!.".
يؤكد ماركيز ان كلّ عمل أبدعه همنغواي يدل على تجلّ عبقري، كما أن القلق الداخلي العميق لعمله الروائي دائما ما يخضع لسيطرة وتقنية فائقة، ويشير ماركيز الى ان روايات همنغواي تترك انطباعا لدى القارئ بأن الروائي لم يقل كلّ ما لديه، وأن هناك ما قرر ان يصمت عنه.
بعد مشهد رؤية همنغواي يسير في الشارع، اعتاد ماركيز ان يمضي ساعات وأيام بالقراءة في المقهى الباريسيّ الواقع على شارع “سان ميشيل”، والذي كان همنغواي يجلس فيه، على امل ان يلتقي به ثانية، واعتاد ان يمر على مكتبة باريس التي اسستها سليفيا بيتش، وهو يتخيل همنغواي جالسا مع صاحبة المكتبة بانتظار صديقه جيمس جويس، حكايات كاتبه المفضل مع النسخ الاولى من رواية جويس الشهيرة " يوليسيس، وكيف تمكن همنغواي من تهريب اول ثلاثة نسخ من الرواية الى امريكا، وكيف قاد همنغواي في احد ايام شهر آب عام 1944 سيارته العسكرية ليتوجه صوب مكتبة شكسبير، ليخبر سليفيا بيتش بان باريس قد تحررت من الاحتلال النازي.
لم تنته حكاية ماركيز مع همنغواي وسيتذكره في مقال بعنوان " همنغوايا " ترجمه صالح علماني ضمن كتاب صغير بعنوان " كوبا في زمن الحصار " يتحدث فيه عن علاقة همنغواي بكوبا، حيث يشير ماركيز الى ان همنغواي نشر مقالا عام 1949، حاول ان يجيب على سؤال عن السبب الذي دفعه لأن يعيش في كوبا كل تلك السنين، ويقول ماركيز ان اجابة همنغواي كانت تحمل الكثير من التناقض وينقل لنا ماركيز فقرة يقول فيها همنغواي :" يعيش المرء في هذه الجزيرة لانه...يمكن تغطية جرس الهاتف بورقة لتفادي أي اتصال، ولانه بالإمكان العمل في برودة الصباح براحة اكبر من اي مكان آخر "، ورغم التناقض في هذه الجملة، يخبرنا ماركيز ان كوبا كانت هي المكان الوحيد لاقامة همنغواي في حياته، ففيها امضى تقريبا نصف سنوات عمره ككاتب، منذ ان وصلها اليها لاول مرة في نيسان عام 1928 في رحلة استمرت اسبوعين، وكانت ترافقه زوجته الثانية باولين فيفير، كان عمره آنذاك ثمانية وعشرين عاما، وسيقوم بعد ذلك باربعة سنوات عام 1932 باول رحلة صيد في كوبا، وسيكشف همنغواي ولعه بكوبا وسنجده يكتب عام 1949 مقالا عن علاقته بالناس في هافانا وكيف يلوح له معارفه بايديهم عندما يمر في الميناء.. في ذلك الوقت كان همنغواي يعتبر شخصية عامة في شوارع هافانا.. وفي كوبا سيكتب اعماله الكبرى القسم الكبير من لرواية لمن تقرع الاجراس، الشيخ والبحر، وليمة متنقلة، عبر النهر وبين الاشجار والكثير من المقالات الادبية.. وربما الحديث عن علاقة همنغواي بكوبا حديث طويل، لكن ماذا عن علاقته بفيدل كاسترو، يكتب الروائي الصديق محسن الرملي ان :" همنغواي وكاسترو لم يلتقيا إلا مرة واحدة، وكل ما أشيع عن صداقتهما هو دعاية من حكومة كاسترو. التقيا في احتفالية صيد بحري، وكان جيفارا حاضرا ولم يشترك، مكتفياً بالجلوس والقراءة وحتى لم يسلم على همنغواي الذي لم يكن مهتماً بالثورة الكوبية، وكل ما كان يهمه من كوبا هو أن يستمتع فيها وبس "، فهل كان همنغواي حقا غير معني بما يجري في كوبا التي عاش فيها نصف عمره ؟.. في كل المراجع التي كتبت عن حياة همنغواي لانجد اشارات واضحة للثورة الكوبية باستثناء تاييده لها في اكثر من مرة قبل ان يصبح كاسترو رئيسا ويذكر ماركيز ان في فترة الازمة بين اميركا وكوبا بعد الثورة الكوبية مباشرة :" اجرى الصحفي الارجنتيني رودلفو والتش مقابلة فورية مع همنغواي، وفي تلك المقابلة التي عدت اقصر مقابلة وكانت احدى آخر المقابلات في حياة همنغواي الذي قال صارخا باسبانيته السليمة : سنكسب نحن الكوبيون سنكسب..ثم صرخ بالانكليزية انا لست ( يانكي ) الآن ".. وربما هذا التاييد الوحيد الذي صدر عن همنغواي بعد نجاح الثورة الكوبية
