شهادات ومذكرات
محمود محمد علي: عبد الحميد مدكور.. عاشق العربية والفلسفة الإسلامية
اليوم أكتب عن عاشق من عشاق اللغة العربية والفلسفة الإسلامية، أحب أن استمع إليه وأقرأ له، إنه الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور الذي اتخذ من "مجمع اللغة العربية" منبرًا لأفكاره وتقاليده واتجاهاته وفلسفته في النظر إلى الأشياء، حيث تبوأ على صفحاتها مقعد المعلم والأستاذ الذي جلت مكانته بين تلاميذه، فكان أستاذ جيل، وأصل ما انقطع من رسالة الدكتور طه حسين، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، والدكتور صلاح فضل في الحفاظ على جماليات اللغة العربية، فقد كان الدكتور عبد الحميد مدكور عاشقًا لها، غيورًا عليها، حظيًا بها .
وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبه في كتاباته ومقالاته وأحاديثه ؛ حيث كان أسلوبه وكلامه جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع . فعباراته قصيرة، لكنها واضحة الدلالة ؛ وتنتظم في حلقات من سلسلة تشبه جواهر منظومة في عقد، تجسد الفكرة، وتقدمها للمتلقي في سياق يصعب أن تحذف منه كلمة، أو تضيف إليه كلمات .
وتكاد تشعر أنك مع شاعر مبدع يعزف علي أوتار كلماته لحناً عذباً رائعاً يستلب القلوب، ويأخذ بمجامع العقول، فيشيع فيها امتاعاً وأنساً مع شيء من الحماسة تضطرم به الأفكار، غير أنك لا تكاد تسمع منها في الأعماق إلا همسًا . ومع هذا أسلوب علمي يتضمن صياغات في ثوب أدبي رفيع قشيب.
لا أنسى كلمته بالملتقى العلمي الرابع عشر الذي عقدته الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء اليوم الأحد، بالجامع الأزهر تحت عنوان: "اللغة العربية.. لغة كتاب وهوية أمة"، حيث قال : إن اللغة العربية تحتاج منا إلى جهد كبير في الدفاع عنها، وصبر وتحمل لكل ما يقال عنها على غير الحقيقة، وتُتهم به بغير عدل.. موضحًا أننا إذا حملناها وأحسنا حملها، فإننا سنرفع مقامنا برفعة مقامها، ونعلوا إلى الآفاق بعلوها، ونرتقي آفاقًا عليا في كل مجال بلسانها وفصاحتها وبلاغتها، ونغترف من بحرها العميق الذي ليس له نظير في اللغات، زيادة في مفرداته وجودة تراكيبه، وانتظام قواعده، وتفكر في البيان والجمال الذي يعرفه من أحس حلاوة هذه اللغة وذاق طعمها، وارتقى بمقامها بما يجيده منها وبما يحسن به التعلم منها.
وقد أشار الدكتور عبد الحميد مدكور، إلى أن كل التراث الإنساني تُرجم إلى اللغة العربية، ووسعته تلك اللغة وعبَّرت عن كل علومه، فهي المفتاح الذي تُدرس به سائر العلوم التي عرفتها البشرية.. موضحًا أن اللغة العربية التي تربَّت على القرآن الكريم وسُنة نبيه العظيم تفتقت على علوم ما كان للناس عهد بها قبل أن يُنزَّل القرآن الكريم، فهي تعبر عن سياق ثقافي وعلمي وإبداعي يجب أن يكون الناس عليه.. مؤكدًا أن اللغة العربية لغة فخر ومجد وعراقة وإبداع، يجب علينا أن نعود إلى أصلنا العربي، وإلى هذه الدرة الغالية التي حملناها من أجدادنا، لتكون هي المجد للإسلام وللعروبة كلها.
وخلص الدكتور مدكور إلى أن اللغة العربية لا يصح أن نقتصر في الاحتفال بها على يوم كل عام، بل يجب أن نحملها في قلوبنا، وأن نجعلها على ألسنتنا، وأن نُسكنها عقولنا وذاكرتنا، ونستحضرها في كل مقام، تعبيرًا عن مشاعرنا وتسجيلًا لخواطرنا، وبيانًا لعلومنا ومعارفنا التي نكتبها.. موضحا أن اللغة العربية تشرَّفت بنزول القرآن الكريم بها وبكونها لغة النبي الكريم.
