شهادات ومذكرات
صالح الطائي: هكذا يصنع الكمال
العظماء هم صناع التاريخ الحقيقيين، ولولا بطولاتهم واعمالهم العظيمة ما كان التاريخ أن يُكتَب، والعظماء أيضا هم الذين لا يبخلون بمد يد العون للآخرين من أجل صنع الكمال عند كتابة هذا التاريخ.!
اليوم 21/5/2024 وقبل الساعة السادسة صباحا بدأت بقراءة كتاب (محمد أول جنرال في الإسلام؛ السيرة العسكرية الشاملة) للدكتور ريتشارد كابرييل، ترجمة أحمد العبدة، أرسله لي مشكورا صديقي الدكتور أحمد الموسوي من البصرة الفيحاء مع مجموعة كتب أخرى. وكالعادة بدأت رحلتي مع الكتاب من صفحة العنوان لأتقدم بخطوات واثقة وئيدة تعطيني فرصة استيعاب ما أٌقرأ والإلمام بالموضوع، وقد استوقفتني عبارات الشكر التي ابتدأ بها الكاتب كتابه؛ والتي قدم لها بعبارة: "إنني مدين وممتن للغاية للأفراد الآتية أسماؤهم، الذين تكرموا بوقتهم وخبرتهم في قراءة النص الأولي، وتقديم نصائحهم ونقدهم". فأردت أن أعرف ما قدمه له هؤلاء الأفراد ليستحقوا عبارات الشكر الفخمة، وهل هناك بيننا مثلهم أو أقل منهم.
كان "جو سبورل" أول الأسماء المشكورة، وهو أستاذ الفلسفة في جامعة "سانت أنسليم" متخصص بالدين والفلسفة الإسلامية، وهذه معرفة تؤهله ليكون مشرفا وناقدا وموجها ومصححا وداعما للعمل، وما أدهشني أنه رغم هذه الإمكانية العلمية الرائعة والتخصص الفريد، كان هو من اقترح على "كابرييل" فكرة الكتاب، وضرورة الكتابة عن السيرة العسكرية للنبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وهذا إيثار تكاد لا تجد له نظيرا في عالمنا الإسلامي، لا بين الأكاديميين ولا بين الباحثين إلا ما ندر، وإن تحقق، وهذا احتمال صعب التحقق، فالمنة التي يُلحقها المقترِح بالمقترَح عليه لا تنتهي أبدا، وعلى خلاف ذلك تجد عندنا غالبا من يقتنص فرصة التحدث معك ليستشف بعضا مما تفكر به، فيسرقه ويختلسه منك، ويسارع للكتابة عنه منافسة.
الأكثر دهشة أن "سبورل" لم يقف عند مجرد اقتراح فكرة الكتاب على زميله بدل أن يكتب هو عنها، وهو الضليع والمتخصص في محوره، وإنما مد يد العون الكبير له، وقدم له نصائح كبيرة، قال الباحث عنها: "كانت تعليقاته الجوهرية لا غنى عنها لفهمي لتيارات الفكر الإسلامي الديني والفلسفي؛ التي قدمت السياق الأكبر الذي يجب أن تُفهم على أساسه الأحداث العسكرية في حياة محمد". وهذا ينبيك بمقدار العطاء وأثره، وفائدة التداول العلمي بين الباحثين، وهي مسألة لا تجد لها وجودا في حياتنا، أقول هذا للأسف عن تجربة مريرة خضتها لأكثر من مرة.
فضلا عن ذلك يُفهم من صفحة الشكر أن هناك أسماءً أخرى أسهمت في مد يد العون، منهم "جيم كويل" وهو صديق قديم للمؤلف من أيام الكلية الحربية الأمريكية، و"كويل" أستاذ في كلية "تشابمان" في كاليفورنيا، أمضى أكثر من عشرين عاما كمحلل في إحدى وكالات الاستخبارات الأمريكية، يجيد العربية والفارسية والأوردية، ودرس التاريخ العربي والإسلامي لأكثر من ثلاثين عاما. وهي مؤهلات ترشحه ليكون الداعم الكبير للكاتب والكتاب، لو لم يقدمها بسخاء الكرماء لما كان للكتاب أن يصدر، وأن يكون بهذه الدقة والموضوعية.
وكان "جويل كلاين" ثالث الأسماء التي ذكرها المؤلف، وقدم لها الشكر بالقول: "ساعدني جويل كلاين الحاصل على درجة الدكتوراه في اللغات القديمة، والذي يتحدث اللغتين العربية والعبرية بطلاقة في تحسين دقة المصطلحات العربية الواردة في الكتاب". وهذه خدمة قيمة جدا.
ثم تبرز شخصية أخرى لتمد يد العون من أجل صنع الجمال، إنه "ديفيد لوفكين" كاتب ومؤلف محترف، قام بالكثير لضبط النص الأولي للكتاب وتنقيحه وتقريبه لجعله في متناول القراء الأكاديميين والجمهور.
وغير هذه القامات العلمية التي ممكن أن تصنع المستحيل إذا اجتمعت على عمل، هناك "ستيف وينجارتنر"، وهو محرر التاريخ العسكري للناشر "غرينوود بريغر" (*)، وصف بأنه كاتب جيد، وكان قد تولى قراءة النص وتحريره قبل نشره.
وهناك أيضا "سالم جبران" النصراني العربي الذي يعيش في الناصرة، والعقيد المسلم "سليم السالمي" من الجيش العماني، اللذان شكرهما المؤلف "لنصائحهما القيمة ونظرتهما الثاقبة في تدقيق الالتباسات في الثقافة والنفسية العربية والإسلامية".
