أقلام فكرية

أقلام فكرية

"… من أين لي هذا الشعور الذي يعمل في قلبي ويحملني إلى التفتيش عن الله؟" هكذا تساءل ليو تولستوي في كتابه "اعتراف"، وها أنا أعيد مراجعة هذا الشعور العجيب والمدهش الذي يدبُ دائمًا في أعماق الوجدان متسائلًا عن معنى الوجود ولغزه، والأهم عن ما وراء هذا المعنى الوجودي الذي أراه يقودني إلى معادلة جوهرية مطلقة لا يمكن التنصّل من وجودها الذي نشعر به في داخلنا، وهذا ما يعكس معنى "الله" عند الإنسان المتدين. مناقشة قضية الإيمان بمضمونها العام والخاص من ضمن القضايا الجدلية الساخنة التي تأرجحت في مضمونها بالجانب الديني والجانب العلمي؛ مما ساهم في حدوث صراع يكاد لا ينتهي ولا يُحل.

من أي طريق وبرهان يمكن للعلم أنْ يثبتَ وجودًا لله؟ هكذا تبدأ جدلية لا تنتهي إلى جوابٍ مطلقٍ وصريحٍ أطرافها العلم والدين، ويخوض أتباع هذه الأطراف معارك حجاجية مفعمة بالتنافر والتناحر في سبيل الانتصار إما للعلم وإما للدين. هذه القضية أشبه بصراع يدور - ومنذ فترة ليست بطويلة - بين العلم والفلسفة -برغم أنَّ الفلسفة وسيلة أولية للعلم- مثل ما روّج له ستيفن هوكنج عندما أعلن عن موت الفلسفة وهزيمتها أمام سطوة العلم، وهوكنج نفسه حذّر من فشل العلم في الحياة من حيث تعاطي الإنسان مع العلم، ومن حيث عدم قدرة الإنسان على كبح طفرة العلم المتمثلة في التقدم التقني وتحديدًا الذكاء الاصطناعي الذي يراه هوكنج تهديدًا يهدد مستقبلَ الإنسانِ ووجوده. هذه النظرة التشاؤمية التي يعرضها هوكنج سواءً فيما يخص نظرته الدونية لدور الفلسفة أو حتى نظرته السلبية لمستقبل العلم ليست بجديدة فقد سبقها معركة أكثر قدمًا منها بين العلم والدين، وعندما نعود إلى تاريخ هذا الصراع نجده -في غالبه- متأصلًا في صراع الكنيسة مع العلم بصفتها ممثلة للدين، وهذا يعيدنا إلى مشهد محاكمة سقراط وموته نتيجة الصراع بين المنظومة الدينية وآراء سقراط الفلسفية. أما صراع العلم والدين الذي بلغ ذروته في القرون الوسطى فهو عائد إلى التناقض الكبير بين النصوص الدينية التي تتمسك بها الكنيسة وبين الانبثاقات العلمية مثل مسألة مركزية الشمس التي أعلن عنها نيكولاس كوبرنيكوس وبعده جاليليو جاليلي وما صاحب انبثاق هذا الإعلان العلمي من تحديات تواجه سلطة الكنيسة ومبادئها التي تتعارض مع هذا المنهج العلمي الذي نتج عنه قيام محاكم التفتيش التابعة للكنيسة الكاثوليكية باضطهاد أتباع المنهج العلمي ومحاكمتهم. تتوالى بعدها مثل هذه الصراعات بين العلم والدين فنجدها مرة في صدمة أخرى تتلقاها الكنيسة فيما يعرضه العلم الجيولوجي عن تقدير عُمْر الأرض والحياة المناقض لنصوص كتابها المقدس، وكذلك تفسير العلم لآلية الحياة وتطورها المتمثل في نظرية التطور. هذا الصراع لم يقفْ حتى يومِنا؛ فمنذ زمن ليس ببعيد وثّقَ التاريخُ مقاومة بعض التيارات الدينية -بعضهم حتى يومنا- لمخرجات العلم من تقنيات ووسائل مثل جهاز الرائي "التلفاز" والمذياع والهاتف وأجهزة التصوير؛ لنجد أنَّ جذور هذه المقاومة تنبع من الفهم والتأويل الخاطئ للدين التي يظن أتباعها أنهم بتلك الممانعة والمقاومة يقيمون سدًا منيعًا لحماية مبادئ الدين وعقيدته.

في الجانب المقابل نجد أيضا صعودَ المقاومة العلمية للدين، ومحاولة حماية العلم وضمان استقلاله، بل تطور الأمر إلى محاولة فرض العلم إلهًا جديدًا للإنسان وإزالة الدين، وعندما ننظر إلى هذه النزعة العلموية فهي الأخرى لا تقل خطرًا عن المقاومة السلبية التي أظهرتها المؤسسات الدينية للعلم، وهذا يُرجعنا إلى جذور العلاقة المتوترة بين الكنيسة والعلم ليؤثر لاحقًا على مجرى التناغم الذي كان بين العلم والإسلام، ونجد ذلك "مثلًا" في التوجس السلبي الذي أبداه فيلسوف وعالِم كبير مثل أبو حامد الغزالي حين أعلن عن موقفه المعارض -في مرحلة حرجة من مراحل مسيرته العلمية- للفلسفة وإدراجها في قائمة المحظورات الدينية، مما فاقم من اتساع فجوة الخلاف بين العقل والنص، بصفة أنَّ العقل الممثل الشرعي للفلسفة، والذي ولّد توجسًا دينيًا غير مبررٍ للقضايا العلمية، وهذا ما نراه جليًا في موقف بعض فقهاء المسلمين من تعاطيهم لنظريات علمية مثل نظرية التطور التي أتخذ بعضهم موقفًا سلبيًا منها دون تحديدٍ أو تجزئة لمفاصلِ التعارض الديني لهذه النظرية التي -في كثير من أجزائها "الأصلية"- تعكس تفسيرًا علميًا محضًا لا يتعاطى مع أي حيثيات دينية، مع تأكيدي لوجود لجزئيات دخيلة (بعض مدخلات الدارونية الحديثة) جاءت بعد فترة لتلتصق بهذه النظرية لتستغلها في توليد شقاق عميق وواسع مع الدين محاولةً في هدم المبدأَ الإيماني الذي يُعنى الدين بالمحافظة عليه وتأصيل قواعده وأركانه.

من وجهة نظري، لا حقيقة جوهرية لوجود صراع بين الدين والعلم؛ فالدين السليم الناصع لا يمكن أنْ يتعارض مع العلم الصحيح، وهذا براهنه مثل براهن نفي التعارض بين العقل "المعقول" السليم مع النص السليم، ووفقًا للمنطق السليم عند حدوث أي تعارض فهناك خطأ ما في أحد هذين الطرفين. نجد الدين المتمثل في النص السليم لا يمارس أي وصاية على حياة الإنسان وخياراته بل يقيم برهانًا وحجة عقلية توجه هذا الإنسان إلى طرح تساؤلات وجودية مهمة، وتساعده على إيجاد الجواب على هذه التساؤلات؛ فترشده إلى البناء الإنساني القويم "الأخلاقي" لتحدد علاقته بداخله وخارجه؛ لتحدد موقعه في هذا الوجود وترشده إلى العلة الأولى المطلقة "الخالق"، في المقابل نجد العلم لا يسعى ليرشد الإنسان إلى هذا الجانب الإيماني، بل يعمل مكملًا ليرشده في فهم آلية عمل الكون والحياة وتفسيرهما دون ولوج إلى أي تفسير للعلة المطلقة "الخالق" حينها نجد اكتمالًا مدهشًا لهذه المعادلة الصعبة التي فشلت أممٌ كثيرة في تحقيقها، ووفقًا لهذه العلاقة المتناغمة بين الدين والعلم تتضح معالم معادلة الإيمان بصورة أكثر جمالًا وإشراقًا دون أنْ نجدَ أنفسَنا تحت تأثير التأويل الديني المخالف للعقل والعلم، وتأثير التأويل العلمي المتعصب للقطب المادي المنكر للجانب الشعوري والروحي للإنسان. لابد لهذه العلاقة من توازن؛ فالدين لا يسعى لفهم الكون وآلية عمله بل يسعى للإجابة عن أسئلة وجودية عميقة، ولتأمين منظومة أخلاقية فاضلة تحفظ حرية الإنسان وكرامته، أما العلم فيسعى إلى تبيان شكل هذا الوجود وعمله؛ ولا يمكن له أنْ يبرهنَ وجودًا ميتافيزيقيًا بشكل تجريبي جلي بل يمنح هذا الإنسان حق التأمل والاستنتاج، وحق الانتفاع الأفضل من مكنونات هذا الوجود العظيم.

نحن اليوم أمام موجةٍ فكريةٍ تحاولُ أنْ تحاكمَ الدين باسم العلم، وتحاول أنْ تفرضَ شروطها ومعاييرها الدغمائية لتسلك بالبشرية مسلك المادية دون أنْ تقيمَ وزنًا لقيم الإنسان وخياراته الروحية (الدينية)، وفي المقابل نجدُ أيضا تيارًا دينيًا يحاول أنْ يحاكمَ العلم باسم الدين وأنْ يزيحه ليستفرد بمدخلات العقل البشري. هذه المعادلة الناقصة لن تصنع إنسانًا ومجتمعًا متناغمًا مع متطلباتِه الداخلية والخارجية؛ فغلبة العلم وتأليهه في الغرب قاد إلى إيجاد إنسان مادي يفقد المعنى الروحي للحياة؛ فنراه يستعين -مرة أخرى- بالفلسفة لتعينه على تعويض هذا النقص ليجد نفسه مشتتًا بين مدارس فلسفية كثيرة ومتغايرة، أما المجتمعات الشرقية (خصوصًا العربية) وجدت نفسها في قالب ديني تخلى عن أداة العقل؛ فعطل مسايرة العلم وتطوره خوفًا من فقدان الدين الذي هو الآخر لم يسلمْ من التشويه، فنجده يصيغ باسم الدين تأويلات وتفسيرات لظواهر الكون وألغازه؛ فيقحم الدين في خصوصيات العلم؛ فنجده غارقًا في ظلمات الجهل والتخلف ولم يطمعْ في البحث والاكتشاف لينال شرف الدين والعلم معًا.

***

د. معمّر بن علي التوبي

باحث وأكاديمي عُماني

 

التَّصَوُّرُ الإنساني عن الجَوْهَرِ التاريخي للفرد، والتحليلُ اللغوي للكَينونة الحضارية للمُجتمع، يُمثِّلان مَرجعًا أساسيًّا في مصادر المعرفة التي تتغلغل في التجاربِ الحياتية والظواهرِ الثقافية، ويُشَكِّلان بُنيةً وظيفيةً للأحداث اليومية على الصَّعِيدَيْن الشَّخْصِي والفِكْرِي.وإذا كانت رمزيةُ اللغة تَتَبَلْوَر في قواعد الفِعْل الاجتماعي، فإنَّ فلسفةَ التاريخِ والحضارةِ تَتَشَكَّل في وَعْيِ الفرد وشُعورِه وإدراكِه، بحيث يُصبح الزَّمَنُ نظامًا مُنْفَتِحًا على الذاتِ والعناصرِ المُحيطة بها بلا قطيعة وجودية معَ الماضي، ومَسَارًا مَفتوحًا على سُلطة المَعْنَى باعتبارها مُحاولةً لتفسير الواقع المُعَاش بلا انفصال اجتماعي عَن العقلانية. والزَّمَنُ لا يُبَدِّل جِلْدَه، ولَكِنَّه يَتجاوز الحُدودَ المَكَانِيَّةَ لِيُقَدِّمَ رُؤيةً جديدةً للواقع والمعرفة، مِمَّا يُسَاهِم في تكريسِ تأقلُم الوَعْي معَ التُّرَاث، وتعزيزِ تَكَيُّف سُلطة المَعْنَى معَ مصادر المعرفة، وتحقيقِ الانسجام بين اللغة والهُوِيَّة، بِوَصْفِهِمَا صِياغةً فلسفيةً جديدةً للمعايير الوُجودية التي تُحدِّد معالمَ البناء الاجتماعي داخلَ جَسَدِ الفردِ وجَسَدِ المُجتمع، مِمَّا يَحْمِي الفردَ مِن العَيش مَنْفِيًّا في لُغته، ويَحْمِي اللغةَ مِن الوَعْي الزائف الذي يُفَسِّر الوقائعَ التاريخية اعتمادًا على حقيقة السُّلطة، ولَيس سُلطة الحقيقة. وكُلُّ أدلجة سياسية للتاريخ سَتَدفع الفردَ إلى الغُربةِ في عُقْدَة الشُّعور بالذَّنْب، وتَدفع المُجتمعَ إلى الاغتراب في عُقدة الشُّعور بالنَّقْص.

2

طريقُ الفردِ في الحياة هو طريقته في تأويل الأحداث اليومية، واتِّحَادُ الطريقِ والطريقةِ - وَعْيًا وفِكْرًا ومُمَارَسَةً - يَكشِف الواقعَ المُغَيَّبَ في صِرَاعِ المصالح، وصِدَامِ الأهواء، ويُوضِّح المَسكوتَ عنه في تاريخ الفردِ والمُجتمعِ، ويَدفع رمزيةَ اللغة إلى التنقيب في الذاكرة لِصَهْرِ الأضداد في رُؤية نَقْدِيَّة مُتماسِكة للحضارة. وفلسفةُ الحضارة لا تَظهَر في المُنْجَزَاتِ الماديَّة والصِّنَاعاتِ التكنولوجية، وإنَّما تَظهَر في كَيْفِيَّةِ تحقيق الاندماج الاجتماعي في جَسَدِ الزَّمَنِ ورُوحِ المكان. وهذه الكَيْفِيَّةُ تُؤَثِّر في طبيعة الفِعْل الاجتماعي الحاملِ للأفكار الإبداعية، والناقلِ للظواهر الثقافية. ورغم الاختلاف الجَوهري بين جسدِ الزمن كَهُوِيَّة وُجودية، ورُوحِ المَكَان كَسُلطة حياتية، إلا أنَّهُما قادران على ابتكار فضاء عقلاني يَحتضن آلِيَّات التأويل اللغوي لقواعد المنهج الاجتماعي، باعتبارها أسئلةً مصيريةً باحثةً عَن أجوبة مَنطقية، وإشكالياتٍ معرفية باحثة عن حُلُول عمليَّة، ومَرجعياتٍ فلسفية باحثة عَن هُوِيَّة واقعية في عَالَمٍ شديدِ التعقيد، ودائمِ التَّغَيُّر، يَقُوم على أنساقِ العوالم الافتراضية،والقطيعةِ بين الماضي والحاضر،وهَيمنةِ الآلةِ على الطبيعة،والانفصالِ بين الأشواق الإنسانية الرُّوحية والنُّظُم الاستهلاكية المادية.

3

الجَوْهَرُ التاريخي للفرد يُعيد تعريفَ ماهيَّةَ السُّلطةِ في العلاقات الاجتماعية، والكَينونةُ الحضارية للمُجتمع تُعيد تعريفَ مَفهوم الهُوِيَّة في مصادر المعرفة. والفردُ لَيْسَ كِيَانًا مَعزولًا عن التجارب الحياتية، وإنَّما هو تجسيدٌ للوَعْي الآنِيِّ المُنفتح على المُستقبل. والمُجتمعُ لَيْسَ حِقبةً زمنيةً مَحصورةً في أشكال السَّيطرة، وإنَّما هو توليدٌ للفِكْر العقلاني المُنفتح على اللغة. وثنائيةُ (تجسيد الوَعْي / توليد الفِكْر) تُؤَدِّي إلى تَفْسِيرِ النَّمَط الحياتي، وتَحْلِيلِ النَّسَق الثقافي، فَتَتَّضِح أحلامُ الفرد في أعماق الحياة، ويَبْرُز الزَّمَنُ كَخِطَاب لُغَوي رمزي يتعامل معَ التاريخِ كَأداةٍ لتشكيل الوَعْي بالحضارةِ ومُكَوِّنَاتِها الوُجودية، ويتعامل معَ الحضارة كَآلِيَّةٍ للبحث في ماهيَّة التاريخ عن الشُّروط الاجتماعية للمعرفة. وإذا كانَ الوَعْيُ يُحلِّل شخصيةَ الفرد الإنسانية كَبُعْد تاريخي مُتَجَذِّر في التجارب الحياتية، فإنَّ اللغة تُحلِّل العلاقاتِ الاجتماعية كَرُموز مُستقرة في البيئة والطبيعة، فَيَظْهَر الفردُ كفاعلٍ إنساني يَمتلك سِيَادَةً على الواقع المُعَاش، ويُسَاهِم في نَقْدِه، ويُشكِّل أبعادَ الوَعْي بالهُوِيَّة، ومعالمَ الشُّعور بالسُّلطة. والهُوِيَّةُ هي سُلطةُ التراكمات التاريخية المُتَحَكِّمَة بالمَسَار، والسُّلطةُ هي هُوِيَّةُ المعايير الفكرية المُتَحَكِّمَة بالمصير.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

ما علاقة الوعي الذاتي بالمادة؟ وهل الوعي تخليق عقلي ام تخليق احساسات الحواس الانطباعية بالذهن عن العالم الخارجي والداخلي؟

علاقة الوعي بالمادة علاقة ادراكية هي من تخليق الدماغ وليست من تخليق الحواس والذهن معا. الوعي ليس انطباعات مصدرها الحواس في علاقة ارتباطها بالذهن، بل الوعي ناتج ردود الافعال الارادية التي يصدرها الدماغ في تفسيره لمدركات الحواس معرفيا يسميها كانط مقولات العقل الاثنتي عشر.

والوعي الذاتي هو وعي العقل لكينونته الأنوية المرتبطة بفيزياء الجسم وليس الوعي المرتبط بموضوعه المادي المدرك خارجيا في تجريده اللغوي الذي هو خاصية الوعي المجرد وليس خاصية المادة كموجود أنطولوجي شيئي. وعي الذات يختلف جوهريا عن وعي الأشياء والموجودات الخارجية والمحيط.

الوعي الذاتي هو جزء إدراكي في لغة تفكير العقل فهو يعي ذاته والمواضيع الخارجية لكنه اي الوعي لا يكون موضوعا لذاته الذي هو تفكير العقل، أي لا يكون الوعي موضوعا مستقلا لتفكير العقل به، إلا في إرتباطه كحلقة في منظومة الإدراك العقلي للاشياء والموجودات، أي الوعي جوهر مجرد لامادي ويكتسب ماديته الخصائصية غير الجوهرية من المادة التي يعيها في تعبير اللغة عنها... فالوعي جوهر تفكيري صامت ويكون فكرا لغويا تعبيريا عن ذاتيته وعن مدركات العقل المادية بتعبير اللغة عن الاشياء خارجيا. الوعي هو تفكير العقل اللغوي الصامت. الوعي مرحلة ادراكية عقلية تتجاوز ما تنقله الحواس.

اسبينوزا وميتافيزيقا العقل

قام سبينوزا كي ينسجم مع فلسفته في وحدة الوجود بشخصنة ذات الخالق ماهية وصفات بوحدة موجوداته الموزّعة على الطبيعة والانسان والكائنات وكل ما يقع تحت طائلة الإدراك المادي العقلي، معتبرا كل هذه الاشياء تفقد فرادتها "كونها تمثل جوهرا واحدا هو الله. الذي يكون الفكر والإمتداد مجرد صفتين له." العبارة لاسبينوزا. في تعبير سبينوزا الذي ذكرته نجده يشخصن الله ماديا طبيعيا في وحدة موجوداته الموزعة في الطبيعة والانسان والكائنات وكل الموجودات التي يطالها العقل بالإدراك، وهذه الشخصنة عند سبينوزا مادية وليست روحانية كما نجدها عند الصوفية الدينية في شخصنتها الذات الإلهية روحانيا ميتافيزيقيا على عكس من شخصنة سبينوزا الذات الإلهية ماديا طبيعيا، وبذلك جعل اسبينوزا الله يتحكم في موجوداته المخلوقة بقوانين الطبيعة التي ندركها نحن ولا يمتلك هو- الله - قوانينه الخاصة به في قدرته اللامحدودة تجاوز كل قوانين الطبيعة وكل معجزات الانبياء وهذا التصور خطأ مريع في أن يكون ما هو خارج قوانين الطبيعة لا يمثّل القدرة الإلهية المعجزة في أعتبار قوانين الطبيعة والموجودات ومعجزات الانبياء لا تقف عند حدود الإعجاز الإلهي مثلما يقف أمامها عجز الإدراك الانساني لها. القدرة الالهية ليست بحاجة اثبات الجوهر الذاتي لها من خلال خرق قوانين الطبيعة بالمعجزات التي تكون محنة وحاجة الانبياء لها اثبات وجودهم الذاتي كبشراختارهم الله وليس كآلهة تشارك الخالق ادارته حياة الانسان على الارض.