ونظرة في سيرته العطرة فنجده أنه قد وُلد في الأول من أغسطس من عام 1942م في قرية باسوس القريبة من القاهرة، وكانت الظروف السائدة بها – آنذاك يغلب عليها الالتحاق بالتعليم الديني في الأزهر الشريف؛ ولذلك اتجه منذ وقت مبكر إلى حفظ القرآن الكريم لدى واحد من أكبر محفظي القرآن الكريم في مصر كلها، وهو الحاج فرج عبد العاطي وأتم حفظ القرآن في العاشرة من عمره، ونال لذلك جائزة التفوق على مستوى محافظة القليوبية.
ثم التحق الدكتور مدكور بمعهد القاهرة الديني في الدراسة، وهو في الحادية عشرة من عمره، وكان من أصغر الذين التحقوا به، وقد كانت الدراسة به تجري على أيدي صفوة من العلماء، الذين كان بعضهم حاصلًا على الدكتوراة، ومن هؤلاء: الدكتور عبد المنعم النمر، والدكتور موسى شاهين لاشين اللذان أصبحا وكيلين للأزهر فيما بعد، والدكتور أحمد الشرباصي الذي كان رائدًا لجمعية الشبان المسلمين والأستاذ محمد فتحي عبد المنعم. وكان وجوده بها يشجع الطلاب على الذهاب إليها، والاستماع إلى العلماء الكبار الذين يلقون المحاضرات بها، من أمثال الشيخ محمد أبي زهرة، والدكتور محمد يوسف موسى، والشيخ محمد الغزالي، واللواء محمد صالح حرب، رئيس الجمعية وآخرين ويسر الله له طريق التفوق، فكان من أوائل دفعته، لاسيما في المرحلة الثانوية.
وقد اتجه إلى إتمام دراسته العليا في كلية دار العلوم، التي اتصل بعلومها وكتبها قبل أن يلتحق بها، وكانت أسماء أعلامها الكبار تتجلى أمام ناظريه، داعيةً وجاذبةً له إلى أن يكون من بين أبناء هذه الكلية العريقة، التي كانت تتميز من بين المؤسسات المعنية بدراسة علوم اللغة والشريعة – بجمعها بين القديم والجديد – أو ما عُرِف بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، وكان اتصال كثير من أساتذتها بالدراسات الحديثة في الشرق والغرب يزود أبناءها بحصيلة ثمينة من المعرفة الإنسانية الرفيعة، التي ليست متاحة – بهذا القدر – من العمق والتنوع، والجدة في غير دار العلوم، وأُضيفَ إلى هذا الرغبة في الدراسة على منهج لا يتوقف عند الطرائق القديمة، التي يغلب عليها الطابع الشكلي الذي يكتفي في أحيان كثيرة بالجوانب اللفظية للنصوص، مع التعمق في افتراض المشكلات، واقتراح الحلول، ولكنه رغب – في أن يجمع إلى ذلك الاتصال بالفكر الحديث ومناهجه المتطورة، التي كان يرجع بها هؤلاء الأساتذة الدارسون في الجامعات الأوربية، وهكذا التحق بهذه الكلية، وأسعده الله بالتفوق فيها فكان أول زملائه أو الثاني بينهم، وكان من فضل الله عليه أنه لم يتأخر عن أحد هذين الموقعين. وقد أنهى الدراسة بمرحلة الليسانس بالحصول على تقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى عام 1966م.
ثم اختير الدكتور مدكور للدراسة بقسم الفلسفة الإسلامية الذي كان يرأسه عميد الكلية المغفور له بإذن الله تعالى – الأستاذ الدكتور محمود قاسم، وهو أحد العمالقة الكبار الذين أنجبتهم كلية دار العلوم وقد كان ذا منزلة رفيعة بسبب شموخه العلمي، وقوة شخصيته، وتمكن النزعة النقدية لديه ونتاجه العلمي الغزير: تأليفًا وترجمةً وتحقيقًا، إلى فضائل خلقية وعلمية كثيرة، يضيق المقام عن ذكرها، وكان لهذا كله أكبر الأثر في التكوين العلمي لمن يدرسون على يديه، وقد درس كذلك على يد نخبة من أكبر أساتذة الفلسفة، ومنهم الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، والدكتور علي النشار، والدكتور محمد علي أبو ريان، والدكتور أحمد غراب، والدكتور محمد كمال جعفر. كما كان – عندما اتجه إلى دراسة التصوف- على صلة وثيقة بالدكتور عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر فيما بعد.