والغريب ان العلاقة مع الثورة الكوبية كانت تشكل هاجسا عند همنغواي الأمر الذي دفع صديقه الصحفي هوتشنر والذي كتب عنه فيما بعد كتابا جميلا بعنوان " بابا همنغواي " ان يكتب :" أن الـ (إف ـ بي ـ آي) لم يكتفِ بالتجسس على همنغواي طيلة ربع قرن للشكّ في علاقته بالنظام الكوبي، بل استغلّ ظروف مرضه لملاحقته والتحرش به حتى داخل المصحة التي كان يعالج فيها من الاكتئاب، قبل وفاته ".. وظلت هذه العلاقة غريبة، ففي ذكرى رحيل همنغواي الثالثة عام 1964 اصدرت الحكومة الكوبية طابعا تذكاريا يحمل صورته، الامر الذي دفع أرملة همنغواي ماري ان تبعث برسالة عبر وسيط الى مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي أن الطابع الذي اصدرته كوبا لا يعني أن همنغواي دعم الثورة. واكدت أن همنغواي وكاسترو التقيا مرة واحدة فقط، لبضع دقائق في ايار1960، وكل ما فعلوه حين ذاك كان حديثا عن الصيد.. وهو الامر الذي اكده فيما بعد قبطان مركب الصيد الذي كان يصطاد به همنغواي في كوبا فقد اكد في برنامج بعنوان " همنغواي في كوبا " ان كاسترو وهمنغواي التقيا مرة واحدة فقط، في 15 ايار 1960، وكان ذلك قبل عدة أشهر من مغادرة همنغواي كوبا لآخر مرة، لانه بعدها باشهر انتحر..كانت مناسبة اللقاء هي في مسابقة صيد أقيمت على شرف همنغواي. والتي التقطت فيها صورا عديدة لهما.. ماذا قالا في ذلك اللقاء ؟.. كان كاسترو قد فاز في سباق الصيد، وقد قال لهمنغواي الذي منحه الكأس: " "أنا مبتدئ في الصيد". فأجابه همنغواي ضاحكا "أنت مبتدئ صحيح، لكنك محظوظ ".. يتسأل هوتشنر عن الاسباب التي دفعت زوجة همنغواي لانكار علاقته بالثورة الكوبية، فهل كانت خائفة، ام انها ارادت ان تحمي سمعة زوجها الراحل، وتجنبه حديث الشائعات عن علاقته بالشيوعية التي كان مغضوبا عليها في اميركا الستينيات ؟.
يكتب ماركيز الذي كانت تربطه علاقة متينة بالزعيم الكوبي كاسترو ان الأخير كان مغرما بهمنغواي، وقد اعلن عام 1977 امام الصحفيين ان كاتبه المفضل هو همنغواي.. ويضيف ماركيز ان كاسترو كان منذ سنوات قارئا مثابرا لهمنغواي، وقد كان يعرفه بعمق، ويدافع عن اعماله تجاه من يحاولون النيل منها.. وكان ماركيز يشاهد في سيارة كاسترو الخاصة التي دائما ما تمتليء بالاوراق والخرائط والوثائق الحكومية.. " اعمال همنغواي ترقد بين كومة الاوراق وكانت مجلدة باللون الاحمر ". في المقابل ومع سخونة الاحداث والموقف المعادي الذي اتخذته الولايات المتحدة من النظام الكوبي، كان همنغواي يعلق الأمل في المستقبل الذي ينتظر هذه الجزيرة واتفق مع صديقه، مراسل صحيفة نيويورك تايمز هربرت إل. ماثيوز، على أنه لا يزال هناك شيء "ثمين" بشأن الثورة الكوبية، وأنه يجب الحفاظ على شيء ما. قال همنغواي الذي شهد ثورات عديدة لأصدقائه إنه يأخذ يتبنى النظر الطويلة الأمد، واثقًا من أن التجاوزات الثورية ستتقلص وأن النظام الجديد سيعتني بالفقراء الذين اهملتهم الطبقة الحاكمة لعدة قرون..اثناء مرحلة العداء مع اميركا اعلن كاسترو أن الكاتب الشهير سيظل دائماً موضع ترحيب في الجزيرة. لكن تبين أن هذا شيء لم يكن همنغواي يتحمله، أخبر صديقه هوتشنر في صيف عام 1960، أنه برغم لم يتعرض لمضايقة من كاسترو شخصيًا، إلا أنه لم يستريح بسهولة بسبب موقف المخابرات الاميركية من المواطنين الاميركان الذين يعيشون في كوبا،، و كان هذا أحد الأسباب التي دفعت همنغواي إلى قضاء الأشهر الأخيرة من حياته في ولاية أيداهو قبل الانتحار في يوليو 1961..يكتب ماركيز انه ليس هناك كاتب نال في كوبا من التكريم مثل التكريم الذي ناله همنغواي.. بالمقابل وبرغم تنقل همنغواي في الكثير من العواصم، إلا انه احب منزله في فنيكا فيخيا في كوبا والذي كان يحوي تسعة آلاف كتاب إضافة الى اربعة كلاب وسبعة وخمسين قطة.. وهو المنزل الذي تحول الى متحف همنغواي حيث بقيت أشياؤه تحمل جزءا من روحه بعد أن شحنها بسحر حضوره القويّ.
***
علي حسين – كاتب
رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية