(الانسان هو المكان الوحيد الذي يتجمّع فيه الأله) ماكس شيلر
تعريف
ماكس شيلر (1874 – 1928) أحد فلاسفة الحياة (1900- 1950) في بداية نشأته، وفي مرحلة لاحقة أشتغل على فلسفة فينومينالوجيا هوسرل محاولا تطويرها بمفهومه الفلسفي الخاص به.وفي سنوات شبابه وقع شيلر تحت تأثير أستاذه (أيكن) أحد فلاسفة الحياة الذي كان أهتمامه منصّبا حول حياة العقل، بأختلاف عن فلاسفة الحياة مؤكدا على مركزية العقل ومحوريته في الفهم المعرفي والوجود الذي ينكرونه عليه فلاسفة الحياة. من المهم التنبيه الى ان ماكس شيلر لا يؤمن بوحدة الوجود التي هي نزعة صوفية كما هي عند اسبينوزا. كما ان ماكس شيلر لا يلتقي مادية فيورباخ في صوفيته التاملية. والسبب ان شيلر احد فلاسفة الحياة في القرن الثامن عشر حيث يفسرون علاقة العقل بالطبيعة بمنظار اهمية العقل في ادراكه تعالق الطبيعة بالانسان.
كما تأثر شيلر لاحقا بكل من نيتشة ودلتاي وبرجسون، ما جعل (ترولتش) ينعته ب (نيتشة الكاثوليكي) حيث كان شيلر أحد المتأثرين بالقديس أوغسطين أيضا. وبحسب المعنيين بتاريخ الفلسفة الاوربية الحديثة في القرن العشرين، فهم يرونه يستحق الاهتمام الخاص به لأنه أهتم بقوة وحماسة على كينونة الشخص والعودة الى الانسان والاهتمام بقضاياه.(1)
وما يهمنا في هذه المداخلة السريعة هو التعريف بمفهوم شيلر عن العقل والمعرفة بمسح أجتزائي مقتضب غير مخّل، من حيث أن شيلر لديه أهتمامات فلسفية عديدة ،يحتاج كل مبحث منها الى دراسات مستفيضة معمّقة، فمثلا هو أهتم بعلم الرياضيات وله كتاب فيه، وأهتم بالمنطق ايضا، وبمثالية كانط وكتب فيها ، وكتب في الاخلاق، والفينامينالوجيا، وكذا في موضوعة الحب ، وفي المعرفة ، والبنية الماهوية لكل ماهو موجود منتقدا كانط فهمه الادراك العقلي للوجود، في وجوب معرفة (ما) الاشياء قبل تساؤلنا كيف نعرف الاشياء كما ذهب له كانط وفلاسفة الحياة.
شيلر والعقل
قبل دخولنا معترك بعض أفكار شيلر لا بد لنا من عرض تحقير بعض فلاسفة الحياة للعقل فقد ورد على لسان كلاوجز: (أن العقل خصم للنفس وخصم للطبيعة وخصم للاخلاص ولكل ماله قيمة، لذا علينا رفض العقل وأن نعود الى تصور العالم على ما كان عليه عند البلاجيين، أي الى الحياة المتحررة من العقل تماما التي تتمتع بالروح البدائية بغير وعي منها)(2)
ينتقد ماكس شيلر كانط في منهجه الاستقرائي في المعرفة قوله :(أن ميدان القبليات- البديهية لا علاقة لها على أي نحو مع ما هو صوري،كما كان يرى كانط. فهناك – والقول لشيلر- ما هو مادي، وهي مضمونات مستقلة عن الخبرة وعن الاستقراء، ويرفض شيلر بشدة مكافئة كلا من الاتجاهين التصوري، والاتجاه الاسمي الوصفي)(3)، هذا التوصيف لايمّثل سوى أتجاه مثالي واحد هو قابلية العقل التجريدية في التعبير عن الوجود بالفكر واللغة، ولا يمثل أية آلية جديدة غيرها في تعبير العقل عن مدركاته وعن المعرفة أيضا.
وأن مثالية شيلر هنا هي نسخة متقدمة عن مثالية كانط، والاثنتان تدوران في حلقة مثالية دائرية واحدة في فهم الوجود والمعرفة. كونهما يفترضان وجود مدركات قبلية فطرية بديهية معطاة للعقل.
وهذا مايرفضه جون لوك صاحب الوضعية المنطقية التجريبية الجديدة وفلاسفة آخرين تماما معتبرا أن الخبرات القبلية العقلية أن وجدت فهي تكون مكتسبة بالتجربة العملية والخبرة المتراكمة، وليس بالمعطى الفطري الجيني الوراثي لها، والخبرات العقلية لا يكون مصدرها سوى التجارب الحياتية و العملية، وبغير ذلك فلا وجود حقيقي لها. بوجيز العبارة فأن كل معرفة نعتبرها فطرية انما تكون بدايتها الفطرية مكتسبة من الواقع وهي حقيقية صحيحة من وجهة نظري.
فهي أي الخبرات القبلية الفطرية المخزّنة بالذاكرة انما هي مكتسبة وليست خبرات جينية بيولوجية موروثة تولد مع الانسان مزوّدا بها. وفي عبارة جون لوك الشهيرة أن الانسان يولد طفلا وعقله صفحة بيضاء ، هو رد مباشر شبه يقيني في دحض الخبرات القبلية عند الانسان ان تكون فطرية غير مكتسبة في البدء.
ومن الجدير ذكره أن من بين المنادين بالخبرات القبلية ديكارت وهيوم وجون ديوي وغيرهم من فلاسفة الخبرات القبلية الموجودة في عقل الانسان بالفطرة كمعطى تتشارك به بيولوجيا الجينات الوراثية مع هبة الخالق لها للانسان عند ديكارت فقط بأعتباره المتدين الوحيد من بين كلا من ديفيد هيوم وجون ديوي وجون لوك..
كما أن التفريق بين ما هو مدرك تصوري مثالي وما هو أسمي وضعي وعلاقة العقل بهما مسألة محسومة تماما في صالح العقل وليس في صالح التجزيء لادراكات لا تحصى فهي تكون جميعا مصدرها الادراك العقلي الواحد، وليس معنى هذا أن العقل يدرك المعطيات المادية والمعرفية والانطباعلت النفسية، والحب، والعواطف والاخلاق والجمال والقيم وغيرها بآلية أدراكية واحدة يقوم بها العقل حسيا... وأنما تقوم بهذا التنوع الكثير جدا من المدركات الواردة بشكل حزم لا نهائية ترد العقل وتستقبلها وتعالجها مليارات الخلايا العصبية الموزعة في القشرة الدماغية، وفي تخصصات غاية في التعقيد والتنظيم والاعجاز التنفيذي لمخرجات العقل في جدلها التخليقي مع العالم الخارجي ومع موضوعات الذاكرة أيضا.أي الموضوعات التي تستحدثها الذاكرة التخييلية وتضعها أمام العقل للنظر بها وأعطائه ردود الافعال عنها.
ثم أن حصيلة أدراك الواقع المادي، هي ذاتها حصيلة العقل الذي يخلق التصورات العملية المادية لها ، والتصورات المثالية التجريدية الصورية عنها. فكلتا الفعاليتين هما أدراك عقلي واحد في تخليقه وتعبيره عن المدركات والوجود كوحدة واحدة يقوم العقل بالبت في أمر أصدار الايعازات الانعكاسية الجوابية الارادية عنها وغير الارادية المتنوعة العديدة بشأنها...ولا مجال في الفرز والتفريق لوظائف العقل الادراكية من خلال تجزئتها الى مادية أو مثالية تجريدية أو غيرهما في أكتساب المعرفة.
لأن مثل هذا التجزيء في وظائف العقل يقودنا الى ما لا يمكن حصره من أنواع الادراكات التي يستلمها دماغ الانسان من الطبيعة والمحيط والاجابة عنها خلال لحظات في بعضها ودقائق فكيف يكون الحال مع ردود الفعال العقل الانعكاسية في الايام والاسابيع والشهور والسنين الخ.؟؟
ويرى شيلر: (أن الذي يمّيز العقل الانساني تمييزا قاطعا هو نشاط الافكار التصورية، أي ملكة فصل الماهية عن الوجود، وبالتالي فأن العقل موضوعي، وأمكانية يحددها شكل أو هيئة الاشياء ذاتها) (4)
أن عبارة شيلر هذه التي مررنا عليها،هي أن العقل يتميز تمييزا قاطعا في نشاط الافكار التصورية صحيحة لكنها لا تقوم على فصل الماهية عن الوجود بل لأن قدرة العقل تقف عند حدود معرفته ظواهر الوجود الذي يمكن التعبير عنها تصوريا باللغة،أي في تعبير العقل عن مدركات الظواهر بالفكر التجريدي واللغة، وما لا يمكن التعبير عنه بالفكر واللغة الصورية غير موجود، بمعنى غير مدرك عقليا لأن العقل عاجز عن أدراك ماهيات الاشياء ولا متاح للعقل التعبير عنها بنشاط صوري كما في التعبير عن الاشياء في ظواهرها وصفاتها الخارجية. لذا يكون العقل في حّل من أمر فصل الماهية عن الوجود للاشياء.وليس كل الاشياء في العالم الخارجي تمتلك ماهيات هي غيرها المدركة في صفاتها وظواهرها الخارجية المدركة.
أذ ربما تكون معرفة ظواهر وصفات الاشياء كاف لادراكها المادي وليس من حاجة بعدها البحث فيما وراء الصفات البائنة عن ماهيات لا تكون موجودة خارج او بمعزل عن الصفات المدركة وهو ما تذهب له المادية الماركسية.
وهي مسألة غاية في الدقة وصواب التعبيرفي توصيف ظواهر الاشياء التي يتعذر على العقل التعبير عن ماهياتها، من حيث أن وسيلة العقل في أدراك الاشياء في الطبيعة وعالم الموضوعات الخارجية المستقلة منها في وجودها الطبيعي، أو الموضوعات التي تبتدعها الذاكرة المخيلة العقلية في الذهن والتفكير العقلي الصامت ومعالجتها، أنما تكون غاية العقل من ذلك ليس الاقتصار على فهم الظواهر وتفسيرها أو تحليلها فقط، بل أن فاعلية ونشاط الافكار الصورية أي التعبير بالفكر واللغة عن مواضيع الادراك العقلي، أنما هي في حقيقتها تخليق العقل للاشياء المدركة ومحاولة تغييرها نحو الافضل، وبما يخدم حياة الانسان وليس الاكتفاء بمعرفتها تجريدا سلبيا.
ولو نحن أقتصرنا على أدراك العقل للاشياء من أجل معرفتها وتفسيرها فقط وليس من أجل تغييرها ووضعها في خدمة حياة الانسان نحو الافضل لكنا الى يومنا هذا نعيش في عصور الكهوف البدائية.
أن أدراك الاشياء في الطبيعة هو قوة مادية يمتلكها الانسان من أجل سد حاجاته وليس من أجل التعبير المجرد عنها كمدركات لا أهمية لها في حياته. كما أن الافكار التصورية للعقل، أنما هي أنعكاس جدلي حيوي غير ميكانيكي في تعالق المادة والفكر على مستوى الادراك العقلي للاشياء وأدامة حيوية تطورها.
والافكار التصورية في التعبير عن الوجود، أنما هي تمثل مرحلة ثانية تلي مرحلة الادراك العقلي للاشياء من حيث أهمية أجراء عملية تحليلها وتخليقها في الذهن أولا.. فالعقل يدرك مواضيع الوجود المادي والخيالي معا في كل تنوعاتهما واختلافاتهما كحزم لا تحصى من الادراكات التي ترد العقل عن طريق الحواس والذاكرة، بعدها يقوم العقل بتخليق دينامي حيوي لها قبل التعبير عن مواضيع الادراك بالفكر واللغة التجريدية الصورية داخل وخارج العقل في مجمل موضوعات الادراك وتنوعاتها وتوقيتاتها الزمنية في وصولها كمعطيات ادراكية للعقل... وبهذا يكون العقل (موضوعيا) كما يصفه شيلر وليس ذاتيا فقط، بمعنى أنه مادي فاعل ومؤثر بالوجود وليس مدركا هامشيا محايدا ذاتيا في تدبيره حياة الانسان...كما أن من المهم معرفة ادراك الاشياء عقليا لا يعني معرفتها.
والعقل في الوقت الذي يعي نفسه أو ذاته، هو عقل موضوعي في مهمته أدراك عالم الاشياء الخارجي أيضا. والعقل يدرك وجود الاشياء ومحاولة أعطائه الفهم التحليلي والتفسيري لها بالفكرالجدلي ،قبل أهتمام العقل التعبير عنها صوريا تجريديا باللغة. أما الشيء الذي نجده يستحق فعلا الاهتمام الجاد والكبير به ومناقشته هو أعتبار شيلر أن العقل يمتلك (ملكة) فطرية يستطيع تمييزه بها نوعية الشيء المدرك من حيث امكانية العقل فصل ماهيته عن مظاهره وظواهره الخارجية.وبذلك يسبغ شيلر على العقل أمكانية لا يمارسها العقل وعاجز عنها ولا هي من اختصاصه القيام بها ونعني بها قيام العقل فصل الماهية عن الوجود كما يرغب شيلر.
كما نجد أن تخطئة شيلر لكانط في أصرار هذا الاخير عدم امكانية العقل فصل ماهيات الاشياء عن ظواهرها الخارجية المدركة،أن تكون مصادرة رأيه بهذا المعنى والتعبير الفلسفي الاجتهادي المقبول، هو في مصادرته دونما أعطائنا شيلر بديلا فلسفيا مقنعا في كيفية أمكانية العقل فصل الماهية عن الوجود وكيف؟
بالحقيقة أن وجود الاشياء والمواضيع المستقلة في الطبيعة، وتمايز ماهياتها عن ظواهرها أو ظاهرياتها ، هو في تعبير الوجود عن ذاتيته المستقلة بالطبيعة (ذاتها) كماهية غير مدركة وظواهر متعالقة بها قابلة هي وحدها لادراك العقل لها... والعقل في أدراكه الشيء يدركه كوحدة واحدة من المكونات الظاهرية والماهيات المغلقة غير البائنة ادراكيا، ولا يستطيع العقل فصل معرفة ماهية الشيء عن ظواهره الخارجية لا في أدراكه ولا في أعادة تخليقه له. ،فماهية الاشياء وعدم أدراكها حدسا عقليا أو تجريبيا أنما هي من خصائص الطبيعة غير العاقلة وليس من مهامها البيولوجية وظائفيا، التي هي الاخرى كما العقل لا تستطيع فرز ظواهر الاشياء عن ماهياتها بالادراك المباشرلها.