ولم يكن سبينوزا موفقا في تعبيراته شخصنة ذات الخالق جوهرا غير مدرك يمتلك صفتين هما (الحركة والامتداد) اللتان هما صفتان ماديتان تحكم الموجودات الطبيعية في قابلية الحركة بإستثناء الانسان الذي يمتلك الفكر الذي لا تمتلكه بقية الكائنات.

من الخطأ تصنيف مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا في تشييئه الذات الإلهية انه يلتقي الصوفية الدينية التي تقوم ايضا على تذويت الذات الالهية وشخصنتها بإستقلالية عابرة للطبيعة وقوانينها الثابتة المحكومة بها من ضمنها الانسان.

مذهب وحدة الوجود لدى الصوفية هو في تحرير النفس والوجود الانطولوجي من اشكال الاحتوائية الواقعية للوجود الانساني.فيصبح او هكذا يفهم منه التعالي الروحاني مظهرا روحانيا من الوجود غير الانطولوجي المادي يتجاوز مقيّدات القوانين الطبيعية التي تحكم علاقة الوجود الانساني بالطبيعة المتخارج معها معرفيا وليس جدليا. من حيث الجدل نفي والمعرفة تكامل.

سبينوزا فيلسوف ليس صوفيا ماديا ولا صوفيا دينيا ميتافيزيقيا. ومذهب وحدة الوجود لا يبيح للصوفية الدينية تذويت الخالق بمخلوقاته في الطبيعة . سبينوزا في مذهب وحدة الوجود أراد تخليص اللاهوت المسيحي واليهودي على السواء من تذويت الخالق ميتافيزيقيا غيبيا بالإنصراف الى تذويته ماديا من خلال الاحساس المباشر بأعجاز مخلوقاته في الطبيعة وهذا ما لا تقر به الصوفية الدينية التي لا تعمل بمذهب وحدة الوجود من منطلق تذويت الذات الإلهية في فينومينولوجيا الماديات والاشياء والظواهر الموزعة بالطبيعة. بل من خلال تذويت الذات الالهية بروحانية نورانية حلولية في النور الالهي لا علاقة لأي شيء مادي محسوس يتعالق مع تلك التجربة الروحانية.

بمعنى لا تمتلك المادة ولا الطبيعة خاصية الفكر بأستثناء أمتلاك عقل الانسان قابلية التفكير اذا ما أعتبرنا العقل تكوينا فيزيائيا يرتبط في جسم الانسان جزءا عضويا منه ويمتلك ملكة التعبير اللغوي تجريديا عن مدركاته..

الفكر ملكة خاصيتها تعبير اللغة صوتا ومعنى. وبغير هذا التعبير يفقد الفكر حضوره الإدراكي. ولا نجد في ربط خاصيتي المادة في الفكر والإمتداد موفقا مقبولا، فالإمتداد صفة حركية للمادة انطولوجيا بخلاف الفكر الذي هو ليس مادة مستقلة كجوهر انطولوجي قائم بذاته فكيف يتسم بصفة الإمتداد والحركة المادية وهو ليس متعيّنا انطولوجيا ؟ نجد عند عديد من الفلاسفة الغربيين عندما يريدون التوفيق تلفيقيا بين المتضادات يستعينون بمرجعية الخالق التي تتوازى ميتافيزيقا الطرح الفلسفي لها مع منطق العقل ماديا ولا يلتقيان في تمرير تلك المتناقضات بمنطق التلفيق الافتعالي للخروج من المأزق أو المعضلة التي وصلت الطريق المسدود فلسفيا.

ديكارت والوعي

منذ القرن السابع عشر عصر ديكارت أخذ مبحث (الوعي) في الفلسفة أهتماما أستثنائيا في أعقاب أطلاق كوجيتو ديكارت أنا أفكر.... الذي كان قمّة الوعي الذاتي المثالي في جعل الواقع الخارجي وجودا لا أهمية له في أمتلاك الوعي الفردي القصدي معرفة الذات وجوديا في خاصية التفكير المنفرد. ..

في أعقاب مجيء فلاسفة عديدين على مراحل زمنية متباعدة ظهر الفيلسوف هيرمان برينتانو بمقولته (أن الوجود القصدي هو ككل هدف قصدي موضوع ومضمون مختلفان) وسنجد تأثيرهذه العبارة على جون سيرل لاحقا..ليعقب – برينتانو - تلميذه هوسرل مستعيرا قصدية الوعي منه في شرح معنى أدراك الذات على أنها أشباع لوعي معرفي هادف في شيء محدد مقصود سلفا في وجوب الادراك بلوغه..

برأيي عبارة برينتانو الوجود القصدي هو ككل هدف قصدي موضوع ومضمون مختلفان تحمل تفسيرا منطقيا متناقضا غير نسقي اختصره بما يلي:

- ليس هناك وجود قصدي يحدد انطولوجيته وجود مادي مستقل يستبق الوعي.

- الهدف القصدي هو وعي سلوكي مصدره العقل والارادة وليس مصدره الوجود المادي للاشياء في استقلاليتها.

- الهدف القصدي المادي او المتخيّل لا يحمل تناقضا ان يكون موضوعا ومضمونا مختلفين في آن واحد. فالوعي القصدي بالفكر يحمل وعيا بالوصول لهدف معين يتوخاه بالموضوع. ومضمون ذلك الهدف لا يحدد وجوده الوعي بل تحدده انطولوجيا الهدف المراد بلوغه قصديا. المراد هنا في تحديد الانطولوجيا لهدف الوعي القصدي لا تحده المادة فقط بل يحده (الموضوع) الذي لا يتحقق له وجودا انطولوجيا متعينا كما في مواضيع الخيال.

وبهذا نفهم تأثير تلميذ هوسرل من بعد برينتانو، هيدجر في أعتباره الوعي القصدي هو نتاج الواقع المادي الذي لا يكون له معنى ما لم يكن وعيا ديناميكيا– في – عالم. مؤكدا أهمية الوجود المجتمعي ومقصّيا وعي الفردية الذاتية في سلبيتها الديكارتية، وجاء سارتر ليتوّج ذلك في الوجودية أن الوجود سابق على الوعي به ليلتقي بالفهم المادي الماركسي من غير رغبة منه بذلك وأنما مكرها لخلاصه من مثالية ديكارت الذاتية المقفلة في علاقة الأنا بكل من الفكر والوجود..

وخروج سارترلاحقا على الماركسية نفسها في جوانب فلسفية خلافية عديدة أفادت منها الفلسفة البنيوية كثيرا في نقدها القاسي للماركسية لدى كل من التوسير، وشتراوس، وفوكو، وبياجيه في تناولهم القاسي لكتاب راس المال..وغيرهم عديدون فعلوا ذلك.

الوعي والفلاسفة الاميركان

كيف انتقل مبحث الوعي القصدي الى الفلاسفة الاميركان مثل جون سيرل، وسيلارز، ورورتي وغيرهم، من اقطاب فلاسفة العقل واللغة؟

مبحث الوعي القصدي كان مثار اهتمام الفلاسفة قرونا طويلة، وكان التهّيب من الخوض به هو مخافة الدخول في نفق مبحث ميتافيزيقي. مع ظهور فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى التي ركز على هذه الاخيرة بتطرف فلسفي كلا من امبرتو ايكو في التاويلية وجاك دريدا في التفكيكية من غير اعلانهما عنهما صراحة. ما جعل الفلاسفة الاميركان يستضيفون الفلاسفة الفرنسيين والالمان من هواة فلسفة اللغة ويستلموا الراية منهم لاحقا ويعيدونهم الى بلدانهم الاوربية.

يذهب سيرل أنه أستنادا الى تقليد معرفي في الفلسفة المثالية يوجد فرضية خاطئة معتمدة تلك هي أننا لا يمكننا أدراك العالم الحقيقي بصورة مباشرة، وهي تشبه محاولة شخص تطوير علم الرياضيات على أفتراض عدم وجود الارقام.هذا المعنى الفلسفي كان مثار جدال حاد جدا بين الثلاثي جون لوك، ديفيد هيوم، وبيركلي، وقد تناولت اشكالية الادراك الانطولوجي في مقالتي المنشورة بعنوان (اشكالية الادراك: الاصل والصورة). وليس هنا مجال البحث في تفاصيلها لأنها تحتاج شرحا مطولا سبق لي تثبيته بالمقال.

هل الوعي يرتبط بعلاقة تجريدية مع الادراك ام بعلاقة عضوية بايولوجية مصدرهما منظومة الدماغ؟ ولمن تكون الاسبقية للادراك ام للوعي؟

بالحقيقة السؤال معقد ويحتاج عرضا توضيحيا يقوم على الثوابت التالية:

- الادراك الحسي لانطولوجيا الوجود يسبق تشكيل الوعي عنه.

- الادراك يرتبط بعلاقة تجريدية بالوعي.الادراك مرحلة بدئية متقدمة لما تنقله الحواس.

- باستثناء الحواس والجهاز العصبي والدماغ لا توجد مفردة واحدة إدراكية ترتبط بهذه المنظومة لا تكون تجريدا مصدره الدماغ عضويا.، الذهن هوالانطباعات المؤقتة كما يشير لذلك ديفيد هيوم، اما الادراك، الوعي، الذاكرة، المخيلة جميعها مفردات تجريدية مصدرها منظومة العقل الادراكية ومركزها الدماغ.

- صحيح جدا ان هذه المفردات التي مررنا بها هي تجريد عقلي وظائفي لكن لا معنى لواحدة منها ولا لاكثر من واحدة منفردة قيمة يعتد الاخذ بها ما لم تكن مرتبطة بمنظومة الادراك العقلي ومركزها الدماغ والخلايا العصبية المليونية المختصة بكل واحدة من هذه المفردات الادراكية المجردة.

- يوجد إختلاف ليس بالبسيط بين فهم الفلسفة لهذه العلاقة الاشكالية وبين المنظور العلمي التخصصي التجريبي في معرفة وظيفة الخلايا الدماغية المسؤولة عن كل مفردة من هذه المفردات التجريدية.

- ترتبط هذه المفردات التجريدية فيما بينها بصيغة التكامل الوظيفي الادراكي ولا يمكن ان يكون هناك قيمة لواحدة منها لا ترتبط مع غيرها. بمعنى لا وجود لذهن بغير حواس، ولا وجود لادراك من غيرمادة او موضوع، ولا معنى لخيال لا يرتبط بمخيلة استرجاعية، ولا معنى لذاكرة من دون استرجاعات تذكرّية وتداعيات فكرية خيالية وهكذا.

هل ان ادراك الشيء هو غير الوعي به وغير معرفته؟

في عبارة لجون سيرل أن أدراك العالم الحقيقي لا يتم عبر الاحساسات المنقولة للدماغ بصدقية يعتمدها الادراك العقلي المباشر وهو طرح سليم ودقيق، ومن هنا يكون الادراك العقلي منقوصا ويفقد الواقع الحقيقي كموضوع للادراك الكثير من مزاياه، هذا من جهة.. من جهة أخرى يتمّثل عدم امكانية معرفة الواقع على حقيقته في تعّذر الادراك الحقيقي المباشرله، أن وسيلة العقل الادراكية للعالم الخارجي تقوم أساسا على تأطير صادرات الاحساسات المنقولة الى الدماغ حسيا بزمن أدراكها الذي يجعلها متعيّنا مكانيا – زمانيا في بنية واحدة لا تنفصم، وبغير هذه الآلية يتعذّر على الادراك العقلي أن يكون واقعيا وسليما في أدراكه الأشياء المنّظم فكريا بعيدا عن الادراكات الهلاوسية الناقصة، فجوهر الادراك هو الوعي بموضوع يأتي الدماغ ويستلمه عبر منفذ الحواس الذهني والمنظومة العصبية، أي بمادة خام يكون مصدرها بالنسبة للعالم الخارجي الحواس والزمن الذي يحتويها وجودا،أو بالنسبة لموضوع الخيال المستمد من الذاكرة تأمليا أسترجاعيا في فعالية ذهنية تجريدية لا يكون فيها الموضوع متعّينا وجودا في عالم الاشياء..

وبخلاف هذين الآليتين لا يكون هناك أدراك للواقع الحقيقي سليم يعتمده العقل أو الدماغ تحديدا.. ويبقى ألادراك القصدي ناقصا تماما في تعّذر أدراك العالم الحقيقي مباشرة بفهم يمّكن العقل من معالجته لمواضيع أدراكاته بالمقولات التي تجعل من المدركات مواضيع معرفية وليس مواضيع أشباعات بيولوجية خالصة..

كما يوجد فرق بين الادراك المعرفي والادراك الغريزي.. فالادراك المعرفي هو معرفة العالم الخارجي كوجود انطولوجي، والادراك الاستبطاني الداخلي فهو يتمثل بردود الافعال لمثيرات أجهزة أحاسيس الانسان الداخلية في اشباع حاجات الانسان الغريزية مثل الحاجة للاكل والحاجة للنوم او الحاجة للجنس وهكذا، وتدخل مواضيع الادراك الخيالية في تلبية اشباع رغبة استبطانية تراود الانسان اشباعها. هذا الاشباع الغريزي حاجة لا تمت بصلة الى الوعي المعرفي.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

كان أبيقور (341-270ق.م) فيلسوفا يونانيا قديما. هو مؤسس الفلسفة الايبيقورية، الفلسفة الاخلاقية التي دعت الى ترسيخ مفاهيم مثل الصداقة والسعي لمُتع الحياة البسيطة. بنى ابيقور مدرسته الفلسفية الخاصة في اثينا والتي استمرت حتى القرن الرابع الميلادي.

تماما مثل العديد من الفلاسفة القدماء، من المؤسف لم يتبقى حاليا الاّ القليل من أعماله. التقديرات تقول ان ابيقور كتب اكثر من 300 عملا اثناء حياته لكن لسوء الحظ معظم هذه الأعمال قد ضاعت. بدلا من ذلك، نحن نعرف عن معتقداته من عدد محدود من المقاطع والرسائل بالاضافة الى الكتب المطولة والمقاطع حول ابيقور من أتباعه ومعاصريه.

تميزت الايبيقورية برغبتها في مساعدة الناس للحصول على السعادة (eudaemonia) عبر عيش حياة هادئة خالية من الألم. ابيقور شجع أتباعه لممارسة هذه الفلسفة وهم محاطين بأصدقاء ضمن جماعة متماسكة لأنه اعتقد ان هذه هي أحسن طريقة لإستكشاف الابيقورية. في ضوء ما تقدم، ماذا يخبرنا ابيقورعن العائلة والزواج وتربية الأبناء؟ احيانا الأجوبة ليست بذلك الوضوح الذي نتصوره.

ابيقور: عائلته وحياته المبكرة

وُلد أبيقور في ساموس وهي جزيرة في شرق بحر ايجه والتي صادف ايضا ان تكون فيها ولادة فيثاغوروس. والداه كانا من اثينا وسافرا الى ساموس كمستوطنين عسكريين. ابوه، نيوكليس كان معلما في مدرسة بينما امه شيرسرت كانت على الارجح ربة منزل.

ابيقور ذاته قال مرة انه بدأ دراسته الفلسفية في عمر 14 عام، عندما كان معلمه غير قادر على توضيح مفهوم الفوضى في عمل هسيود، الشاعر اليوناني القديم. طبقا لأحد المصادر، استمر ابيقور في الدراسة في مدينة تيوس الأيونية لمدة ثلاث سنوات، وان معلمه كان نوسفان Nausiphanes. هذا كان هاما لأن نوسفان كان تلميذا للفيلسوف الذري الشهير ديموقريطس. ابيقور طور لاحقا نظريته الذرية الخاصة به لذا من المحتمل انه اطلّع على هذه الافكار لأول مرة في تيوس.

وحالما اصبح بسن الـ 18عاما، سافر ابيقور الى اثينا لكي يكمل تدريبا عسكريا الزاميا مدته سنتين ليصبح مواطنا اثنيا. بعد هذه الاقامة المؤقتة التحق مرة اخرى بأبويه في كولفون، المدينة الايونية القديمة. الوالدان كانا قد نُفيا بعد حرب لاميان التي خسرت بها اثينا السيطرة على سوموس لمصلحة مقدونيا. بعد هذا ولمدة عشر سنوات لم تتوفر أي معلومات عن تحركات ونشاطات ابيقور. الجزء المتبقي الوحيد في هذا الوقت هو رسالة كُتبت الى امه سبق وان احتفظ بها أحد اتباعه.

تأسيس الجماعة الابيقورية في اثينا

كما ذكرنا أعلاه، الصداقة والجماعة هما خاصية مركزية للايبيقورية. في سنة 306 ق.م، عاد ابيقور الى اثينا مع مجموعة من أتباعه واسس مدرسة عُرفت بـ "الحديقة" Hokepos. كان هذا لدرجة ما شيئا جديدا في اثينا القديمة. بعد ذلك، سيطر على الحلقات الفلسفية في المدينة كل من اكاديمية افلاطون من جهة، ومدرسة الليسيوم الارسطية من جهة اخرى.

المدرستان الافلاطونية والارسطية مالتا الى جذب اكثر الاتباع موهبة. المدرستان ايضا وجّهتا اهتماما كبيرا لتطبيق الفلسفة على الحياة العامة. اذا اراد ابيقور منافسة سمعة هاتين المدرستين ويطور فلسفة جادة وطويلة الأمد في اليونان، كان عليه ان يؤسس دكانا في اثينا وان يقوم بالأشياء بشكل مختلف قليلا.

ابيقور واجه هذا التحدي بتفاني وإخلاص. وخلافا للفلسفتين الافلاطونية والارسطية، هو طلب باصرار من اتباعه عدم الانخراط في الحياة السياسية او العامة. الحديقة كانت ايضا غير عادية في كونها اعترفت بالمرأة والعبيد . عاشت الجماعة حياة بسيطة تعتمد على الماء المقنن وخبز الشعير(ابيقورآمن بقوة بفضائل عدم الإسراف واعتماد اسلوب الحياة غير المكلفة). مرة اخرى، خلافا للمدارس الاخرى لا توجد هناك ملكية مشتركة بين الأتباع ولم يحدث أي نوع من الانحراف في الحديقة عدا بعض الإساءات المضادة من جانب الرواقيين.

توفي ابيقور بعمر 72 عاما بمرض البروستاتا بعد ان شكّل تحديا قويا للمدارس الفلسفية الاخرى في اثينا. في وصيته، ترك بيتا وحديقة وشيء من النقود من الحديقة ليذهب الى القيّمين على المدرسة. هو ايضا ذكر في وصيته ان تذهب بعض النقود لتكريم أبويه الميتين، بالاضافة الى انه طلب ان يشرف شخص ما على زواج بنت أحد اتباعه (مترودور) من فيلسوف اثني.

