شهادات ومذكرات
توفيق التونچي: الشخصية القلقة النرجسية والرسام سلفادور دالي
كنت احضر عرض فلما حديثا عن سيرة حياة الرسام سلفادور دالي وأيامه الأخيرة. حين فكرت بأعداد وكتابة سيرته المليئة بالغرائب فهو شخصية غريبة في رسوماته وسلوكه الشخصي الى درجة قريبة من الجنون. دأب صانعوا الأفلام السينمائية تصوير افلام عن الشخصيات وهذا الرسام بالذات شاعت حوله الكثير وعاش في فترة تقلبات سياسية وحروب وتقلب هو بنفسه منالشيوعية الى تايد الدكتاتور الإسباني فرانكو الى فوضوي متطرف. وهو من إسبانيا عاش فترة في المصيف الساحلي المشمس طوال العام والذي اقيم فيه تورامولينوس (برج الطاحونة) من أعمال مدينة ملقا الجميل والخلاب هنا كان يصيف مع أصدقاؤه و مع زوجته الروسية غالا (گالا)، وقد وضعت بلدية المدينة نصبا تذكاريا للرسام وزوجته وأصدقاءه. كنت قد شاهدت بعضا من أعماله في متحف الفن الحديث في ميناء مدينة ملقا حيث مركز بومبيدو للفن الحديث وكذلك في زيارتي لمتحف الملكة صوفيا في العاصمة مدريد وعلي الاعتراف بان تلك اللوحات لم تترك في اي انطباع. و هو سلفادور فيليبي خاثينتو دالي إيدومينيتش، في اللغة الإسبانية Salvador Felipe Jacinto Dalí i Domènech، ولد في 11 ايار، مايو من عام 1904 في فيغيراس، جيرونا، إسبانيا قرب الحدود الفرنسية - اليوم فيها متحف ومسرح باسمه وتوفي في 23 كانون ثاني يناير 1989، في نفس المدينة الاسبانية.
يعتبر دالي من أهم فناني القرن العشرين، وهو أحد أعلام المدرسة السريالية ومصطلح السريالية كما عرّفه الشاعر غيوم أبولينير عام 1917 يعني (ما فوق الواقعية) والسريالية هي مذهب أدبي وفني وفكري أراد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية، وزعم أن فوق هذا الواقع واقع آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعاً، وهو واقع اللاوعي أو اللاشعور، وهو واقع مكبوت في داخل النفس البشرية، ويجب تحريره وإطلاق مكبوتة وتسجيله في الأدب والفن. وتسعى السريالية إلى إدخال مضامين غير مُستقاة من الواقع التقليدي في الأعمال الأدبية، وتُستمد هذه المضامين من الأحلام سواء في اليقظة أو المنام، ومن تداعي الخواطر الذي لا يخضع لمنطق السبب والنتيجة، وهكذا تُعتبر السريالية اتجاها يهدف إلى إبراز التناقض في حياتنا. وتُعد لوحة (إصرار الذاكرة) عام 1931 هي أشهر لوحات دالي على الإطلاق، واللوحة تصوّر عدداً من الساعات المتعرجة الذائبة والتي تستقر في منظر طبيعي هادئ بشكل مخيف. الأفكار الغريبة والمبهمة حول السريالية تلك انعكست في حياة وسلوك دالي غريبا وختى ملابسه وحياته الشخصية وقد حاول منتجو الفلم إظهار بعضا من تلك السلوكيات والأفعال ونرجسيته وحتى إصابته بجنون العظمة خاصة علاقته بزوجته الروسية غالا (گالا)، والتي اظهر الفلم مدى جشعها وحبها للمال وحياتها الجنسية الغير سوية وخاصة استغلالها لزوجها من اجل الحصول على الأموال في عملية تزوير واضحة لأعماله الفنية باستغلال توقيع الرسام تجاريا.
يعرف العالم سلفادور دالى باعتباره رائدا للفن السريالي عن طريق لوحاته التي اشتهرت في العالم.
عاش دالي حياة مُرفهاً بين أسرة ثرية، وكان والداه يوفران له كل مطالبه. ونتيجة لدلاله المبالغ فيه فقد عُرف عنه سلوك الطائش، ذلك السلوك الذي انعكس لاحقا في أعماله وسلوكه الغريب يعتقد ان احد جيرانه ساهم، رامون بيشوت، أحد في دخوله إلى عالم الرسم، ففي السابعة من عمره رسم دالي أولى لوحاته، واستطاع في مدرسته أن يلفت النظر إلى رسومه التي تنبأت له بمستقبل بارع، مما دفع بعائلته وأساتذته إلى حثّه على دخول أكاديمية الفنون الجميلة في سان فيرناندو في مدريد. لكن سلوكه الشاذ ابعده عدد من المرات من الدراسة.
كان دالي يذهب إلى متحف البرادو" في العاصمة مدريد كل يوم الأحد، حيث كان يمضي ساعات طويلة مُتسمراً أمام لوحات المشاهير أمثال دييغو فيلاثكيث، فرانثيسكو غويا، وسورباران فرانشسكو واخرين.
حين بدا في رسم لوحات التكعيبية تعكس أفكاره الغريبة. وبعد أن تعرّف على كتابات نيتشه، وبعد انتهائه من قراءة كتاب (هكذا تحدث زرادشت) عمِد دالي إلى إطالة شاربه ليكون مثل شارب نيتشه، وظل دالي محتفظاً بهذا الشارب حتى نهاية حياته.