وكانت آخر جملة استوقفتني في ديباجة الشكر قول المؤلف: "بينما لم يكن من الممكن كتابة هذا الكتاب من دون مساعدة هؤلاء الرائعين ورعايتهم، فإن المسؤولية عن أي أخطاء تقع على عاتقي وحدي"، وهذا رد للجميل لا تجد مثله لدينا فنحن نبحث دائما عن شماعة نعلق عليها أخطائنا لننسبها لآخرين.
وبعيدا عن صفحة الشكر هذه، كنت قد تلقيت قبل عدة سنين هدية جميلة من أخ وصديق يعمل أستاذا في جامعة واشنطن دي سي، وهو فلسطيني الأصل اسمه البروفسور "محمد أبو نمر"، والهدية عبارة عن كتاب قيم جدا وتخصصي بامتياز، اسمه "صنع السلام في الإسلام"، استوقفتني أثناء قراءتي له صفحة الشكر التي ضمت معلومات مثل ما تقدم، ومنها مشاركة بعض أصدقاء المؤلف في كتابة أجزاء من فصول الكتاب، أو فصولا كاملة ليقدموها للباحث دون ذكر أسمائهم. فضلا عن الدعم المادي الكبير الذي تلقاه الباحث من مؤسسات ومراكز بحوث أهلية وحكومية لينجح في مهمته، ومنها مبالغ مالية عالية. وتفرغ عن العمل براتب تام لحين انجاز العمل. وتقديم سكرتيرتين تهتم الأولى في البحث عن المصادر والثانية في طباعة ما يكتبه. مع تقديم عاملة خدمة تصنع له القهوة والشاي وتسهر على راحته. وهذا أتاح للباحث فرصة انجاز واحدا من أكثر الكتب قربا لموضوع البحث وأكثرها انتشارا، وقد ترجم الكتاب إلى عدة لغات منها العربية.
مقارنة بما تقدم، وانا هنا أتحدث عن نفسي، انهض عادة مع صلاة الفجر، أشرب قهوتي، وأدخل إلى مكتبتي، وأجلس إلى حاسوبي بدوام كامل يمتد أحيانا إلى الساعة الثانية عشرة ليلا، وأبدأ الكتابة إلى أن يصيبني الإنهاك الشديد، آخذ استراحة لعدة دقائق لشرب فنجان قهوة وسكارة، ثم أعود إلى العمل، ثم استراحة ثم عودة وهكذا. وأنا أبحث عن المصادر بنفسي، وأطبع بنفسي، وأراجع بنفسي، وأدقق بنفسي، وأصحح بنفسي دونما مساعدة من أحد، لا من متخصص، ولا من معين، ولا من مقترِح ولا من مجرد مشجع، ثم أقوم بالمراجعة الأخيرة للكتاب لأبعثه بعدها إلى أحد الناشرين، وهم أغلبهم من الصنف الذي تحدثت عنه قبل قليل، ليبدأ أول ما يبدأ بمساومتي على السعر إلى درجة اللجاجة، وحينما نتفق وينجز الكتاب ويرسله لي، أجده قد اختلس خمس نسخ منه ليشارك بها في معارض الكتب، ويكون ريع بيعها له بالتأكيد، ومع ذلك أقوم بتحويل مبلغ الطباعة إليه من جيبي الخاص وراتبي التقاعدي.
فما بالك بكتاب اجتمعت كل تلك القوى الخارقة لتكتبه وتدققه وتراجعه وتحرره وتنشره وتوزعه؟ وكتاب لا يجد حتى قارئا حقيقيا ممن نهديه لهم مجانا، ولا ناقدا يملك شجاعة البوح ليضع النقاط على الحروف سلبا أو إيجابا، وإذا احتجت لأن يتولى أحد أصدقائك مهمة قراءة الكتاب قبل طبعه تجده يبني حاجزا من الحجج التي تجعلك تشعر بالمهانة، فتترفع عن طلب مساعدة أحد؛ ربما لأنك على يقين أنك لن تجد من يمد يد العون.
وآخر ما اريد قوله: إن نجاحنا نحن العراقيين في إصدار هذا الكم الكبير من الكتب سنويا، ونجاحي أنا بالذات في إصدار (85) كتابا لحد الآن؛ ضمن حيز الحرمان والتضييق الذي أشرنا إليه والذي نكابده يوميا، يؤكد أن للعراقي قدرة خارقة على صنع المستحيل، ولكنه مستحيل لن يكون مثاليا بالتأكيد لأنه لن يجد من يعتني به، أو ينفض عنه الغبار.! وستبقى هذه مشكلتنا الكبرى إلى أن نتعلم كيف نتعامل مع الجمال وكيف نصنع الكمال.
***
الدكتور صالح الطائي
.........................
(*) استوقفتني جملة "محرر التاريخ العسكري للناشر غرينوود بريغر" طويلا، فهي تدل على أن الناشرين الغربيين لا زالوا يهتمون بسمعتهم ويحرصون على ما يخرج من بين أيديهم، ويعتنون بما يخرج من تحت أيديهم عناية علمية وجمالية جعلت الكتاب الغربي يتربع على القمة، ولذا يوظفون محررين متخصصين بالعلوم، يتولى كل واحد منهم مهمة تحرير النص الخاص به قبل إدخاله إلى المطبعة، في وقت تحولت فيه دكاكين "باب المعظم" في بغداد التي لا تتراوح أبعادها أكثر من 2× 2 متر والتي يديرها موظفون رسميون عصرا خارج أوقات الدوام الحكومي وأثناء العطل الرسمية إلى دور نشر تستغل المؤلف وتستغفل القارئ جل همها كسب المال على أية حال.