حول أهمية العائلة والصداقة في التاريخ الانساني

لماذا فضّل أبيقور الصداقة والروابط الاجتماعية على السياسة والحياة العامة. اكاديميون يعتقدون اننا يمكن ان نجد بعض الأجوبة لهذا السؤال في الملحمة الشعرية للمناصر له لوكريتين Lucretin "حول طبيعة الاشياء". يعتقد الباحثون ان لوكريتين كان يكرر الكثير مما كتبه ابيقور في الأصل في عمله الخاص "حول الطبيعة"، لذا ستكون بداية جيدة لمحاولة فهم افكار ابيقور.

اعتقد ابيقور ان الانسان الاول كان منعزلا لايمتلك أي بناء اجتماعي وكان فقط يتناسل عشوائيا. على هذا الاساس، لم يكن هناك حظا للكائن البشري في البقاء لفترة طويلة. ابيقور يشير الى أهمية العائلة كعامل رئيسي في ضمان ان يصبح العرق الانساني رقيقا ويبني روابط قوية بين افراده لتساعده في البقاء.

الناس بدأوا الزواج والتخطيط للعائلة مما جعل الزواج يوفر الحماية لكل واحد منهم ويمنحهم فرصة أفضل في تكوين جماعات اصبحت خطا دفاعيا او تحذيرا للآخرين من الأخطار الطبيعية مثل النيران او الحيوانات المفترسة. من هذه الهياكل الاجتماعية المبكرة، تعلّم البشر بالنهاية تطوير أسماء للاخرين ولما يحيط بهم. هم ايضا خلقوا مدنا وامما ودول والتي بدورها رسخت الى مدى أبعد روابط الصداقة والتحالفات ضمنت بقاءً طويل الأمد للانسان.

وكما نرى، طبقا لابيقور، ان ظهور العائلة لعب دورا هاما جدا في تطوير المجتمع المعاصر. العوائل والاصدقاء حولوا الانسان من كائن حيواني يصارع للبقاء بمفرده ولا يستطيع الاتصال الجيد، الى نوع منظّم ومدافع قادرعلى الوجود في جماعات كبيرة الحجم.

آراء ابيقورفي الزواج

كان للزواج والفلسفة علاقة قوية في اليونان القديمة وفي عصور الرومان. سقراط عُرف بزواجه من زنتيب (ذات المزاج الحاد)،وكان لهما ثلاثة اولاد ذكور. بعض الفلاسفة مثل افلاطون فضّل المشاركة بالزوجات، بينما آخرون عارضوا مؤسسة الزواج كليا. اثناء فترة ابيقور، لم يكن للزواج أي صلة بالحب الحقيقي. بدلا من ذلك، كان الزواج مرتبط مباشرة بتربية الاطفال. هذا لم يكن غريبا في اليونان القديمة، حيث أشار سلفا فلاسفة آخرون للارتباط بين استعمال العشيقات للمتعة الجنسية مقابل الزوجات لانتاج الاطفال.

يعتقد جيرت روسكام Geert Roskam ان ابيقور كان معارضا للزواج. في الحقيقة منذ عصر النهضة كان هناك الكثير من الخلاف حول ترجمة ديوجين لارتيوس Diogens Laertius لسيرة ابيقور،التي تقول انه اعتقد "ان الحكيم سوف يقوم بالاثنين معا يتزوج ويربي اطفالا". هذا بسبب ان الجملة اللاحقة تبدو تخالف هذا التصريح وتقترح ان الحكماء يتزوجون فقط في الظروف الاستثنائية. وعلى الرغم من ان ديوجين استُعمل عادة كمصدر رئيسي عند النظر لحياة الفلاسفة، لكن ابيقور كان بشكل عام معارضا للزواج وهذا تأكد ايضا من مصادر اخرى لأبيقوريين معروفين.

مثلا، فيلوديمس(من جادارا) كان فيلسوفا ابيقوريا يعرض مراجع مثيرة للاهتمام للزواج. يكتب حول حفلات الزفاف، و يجادل ان الشعر هو افضل شكل للترفيه من الموسيقى، قبل ان يقترح ان الزواج ليس الشيء الذي يمكن ان يُقال عنه "جيدا". وفي نص آخر، هو يرى انه حتى الشاعر اليوناني القديم هسيود Hesiod له تحفظاته على مؤسسة الزواج، ويستعمل هذه الحجة لدعم شكّه في فائدة الزواج. غير ان باحثين اخرين يشيرون الى ان لوكريتوس المخلص جدا لابيقور يعرض رؤية لابيقور مختلفة جدا حول الزواج. كما لاحظنا سلفا، هو يكتب ان الاطفال هم الرابط الذي يشد المجتمع الى بعضه . في "حول طبيعة الاشياء" لم يكن ابيقور معارضا للابوة، طالما لا يضع الناس توقعات غير معقولة حول ما تتطلبه الابوة. جزء مهم من تقرير امتلاك او عدم امتلاك اطفال يستلزم الصدق حول الرغبة ومدى قوة رغبة الفرد في امتلاك عائلة.

رغم هذا، ابقور نفسه لم يتزوج ابدا، والذي يشير انه كان يتبع نصيحته الخاصة حول المسألة. محاولة اثبات بالضبط ما اعتقده ابيقور بشأ الزواج التقليدي كانت مهمة صعبة جدا في ضوء مقدار ما ضاع من كتاباته، وحتى الان لم يتفق الباحثون على جواب محدد.

وصية أبيقور والإعتناء بأصدقاءه وأتباعه

أراد ابيقور ان يتأكد قبل ان يموت بانه أجرى ترتيبا لجميع شؤونه العملية. وصيته الأخيرة كانت هامة لأنها تكشف اهتمامه بأصدقائه في الحديقة. انها ايضا تضع مثالا هاما لتلاميذه حول اهمية استخدام الوصية للاعتناء برفاهية محبيه. المثال هو التزامه القانوني ببنت مترودورس والذي يبيّن ان ابيقور كان مهتما بالعناية بالأقرباء الأحياء ذوي الصلة بأتباعه.

من المثير للاهتمام، انه يكرر عدة مرات في الوصية ان التزامه القانوني يجب تنفيذه فقط عندما تتصرف بنت ميترودوس بطريقة ملائمة وصحيحة. بعض الباحثين جادلوا بان هذا يبيّن قلق ابيقور الكبير حول التماسك الاجتماعي، وخاصة التماسك الداخلي للجماعة الأبيقورية التي تركها خلفه.

***

حاتم حميد محسن

...................

Thecollector.com, March1, 2023

دعونا بداية نعرف الحريّة، فالحريّة في سياقها العام، تعني وعي الضرورة، أو الضرورة الواعية كما عرفها "سبينوزا وهيجل وماركس"، أي وعي الإنسان للظروف الماديّة والفكريّة التي تتحكم بحاجاته الأساسيّة، الماديّة منها والمعنويّة (الروحيّة) في نطاق المحيط الذي يعيش وينشط فيه، وبالتالي التحكم بهذه الظروف وقوانين عملها داخل الظواهر، بغية الحفاظ على وجوده وإشباع حاجاته بكل مستوياتها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والأخلاقيّة. أو بتعبير آخر، إشباع حاجاته الماديّة والمعنويّة بشكل عام، مع حضور شرطيّ المسؤوليّة والوعي تجاه فهم وممارسة هذه الحريّة.

هذه هي الحريّة في سياقها العام كما أراها. فهي حريّة مشخصة وليست مجردة، مثلما هي حريّة ينتجها الواقع المعيوش ويحدد صيغها كونها لا تُفرخ مجردة، أو تفيض من العقل الإنساني المجرد أي لا تأتي من فراغ أولاً، وهي ليست صيغة واحدة مطلقة صالحة لكل زمان ومكان من ثانياً، إنها حريّة نسبيّة قابلة للتطور والتبدل وفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيوشة، وطبيعة حاملها الاجتماعيّ ثالثاً. فجوهر الحريّة في المرحلة البدائيّة كان يصب في تحرير الإنسان من سيطرة الطبيعة وتحكمها بحياة الإنسان. والحريّة في المرحلة العبوديّة كانت تتجه نحو تحرير الإنسان من تسليع جسده، حيث كان يباع ويشترى في أسواق النخاسة، والحريّة هي غيرها في النظام الرأسماليّ أو الاشتراكيّ أو في دول العالم الثالث المتعدد الأنماط الإنتاجيّة.

أما مفهوم العقل موضوع بحثنا هنا: فهو جملة المعارف الماديّة والفكريّة التي كونها الإنسان، من خلال علاقته مع الطبيعة والمجتمع تاريخيّاً، وتحولها فيما بعد إلى منهاج تفكير ونظريات ورؤى ومواقف ذهنيّة يستخدمها الإنسان للتأثير في إنتاج خيراته الماديّة والفكريّة وتحديد علاقات الفرد بالمجتمع، والعكس صحيح ، فالإنسان يعمل دائماً على إغنائها وتطويرها بما يتفق والظروف التاريخيّة المعيوشة.ً

من هذا المنطلق المنهجيّ في تعاملنا مع الحريّة والعقل يأتي موقفنا منهما، فهماً ووظيفة وآليّة عمل.

إن نظرة سريعة للعقل العربيّ السائد اليوم، يُفصح لنا عن إشكالات عديدة تتحكم في طبيعته وآليّة عمله والقوى الاجتماعيّة وخاصة (السياسيّة والدينيّة) المتحكمة فيه.

إن العقل العربيّ محكوم في وجود اجتماعيّ مفوّتٍ حضاريّاً، إذ لم تزل تتحكم به من الناحية الاجتماعيّة مرجعيات تقليديّة ضيقة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب وعرق وأيديولوجيا. وبالتالي فإن البنية الاجتماعيّة المنتجة له في عالمنا العربيّ، لم تحقق حتى اليوم وضوحاً واستقراًراً أو تقدماً اقتصاديّاً أو اجتماعيّا أو سياسيّاَ أو ثقافيّا أو طبقياً، وهذا كما قلنا يعتبر إشكالاً كبيراً يقف أمام حريّة الإنسان بشكل عام، والمبدع والمثقف فيه بشكل خاص. وبالتالي فالحريّة تظل ملجومةٍ ومحكومةٍ هنا من قبل السلطات الحاكمة التي تريد حريّةٍ على مقاسها أو ما يخدم مصالحها، مثلما يريد المجتمع حريّة توافق طبيعة علاقاته الاجتماعيّة المتخلفة والمحكومة غالباً بالعرف والعادة والتقليد والوعي الدينيّ المؤسطر (من أسطورة) القائم على الثقافة الشفويّة المشبعة بالنقل على حساب العقل، والمدعومة أساساً من قبل السلطات الحاكمة ومؤسساتها الدينيّة، التي وظفت جوامعها لنشر ثقافة الامتثال والاستسلام والخرافة والأسطورة وقصص الأولين والتأكيد على عالم الإنسان الداخلي بتوجهات صوفيّة إشراقيّة لتحقيق ذاته، بدل من البحث عنها في وجوده الاجتماعيّ وتناقضاته وصراعاته، أي دفع الإنسان للتمسك بالفضيلة المجردة الهادفة إلى كسب الجنة وحور العين وسواقي الخمر والعسل واللبن، وليس ثقافة حب الوطن وتكريس المواطنة واحترام الرأي الآخر وإعمار الأرض. أما على المستوى الثقافيّ، فقد بينا المعاناة الكبيرة التي يعانيها المثقف النخبويّ الذي ظل عقله محكوماً بمحيطه السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ، فكم من مثقف تراجع عن آرائه التقدميّة العقلانيّة التنويريّة في تاريخنا المعاصر بسبب الضغوطات التي تعرض ويتعرض لها دائما من قبل المحيط الذي ينشط فيه، كما جرى لعلي عبد الرازق، وطه حسين، وغيرهما الذين تعرضوا للمحاكمات أو السجن أو النفي أو القتل بسبب أفكارهم العقلانيّة التنويريّة، كفرج فودة وجلال صادق العظم وحامد أبو زيد وغيرهم الكثير .

هذه هي الأجواء الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة التي ينشط فيها العقل العربي، أي التي يعيش فيها الكاتب والمفكر والفيلسوف والأديب والفنان العربي. وبالتالي لتحرير عقول أفراد المجتمع، والفسح في المجال لأفكار هذه النخب العقلانيّة التنويريّة أن تنتشر وتجذر أفكار التنوير، يتطلب منا الأمر صراعاً تاريخيّاً مريراً مع من يَحُولُ دون نشر ثقافة العقل والتنوير في عالمنا العربيّ بغية تحقيق تلك التحولات العميقة في واقعنا المعيوش. وهذا برأي لن يأتي بالنوايا الحسنة، ولا بالمواقف الإرادويّة أو الذاتيّة التأمليّة.. إن التحولات التاريخيّة العميقة، تتطلب ثورة حقيقيّة تطال الوجودين الماديّ والفكريّ معا في وطننا العربيّ المتخلف، ولكن المحزن أن معظم الثورات التي قامت لتغيير بنية الوجود الاجتماعيّ منذ بداية القرن العشرين، قد خذلتنا عندما وجدنا أن الكثير من توجهات حواملها الاجتماعيين الثقافيّة كانت أصوليّة سلفيّة تكفيريّة حافظت على الوجود الماديّ والفكريّ في المجتمع بدلاً من تقدمه، والحديثة منها التي سميت بثورات الربيع العربي أرجعت بعض دولنا قرنين من الزمان إلى الوراء، بعد أن دمرت معظم ما تحقق من إنجازات على مستوى التحديث بكل أشكاله ومستوياته خلال قرن ونيّف من الزمان.

بيد أن السؤال المشروع الذي يطرح نفسه علينا اليوم وهو:

هل هناك تفكير عربيّ جاد وحر، واشتغال فلسفيّ عميق حول سؤال الحريّة وجدلياتها مع الهويّة والعدالة والأيديولوجيا والتدين في أروقة الفكر العربيّ المعاصر كما عَرَفْنَاهُ خلال القرن العشرين؟

لا شك أن هناك من اشتغل على الأيديولوجيا أو السرديات الكبرى في عالمنا العربيّ المعاصر منذ بداية الربع الأول من القرن العشرين حتى منتصف القرن ذاته، وهذا الاشتغال نجده عند القوى اليساريّة والدينيّة والقوميّة ممثلة بالأحزاب الأمميّة، كالأحزاب (الشيوعيّة)، وحزب (الاخوان المسلمون) بفروعهم العديدة على المستوى العربيّ. ثم تلتها في الربع الثاني من القرن ذاته أحزاب أخرى ذات طابع قوميّ، توزعت بين أحزاب تدعوا إلى الوحدة العربيّة الشاملة، وأخرى ذات نزعات إقليميّة أو عرقيّة (كالفينيقيّة والفرعونيّة وغيرهما).

إن هذه الأحزاب اشتغلت في الحقيقة على تكريس أيديولوجيات خاصة تمثل حواملها الاجتماعيّة أو نخبها من قوى طبقيّة أو أثنية، رسمت من خلالها الأهداف الاستراتيجيّة والتكتيكيّة لعملها داخل الساحة السياسيّة العربيّة، فهذه الأحزاب الشيوعيّة مثلاً قد تبنت في تنظيماتها الأيديولوجيا الشيوعيّة طريقاً لتحقيق العدالة والتنميّة، وفقاً للصيغة الماركسيّة اللينينيّة أو الماويّة، كما تبنى الإخوان الأيديولوجيا الدينيّة (الحاكميّة) التي نظر لها في صيغتها السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة أبو الأعلى المودودي، وتبناها مفكر الإخوان "سيد قطب" في كتابه (معالم في الطريق). أما الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة كحزب البعث والاتحاد الاشتراكيّ وغيرهما، فقد تبنت الأيديولوجيا القوميّة بعد أن ربطتها مع الاشتراكيّة العلميّة، تحت مسميات جديدة نظروا لها فكريّاً تحت اسم (الطريق العربيّ إلى الاشتراكيّة)، وطبقيّاً تحت اسم (تحالف قوى الشعب العاملة). أما أحزاب النزعات الاقليميّة كالفينيقيّة والفرعونيّة والبربريّة والأمازيغيّة والكرديّة وغيرها، فقد حملت أيضاً مشاريع أيديولوجيّة قوميّة ضيقة في مكوناتها الاجتماعيّة لم تزل قائمة حتى اليوم. ومشكلة هذه الأحزاب تكمن في كونها أُغرقت نفسها بالشعارات الفضفاضة على حساب الواقع أو الممارسة. وهذا ما أوقعها في مطبات كثيرة أثناء استلام بعضها السلطة. فظروف الواقع العربيّ المتخلف أثر تأثيراً كبيراً على سياساتها الداخليّة والخارجيّة. فالأحزاب الشيوعيّة ارتبطت بالسياسة الأمميّة والتوجه السوفياتي قبل سقوط المنظومة الاشتراكيّة والاتحاد السوفياتي على حساب السياسة الوطنيّة والقوميّة من جهة، مع غياب واضح للحامل الاجتماعيّ المؤهل لقيادة هذه الأحزاب من جهة ثانية، الأمر الذي أوقها في فخ المرجعيات التقليديّة (قبيلة – عرق) من جهة ثالثة، كما جرى للحزب الشيوعيّ اليمنيّ الذي وقع في فخ القبليّة، والحزب الشيوعيّ السوريّ أو العراقي اللذان وقعا في فخ العرقيّة، الأمر الذي أدى إلى تفتيت تنظيماتها الأساسيّة أو المركزيّة إلى تيارات عدّة. أما الإخوان فقد اشتغلوا في سياساتهم على البعد الأممي أيضاً وتجاهلوا خصوصيات الدولة الوطنيّة التي مارسوا نشاطهم الحزبي فيها، مثلما أغرقتهم أيديولوجيا الحاكميّة وعدالتها في عالم القيم والمثل على حساب الواقع، فاصطدموا بالواقع عند وصولهم إلى السلطة، فكانت النتيجة فشل التجربة الإخوانيّة في كل من مصر وتونس مؤخراً. أما الأحزاب القوميّة العربيّة فقد عاشت في عالم الشعارات القوميّة والعدالة الاجتماعيّة.. فلا هي استطاعت أن تحقق الوحدة العربيّة، ولا حتى الوحدة الوطنيّة داخل الدول التي سيطرت على الحكم فيها، ولم تستطع أيضاً تحقيق العدالة السياسيّة أو الاجتماعيّة التي نادت بها في أيديولوجياتها بعد أن سارت في طريق رأسماليّة الدولة أولاً، أو اقتصاد السوق الاجتماعيّ ثانياً، ثم تحولت ثالثاً إلى دول شموليّة ساهمت كثيراً في تشكل قوى اجتماعيّة جديدة من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة التي سرقت أموال الشعب والوطن. هذا في الوقت الذي غلب على قياداتها شهوة السلطة فراحت تمارس تسويات سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة على مستوى سياسة الدولة الداخليّة كان من أبرز نتائجها المدمرة، أن أحيت المرجعيات التقليديّة، واتكأت على القوى الدينيّة السلفيّة لكسب رضا الشعب باسم الدين، فكانت النتيجة أنها لم تستطع كسب هذا القوى الأصوليّة الدينيّة إلى جانبها، في الوقت الذي خسرت فيه قوى اليسار والوسط أيضاً كما تبين في أزمة الربيع العربي. الأمر الذي ساهم في تدمير كل ما بنته حكومات هذه الدول خلال عقود من الزمن في بنية الدولة والمجتمع معاً.

إن ما يعيشه عالمنا العربيّ اليوم من فوضى على كافة المستويات تظهر نتائجه واضحة في حالات الجوع والخوف والفقر والهجرة التي يعانيها معظم المواطنين العرب، هذا إضافة إلى ارتماء أكثر هذه الأنظمة في أحضان دول أجنبيّة بهدف حماية الطبقة الحاكمة من شعوبها بسبب ما مارسته من سياسات أنانيّة ضيقة تصب في مصلحتها وليس مصلحة شعوبها خلال عشرات السنين.

ملاك القول هنا: رغم كل معطيات هذا الواقع المتخلف في السياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد، فقد ظل هناك دور كبير للفكر العقلانيّ التنويريّ المشبع بالحريّة والعدالة والمساواة قائما بين صفوف النخب المثقفة التي حملت هذا الفكر، واتخذت مواقف معارضة لسياسات الدول الشموليّة المنتمية إليها على كافة الساحة العربيّة، فأفكار الطيب تيزيني والجابري والعروي وياسين الحافظ والسيد القمني وحسن حنفي وحسين مروة ومهدي عامل وهادي العلوي ونصر حامل أبو زيد وفرج فودة.. وغيرهم الكثير من المفكرين العلمانيين وحتى الإسلامين المتشددين كأفكار سيد قطب وحسن البنى والهضيبي، لقد كان لهذه الأفكار جميعاً التأثير الكبير على تفكير ما سمي بمحركي الربيع العربي، بيد أن تطرف بعد هذه الرؤى الفكريّة الدينيّة منها والوضعيّة، شكلت انتكاسةً حقيقةً لهذا الربيع، فحولته إلى خريف أو شتاء قارس على هذه الأمّة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

هل هناك تقدم عبر التاريخ؟ ام ان العالم صُنع من جوهر أساسي لن يتغير ابدا؟ ما معنى الزمن والأبدية؟ شوبنهاور وهيجل لم يتفقا على هذه المسائل. لكن العداء بينهما كان فلسفيا وشخصيا ايضا.

في صيف عام 1820، وصل آرثر شوبنهاور الذي كان بعمر32 سنة الى جامعة برلين لإلقاء محاضرات للفصل الدراسي وبلقب كبير "فلسفة شمولية". ومن اللافت انه طلب من الجامعة جدولة محاضراته لتكون بنفس عدد الساعات المخصصة لهيجل. كان هيجل خُصص له كرسي الجامعة في الفلسفة وكان آنذاك من اشهر الفلاسفة في العالم المتحدث بالألمانية.

مئات الطلاب حضروا محاضرات هيجل. لكن خمسة طلاب فقط سجّلوا لحضور محاضرات شوبنهاور. وفي الفصل الدراسي اللاحق لم يحضر أي طالب لشوبنهاور ولذلك اُلغيت محاضراته. تلك كانت نهاية عمله المهني في الجامعة.

هيجل، الأكبر سنا من شوبنهاور بـ 18 سنة، التقى بشوبنهاور مرة واحدة ولم ينتبه كثيرا للشاب في كتاباته. بالمقابل، شوبنهاور تحدث بكراهية عن هيجل لسنوات.

بعد وفاة هيجل عام 1831، بدأت سمعته بالإنحدار وهنا حدث التراجع الغريب. خلال العقود اللاحقة، اصبح المحاضر الغامض هو الفيلسوف الأكثر شهرة. أعماله الأخيرة بيعت منها آلاف النسخ وبطبعات متعددة. بالنسبة للعديد من الناس، تشاؤمية شوبنهاور صاغت المشهد الفلسفي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وما تلاه، بينما التفاؤلية التنويرية لهيجل أصبحت موضوعا للسخرية. فماذا حدث؟

أراد شوبنهاور من محاضراته ان تقدم بديلا واضحا لهيجل ولم يكن غريبا ان الرؤتين الفلسفيتين للرجلين كانتا متعارضتين راديكاليا . في الحقيقة، خلافهما كان ميتافيزيقيا. أي، انهما اختلفا حول طبيعة العالم وما نستطيع معرفته حوله.

كلا الرجلين في البدء انطلقا كأتباع لعمانوئيل كانط لكن كل واحد منهما استخدم استنتاجاته باتجاه مختلف كليا. كانط بدأ من الادّعاء باننا لايمكننا أبداً ان نعرف الحقيقة حول العالم فقط من المعلومات التي توفرها حواسنا. انطباعاتنا الحسية هي مجرد ضوضاء تفتقر الى التنظيم. وبتحديد أكثر، المعرفة العلمية تحتاج الى مفاهيم او مبادئ عقلية mental categories مثل المكان، الزمان، السببية.

بما اننا جميعنا نشترك بهذه المفاهيم، نحن نستطيع ايضا ان نشترك ونتحقق من صلاحية الملاحظات الاخرى. لهذا فان العلم و"التنوير" هما نتاجان اجتماعيان.

هيجل انطلق من هذه الأفكار ليضع صلاحية للعلم الحديث، بما في ذلك "علم" التاريخ، الذي وجد نماذجا في العالم وأسس قوانين علمية من الملاحظات الجماعية للعديد من الناس. هيجل بنى على نظرية كانط في التاريخ، التي كانت بدائية، وغيّرها الى مبدأ مركزي في فلسفته. ثقافة الانسان والافكار تطورت بمرور الزمن، حسب اعتقاده، ليس فقط في الافراد والجماعات وانما في الانواع ككل، تتبع نموذجا يمكن التنبؤ به. هو كتب: "انكشاف الحقيقة اتضح في تاريخ العالم".

ولكي يثبت صلاحية هذا الادّعاء بان الانسانية كانت دائما في عملية سير نحو شيء أفضل، افترض هيجل ان كل التاريخ الانساني هو قصة منفردة لنمو وتطور الانسان. نتيجة ذلك كانت انجذاب مئات الطلبة في برلين الى محاضراته . وصف هيجل الحضارات الرومانية واليونانية والصينية والهندية بكثير من التفاصيل. لكن كل ذلك بهدف إثبات ان مسارها الانفرادي من التحسن قاد بالنهاية للحضارة الاوربية الحديثة. ان عصر التنوير، بالنسبة له، كان النقطة التي يمكن عندها للانسانية ان تفهم هذه القصة الممتدة لقرون وتتمتع بنضجها و "بوعيها الذاتي". التاريخ كان حقيقة، كما عبّر هو عن ذلك بالقول "ما هو عقلاني هو حقيقي وما هو حقيقي عقلاني".

في الحقيقة، هذه القصة للتفوق الحضاري الاوربي كانت ضيقة الافق. "التاريخ العالمي" لهيجل ترك افريقيا وامريكا كليا خارج الحساب. معرفته بهما كانت ضئيلة وموقفه كان عنصريا جدا. نظريته في العدالة الالهية تبدو كأنها تبرر العنف او إراقة الدماء في الماضي عبر الادّعاء ان ذلك كان ضروريا للتقدم. إشكالية هذه العناصر من تاريخ هيجل أخذت وقتا طويلا قبل ان يعترف بها الاوربيون. كان هناك نوع آخر من المشاكل أزعجت معاصريه. قصة التفاؤل الهيجلي للنمو والتطور الدائم شبّهت تطور الانسان بتطور الجسم، نمو يصل ذروته حين يتخذ شكله الناضج والنهائي. وهكذا بالنسبة لهيجل، "اوربا هي نهاية التاريخ المطلقة". كان هذا تعبير عن الإعجاب، لكن من السهل معرفة لماذا لم يتفق معه الكثيرون.

في تلك الاثناء، اتخذ شوبنهاور درسا من كانط مختلف كليا عن نظريته في المعرفة. بالنسبة له، حقيقة ان الفهم البشري يعتمد على المبادئ العقلية يعني ان هناك شيئا خادعا اساسيا حوله. العالم الواقعي (الذي سماه كانط ما لايمكن معرفته "الشيء في ذاته") بقي منفصلا عن الزمان والمكان.

يرى شوبنهاور، ان لاواقعية الزمن هي الأكثر أهمية لأنها استدعت للتساؤل فكرتنا الكلية للتاريخ وأي فلسفة اخرى له: هو كتب ان "الواقعي الحقيقي"، "مستقل عن الزمان ولذلك هو واحد وذات الشيء في كل وقت".

خطأ هيجل كان مفهوما لدى شوبنهاور لأنه كان خطأ طبيعيا تماما. ان هيكل الذهن حاول فرض ترتيب زمني على فهمنا للعالم. لكن، من العملي جدا التمييز بين محاولة فهم تجربتك اليومية وبين شيء آخر تماما تتخيل فيه انك اكتشفت قوانين التاريخ. ميتافيزيقا هيجل كانت حسب شوبنهاور رجعية تماما: الحقيقة لا توجد في التاريخ ابدا وانما هي خارجه.

وما هو أصعب لشوبنهاور، هو الجهد الضروري لفهم ان "الفلسفة الحقيقية للتاريخ تتكون من الرؤى التي، رغم كل التغيرات اللامتناهية وما يرافقها من فوضى واضطراب، لايزال دائما أمامنا فقط نفس الجوهر المماثل اللامتغير، يعمل بنفس الطريقة اليوم كما فعل أمس ودائما".

تشاؤمية شوبنهاور لا تتمثل في العقيدة بان الأشياء كانت تسير نحو الأسوا – والذي كان استنتاجا سخيفا مثل ايمان هيجل بالتقدم التاريخي. شوبنهاور ببساطة رفض فكرة ان الاشياء كانت دائما تتجه نحو الأفضل وان قدرها ان تكون هكذا. هو لم يعارض بأي حال من الاحوال الفوائد المادية للعلم الحديث. ما عارضه هو فكرة ان هذه الاشكال من التغيرات كانت تجسيدا لسيادتنا على الطبيعة او التاريخ،وان هذا المستقبل سيكون مختلفا جوهريا عن الماضي.

هو ايضا لم يعتقد ان الألم يمكن تبريره بمستقبل مجيد، اما للفرد او للانواع. ومع ان رؤاه الاجتماعية والسياسية كانت في عدة جوانب رجعية ومنحازة جنسيا، لكنه شجب معاناة العبيد ولم يتصور (كما فعل العديد من معاصريه) ان عنف الامبريالية يمكن تبريره بانتشار قيم التنوير.

بكلمة اخرى، هو رفض فكرة ان الكائن البشري "يصبح" جوهريا أي شيء نحو الأحسن او الأسوأ، نحن كما نحن فيه دائما.

لكن الموقف الشخصي لشوبنهاور تجاه الحياة كان انحرافا واضحا عن هيجل. كفاحنا المستمر للرضا، الذي عززه الوهم الزمني، كان لابد ان ينتهي بخيبة أمل. اذا كنا حقا نريد تقليل معاناة العالم، او معاناتنا، سنحتاج للاستقالة من الحياة. ذلك ليس بالانتحار(فعل أخر عقيم) وانما عبر الانسحاب و عدم الضوضاء. "الاعتزال"، كما يرى، "يشبه تركة الإرث، يحرر مالكه من كل الهموم والقلق".

بدلا من الأذى الذاتي، يعتقد شوبنهاور بنوع من "خسران الذات" ينتج عن تأمل الفن. المتعة الحقيقية للفن كما يرى، ليست في انه يصف شيء جميل وانما في نقلنا خارج حالتنا الذاتية من الكفاح الى حالة موضوعية من التأمل، تسمح لنا براحة مؤقتة من التعاسة اليومية وتعطينا لمحات عن الأبدي الذي لايمكن ان نعرفه حقا. العبقرية الفنية بالنسبة له كانت شخصا يمكن ان يغيب عن غروره ويترك العالم الأبدي يتحدث بنفسه من خلال يديه.

"الاستقالة" بالنسبة لشوبنهاور كانت تحرير من استبداد التفاؤل. تفاؤل هيجل يتطلب ان نرى حياتنا كمشروع فيه الانجاز والسعادة أهداف يمكن ان يسعى لها كل شخص بعقلانية، وهو حقا مؤهل لها. التشاؤم يحررنا من قصة التقدم الفردي هذه كونها تنكر القصة الكبرى للتقدم التاريخي. انها لا تضمن السعادة، وانما هي تريحنا من اللاسعادة التي يولّدها التفاؤل عرضاً.

مع نهاية القرن التاسع عشر بدأت قصة هيجل المحدودة لتاريخ العالم تبدو غير معقولة لمعاصريه. في القرن العشرين، حطمت الكوارث وأعمال الابادة تاريخ هيجل، بينما تشاؤمية شوبنهاور مع انها لم يتم قبولها بسهولة لكنها أصبحت نقطة البدء لفلسفات ركزت الانتباه على المعاناة ،مثل الوجودية والتحليلات السايكولوجية . نيتشة وهايدجر وفرويد وكامو جميعهم مدينون بشيء ما لشوبنهاور.

وكا تذكّرنا حرب اوكرانيا بعدم وجود سلام دائم، مهما بدا عقلانيا ومستقرا. نحن لا نحتاج لإحتضان تام لإستقالة شوبنهاور كي نتعلم دروس من تشاؤمه. ان العالم ليس لنا لنحكمه، وان المعاناة لايمكن إنهائها بالتفاؤل، وان التاريخ لم يُكتب لمصلحتنا. وبقدر ما تكون هذه الحقائق محبطة ، انها تحررنا من الآمال الزائفة والمرتكزات الذهنية وتسمح لنا لنرى العالم اكثر وضوحا. ذلك كل ما يمكن ان يتأمله شوبنهاور لو سمح لنفسه بالأمل .

***

حاتم حميد محسن

........................

Schopenhauer Vs Hegel: progress or pessimism? iai.tv, 15th march 2023

إن السّعداء بالدّنيا غداً هم الهاربون منها اليوم.

يبدو "مفهوم السّعادة" اليوم في حاجة لإعادة تعريف، وإعادة تقديمه للناس؛ بعد أن أصبح بسيطا حد التعقيد، فكلنا نود أن نكون سعداء؛ لكن حين يسألنا شخص سؤالا بسيطا "ما هي السعادة؟" لا نستطيع الإجابة؛ لأن المفاهيم اختلطت وتعقدت، ما بين السعادة والرضا والرفاهية، وتخفيف الألم، والنجاة من الموت، والبحث عن حياة كريمة، والسعي وراء الرزق ومكملات الحياة.

إنّه وللوهلة الأولى يخيل إلينا أننا حصرنا مفهوما للسعادة ومجالا لتحقيقها لكن سرعان ما تتسع الدائرة من جديد وتتبعثر الكلمات وتتشوش المشاعر والحواس فنعود إلى نقطة البداية متسائلين: ما السعادة؟ وكيف السبيل إلى تحققها ؟ تلك الكلمة الصغيرة الكبيرة ضرب من السهل الممتنع، على كل حال. لو اطلع الباحثون والقراء على حد سواء وقرؤوا ما صنفه الفلاسفة قديما وعبر العصور الإسلامية وحتى عصرنا الحالي، لوجدوا أن الجميع قد توغلوا في ماهية السعادة ؛ غير انهم لم يهتدوا إلى حقيقتها بعد.فسيظل مفهوم السعادة متغيرا نسبيا وحقيقتها غامضة تستحق التأمّل، عليه فإن السعادة لها مكامن عديدة في قلب كل إنسان، فهناك من يرى السعادة في حصوله على مبتغاه، ولكن إذا تحصل عليه ووصل إليه وسادت نفسه وتمكنت وشعر بالانتشاء.. فهل ذلك مطلق السعادة؟ هل السعادة لها حدود محصورة تقف عندها مجرد حصول الإنسان على مبتغاه؟.

هل السعادة أن تلتذ برغباتك وعند الانتشاء تسعى لطلبها مرة أخرى؟ إذا كأن الأمر كلما نقص المرغوب سعى في طلبه فهذا لايدل على أنك تعيش حياة السعادة، لأن الأمر إذا ظل بين عطاء وسلب فالحياة آلت إلى قلق وخوف وتردد.. قلق وخوف على نفاذ مصدر السعادة.. وعدم استقرار حتى الحصول عليها وإذا ما تم الأمر بدأ طريق المخاوف والهواجس ينتاب نفس ذلك الذي يرى في حصوله على سعادته السلب والقهر وسرقة سعادته.إذن مفهوم السعادة: إنها مصدر روحي لاينفذ ولايقلق عليه إذا كانت نفس الإنسان مليئة بالرضا والقناعة أن ما بعد الحصول النفاذ وما بعد الأخذ السلب وما بعد الحياة الموت.وقد عرضت في هذا الموضوع الكثير من الأبحاث والدراسات والآراء، كلها تتناول مفهوم السعادة لكنها تقف عند الوصول لفهم حقيقته.. فلا يشبع البحث فيه معنى بعينه يجعل الباحث يتنهد فرحا بوصوله حتى مستقر السعادة، فنراه يلخص ويحوصل ليخرج الزبد، وسرعان ما يتلاشى من بين يديه ذاك المفعول الذي يشعره انه وصل لمبتغاه حتى يبدأ في التقليب والتمحيص من جديد.والناس في هذا الشأن مختلفون حسب آرائهم و أنماط عيشهم وأفكارهم البسيطة.. فكل يرى السعادة من منظوره الخاص وواقعه المعاش، فهناك من يراها كمال الصحة وموفورها.. وهناك من يراها في حصوله على أمنيته وطموحه، وحينما تقلب دفتر أمانيه ستلقى أشياء صغيرة أمام مفهوم السعادة المفعم: بيت –سيارة- زوجة جميلة

وحينما تذكره بالمنغصات سيمتعض قليلا ثم سيعود ليكرر بيت سيارة زوجة جميلة..

أما الفلاسفة فذلك شان أخر، فكل تغنى بسعادته بما يراه من زاوته، فقد توغلوا في مفهوم السعادة حتى تاهوا في دوائرها وعادوا يتصورونها في تلك المتاهة غير المفهومة ولاتتحقق إلا إذا زاد الجد والسعي الحثيث خلف دوائرها المتقلبة.فذلك أفلاطون يرى أنه إذا لم تكن السعادة انسجاما في الأهداف ؛ومقاربة للنموذج المثالي فإنه لايمكن تقديم تفسير معقول لها ويرى أنه من العبث أن تكمن السعادة في حصولنا على كل شيء نريده، إذ يقول في كتاب السعادة "من الأفضل أن نبقى ساكنين قدر الإمكان في حالة من الهدوء، لانغضب ولانندم، لأننا لايمكن أن نعرف ما يكون في الحقيقة، خيرا أو شرا في هذه الأشياء وليس هناك شيء في الحياة الفانية يستحق الانشغال به بدرجة كبيرة ". بينما يرى أبيقور أن مكمن السعادة في تحقيق القدر الأكبر من اللذات وتجنب الآلام حتى وإن خالف ذلك شرائع المجتمع طالما يصالح الذات، أما علماء الدين والفقهاء فإنهم يرون السعادة تكمن في الرضا والتسليم كما عند بعض المتصوفة المعتدلين، فإن فيما تقدموا به من كتب ألفوها يرون أن الإنسان يبلغ أقصى درجات السعادة حينما يتخلى قلبه عن الدنيا، ويتحلى بالصبر والرضا والتسليم.إذن خلو الإنسان من الشهوات والرغبات والمستحبات وكل ما في الحياة من لذائذ هو طريق السعادة الحقيقي …أما المشغول بالدنيا فإنه يخرج منها كما لم يكن فيها.. فلا يملأ جوف الإنسان النهم سوى التراب.. فهو إن امتلك المال يريد المزيد، وإن تزوج واحدة يريد ثانية.. وإن رضي بواحدة يظل همه معلقا بكمالها ولايكون راضيا في كثير من جوانب حياته، فكلما أكمل ركنا.. انبرت أركانٌ أخرى تريد الإشباع ولا إشباع فكأن الإنسان في رحلة مغالبة لنفس لاتشبع من دنيا كلما وصلت وجدت سرابا لتتخلص إلى سراب آخر يزيدها عطشا إلى عطشها.

الأجدر بنا البحث عن حقيقة السعادة لا مفهومها، فالحقيقة مطلقة و المفهوم نسبي.