عام 1928 كتب دالي في باريس سيناريو فيلم (كلب أندلسي) والذي أخرجه المخرج الإسباني لويس بونويل، ويبلغ طول الفيلم 17 دقيقة وهو مزيج حُلمي غريب، والمشاهد والأفكار لا يمكنها أن تثير تفسيراً عقلانياً من أي نوع:
شفرة موسى تفقأ عين فتاة، رجل ينزع فمه من وجهه، بيانو تزينه جثث حمير، نمل يزحف على يد رجل، رجل في الشارع يحمل مكنسة تنتهي إلى يد آدمية يدفع بها الفضلات، ومن الطريف أنه لا يوجد في الفيلم أي كلب . في عام 1930 صور الفيلم الثاني لدالي وهو بعنوان (العصر الذهبي) والذي تميز أيضاً بعدم إمكانية تفسيره تفسيراً عقلانياً، وهو من إخراج نفس المخرج الإسباني أيضاً وشارك كذلك في فلم رعب ل هتشكوك في تصميم حلم بطل الفلم في فلم المسحور عام ١٩٤٥.
في عام 1964، أصدر سلفادور دالي كتاباً بعنوان يوميات عبقري في باريس، وهو مأخوذ من دفتر يومياته الذي يغطّي المرحلة الممتدة من عام 1953 إلى 1963 من حياته. ويُشكّل الكتاب تكملة لسيرته الذاتية التي صدرت بعنوان (الحياة السرية لسلفادور دالي) والذي يُعتبر من أكثر كتب دالي إثارة. يقول دالى:
" ان تحديد الزمن يكون عن طريق المكان حيث يمكن ملاحظة ليونة الساعة في النظرة الفسيولوجية اليها وان الاستخدام العملى لها يؤثر بشكل كبير على ادراك الانسان.. انه في لحظات السعادة فان الزمن يمضى بسرعة بينما اذا كنا فى عمل ممل او تحت ضغط او اكتئاب فانه يمر ببطء شديد. تعبر الساق التي تحمل الساعة السائحة عن جمود الزمن فيما تعبر الدمعة عن رثاء طريق الحياة الذي يمشى فيه الانسان حيث ان جميع الناس يجب أن يخضعوا الى الزمن".
تزوج دالي من الروسية إيلينا ديماكونوفا والمعروفة باسم غالا (گالا)، وقد كانت قد جاءت إلى فرنسا بمفردها عام 1913 وهي لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها. وفي عام 1929 التقت بدالي الذي كان يصغرها بعشر سنوات تقريباً. وقد ظهر تأثير جالا الواضح على دالي وعلى أعماله الفنية، حيث كانت حريصة على منع تخيلاته المتطرفة في الحياة والفن من أن تصبح حالة مرضية، وكان هذا الحرص الدائم سبباً في الجاذبية المتصاعدة والمستمرة بينهما إلى درجة أن دالي كان يوّقع على بعض لوحاته باسمه واسم غالا(گالا)، معاً.
لجأ دالي إلى أساليب ملتوية لتحقيق الشهرة العالمية كتأييده لحكم الدكتاتور فرانكو، وخلال فترة صعود الحزب النازي إلى الحكم في ألمانيا رسم دالي العديد من اللوحات التي تُصور «هتلر» في أوضاع عجيبة، بعضها أنثوي، مما دفع أندريه بريتون والفنانين السرياليين إلى إتخاذ قرار جماعي بفصله من الحركة السريالية بسبب ذلك.
في عام 1948 عاد دالي إلى كتالونيا، وكانت عودته هذه المرة عودة (الابن البار) حيث تصالح مع والده بعد فترة قطيعة طويلة. وانطلاقاً من إعجابه المُعلن بالرسامين الكلاسيكيين أمثال:
فيلاثكيث ورافائيل وفيرمير، انطلق نحو ما سماه (الفن الكلاسيكي الديني) ورسم بعدها عدداً من اللوحات الدينية مثل لوحة (مادونا بورت ليجات) وهي عبارة عن عذراء بوجه زوجته غالا. (گالا)، ورسم لوحات دينية لانجيل خاص طبع مع أعماله تلك كعودة الى الإيمان.
في عام 1984 احترق دالي في غرفته ضمن ظروف مُريبة ويعتقد بانها كانت محاولة انتحار، لكنه لم يمت وعاش خمس سنوات تالية. كان دالى كثير التنقل بين الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة مدينة نيويورك حيث نال شهرة كبيرة هناك وانجز الكثير من الأعمال الخاصة بديكورات شقق ومنازل كبار رجال الأعمال من الشخصيات المعروفة والثرية. الدالى العديد من المؤلفات حول الفن السريالي والفن ذى الأبعاد الثلاثة كما عرضت أعماله سواء اللوحات او الأعمال النحتية فى أكثر معارض العالم منها اليابان والصين وأمريكا وجميع دول الاتحاد الأوروبي.
توفى سلفادور دالي في 23 كانون ثان يناير ن عمر ناهز 85 عاما وذلك عام 1989 تاركاً إشارة استفهام كثيرة وتساؤلات حول حجم لارثه على هامش القائمة الكبيرة من الفضائح التي أصبحت حسب قوله تشكّل جزء من التراث الشعبي الإسباني .
***
إعداد: د. توفيق رفيق التونچي - السويد
٢٠٢٤
................
* الصور للكاتب من متحف الملكة صوفيا في مدريد.