فالطبيعة هي موضوعات أدراكية للعقل لكنها لا تمتلك أدراكا ذاتيا ولا موضوعيا جدليا متخارجا كما هو عند الانسان.. وليس من مهمة العقل المدرك للطبيعة والاشياء في ظواهرها البادية للمعطيات الادراكية الحسّية فقط التعبير عما يعجز عن أدراكه وهو ماهيات الاشياء وكيفياتها.. الماهيات ألعصيّة على ألادراك العقلي وليست ظواهر الاشياء...
فالعقل يعجز فصل الماهية عن الوجود مثلما تعجز الطبيعة فعل ذلك أيضا، لكن بفارق جوهري كبير هو أن العقل يدرك عجزه كونه يعي ذاته والموضوع، بينما الطبيعة لا تدرك هذا العجز لعدم توافر الادراكين الذاتي والموضوعي عندها ناهيك عن أنعدام امتلاك الطبيعة خاصيتي الفكر واللغة اللتين يتمايز بهما الانسان عن الطبيعة في التعبير عن ادراك الاشياء ذاتيا وموضوعيا معا..
والحقيقة أن الادراك العقلي المادي للاشياء لا يدرك ماهياتها منعزلة كما لا يدرك ظواهراها ألبادية منعزلة عن أرتباطها الوثيق بجواهرها الكامنة فيها، ولا ينفصل العقل عن أدراكه الاشياء في ظواهرها من حيث أن المدرك الظاهري للشيء هوغير مدرك في ماهيته، ليس بالمعنى النوعي للادراك،بل بالقياس الكمّي الذي لا تنفصل فيه ملازمة ظواهر الاشياء المدركة عقليا بكيفياتها غير المنكشفة لادراك العقل، كما هو الحال مع الظواهرالمتعالقة مع كيفياتها الماهوية في غالبية الموجودات.بتعبير آخر فان الماهيات تتعالق في تبعيتها أدراك العقل لظواهرها، أي أن ظواهر الشيء المدرك تبقى في ملازمتها ماهيتها غير المدركة وترافقها معها، العقل وأن كان يدرك ظواهر الاشياء فهذا لا يعني مكنة وقدرة العقل التمييز الادراكي بين الظواهر والماهية في أدراك الوجود.
لكن تبقى محدودية ألادراك العقلي في عدم معرفة ألماهيات، وفي قدرته تفسير ظواهر الاشياء فقط ليست حيادية عقلية بل في تداخل وتفاعل تخليقي متجانس ومنظّم للظواهر وليس الماهيات، العقل لا يعرف ماهية الشيء المدرك في ظواهره، كي يتمكن فصل الماهية عن ظواهرها كما يرغب شيلر.
وليس في قدرة العقل الادراكي القيام بمهمة الفصل تلك، لذا عمدت الفلسفتان المادية والمثالية في أعتبارهما أدراك الاشياء في ظواهرها المادية الوجودية المستقلة ، هو أدراك كاف للعقل في معرفة الاشياء من حيث هي موجودات الطبيعة... وأن مجموع الصفات والظواهر للشيء هي ماهيته غير المنظورة للحواس ولا المدركة للعقل، وكل تغيير في الظواهر والصفات الخارجية المدركة للاشياء، أنما يستتبعها تغيرات جوهرية في حقيقة الاشياء كيفيا ماهويا رغم ألزعم القائل أن الماهيات جواهر ثابتة لا يمكن تغييرها.فالتغيير في صفات الشيء يقود حتما الى تغيير بعض ماهياته الثابتة التي في حقيقتها غير ثابتة وانما تعيش حركة تضاد حركي بداخلها ،وتعيش جدل متخارج مع صفاتها.أضافة الى أن ماهية الشيء هي في مجموع صفاته وظواهره المدركة حسيا وعقليا ومعرفتها في خواصه هذه يعني معرفة ماهيته.
***
علي محمد اليوسف /الموصل
.......................
هوامش:
1- 4 ا. م. بوشنكي، الفلسفة المعاصرة في اوربا، ترجمة عزت قرني صفحات 281 - 287