السّعادة لا تهبط عليك من السماء.. بل أنتَ من يزرعها في الأرض. إذا أسعدت نفسك أسعدت من حولك. فمَن كان ينتظر الحصول على كل شيء ليصبح سعيداً، لن يحصل على السعادة في أي شيء. الحياة باختصار شروق شمس وغروبها فما أجمل أن تجعل الشروق للبسمة والعمل والغروب للراحة والهدوء. كن قنوعاً بما عندك تكن سعيداً. إذا أفلت شمس يومك وحلّ الظلام، فلا تنسَى أن تشعل شمسك الداخلية. أفضل حالات السعادة هي ما تنسجم مع عقلك وقلبك وجوارحك. شيئان في حياتك لا ثالث لهما: إمّا أن تكون متفائلاً دوماً، وإمّا أن تكون متشائماً فالسعيد يرى الحاضر أفضل أيامه، والمتفائل يرى مستقبله أفضل من حاضره، وأما المتشائم فينظر إلى الماضي باعتباره أفضل الأيام، ولا يرى مستقبله إلّا قاتماً. ليست السعادة أن لا تمر بالآلام، وأن لا تواجه الصعاب، بل السعادة أن تحافظ على رباطة جأشك وهدوء أعصابك، وتفاؤل قلبك وأنت تواجه الصعاب والآلام. السعادة هي هدف البشرية الحقيقي. كن سعيداً وأنت في الطريق إلى السعادة، فالسعادة الحقيقية هي في المحاولة وليست في محطة الوصول. معظم البشر يستسهلون الشعور بالحزن والكآبة بدلاً من أخذ مخاطرة الشعور بالسعادة ونصيب الإنسان من السعادة يتوقف غالباً على رغبتهِ الصادقة في أن يكون سعيداً.. .. فالخلاصة أن حقيقة السعادة تكمن في الإجابة عن السؤال: كيف أرضي الآخر ونفسي في آن واحد؟ أما مفهومها فيمتد إلى سبل تحقيق الرضا.

في الأخير أقولها عاليا: اصنع سعادتك بنفسك ولا تنتظرها، بإدراكك لحقيقتها وفهمك الصحيح لجوهرها فلا أحد لديه الحق في استهلاك السعادة دون إنتاجها. السعادة كلها في أن يملك المرء نفسه، والشقاوة كلها في أن تملكه نفسه،فالرّاحة التي تجلب السعادة هي راحة القلب والنفس.. أما راحة الجسد فلا تؤدي إلا إلى الموت.

***

ليلى تبّاني - الجزائر

 

(تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي)... كاتب المقال

الفكر والمادة

إذا كان هناك خاصية ينفرد بها الفكر تراسندتاليا (متعاليا) على الواقع فهي أنه يتطور ويتغير أسرع من التغييرات ألحادثة في واقع الحياة المادية وعالم الاشياء من حولنا في الطبيعة، بمعنى الفكر يدرك الموجودات بالوصاية العقلية عليها بما يجعل من هذا الاخير(الواقع بموجوداته) تابعا للفكر الذي يتقدمه في نفس الوقت الذي لا يمكن القفز من فوق حقيقة أن الواقع المادي للاشياء هو مصدر إلهام الفكر وسابق عليه وليس العكس. فالفكر لا يصدر من فراغ أي بلا موضوع يدركه حسيا او خياليا سابقا عليه .

تبدو مفارقة متناقضة حين نقول الفكر يتقدم الواقع المادي في التقاطع مع/ والخروج على النظرة المادية ونسقط في تعبير مثالي حين نجد الافكار تجر الواقع وراءها على الدوام، في حين الحقيقة أن الواقع في موجوداته المستقلة أنطولوجيا هو محرك الفكر المحايث له ماديا جدليا السابق على الفكرالمنتج لاستثارة ادراكه العقلي،، والأفكار في الوقت الذي تدخل جدليا(تكامليا معرفيا) مع موجودات الاشياء فهي تسابقها من أجل تغييرها وتطويرها بعد معرفتها وإدراكها عقليا، وتتطور هي ذاتيا أيضا بعلاقتها الجدلية مع تلك الموجودات. العلاقة بين المادة والفكر تكامل معرفي لكليهما في التقدم والتطور.

والافكار التي تحاول تغيير الواقع جدليا متخارجا مع موجوداته تتطور هي الأخرى في جدليتها المتعالقة بها.فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل البايولوجي قبل الأفصاح عن وجوده المادي في عالم الاشياء بواسطة تعبير اللغة عنه كموجود في العالم الخارجي او موضوعا متخيلا. الموجود يسبق الفكر لكنه لا يلزم العقل ادراكه.

الموجودات في العالم الخارجي لا قدرة لها الإفصاح عن نفسها دونما الإدراك العقلي لها والتعبير الفكري لغويا عنها. وكذا نفس الحال مع المواضيع المصنّعة خياليا. فنحن نفهم الصمت تفكيرا إستبطانيا داخليا ذاتيا ولا نفهمه تعبيرا لغويا تواصليا صوت ومعنى دلالي. صمت اللغة في ضروب الفنون والادب تواصل إيحائي تكون فيه لغة التعبير في حالة كمون بمعزل عن خاصية ملازمة الصوت للغة.

وهذا يختلف عن صمت الانسان وإمتناعه التعبير عن تفكيره باللغة المكتوبة أو بالكلام في حال ادراكه ان لا فائدة من التعبير اللغوي . وتاكيد ذلك في تعبير لوفيدج فينجشتاين قوله حين نعجز التعبير بوضوح يكون الصمت أجدى.

ليس الواقع الوجودي للاشياء هو الإنعكاس الميكانيكي في تعبير الفكر واللغة عنه، وأنما الموجود بعد إدراكه حسّيا وعقليا يتم تخليقه ثانية بالعقل بما يطلق عليه كانط مقولات العقل. والاشياء التي يعمل العقل على تطويرها ينعكس هذا التطور الواقعي على الافكارالتعبيرية عنها فتتطور هي ايضا. بمعنى أن الواقع الذي يتطور بفاعلية الفكر يقوم هو الآخر بتطوير (ذاته) واقعيا ماديا ليبقى الفكر يتقدم الواقع في تخليقه له على الدوام ولا يتقدم عليه في أسبقية وجوده على الفكر..

العقل والفكر

الفكرالمادي أو الفكر المثالي المعبّر عنهما باللغة في علاقتهما بالوجود لا يتم تفريقه النوعي بينهما في تعبير الفكرعنهما باللغة المجردة، فالوجود المادي المستقل لا تحدد ماديته اللغة كونه ماديا أو مثاليا أو أي شيء آخر كموضوع خيالي مستمد من الذاكرة بمقايسته باللغة كنظام دلالي يعطي معاني الاشياء في ملازمته مطابقة التعبيرعنها.

إن الانسان كائن مفكر، والحقيقة أن الذي يغّير مسار الانسانية أنما هو الفكر حسب تعبيربوشنسكي. واضح أن التاكيد هنا على فاعلية الفكر كمضمون عقلي تخليقي هو الذي يقوم بتغيير العالم وليس اللغة كشكل تأطيري تعبيري لمضمون التفكير العقلي،، الفكر هو الذي يقوم بتجديد الوجود المادي أو المثالي كماهية وجوهر. وتبقى حقيقة الفكر التغييري للحياة مرهونا بارادة الانسان.

فالفكر مضمون عقلي واللغة تأطير شكلي له. والفكر نظرية والموجودات وقائع تحملها الصدف الإدراكية بها أوالوعي القصدي لمعرفتها. كثيرة هي الاخطاء ان وعي الشيء قصديا يعني حتمية تغييره. والصحيح ان الارادة الانسانية وليس وعي الواقع الذي لا يمتلك ارادة ذاتية هي الفيصل في تحقيق الوعي القصدي المطلوب تحقيق هدفه.

أما الذي يمنح الوجود المادي حقيقته كموجود، ويعطي الموجود الخيالي متعيّنه كموضوع في الذهنية الفكرية، في تمييز العقل بينهما إنما هو الفكر الناتج عن مصنع الحيوية العقلية والتخليق في إدراك الوجود وإضفاء ماهيته وصفاته عليه قبل إعادته بالفكر المعبّر عنه لعالم وجود الاشياء ثانية..

الفكر لايخلق الموجودات من فراغ بل هو يقوم بمعرفتها وأدراكها وعيا عقليا كمواضيع مادية أو خيالية بغية إعادة تأثير العقل بها ومعالجتها في وجودها المادي المستقل بعالم الاشياء. ومن دون الإدراك العقلي للأشياء لا قيمة موجودية تمتلكها الاشياء في وجودها المستقل لا في التاثير بغيرها ولا في التاثير بها..

كيف يتغير الموجود؟

الوجود المادي للاشياء لا يتغير تلقائيا ذاتيا ديالكتيكيا بقانون وحدة وصراع الأضداد داخل المادة أو داخل الظاهرة الواحدة من دون توفر العوامل الموضوعية الخارجية والظرفية التي تقوم بتحريك وتفعيل التضاد الداخلي الذاتي، في تخليق العقل له على مستوى المادة بما يتوجب أن يكون عليه الوجود من تغيير مستمر.

تخليق التفكير العقلاني هو الذي يعطي الموجودات والاشياء في العالم الخارجي الحركة والتطور وتبقى اللغة تعبّرعن الوجود في صيرورته المستمرة في ملازمتها الفكروالوجود معا.

هنا يكون تخليق العقل للوجود يحضر كعوامل موضوعية خارجية محكومة بظرفية تعمل على تسريع التناقضات الجدلية داخل الظاهرة المادية كي ينبثق عنها ظاهرة مستحدثة جديدة أكثر تطوريا من الاولى وهكذا..

أما حضور العوامل الموضوعية الخارجية كجدل ديالكتيكي على مستوى تثوير التضاد والتناقض على مستوى تفاوت مستوى معيشة الطبقات الاجتماعية بين الذي يملك والذي لا يملك فهو يكون بوسيلتين الاولى مصالح الطبقة الفقيرة المحرومة كوسيلة وأداة تغيير والثانية هو النظرية التي تستهدي بها الطبقات المقهورة في تسريع النضال الذاتي لديها من أجل نيل مصالحها المشروعة المغتصبة وإستحصال حقوقها المصادرة منها كفائض ناتج قيمة عملها.

الوجود لا يتغير بالفكر النظري فقط .....

ولايتم تفريق الفكرالمادي أو المثالي بمقايسته بالوجود الطبيعي المستقل للاشياء وتفسيرها وفهمها لأن الوجود غير المدرك عقليا في إستقلاليته في عالم الاشياء،هو غيره الوجود الذي تم تخليقه وتصنيعه في تناول العقل له أول مرة قبل إعادته ثانية بتخليق فكري وفهم جديد الى واقع الاشياء. وليس باللغة المعبرّة عن الوجود فقط ينفرزعنها تباين الفكر المادي عن الفكر المثالي إلا بعد الإدراك العقلي لموضوع التفكير أولا ، وفي تعبير اللغة عنه ثانيا.

فالفكر يكتسب هويته وماهيته بعلاقته بالوجود المادي المتبادل المتخارج معه، وليس باللغة التي تعّبر عن الوجود في ملازمة الفكر التجريدي لها. فالفكر يكسب الوجود ماهيته، ويكتسب هو أي الفكر بالوجود هويته وصفاته ماديا أو مثاليا.

والفكر واللغة في تلازمهما معا لا يستطيعان خلق وجود شيء وإعطائه صفاته وعلّة وجوده في علاقة تعبيرهما عنه كوجود مجرّد في الذهن فقط، وإنما الوجود يكتسب صفاته وماهيته في تعالقه مع الإدراك العقلي له، قبل الفكر المعبّر عنه في تعالقه مع اللغة.

وجود الاشياء في نوع علاقتها مع التفكير العقلي لها، تسبق الفكر واللغة المعبّرة عنها لاحقا. فالعقل يستبق الفكر واللغة في تلازمهما وإدراكهما للوجود الخارجي ، وهذا يخالف مثاليو فلاسفة نظرية المعرفة في تزمتّهم الخاطيء القول (أن فعل المعرفة لا يقوم في عملية إدراك الموضوع،بل في فعل خلق الموضوع، وأن الوجود لا يوجد في ذاته، إنما الفكر هو الذي ينشؤه).

ببساطة متناهية الفكر لا ينشيء وجودا من فراغ مادي وجودي سابق عليه، بل من موجود أو موضوع مدرك له سابق عليه، لكنه (الفكر) يضطلع بمهمة تغيير وتبديل الاشياء والموجودات كمواضيع يدركها العقل ويعمل على تخليقها في جدلية من الصيرورة الدائمة غير المنتهية بين الموجودات ولغة الفكر المعبّر عنها.

فهل يسبق الفكر أو اللغة أحدهما تراتيبيا في تعبيرهما عن الوظيفة الإدراكية التخليقية العقلية التناوبية للموضوع،؟ وفي تعبيرهما عن وجود المادي في أختلافه عن التفسير المثالي على مستوى إفصاح اللغة في علاقتها بالاثنين كوجودين غير مختلفين المادي والمثالي؟

إننا في هذه الحالة نفهم أن الفكر المادي في تمايزه عن المثالي هو في أسبقية الفكر على اللغة على صعيد الإدراك الوجودي للاشياء في الواقع عقليا (صمتا) تفكيريا تخليقيا من دون الإفصاح عنه باللغة تعبيريا.

بمعنى أن تخليق وإعادة إنتاجية الشيء المفكر به (جوّانيا) من قبل العقل الذي نقلته له الحواس كموضوع لتفكير العقل به، يكون حضور الفكر سابق على عطالة اللغة في فعالية التفكيربالموضوع عقليا صامتا، وتنقلب المعادلة في الأسبقية حين يتم توظيف العقل اللغة التعبير عن الشيء في وجوده الخارجي وبإدراكه المتعيّن الجديد. فاللغة هنا تسبق الفكر.فإدراك الشيء في العالم الخارجي يكون في أسبقية اللغة التي تكون هي الفكر في ذات الوقت ونفس المهمة في تعيين وجود الشيء المدرك حسيا أو حدسيا. وهذا يجنبنا الحذر الشديد ان التفكير لغة سواء اكانت منطوقة ام كانت صامتة.

وإن بدت (اللغة والفكر) كليهما متلازمتان لا يمكن التفريق بين الفكرة واللغة المعبّرة عنها إدراكا أو حدسا، كما من المتّعذّر إعطاء أسبقية لاحداهما على الاخرى في التعبير المختلف عن الوجود ماديا أم مثاليا بشكل مفارق في تمييز أحدهما عن الآخر. فاللغة قرينة الفكرفي عدم إمكانية التفريق بينهما في تعبيرهما عن الاشياء الموجودة في العالم الخارجي.

والفكر يتعالق مع اللغة في فهم الاشياء وإدراكها.واللغة لا وجود حقيقي لها في مفارقتها التعبير عن الفكر وكذا لا أهمية للفكر في الوجود خارج العقل في تعبير اللغة المتعذّرعنه. فاللغة لا تعبّرعن موجودات خالية من المعنى المضموني الفكري المدرك عقليا بل وفي هذا تفقد اللغة أسمى خاصّية لها أنها وسيلة العقل في التعبير عن الموجودات والاشياء في العالم الخارجي.

عليه يكون التمييز بين الفكر المادي عن الفكر المثالي لا يتم بمنطق تعبير اللغة المجردة أو المفصحة عنهما كموضوعين مختلفين في التعبير اللغوي فقط، كما فعل هيجل بخلاف ماركس في إعتبار هيجل الجدل أو الديالكتيك المثالي يتم بالفكرالمجرد وحده وليس في تعالقه المتخارج مع الواقع أو الوجود الحقيقي المادي للاشياء.

إن العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكرالمتعالق معه أن يكون ماديا أم مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي أو المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة.

في عالم صنع الانسان لحياته في كل مناحيها بعلاقته بظواهرالطبيعة ومواضيعها، بمعنى أن وجود عالم الاشياء سابق على أدراك الانسان لها انطولوجيا، وتنظيم الانسان لوجود عالم الاشياء هو الحافز الاساس لأدراكه تلك الموجودات، والعامل الأهم أنه ينظم مدركاته للاشياء التي هي بالنتيجة تنظيم حياته ووجوده، والفكر الانساني لا يعمل في فراغ وجودي مادي أوفي فراغ غير موضوعي متخيّل من الذاكرة ولا في تجريد ذهني يلغي مؤثرات علمية ومعرفية عديدة في فهم وبناء الحياة الانسانية...

فالفكر نتاج عقلي لا يعمل بغياب موضوع تفكيره، بل والفكرقوة مادية يكتسب ماديته من الجدل المتخارج مع موضوعه.. والفكر من غير موضوع مدرك له غير موجود في نظام العقل في وعيه الاشياء، أي لا يعي أدراك ومعرفة الموجودات،لأن غياب موضوع الادراك يعني غياب وجوده المادي أو المتخيّل الذي يعطي الافكار نظامها الادراكي المقبول المتسق بين موضوع الادراك ومدرك الانسان العقلي له ..

الحقيقة الثانية في إشتراط توفرها في الفكر لكي يكون فاعلا منتجا، أنه لا وجود لشيء بظواهر صفاتية بائنة وماهية أي متعيّن في شكل ومحتوى مادي يدركه الانسان في الطبيعة وعالم الاشياء لا يتمتع بنوع من القوانين التي تحكم علاقته الذاتية الخاصة به كجوهر وصفات، مع العلاقة الإدراكية بالانسان كفعالية فكرية تنظم وجود الاشياء وتعمل التعريف بها وإكسابها تخليقا وجوديا مستحدثا، وأن ما يخلعه الفكرالانساني من معارف في تعديله تلك القوانين في عالم الاشياء أنما هي قوانين أدراكية فكرية لم تكن موجودة قبل ملازمة الاشياء للفكرالانساني لها الذي يريد فهمها وتفسيرها وتنظيمها،..

وليست قابلية الفكر الانساني إنشاء قوانين تخليقية بغية إيجاده كائنا أو شيئا آخرجديدا لم يكن موجودا بالفكر كما يرّوج له فلاسفة المثالية...الفكر لا ينتج عوالم الاشياء ماديا في وجودها الطبيعي من لا شيء متعيّن يسبق وجوده تفكيرالانسان المنظّم به....وعالم الاشياء والموجودات في الطبيعة هو عالم مادي رغم أن وسيلة تخليقه وبنائه المعرفي تقوم بالفكر واللغة التعبيرية المجردة التي تعتبربمثابة المنهج والدليل الذي يقود الانسان الإهتداء به كنظريات وقوانين في تغيير عوالم الاشياء وفي مدركات الطبيعة معا.. من المهم التفريق ان تخليق الانسان لقوانين ادراكية معرفية مصدرها الطبيعة وبين القوانين الفيزيائية التي تحكم ثبات تلك القوانين ولا قدرة للانسان التدخل فيها.

إن نظام العالم الطبيعي الخام ونظام العالم الانساني المخترع المصنوع كيفيا متمايزا ومبتكرا في قوانينه في تلازمهما معا عرف بهما الانسان كيف ينظّم أفكار إدراكاته ويتكيف ايجابيا مع الطبيعة بما يفيده منها في عالم تفاعله الإدراكي مع عوالم الاشياء من حوله، كما أن الانسان في تخليقه لعالمه الانساني المتطور علميا ومعرفيا وعلى مختلف الصعد والنواحي وفي كافة المجالات لم يستمد تقدمه الا بمفارقته (وهم) فرضية أن قوانين الفكر التي يبتكرها ويخترعها الانسان تسعى في حقيقتها المطابقة مع قوانين الاشياء بما يقعد تطور وتبديل وجود الاشياء المحكومة بقوانين ذاتية وموضوعية ثابتة قبل محاولة الانسان تغييرها من جهة ، كما أن مطابقة الافكار لموجودات الاشياء والقوانين التي تحكمها ليس رغبة الإكتفاء بمعرفتها دون إرادة تغييرها وتبديلها،وبغير ذلك يجعل من الفكر مثاليا إبتذاليا ساكنا في علاقته بواقع الاشياء في وجودها المادي الساكن أيضا في الطبيعة، وبذلك لا يتم تبديل الواقع بالفكر، ولا تطوير الفكر بعلاقته الجدلية بتغيرات وتحولات الواقع....