وفي أثناء العمل في الدكتوراه أتيحت للدكتور مدكور فرصة السفر إلى فرنسا مدة من الوقت التقى فيها بعديد من الأساتذة، وعلى رأسهم الأستاذ روجيه أرنالديز، وانتهت هذه الفترة بالحصول على الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من كلية دار العلوم 1980م، بدأت بعدها أعباء التدريس والقيام بالبحوث العلمية. وقام خلال عمله بمصر بتدريس الفلسفة الإسلامية فى كلية دار العلوم وفي كليات: الألسن بجامعة عين شمس، وكلية التربية بجامعة قناة السويس، وكلية الآداب بجامعة طنطا، والدراسات العربية والإسلامية بالفيوم، والآداب والتربية بجامعة المنوفية، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، ومعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة، وكلية الشريعة بجامعة اليرموك بالأردن 2005م، وأصول الدين بجامعة العلوم الإسلامية العالمية بالأردن 2010/2011، ومعهد الدراسات العربية بالقاهرة – العام الجامعي 2014/2015، 2015/ 2016م، ومعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة - العام الجامعي 2014/2015، 2015/ 2016م. انتُخب أمينًا عامًّا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ نوفمبر عام 2016م، وأمينًا عامًّا لاتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية منذ عام 2017م، بعد رحيل الشاعر الأستاذ فاروق شوشة.
وللدكتور مدكور مؤلفات كثيرة نذكر منها : أبو طالب المكي ومنهجه الصوفي، الولاية عند محيي الدين بن عربي، دراسات في علم الأخلاق، نظرات في حركة الاستشراق، في الفكر الفلسفي الإسلامي: مقدمات وقضايا، بواكير حركة الترجمة في الإسلام، دراسات في العقيدة الإسلامية.، نظرات في التصوف الإسلامي، في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، دروس في الفلسفة الإسلامية.. إلخ .. بالإضافة إلى مقالاته وبحوثه العديدة وتحقيقاته في الفلسفة الإسلامية وفي الدعوة إلى الإسلام وفي الدفاع عنه والتي لا حصر لها .
وقد قال عنه الدكتور محمد حسن عبد العزيز عضو المجمع:"ما ذكرناه من إنتاج الدكتور عبد الحميد مدكور يكشف عن عالم محيط بالفلسفة الإسلامية بمختلف فروعها واتجاهاتها في القديم والحديث. وإنك لتجده من المناطقة حين يكتب في المنطق، ومن المتكلمين حين يكتب في علم الكلام، ومن المتصوفة حين يكتب في التصوف، ومن الأصوليين حين يكتب في الأصول، وهو في كل ما يكتب واسع الأفق عميق النظرة واضح الهدف. بيد أن ما يبهرك حقًّا معرفته الواسعة العميقة بالتصوف الإسلامي في صورتيه الفلسفية والسنية وهذا واضح في رسالتيه عن أبي طالب المكي ومحيي الدين بن عربي وواضح أيضًا في دعوته الصريحة إلى الاستفادة من تجارب الصوفية في الأخلاق وفي تحليهم بآداب الطريق. والدكتور عبد الحميد مدكور رفيق طريق في دار العلوم وفي المجمع، يحظى بحب كل من يعرفه ولهذا ندعوه فيما بيننا - نحن أصدقاءه - مولانا الصغير تمييزًا له عن مولانا الكبير الدكتور حسن الشافعي، ونحن كلنا نكنُّ لهما كل الحب والتقدير".
علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقومات شخصية الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر فلسفي وعالم لغوي، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة واللغة والثقافة العربية.
***
الأستاذ الدكتور محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب- جامعة أسيوط
.....................
المراجع:
1- إيهاب زغلول: عبد الحميد مدكور: اللغة العربية يجب أن نحملها في قلوبنا، الأحد، 18 ديسمبر، 2022 - 8:14 م.
2- انظر ما كتب عن عن الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور نائب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة واستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم، مجمع اللغة العربية بالقاهرة - الصفحة الرسمية.