الفكر الذي يعمل على تطوير واقع الاشياء إنما هو الآخر يتطور في مجاراته تطورات الواقع ومجاوزته لتلك التطورات في تعاليه عليها بإستمرار... وفي الفرضية الخاطئة التي تقود الى نتيجة خطأ أيضا هي في إعتبار عملية إدراك الانسان الاشياء هو في سعيه مطابقة قوانينه المستحدثة مع قوانين الاشياء في وجودها قبل إدراكها وهو إفتراض وهمي غير حقيقي ولا يمكن الانسان فهم وتنظيم عوالمه الحياتية بهذا التنميط من التفكيرالسلبي مع إدراكاته لعوالم الاشياء في وجودها الطبيعي.. بل أن تدخل الاشياء المدركة مع الفكر في جدل ثنائي متبادل يكسبهما كلاهما التغيير والتطور وبغير هذا الفهم معناه نفي أن يكون هناك فائدة من وعي الانسان لموجودات الطبيعة وإستحداث رؤيته وقوانينه لها..ألنتيجة التي يحرزها الفكر بالنهاية من هذه العملية هو أن تكون قوانين الفكر هي قوانين الاشياء في الواقع... بمعنى أصبح ما نمتلكه عن الاشياء من أفكار نتيجة مدركاتنا لها هو وحده الذي يعطي وجودها الحضوري الواقعي في حياتنا...

***

علي محمد اليوسف /الموصل

ما هو التهديد الرئيسي للبقاء المستمر للإنسانية ؟ وماهي الكوارث الكامنة أمامنا؟ هذه قد تبدو اسئلة حديثة من جانب مفكرين معاصرين حول المخاطر الوجودية المتنامية. لكن قبل آلاف السنين، كان فلاسفة اليونان القدماء والرومان يطرحون سلفا ويناقشون مثل هذه الأسئلة. وبينما كانت لدى هؤلاء المفكرين مختلف الطرق للنظر للعالم ومكانهم فيه، لكنهم جميعهم اتفقوا بأن شكلا ما من الكوارث المروعة تنتظر الانسان في يوم ما في المستقبل.

لماذا هذا الإهتمام بنهاية العالم؟ أحد الأسباب الرئيسية هو ان الفلاسفة القدماء أدركوا ان نهاية العالم هي شيء "جيد التفكير فيه". قصص نهاية العالم تسمح بنوع من السفر عبر الزمن. هم قدموا رؤية للمستقبل وايضا سمحوا لنا ان نهيء أنفسنا ونستعد حين نشهد الكارثة القادمة. القصص التي تُحكى حول نهاية العالم تكشف الكثير عن رؤيتنا الحالية للعالم وكيف ان الماضي والحاضر صاغا مسارنا الحالي. خلافا للتقليد الإنجيلي، الذي يرى نهاية العالم كيوم من غضب الله يتقرر فيه منْ ينجو ويُحكم على المتبقين، رأى فلاسفة اليونان والرومان القدماء نهاية العالم كعملية طبيعية كانت جزءا من وظيفة منتظمة للكون. هم أكّدوا باستمرار ان تطور الانسان محدود، وان الانسانية وكوارث العالم مترابطان بإحكام. الطبيعة فرضت حدودا ثابتة لا تنفصم على نمو الانسان والتنمية. هذه الرسائل هي أكثر إلحاحا اليوم.

في العالم القديم،كما اليوم، كانت هناك عدة سيناريوهات مختلفة لكيفية نهاية العالم، وهذه كانت تتم على شكل حوار نقدي مع الاخرين وايضا مع القصص المبكرة حول التدمير بالنار والماء. في القرن السادس قبل الميلاد، ذكر أناكسيماندر ان كل ماء الارض سيتبخر في النهاية تاركا عالما قاحلا وارض جرداء دون حياة. بالمقابل، الفيلسوف اللاحق له اكسيونوفان جادل بان العالم سوف يتحطم بالماء. (هو عرض دليلا بان هناك كان سلفا طوفان عظيم، ملاحظا ان أصدافا وُجدت على ارض بعيدة عن الماء). في فلسفة افلاطون منذ منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، نجد اولى المحاولات لرؤية سيناريوهات متعددة لنهاية العالم: نار، طوفان، زلازل وأمراض. في حوار طيماوس هو يكتب: "كانت هناك وستكون عدة أشكال تدميرية مختلفة للانسان". وبدلا من فهم التاريخ متجها نحو غاية محددة، يرى افلاطون ان تطور الانسان يتقرر دائما عبر مختلف الأشكال الكارثية لنهاية العالم،وهذه التوضيحات انطوت عليها بعض آرائه الفلسفية المثيرة للاهتمام. في حوار طيماوس وكريتوس، استعمل افلاطون هذه النظرية لينقل القصة، وهي ربما من اختراعه، عن تدمير جزر الاطلس . هو ايضا يتبنى شيئا من الموقف المبكر للتحقيقات الأدبية في الكوارث عندما تصف التغيرات التي حدثت للبيئة الطبيعية حول اثينا كنتيجة لهذه الكوارث الدورية. في حواره النهائي، (القوانين)، يتصور افلاطون كيف ان هذه الكوارث المتكررة تحدد الشكل الذي تتطور به الحياة السياسية.

تلميذ افلاطون ارسطو كان حالة مثيرة للجدل. مثل معلمه، ارسطو يشير الى ان التطور الانساني هو دائري. الناس باستمرار يكتشفون، يطورون، يخسرون ومن ثم يعيدوا اكتشاف نفس الافكار والتكنلوجيات. في أعماله المتوفرة، ارسطو لا يوضح ما الذي يسبب هذه الدورات. الكتّاب اللاحقون يقدمون دليلا بانه ، في حواراته المفقودة حاليا، يتّبع ارسطو نظرية افلاطون بكوارث العالم الدورية لكنه لاحقا ربما هو رفض هذا.

قيل ان اليونانيين القدماء تخيلوا الزمن كدائري. رؤية افلاطون وارسطو للتطور المتكرر للمجتمع تبدو تعكس تلك الفكرة، على الاقل من منظور الانسان: العالم لا يتحطم ابدا، وانه يستمر الى مالانهاية. لكن الدائرية ليست دائما افضل طريقة لتعريف الفكر الفلسفي القديم. ديموقريطس وابيقور مثلا،نظرا لنهاية العالم بمعنى تام. بينما هما كلاهما جادلا بان هناك عدة عوالم بُنيت من الذرات، وان كل العوالم تتجه نحو نهاية محددة، لكنهما عرضا طرقا مختلفة للدمار. ديموقريطس، الشاب المعاصر لسقراط، قيل انه ادّعى ان العوالم تتحطم عندما يرتطم احد العوالم بآخر. هذا السيناريو تنبأ بالمخاوف المعاصرة بأخطار اصطدام كويكب. ابيقور، الذي أسس حديقته الفلسفية في اثينا حوالي 307 قبل الميلاد، جادل بان كل عالم يموت عندما يتبدد بالنهاية الى فراغ. مرة اخرى، لكي ننظر للاشياء في ضوء المخاطر الحديثة، هذه الفكرة لها صدى يتردد مع خسارة طبقة الاتموسفير الواقية للارض. الرواقيون الذين هم اكبر المنافسين للابيقوريين اثناء الفترة الهيلنستية والرومانية، قبلوا برؤية للزمن الدائري والعود الأبدي. هم اعترفوا بالتحطيم الدوري وإعادة مولد العالم بواسطة النار، التي أسموها (ekpyrosis). (بعض الرواقيين رفضوا هذه النظرية).

التقاليد الفلسفية اليونانية والرومانية القديمة تقف وراء العديد من الرؤى المعاصرة للمستقبل. السيناريوهات الحديثة الشائعة التي ترى الانسانية تحاول إعادة البناء بعد تحطم العالم، مثل رواية كورماك مكارثي (الطريق،2006) او السلسلة التلفزيونية (الميت السائر،2010-2022)، تدينان لنظريات افلاطون اكثر منه الى الرؤى الانجيلية. افلاطون يظن بان هناك طرقا تركها الناجون بعد الكوارث العالمية. في (القوانين)، يعطي افلاطون وصفا للكيفية التي تمكّن بها الناجون من الدمار لإعادة بناء بطيء للمجتمع: مقابل الرؤى الحديثة في الندرة والصراع، هو يؤكد ان "الانقسام المجتمعي والحرب" ستنتهي وان الناس سيتصرفون بلطف ويميلون جيدا نحو بعضهم"(678e). نفس الشيء، يبدو ان الرؤى المعاصرة للكوارث التي ترتكز على الحظ بدلا من خطة الآلهة تمثل فكرة حديثة، كما جادل بعض العلماء مؤخرا. لكن حتى هذا السيناريو له سبق هام في الفلسفة القديمة.

الابيقوريون لم يكونوا ملحدين، لكنهم اعتقدوا ان الآلهة لم تلعب دورا في تنظيم العالم. الخلق وتدمير العالم تُرك لحركة الذرات العشوائية في الفراغ. في هذا النظام، نهاية العالم يمكن ان تكون حدثا مفاجئا . في سنة 50 قبل الميلاد يكتب الروماني الابيقوري لوكريتوس موضحا هذه المسألة في قصيدته (حول طبيعة الكون):

"ربما حتى الحدث ذاته سيعطي مصداقية لكلماتي، وحالا انت سوف ترى كل شيء يهتز بقوة الزلازل. انا آمل ان العقل بدلا من الحدث سيقنعك بان كل شيء سيُسحق ويتحطم باصطدام مرعب".

لكن التأمل الفلسفي القديم بنهاية العالم لم يكن مهتما فقط بهذه الأسئلة الكونية الكبيرة . التفكير حول نهاية العالم يمكن ايضا ان يتجسد في المزيد من الأغراض العملية اليومية. هذا يتضح خصيصا مع الرواقيين الرومان والفلاسفة الابيقوريين الذين ربطوا و بإحكام بين الفيزياء (دراسة طبيعة الكون) والأخلاق وكيف تعيش حياة جيدة. لوكريتوس يستعمل دائما نهاية العالم للتخفيف من رعب الموت. الفيلسوف الرواقي سينيكا يناقش كيف ان تصور نهاية العالم يمكن ان يقدم العزاء بعد موت حبيب او يخفف الشعور بالوحدة.

من بين الأهداف الرئيسية للفلسفة الرواقية هي ان تكون قادرا على مواجهة كل حدث وتحدّي بمرونة واتزان، بما في ذلك نهاية العالم. حتى الامبراطور الروماني ماركوس ايرليوس (121-180م) كتب عن نهاية العالم كجزء من ممارسته اليومية للفلسفة: "كل شيء في الوجود سوف يتغير بسرعة : اما يتحول الى بخار،اذا كانت طبيعة الكون واحدة، او انه سيتناثر". رغم ان ماركوس ارليوس يُنظر اليه بالاساس كفيلسوف رواقي، لكن عندما نأتي لرؤيته لنهاية العالم، هو ليس دوغمائيا. هو يتسلى بسيناريوهات رواقية وابيقورية. اما سيحترق العالم ويتبخر في تحطيم دوري للكون، او ان ذراته ستتناثر في الفراغ. ما يُعرض هنا ليس فقط قبول الامبراطور للأنظمة الفلسفية الاخرى وانما ايضا بحقيقة ان التفكير والكتابة حول نهاية العالم هي جزء من "تمريناته الروحية"، انشغاله اليومي بالفلسفة يساعده ليعيش حياة هادئة. هناك دليل سايكولوجي حديث يدعم هذه الرؤية القديمة. رؤية نهاية العالم ربما هي شيء جيد كونها تساعد في تطوير اتزان سايكولوجي.

اليوم، نرى التهديدات المستمرة والمتنامية بكوارث عالمية تبدو ساحقة وغير قابلة للفهم. انها تثير الخوف والشعور باليأس و العذاب. التقاليد الفلسفية القديمة حول نهاية العالم لا تقدم حلا سحريا لقلقنا الحالي حول المستقبل. اولئك الفلاسفة لم يكن لزاما عليهم حساب المخاطر الوجودية ذات المنشأ البشري التي نواجهها اليوم، ولم يوجد اتجاه لفلسفة رومانية ويونانية سعى لمنع نهاية العالم. مع ذلك، هذه التقاليد قد تقدم طريقة لإعادة تموضع أنفسنا سايكولوجيا بشأن الكوارث المستقبلية والمخاطر الوجودية. نحن يمكننا اتباع نصيحتهم ونقبل بنهاية العالم باتزان، او يمكننا ان نبني على رؤاهم ونتحرك للمهمات القادمة في تحديد، مستقبل حتى وان لم يكن خال من الكوارث، فعلى الأقل اكثر قدرة ومرونة في استيعاب وامتصاص الصدمات الكارثية.

***

حاتم حميد محسن

 

قواعدُ البناءِ الاجتماعي تمتاز بِقُدرتها على تجاوزِ ذاتها، وتوليدِ الظواهر الثقافية في عَالَمٍ شديدِ التعقيد ودائمِ التَّغَيُّر. وكُلَّما تَجَدَّدَتْ هذه القُدرةُ في صَيرورةِ التاريخ، وشُروطِ التَّنَوُّع الإنساني، تَجَذَّرَ الفِعْلُ الاجتماعي كحالةَ خَلاصٍ وَوَعْيٍ بالذات، يُعاد تشكيلُه ضِمْن الأنساقِ العقلانية، لِيُصبح بحثًا عن الذات، يُعاد تَكوينُه ضِمْن التَّحَوُّلات المعرفية، لِيُصبح صُنْعًا للذات. وهذا المسارُ الوجودي: الوَعْي بالذات، البحث عن الذات، صُنْع الذات، هو الذي يُحدِّد طبيعةَ العلاقات الاجتماعية كَقِيَم حياتية ومعايير أخلاقية، تُنَقِّي المُجتمعَ مِن التناقض بين الهُوِيَّات الثقافية، وتُطهِّر رمزيةَ اللغة مِن التعارُض بين الأحلام المكبوتة. وإذا استطاعَ المُجتمعُ تَجَاوُزَ الوَهْمِ المُتمركز حَوْلَ التاريخ، فإنَّ ضغط الأحداث اليومية على العقل المُنْغَلِق سَيَزُول، وبالتالي يُصبح العقلُ مُنْفَتِحًا على أشكال التأويل اللغوي للظواهر الثقافية، وإذا استطاعت اللغةُ تَجَاوُزَ الفِكْرِ المُتمركز حَوْلَ الذات، فإنَّ قُيود المادية الاستهلاكية على الوَعْي الزائف سَتَنكسر، وبالتالي يُصبح الوَعْيُ مُتَحَرِّرًا مِن سُلطة الأحداث التاريخية الخاضعة للأدلجة السياسية.

2

البُنى الوظيفية في المُجتمع لا تُحدِّد كيفيةَ تفكير الأفراد فَحَسْب، بَلْ أيضًا تُحدِّد ماهيَّةَ العلاقة المصيرية بَين الفِعْل الاجتماعي القادر على ترسيخ مصادر المعرفة، وبَين المفعول التاريخي القادر على صناعة التعددية الثقافية. وهذا يَعْني أن التاريخ يتوالد ويتكاثر، ويتَّخذ أشكالًا ثقافيةً مُتَعَدِّدة، تتلاءم معَ شخصية الفرد الإنسانية، وهُويته الإبداعية، اللتَيْن تَهْدِفَان إلى تأسيس منظومة اندماجية واعية، تَشتمل على تحليل عميق لمفهوم الزمن في السِّيَاقات الحضارية للفرد والجماعة، وتَحتوي على تفسير دقيق لِجَوهر الثورة اللغوية في قواعد البناء الاجتماعي،مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحريرِ المُجتمع مِن الوَعْي الزائف،وتحريرِ الطبيعة مِن السِّيَاسة المُغْرِضَة. وهذه العمليةُ المُزْدَوَجَةُ تَكشِف كيفيةَ سَيطرة المُسَلَّمَات الافتراضية على المُجتمع للتَّحَكُّم بأنساقه الحياتية، كَمَا تَكشِف كيفيةَ سَيطرة الآلات الميكانيكية على الطبيعة لاستنزاف مواردها، وبذلك يُصبح المُجتمعُ والطبيعةُ ضَحِيَّتَيْن لأحلامِ الفرد المُستحيلة، وطَمَعِه في الخُلود، ونزعته الاستهلاكية القاسية، وسُلطته المُتَوَحِّشَة القائمة على غُرور القُوَّة وحُبِّ الامتلاك والسَّيطرة.

3

الأفكارُ المركزية النابعة مِن الوَعْي الحقيقي لا الزائف، تُمثِّل الأساسَ الثقافي للفِعْل الاجتماعي، وتُجسِّد معالمَ النقد الذاتي، وتَفتح آفاقًا لُغَويةً لتأويل شخصية الفرد الإنسانية، وإيجادِ أجوبة منطقية عن أسئلة التاريخ المُعقَّدة. وهذا يَقُود إلى تفعيلِ الحقائق الشُّعورية في تفاصيل الأحداث اليومية، وتكريسِ الأحلام الوجودية في شُروط التَّنَوُّع الإنساني. وإذا استطاعَ الفردُ حمايةَ إنسانيته مِن استثمارِ التَّوَحُّش واحتكارِ الخَلاص واستنزاف الطبيعة، فإنَّه سَيُعيد بناءَ حياته بشكل منهجي لا عبثي، وبصورة إبداعية، ولَيْسَتْ مُجرَّد تحصيل حاصل. وهذا يَدفع الفردَ إلى اكتشافِ حقول معرفية جديدة في أعماق كِيَانه الإنساني، وتحريرِ صَيرورة التاريخ مِن ثُنائية (المَأساة / المَهزلة)، وتخليصِ الذاكرة المُجتمعية مِن التجارب الشخصية المُؤلِمة التي يُراد تعميمُها لِتُصبح هي القاعدةَ لا الاستثناء. وإذا نَجَحَ الفردُ في التعامل مع سُلطة اللغة كمصدرٍ للمعرفة ومَنبعٍ للقُوَّة، فإنَّه سَيُصبح قادرًا على تحليلِ ماهيَّة العلاقات السُّلطوية في الظواهر الثقافية، وتفسيرِ جَوهر المعايير الأخلاقية في البيئة المُعاشة.وإذا وَصَلَ الفردُ إلى الأساس الفلسفي للعناصر المُحيطة به، وَصَلَ إلى حقيقة ذاته، وبدأ عمليةَ البحث في ذاته عن الأحلامِ المكبوتة، والأفكارِ المَقموعة، والذكرياتِ السجينة، وتعاملَ معها كَبُنى وظيفية في ضَوء آلِيَّاتِ التأويل اللغوي، وأدواتِ السُّلطة الاجتماعية، وإستراتيجياتِ الوَعْي الحقيقي، بِوَصْفِه تاريخًا للتحرير داخلَ تاريخ الهَيمنة، وهُوِيَّةً للتَّعبير داخلَ هُوِيَّة الكَبْت، وخِطَابًا لليقين داخلَ خِطَاب الشَّك.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يعنى علم الانثروبولوجيا بدراسة كل ما له علاقة بطبيعة المجتمع البشري، هو من حيث الاصل مصطلح يوناني لكلمة من مقطعين علم وانسان فهو علم الانسان.. وهو علم قديم حديث.. قديم من حيث انصاف المعاصرين المشتغلين في هذا المجال لجهود الاقدمين فقد اطلق لقب "ابو الانثروبولوجيا" على هيرودوتس "ابو التاريخ" واطلق لقب "هيرودوتس العرب" على ابي الحسن المسعودي صاحب كتاب مروج الذهب، وذلك تقديراً لجهودهما في وصف طبيعة المجتمعات التي ارخوا لها..

يرى المؤرخون ان قدم علم الانثروبولوجيا يعود الى بدايات تأمل الانسان بطبيعة المجتمع، فهو اقدم العلوم.. وهو علم حديث من حيث دخوله الى الجامعة، فقد عيّن اول استاذ للانثروبولوجيا في جامعة اكسفورد عام 1884 وكان السير ادوارد تايلور، واول استاذ للانثروبولوجيا في جامعة كامبردج كان مستر هادن سنة 1900 وبذلك يرى المؤرخون ان افضل تاريخ حديث لعلم الانسان في نهاية او منتصف القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، حيث ظهرت مدارس وطبعت كتب في منتصف القرن التاسع عشر..

يشتمل علم الانثروبولوجياعلى علم الانسان الاجتماعي وعلم الانسان الثقافي وعلم الانسان الحياتي وعلم اللغة..

يدرس علم الانسان الاجتماعي العادات والممارسات والسلوك، ويتناول علم الانسان الثقافي ثقافات الشعوب على اختلاف الزمان والمكان ودورها ووظائفها الاجتماعية، وعلم اللغة يعنى بتأثير اللغة في الحياة الاجتماعية وعلم الانسان الحياتي يدرس منظومة جسم الانسان البايولوجية.. يرى اتباع المدرسة الامريكية ادراج علم الاثار ضمن الانثروبولوجيا كونه يعنى بدراسة ثقافات الشعوب القديمة بينما لا ترى المدرسة البريطانية ذلك حيث ترى ان علم الاثار علم مستقل كونه اقرب الى التاريخ منه الى الانثروبولوجيا..

نتناول الدين في بحثنا هذا من حيث هو هوية ثقافية، ومن حيث ما توصل اليه علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والانثروبولوجيا من حقيقتين:

الاولى: انه لا يوجد مجتمع الا وله دين او هو يبحث له عن دين.

والثانية : انه ما من شخص الا وله شعور ديني يختلف من شخص الى اخر فقد يكون متذيذباً او مخفياً او متخذا نمطا معينا وقد يظهر في فترة من عمر الانسان..

يرى المؤرخ الفرنسي ارنست رينان المشهور بترجمته للكتاب المقدس والداعي الى نقد مصادر الدين نقدا علميا وتاريخيا لكي يتم التمييز بين ما هو تاريخي وما هو اسطوري مما ورد في الكتاب المقدس، يرى انه " من الممكن ان يضمحل ويتلاشى كل شيء نحبه وكل شيء نعدّه من ملاذ الحياة ونعيمها ومن الممكن ان تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة ولكن يستحيل ان ينمحي التدين او يتلاشى بل سيبقى ابد الآباد حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي"

يقول كارل غوستاف يونغ الطبيب وعالم النفس السويسري، مؤسس علم النفس التحليلي " من بين جميع المرضى الذين تعاملت معهم في النصف الثاني من حياتي لم اجد مريضاً واحداً لم تنته مشكلته في نهاية المطاف الى مشكلة العثور على رؤية للحياة ويمكن القول بكل ثقة ان هؤلاء جميعاً انما شعروا بالمرض بسبب فقدانهم الشيء الذي تقدمه الاديان الحية في كل عصر لاتباعها ولم يتماثل اي واحد منهم للشفاء الحقيقي قبل ان يعثر على رؤيته الدينية "..

تغير المجتمع هو التحولات التي تطرأ على المجتمع ووظائفه وهو صفة اساسية من صفات المجتمع ولا يختلف مجتمع عن اخر في ذلك الا في درجة التغير وعلى ذلك ينظر الى مجتمعات انها متأخرة واخرى متقدمة، اخذ بعض الباحثين هذا التفاوت في درجات التغير الاجتماعي وبحثوا في اسباب تأخر مجتمعاتنا العربية فعلقوا على الدين اسباب ذلك التأخر، فدعا بعضهم الى فصل الدين عن الدولة ودعا اخرون الى التدين الفردي حيث كل شخص حر في طريقة تدينه وله حرية وحق اظهار ذلك الشعور او عدم إظهاره، ودعا بعضهم الى إعادة تعريف الدين وفصله عن الهوية الثقافية الإجتماعية.. اننا نبحث في الدين من خلال علم الإجتماع الديني حيث علاقة الدين بالمجتمع وتأثير الدين في المجتمع وعلاقة الفرد بالدين وعلاقة الدين بالهوية وبناء الذات وتكوين الشخصية ولا نتطرق الى الدين من حيث هو علم فقه او علم كلام، ونتناول علاقة الفرد بالأسرة والأسرة بالمجتمع وعلاقة المشاكل الأسرية والفردية بطبيعة المجتمع وإرتباط ذلك بالهوية الثقافية للمجتمع..

يعتز مجتمعنا على اختلاف توجهات شرائحه بالهوية الدينية ويحرص كثير من الناس على اظهار الشعور الديني في مجالات الحياة العامة والخاصة، يدرس العلماء تغير المجتمع باهتمام من اجل مزيد من العدالة الإجتماعية والرفاهية الإقتصادية والتوازن الإجتماعي والتطور الثقافي، احاول في هذا البحث تسليط الضوء على ما يمكن من تأثيرات جانبية لتغير المجتمع يتوقع منها ان تلحق ضرراً بالهوية الثقافية الدينية الاجتماعية..

تعرض المجتمع العراقي في العقدين الأخيرين الى جملة ضغوطات واحداث القت بضلالها بشكل ملحوظ على تفاصيل الحياة اليومية ما بين تغيير نظام الحكم بدخول المحتل القادم بادوات تختلف عما كان عليه في السابق وما ترتب على ذلك من فوضى نتج عنها اضراب الامن وظهور العنف والارهاب والتطرف الديني وما ترتب عليه من اضطراب اقتصادي الحق الاذى بدخل الفرد فازداد اعداد الفقراء الى شرة ملايين على وفق احصاءات وظهرت حالات والبطالة والتردي التعليمي والتراجع الصحي وازدياد الفجوة بين السلطة والمجتمع الى الحد الذي اصيبت به الثقة بالأذى البليغ وتهددت الشخصية العراقية في توازنها واستقرارها واصبحت سنوات التغيير السياسي والإداري والإنفتاح العالمي مدعاة للقلق ومصدراً للخوف على سلامة مستقبل البلاد والمجتمع في ظل هكذا فوضى، علم الإنثروبولوجيا يأخذ هذه الأمور بنظرة شمولية تبدأ بمرحلة الوصف حيث يدون الباحث الإنثروبولوجي الحدث بزمانه ومكانه وتفاصيله في مرحلة يطلق عليها اثنوغرافي وتليها مرحلة التحليل والدراسة وهي مرحلة الإثنولوجي.

قد يبدو للقارى ان علم الإجتماع لا يختلف عن علم الانثروبولوجيا في تناولهما لطبيعة المجتمع لكن ما تجدر الإشارة اليه ان علم الإجتماع يعنى بجزئية من جزئيات الحياة الإجتماعية بالدراسة والتحليل كأن يدرس الدين في المجتمع او يدرس الطلاق أو العنف الأسري أو الإنتحار أو غيرها من مشاكل الحياة الإجتماعية أما علم الإنثروبولوجيا فإنه يتناول هذه القضايا بنظرة شمولية من خلال مباحثه في علم الانسان الإجتماعي والثقافي والحياتي وتأثير اللغة..

يستجيب المجتمع عادة للتيار الأقوى الغالب على طبيعة المشهد الحياتي للناس، ومن بين التيارات التي عصفت بالبلاد خلال العقدين الأخيرين يبرز تيار تيار الإنفتاح العالمي ومشاريع الإقتصاد الصناعي السياسي العالمي حيث الشركات العابرة للقوميات والمشاريع العملاقة التي تتجاوز اللغة والدين والجغرافية والسياسة وتتيح لكل شخص حرية دخول السوق العالمية من اجل التجارة والاستثمار، انه أمر لا يدعو في ظاهره الى القلق، لكن القلق يبدأ مع وجود جهود عالمية لدمج المجتمعات المتأخرة في النسيج العالمي، ذلك النسيج الذي تقف وراءه ثقافة غربية ولغة غريبة عن طبيعة مجتمعنا، وهو ما يمكن ان يعرض المجتمع الى للتغريب الثقافي..

تواجهنا مشكلة حرية التعبير وحرية التفكير وحرية الاعلام وحرية النشر التي وجدت مساحات مفتوحة في العالم الافتراضي لاحتوائها ودعمها بحيث بدأت تظهر محتويات هابطة لأشخاص غير مؤهلين لبلوغ مواقع الشهرة والوجاهة في المجتمع لأنهم دخلوا عالم الاتصالات والتواصل من اجل الكسب المادي فقدموا لذلك عروضا هابطة وتافهة حسبها انها لقيت اعجاب ومتابعة كثير من الناس الباحثين عن الغريب والمثير والساخر كي يخففوا عن انفسهم ثقل ضغوطات واقع الحياة الاجتماعية التي يعيشونها ولا يجدون فيها املا مشرقا في غد يزيح عنهم هذه الضغوط التي بلغت الحد المسموح به للتحمل من قبل كثير من الناس، لقد اخذت كثير من السلوكيات السيئة تظهر في الشارع وهي تتقاطع مع منظومة البناء الاجتماعي التي يجدها المجتمع معبرة عن طبيعته ولقيت امتعاض كثيرين عندما يخرج شاب الى الشارع بالبرمودا القصير فوق الركبة بينما تفرض العادات والقيم والدين ضوابط على خروج المرأة الى الشارع والشاب الذي يخرج الى الشارع بالبرمودا هو نفسه يرفض ويمنع خروج زوجته او اخته الى الشارع بدون حجاب..

لقد استثمرت كثير من منظمات حقوق الانسان ومؤسسات دعم الحريات الشخصية هذه السلوكيات وهذه الظروف ودخلت من باب الحريات والتحضر والتغير الاجتماعي ودعت الى رفع الحجاب عن المرأة من دون ان يأخذوا بنظر الاعتبار طبيعة الهوية الثقافية للمجتمع مما ادى الى ظهور تيارات متشنجة حد العنف ضد دعاة خلع الحجاب وظهرت تيارات اخرى تدعو الى اعادة النظر في الموروث الديني والاجتماعي والثقافي، ودعت جهة ثالثة الى ترك الامر في خانة التقدير الشخصي للفرد، وهنا تظهر مشكلة كبيرة جديدة وهي ان اغلب الناس في ظل ظروف البلاد في العقدين الاخيرين لم تتهيأ لهم فرص التأمل في طبيعتهم وحياتهم وظروفهم ولم تتهيأ لهم فرص القراءة ومتابعة تجارب الاقدمين وبالتالي فهم عرضة الى تشكيل هوياتهم الجديدة من خلال العالم الافتراضي ومواقع التواصل والبيئة الجديدة الخارجة من رحم الواقع المجهض والمنهك بسبب ظروف الحرب والارهاب والاحتلال والاضظراب الامني والاداري والاقتصادي والثقافي..

هل تراجع دور المجتمع التربوي والتوجيهي والاداري في العقدين الاخيرين؟

كان المجتمع ولا يزال الى حد بعيد مراقباً جيداً لنظام البناء الاجتماعي فيما يخص تبادل العلاقات بين ابناء المجتمع الواحد ومتابعة ما يظهر من حالات وسلوكيات تشذ عن الاطار العام للهوية الثقافية للمجتمع الاسلامي، لكن الفترة الاخيرة في حدود العقدين الماضيين اتسمت بظهور تحوير للمعنى او تغيير في حدود المعنى للمعنى لبعض المصطلحات ومن اهمها مصطلح الحرية الذي يأخذ بيد الشخص الى حيث مبتغاه وان كان ابعد من حدود الذوق العام وطبيعة المجتمع، يكفي ان يكون حراً بالقدر الذي لا يلحق ضرراً مباشراً آنياً بغيره، حتى وان ترتب على تلك الحرية الشخصية انماطا سلوكية لا تبعث على ارتياح الاخرين، كما ان التقنية المتطورة بمنتجاتها التي لم يعد بوسع اي شخص التخلي عنها في مجالات الحياة الاجتماعية ادلت بدلوها في احداث فجوة داخل الاسرة الواحدة بين الاباء والابناء عندما وجد الاباء تفوق قدرات ابنائهم على قدراتهم في التعاطي مع مخرجات المشاريع الصناعية الإقتصادية وتنوع سبل المعرفة وسهولة الوصول الى المعلومة، خصوصاًً وان لغة العالم الإفتراضي هي اللغة الإنكليزية التي لا يجيدها كثير من الآباء بالجودة التي حظي بها الابناء..

تأثير اللغة في الحياة الإجتماعية..

للغة تأثراتها على الحياة الاجتماعية فهي روح الهوية الثقافية، إذا تغيرت طبيعة تلك الروح من اللغة العربية الفصيحة الى لهجات ولغات دارجة اوجدتها الضرورة بحكم تراجع مستوى التعليم الى مهنية الوظيفة الروتينية مقابل العروض القوية التي يوفرها العالم المنفتح على بعضه اقتصادياً وثقافياً وتجارياً، الامر الذي يفرض على كثيرين تعلم تلك اللغات لمراعاة المصالح والمنافع والمكاسب، وهذا الوضع يجر باتجاه الابتعاد عن الهوية الثقافية لطبيعة المجتمع الاسلامي العربي، وما يدعو الى القلق ان كثيرين تقمصوا شخصيات قلقة تبدو في ظاهرها متوازنة لكنها في الواقع مجاملة اكثر منها واقعية، لأن المجاملات تهيء جواً من الهدوء يمكن من خلاله تمرير حالة اللاتوازن التي يعيشها كثير من الناس بسبب عدم التكافؤ بين طبيعة الهوية الثقافية للمجتمع بماضيه وحاضره مع عجلة الزمن الماضية باتجاه التغريب الثقافي في المستقبل خصوصاً جيل الأبناء الذين اخذوا يفتقرون الى الصلات التي كان الاسلاف يتمتعون بها مع اسرهم ومجتمعهم، جيل الأبناء اليوم يرتبط بمحيطه ارتباطاً بيولوجيا في اطار مجاملاتي في جو مستقر سرعان ما ينكشف وهنه مع أول احتكاك أو اصطدام تمليه المصلحة الشخصية وتفرضه ظروف الحياة المادية التي تلاعبت بالنسيج الاجتماعي ودفعت به الى تشكيلات وتجمعات بشرية يطلق عليها نظرياً - مجتمع - لكنها عملياً كتل متفرقة لكل منها نظامها الاجتماعي الذي تعبر به عن طبيعتها الجديدة في بيئة تعلو فيها لغة الارقام على سواها من اللغات الحية..

دعوات إحلال اللهجة العامية محل اللغة الأم..

اتسعت في العقدين الاخيرين دعوات اشاعة اللهجة العامية على اللغة الفصحى، واشاعة تسكين اواخر الكلمات على التمكن من سلامة مخارج الكلمات على وفق الضوابط اللغوية والقواعد، واشاعة دعوات تمرير الأخطاء على النقد البناء بحجة ان النطق مرهون بالقصد من سياق الكلام، فصار بمقدور كل من لا يمتلك ناصية الإجادة ان يظهر في محافل اجتماعية وثقافية ليتحدث واذا صادف ووجهت له انتقادات بخصوص تعثر اللغة على لسانه اعتذر مبررا تعثر لغته بعدم تخصصه في اللغة العربية ومضت كثير من اللقاءات والمحاضرات والخطابات على هذا الفقر الثقافي، وما يخشى منه في هذا الجو الملوث ان تضيع اللغة العربية في حياة العامة من الناس ويتحول المتمكنون من ادواتها الى اشخاص يحظون بالتقدير والاحترام اكثر من وجوب ادائهم دورهم النقدي البناء لتصويب السنة المتكلمين بالعربية من الشعور بمسؤولية حمايتها لما تمثله من روح للهوية العربية الاسلامية لكي لا تحل اللغة المسموعة محل اللغة المكتوبة لما تخفيه اللغة المسموعة من قبح في شكل الكلمات تفضحه اللغة المكتوبة، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي تكشف هذا الخطر المحدق بسلامة اللغة عندما يتخاطب المستخدمون في مراسلاتهم بنصوص تكتب بلا ضوابط هي اقرب الى التصور الشخصي لنطقها منها الى المعيار اللغوي لها فجاءت كلمة شكراً بالنون بدل تنوين الفتح وما الى ذلك، مما يهدد سلامة التفكير في تحديث البناء الاجتماعي واقتصاره على التكرار والتشابه في الخطوط العامة كما هو حال المجتمع خلال العقدين الماضيين ماضياً باتجاه لا يفضي الى ضوء في اخر الطريق، يشمل هذا الواقع تفاصيل حياتنا من مأكل وملبس وعادات وسلوكيات وامنيات وعثرات، لا شك ان لهذا الواقع حضوره في المعتقدات والاخلاق والتفكير والعبادات والعادات، يمضي هذا الواقع اليومي باتجاه تعويد الناس على القبول به واقعا اعتيادياً بما له وما عليه، وهذا الاعتياد سيتحول الى تصورات مقبولة عند الاجيالل الناشئة وبالتالي فهو يهدد المجتمع بالركود والخمول وهو خلاف ما يدعو اليه الدين الذي يقضي بتطور الانسان وتحضره وترقية التكوين الانساني في الذات البشرية، وسيغدو التفكير بتغيير الواقع امراً صعباً او غريباً او لا ضرورة له بعد ان تهيمن مشاهد الحياة الاجتماعية على طبيعة الناس وتجعلهم الى التغريب الثقافي اقرب منهم الى انعاش هويتهم الثقافية خصوصاً وان منتجات التقنية المتطورة توفر كثيراً من دعوات القبول بالجاهز في كل شيء في الطعام والشراب والتفكير، فما يندرج ضمن العروض التجارية التي توفر خدمات مريحة تختصر جهد المرأة في اعداد اطباق الطعام التي كانت تضفي على جو الاسرة تقارباً والفة ينمو فيها الحس والتقدير والمحبة التي غابت عن كثير من الأسر بظهور المعلبات والاطباق الجاهزة والاكلات السريعة وما ترتب على ذلك من انصراف الناس الى امور اخرى هي اقرب الى التمتع واللهو والرغبة منها الى الجد وعمق التفكير فأصيبت الهمة بالضعف وصار الناس اكثر استعداداً لقبول الحلول العاجلة على الحلول الصحيحة، يكفي انها حلول تنهي هذه المشكلة..

وسط هذا الكم الكبير والخانق من ضغوطات الحياة اليومية الجديدة في بدايات القرن الحادي والعشرين وبدافع من الحراك الاجتماعي في ظل الهوية الدينية الثقافية يبحث كثير من الناس عن اماكن يستشعرون معها الهدوء والطمأنينة من اجل الخروج بالنفس من دائرة الضغوطات وحالات الشد والتوتر، وقد امتازت بلادنا بوجود مراقد انبياء وائمة اهل البيت عليهم السلام وكان لوجودها الاثر الكبير في تخفيف حدة التأزم التي فرضتها على المجتمع مجريات الامور على اختلافها مابين سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية فضلا على ان وجودها عزز ووثق اهمية الهوية الدينية في ثقافة المجتمع اوقات الازمات والشدائد وكانت كثيرة خلال العقدين الاخيرين ابرزها موجة الارهاب التي ضربت الحياة الاجتماعية للناس وهددت النسيج الاجتماعي بالتمزق..

اظهر بعضهم التزامه الاجتماعي باداب زيارة المراقد والمساجد من حيث حاجته الى الراحة النفسية التي يعلم مسبقا ان الجو الديني يوفرها مع استمراره في حياته المادية والمهنية التي قد يفرغ محتواها احيانا من اي التزام حقيقي ومن شأن ذلك ان يقصر الهوية الدينية على الجانب المعنوي دون جوانب الحياة الاجتماعية العملية الاخرى فقد سجلت المشاهدات الحية مداراة بعض الناس للذوق العام فقد ظهرت سيدة متعملة وهي بكامل حجابها في احد المزارات الدينية كما شوهدت في وقت اخر في مكان ترفيهي عائلي وهي بكامل اناقتها وتبرجها وعلى مقربة من شخصيتها بدت غير مضطربة فكرياً او سلوكياً او نفسياً لكنها كانت تلبي احتياجاتها النفسية البيولوجية فعندما شعرت بحاجتها الى الهدوء والسكينة قصدت احد المزارات الدينية ووجدت انها تراعي الذوق العام وتعطي المكان زياً يناسب ظهورها فيه كي لا تكون موضع انتقاد ذاتها والاخرين فارتدت الحجاب وقضت ما رأته وقتا كافياً للراحة وصفاء الروح وهدوء النفس والخشوع، وعندما احتاجت الى الترفيه قصدت مكانا يتلائم مع حاجتها في اطار اجتماعي اخلاقي متمدن فدخلت منتزها‘ او منتجعاً عاماً ووجدت ان تظهر بما يناسب المكان وما يبعث في نفسها البهجة والسرور والظهور فهي تجد نفسها موفقة في اختيارها الزي المحتشم لتلائمه مع طبيعة المكان الذي تقصده كما انها كانت موفقة في اختيار نوع الملابس والهيأة التي تظهر بها في مكان عائلي ترفيهي..

تأثير الوضع الاقتصادي في الهوية الثقافية الدينية للمجتمع..

يسهم الوضع الإقتصادي في فرض اوضاع قد تبدو غريبة او مريبة او مقلقة او تدعو للشفقة واحياناً قد تدعو للقلق خصوصا عندما يمر المجتمع بظروف تغيير يسهم تردي الحال الاداري للبلاد في ترسيخه في الحياة الإجتماعية فعندما لم توفق ادارة البلاد الى النظر الى واقع المجتمع من خلال طبيعته وهويته اشتدت على الناس ظروف الحياة الجديدة اقتصادياً وثقافياً فقد فرضت ظروف العيش من جهة والنمو السكاني من جهة اخرى واحتياجات المنظومة البيولوجية للجسم من جهة ثالثة، فرضت هذه الظروف مجتمعة نمطا من انماط العيش يقتضي بموجبه وجود اكثر من عائلة في بيت واحد، فالاولاد يكبرون ولا يمكن بحال من الاحوال تجاهل احتياجات منظوماتهم الجسمية والنفسية وربما يمكن تأجيلها لكن بلا شك تفرض نفسها وتلح في فترة من الفترات ولأننا مجتمع ديني فهو يجتهد لكي لا يفلت زمام الامور ويخرج بعيدا عن الإطار الأخلاقي الديني الذي ترتضيه الأعراف والتقالبيد والأخلاق فقد كان الأخوة يتزوجون في ذات البيت ولكون الحال لا يعطي املا قريباً في انفراج يحدث معه استقلال كل اسرة على حدة فقد واجهت كثير من الأسر مشكلة الإلتزام الديني بحجاب زوجة الإبن من اخوة زوجها، فمن جهة تبذل الأسرة كل جهدها كي تبقى هويتها الدينية فاعلة في ثقافتها الإجتماعية ومن جهة لا تريد لهذه الهوية الدينية ان تتحول الى إلزام مفروض مراعاة لمشاعر زوجة الإبن التي من حقها ان تتحرك داخل البيت بحرية ادبية كافية لمنع الضغط النفسي فعندما يفرض التشريع الديني على المرأة ان تتحجب من اخوة زوجها ويفرض واقع الأسرة المعاشي ان يعيش الاخوة مع بعضهم وما يترتب على هذا الجو الأسري من مراعاة ومداراة لنفوس الموجودين في البيت لتحاشي وقوع المشاكل ومضاعفات التقيد فقد اجازت بعض الاسر لزوجة الابن ان تخلع حجابها امام اخوة زوجها كونهم اخوتها بحكم الواقع الذي تعيشه الاسرة، مع الإبقاء على حجابها خارج المنزل، فهل يترك ذلك اثره السلبي على الهوية الدينية؟ وهل يؤثر ذلك سلبا على بناء الشخصية؟ وماذا عن التعبير الذاتي للفرد عن هويته وطبيعته الجديدة؟ هل يشعر بثقل الهوية الدينية او انه يشعر بحاجته الى اعادة صياغة الهوية الدينية في ظل ظروف الواقع الحياتي الذي افرزته التغييرات التي طرأت على المجتمع؟

على كثرة ما الم بالمجتمع العراقي من صعوبات وشدائد ومعاناة ترتبت على دخول منتجات تقنية متطورة بعيداً عن التوجيه والإرشاد وثقافة الاستخدام لتلك المنتوجات التي شدّت اليها جيل الشباب واصبحت ضرورة ملحة في حياتهم ومكمن خطورتها في انها صارت مصدر تزويدهم بما يحتاجونه لبناء الشخصية من لغة تخاطب ومن اداب تعامل، لذا وجب تحريك هويتنا الثقافية القائمة على اركان اخلاقية ودينية وانسانية واعية لتحريك نهضة المجتمع باتجاه الحفاظ على الهوية الدينية التي هي ضرورة وحاجة اساسية تتطلبها حياة الفرد والمجتمع في مرحلة او مراحل الحياة الهادفة، ولعل من الخطأ اعتقاد بعض الناس ان السعادة والفرح هدف او غاية يسعون اليها في حياتهم وفي الحقيقة العلمية فان العالم المادي عالم ميكانيكي حركي استهلاكي، وهو عالم متعب ولا تلتقي الراحة بالتعب الا من خلال الدين بروحه التي تحل في الابدان فتحركها صوب الهدف المرجو من الجسم البشري كوسيلة.

ما مدى قدرة الدين على الاقتراب من واقع الناس وتفاصيل حياتهم اليومية التي لم يعد ممكناً فيها تجاوز المعاناة المستمرة والمتراكمة وتعقيداتها التي تزداد مع ازدياد النمو السكاني ونقصان الموارد وفرص العمل؟

هل يستطيع الدين انقاذ المجتمع من الوعي السلبي المضطرب الذي تفرضه على واقعه ضرورات الحياة اليومية؟

هل سيؤثر التكرار اليومي للمشاكل على علاقة الدين بالمجتمع؟ ما هو شكل ذلك التأثير مستقبلاً؟

ماذا لو تمكن المجتمع من اعتياد عدم التزامه ببعض الثوابت الدينية والتشريعات.. هل سيؤثر هذا في تفاصيل الهوية الدينية الثقافية للمجتمع والفرد؟

هل اننا مقبلون على نظام جديد للهوية الدينية الاجتماعية يراعي ظروف الحياة المعيشية والمعرفية والإدراكية للفرد؟ ويقدم حلولاً مقبولة وان كانت تفتقر الى الاصول والمنطق والصواب.. واذا حدث هذا هل يعد تغييراً دينياً ام تنازلاً؟

ماذا لو فرض واقع الحال نفسه على الهوية الدينية واجاز بعض الممنوعات دينياً باسم الضرورة الحياتية؟

هل تسهم الضغوط الحياة الإجتماعية والإقتصادية والشخصية في دفع الناس الى قبول العروض الآنية السيئة من اجل تجنب الوقوع في الأسوأ؟

***

د. عدي عدنان البلداوي

 

إن من أبرز سمات وخصائص الفلسفة المثاليّة بشكل عام، أنها تستعيض عن الفعل المتطور منطقياً، أي الفعل الذي له قوانين سيرورته وصيرورته التاريخيتين، والمشبع بالعلاقات الاجتماعيّة والفكريّة القائمة على هذه العلاقات بكل مضامينها، بحشد فوضويّ من الانفعالات والمشاعر الذاتيّة، المتجهة نحو الشكل وإهمال المضمون، والمعتمدة على الابهام، والمتخلية عن البناء المنطقيّ وتمجيد اللامعنى واللاعقلانيّ. فالفيلسوف المثالي يقوم هنا بخلق عالمه الذاتي الخاص به، والمستقل عن سير التاريخ، وبالتالي تقتصر فلسفته على إصلاح الروح، أو التعبير عن واقعها وطموحاتها خارج إطار الزمن والمكان معاً.

إذن إن الفلسفة المثاليّة مشبعة بالرؤى الذاتيّة والخيال والحدسيّة والأسطورة وغيرها من وسائل وطرق التفكير البعيدة عن الواقع وتناقضاته، أي البعيدة عن ربط الفكر بالواقع والإقرار بأن الفكر نتاج الواقع ذاته، وليس فكراً مفرخا بشكل مجرد، علماً أن بعضهم يحاول ربط هذا الفكر بالواقع، ثم يعود لمنح هذا الفكر القيمة المطلقة، أو القدسيّة التي تفرض على الواقع أن يرتقي إلى هذا الفكر المثاليّ. والأيديولوجيا الدينيّة او الوضعيّة الشموليّة تأتي هنا أنموذجاً.

إن تاريخ الفلسفة عند المثاليين عموماً، هو ليس أكثر من ذيل لتاريخ اللاهوت أو الدين في سياقه العام، مثلما هو حصيلة الإبداع الذاتي المستقل لمفكرين منفردين، في الوقت الذي يعمل فيه هؤلاء الفلاسفة المثاليين على عزل مسيرة الفكر الفلسفي عن التطور الواقعي لتاريخ المجتمع والعلم. لذلك تأتي الفلسفة المثاليّة في جوهرها فوق الطبقات وتناقضات المجتمع بالضرورة.

يعتبر "برغسون" في حدسيّته الممثل الأكثر حضوراً لهذه الفلسفة، حيث يرى، أن المهمة الأساس للفلسفة هي التخلص من جهة نظر العقل. لذلك فإن (الحياة) عنده وهي جوهر العالم، ليست عقلانيّة، وبالتالي تأتي محاولاتنا العميقة لإدراك كنهها لا عقلانيّة أيضاً.

يقول: برغسون": إن الحقيقة الأكيدة التي تشكل المنطق الأساس لكل فلسفة، هي وجودنا الذاتيّ الذي يتجلى في ذلك التيار الدائم من الإحساسات والعواطف والرغبات. وهذا التيار من الانفعالات يشكل المادة والموضوع الرئيس  في الفلسفة الحدسيّة.

أما الوعي عند "بروغسون" فيقوم على منطلقين أساسيين هما:

الحدس: الذي يرتبط بالناحية التأمليّة في الحياة.

والذهن: الذي يرتبط بالجانب العمليّ (الفعال) في الحياة.

و"برغسون" في تعامله مع هذه الحياة، ينطلق من الحدس باتجاه أعماق الوعي الذاتيّ، ثم إلى الوعي المجرد غير المرتبط بذات معينة، ثم إلى الروح التي هي عنده جوهر الحياة والكون بأسره، وأخيراً ينتقل من هذه الروح إلى الذهن والفعل الخارجي، أي إلى التعامل مع الأجسام، أي الظواهر التي يمتلئ بها المكان وفقاً لما كونه او انتجه وعيه الذاتيّ .(1).

إذن من هذا الموقف المعرفي والسلوكي والمنهجي، نجد أن الفلسفة المثاليّة عموماً هي في المحصلة فلسفة ميتافيزيقيّة، أي هي تلك الأفكار والتعاليم التي تعتمد على الفرضيات والتأمل التي يصعب البرهنة عليها، والتي تُخْضِعُ الأشياء بشكل مسبق لمنطق حدسيّ وفكريّ مجرد، وليس للقوانين التي تتحكم بآليّة عمل هذه الأشياء في الطبيعة والمجتمع. وهذا عكس النظرة الماديّة التاريخيّة الجدليّة إلى الحياة الطبيعيّة والاجتماعيّة، التي تتجه إلى المادة .. أي إلى ظواهر الواقع المعيوش، فليس هناك شيء غير مادي. والطبيعة عمليّة ماديّة واحدة من حيث المضمون، ومتنوعة من حيث الشكل. وتظهر سمات وخصائص مفرداتها وفقاً لقوانينها الداخليّة الخاصة، وإن الطبيعة والمجتمع في حالات تطور وتغير وتحول إلى أشكال أخرى بشكل دائم.

إن الظروف الماديّة للبشر تلعب دوراً بالغ الأهميّة في حياة المجتمع. أي إن ظروف الناس من مأكل ومشرب وملبس وامتلاك وسائل الحياة، تلعب الدور الأول في الحياة، وتشكل السبب الأساس لكل الظواهر المعيوشة تقريباً، بل وحتى الجوانب الأخرى الأرقى في الحياة، كالفن والأدب وقضايا النفس البشريّة اللاشعوريّة والقيم الأخلاقيّة. وهذا المنطق الفلسفيّ الماديّ التاريخيّ الجدلي، هو من يواجه الفلسفة المثاليّة ويثبت عجزها في معرفة قضايا الإنسان وحلها حلاً ثوريّاً وعقلانيّاً. وعندما نقول حلاً ثورياً، أي لابد من دور الإنسان في كشف القوانين الموضوعيّة والذاتيّة التي تتحكم في الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة والتسلح بها لمواجهة مشاكله وحلها. وعلى هذا الأساس تأتي السياسة عاملاً حاسماً في تقرير حياة الشعوب، وخلق قفزات وتحولات هائلة في التطور الاجتماعيّ، كون هذه القفزات أو التحولات تعتبر أحداثاً عظيمة في العملية الاجتماعيّة التاريخيّة. ففيها تكمن معرفة الطريق الصحيح لتحرر الإنسان أو البشريّة من هيمنة الظروف الموضوعيّة على مستوى الطبيعة، والظروف الموضوعيّة والذاتيّة على مستوى المجتمع، ويأتي في مقدمة التحرر من الظروف الاجتماعيّة السلبيّة بشقيها الموضوعيّ والذاتيّ، التحرر من الاستبداد والاستعباد السياسيّ والاقتصاديّ والروحيّ.

إن النظرة الماديّة التاريخيّة الجدليّة كمنهج في التفكير والممارسة، تؤدي بالضرورة إلى كشف القوى الاجتماعيّة المتصارعة داخل المجتمع ودورها في تقدم المجتمع أو تخلفه. مثلما تكشف المصالح التي تحرك هذه القوى، والأساليب التي تستخدمها  للوصول إلى تحقيق أهدافها الاقتصاديّة أو السياسيّة والروحيّة. وبالتالي فالمنهج المادي الجدليّ يدفع الإنسان إلى ربط نفسه بواقعه والعمل على ممارسة حياته بشكل عقلانيّ وتنويريّ، وتمسكه بفلسفة العمل، كونها هي من سيشبع حب الاستطلاع لديه، بل وإعادة تنظيم حياته تنظيماً عقلانيّاً أيضا.

إن الفلسفة المشبعة بالعقلانيّة والتنوير، هي من ستؤدي إلى تحويل الفكر الذي أنتجه الواقع المعيوش إلى ممارسة، وليس الفكر المجرد القائم على التأمل والحدسيّة اللاعقلانيين.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

...........................

1- لمعرفة المزيد عن الفكر البروغسوني، راجع كتاب – موجز تاريخ الفلسفة – مجموعة من الباحثين السوفيات – إصدار دار الأهالي دمشق – بحث (البروغسونيّة).

 

حوار يوثيفرو وهو أحد حوارات افلاطون، يحاول الإجابة على السؤال:

- هل ان ما هو خير محبوب من الله لأنه خير ام انه خير لأنه محبوب من الله؟

اذا كنا جميعا نؤمن بالله. من المحتمل اننا سنلجأ الى الله بحثا عن مرشد حول ما نعمل. السؤال هنا سيكون:

- هل ان ما يخبرنا به الله كشيء جيد هو جيد فقط لأن الله اخبرنا بذلك، ام ان الله يخبرنا ان نعمل ما هو جيد لسبب آخر؟ هذا المأزق سمي "مأزق يوثيفرو".

المقال هذا يسعى لتلخيص الحوار الذي يُشتق منه المأزق. انه يبدأ بالحديث عن مسرح الحوار، وعن السؤال الذي يطرحه سقراط. بعد ذلك نتابع حديث سقراط ويوثيفرو خطوة خطوة محللين ثقة يوثيفرو بانه يستطيع بصراحة توضيح ماهية التقوى من خلال إثارة المأزق من قبل سقراط.

مسرح حوار يوثيفرو لإفلاطون

مكان هذا الحوار الإفلاطوني هو اغورا (السوق) في مركز مدينة اثينا. هذا المكان هو مركز القضاة، وفيه تصدر اولى الأحكام في القضايا أمام المحاكم. سقراط حضر هنا للإجابة على تهمة المعصية بسبب إفساده شباب المدينة، بينما يوثيفرو حضر هنا لتوجيه الإتهام ضد والده في قتل أحد العبيد. قتل العبد هو جريمة شغلت في المجتمعات المالكة للعبيد موقع الغموض وتميل لإثارة أسئلة حول العلاقة بين الأخلاق ومفاهيمنا حول الفرد والملكية. أفعال يوثيفرو لا تقل غموضا لأن مقاضاة المرء لعائلته يحمل دلالات المعصية كالجريمة ذاتها. المشكلة مع القاتل من المنظور الديني لا يجب النظر اليها من خلال النموذج الابراهيمي في خرق القانون "أنت يجب ان لاتقتل"(احدى الوصايا العشر). بدلا من ذلك، القتل هو جريمة، لأنه فعل ديني يتم في سياق التضحية ويجب ان ينال التقديس sanctification، وبدون هذا التقديس الضروري سيُزعج الآلهة.

دفاع يوثيفرو

جواب يوثيفرو في عدم وضوح قضية مقاضاته هو الادّعاء بانه يعرف ما تريد الآلهة، وانه يتصرف بناءً على معرفته بحقيقة التقوى. وكما يعرف كل من اطّلع على سقراط وتصرفاته ان هكذا ادّعاء – ادّعاء بمعرفة ما يعنيه او يتضمنه مفهوم عام – هو يُحتمل ان يثير النقاش.

هذا يثبت ادّعاء سقراط بانه يرغب حقا بمعرفة الطبيعة الحقيقية للتقوى لكي يدافع عن نفسه، ولكن كما يتضح ان يوثيفرو - مثل العديد من ضحايا سقراط – لا يعرف حقا عن أي شيء يتحدث. يجب ادراك ان سؤال سقراط طُرح بطريقة ليفرض قيودا هيكلية معينة على أي جواب معقول. سقراط يبدو محدد جدا: يريد جواب على سؤاله الذي لا يصف فقط التقوى وانما يقترح معيارا للحكم على الأفعال قياسا للتعريف الذي نختار تبنّيه. عندما نستطلع الحوار بتفاصيل أكثر، من المهم تذكّر تلك القيود.

مدخل للحوار

يوثيفرو وسقراط يرحب احدهما بالآخر، بعبارات رقيقة. عندما سمع بالتهمة ضد سقراط، أظهر يوثيفرو له المواساة. في الحقيقة، هو يقترح ان سقراط وهو ذاته يواجهان نفس النوع من التهم. مشكلة سقراط برزت... لأنه حسب قول المدّعي تأتيه إشارات من الاله . هكذا كتب (ميلتس، وهو المتّهِم الرئيسي لسقراط) لائحة الإتهام ضده باعتباره يصنع ابتكارات في المسائل الدينية، وان ميلتس يأتي للمحكمة للافتراء على سقراط، مدركا ان مثل هذه الاشياء يسهل تحريفها على العامة. ونفس الشيء يصح في موقف يوثيفرو. "في أي وقت أتحدث عن المسائل الدينية في الجمعية وأتكهّن بالمستقبل، هم يسخرون مني كما لو كنت مخبولا، ومع ذلك انا لم افتر أي شيء لم يحدث".

جوهر الأمر، بالنسبة ليوثيفرو، هو انه لا هو ولا سقراط يمكن نقدهما لعدم التقوى لأنهما ببساطة غير ملتزمين. السؤال عن ماهية حقيقة التقوى لابد ان يبقى مفتوحا للنقاش.

اب يوثيفرو

يبدو ان سقراط لايشعر بالارتياح جيدا تجاه يوثيفرو، حيث انه يسخر منه لإدّعائه النبوة وليقينه المتعلق بمعنى التقوى. سنرى تفاصيل موقف يوثيفرو ضد أبيه:

"الضحية كان معتمدا عليّ، وعندما كنا نحرث الارض في ناكسوس هو كان خادما لنا. هو قتل احد عبيدنا في غضب مخمور، وهكذا ربط ابي يديه وقدميه ورماه في خندق، ثم أرسل رجلا هنا ليتحقق مع الكاهن حول ما يجب عمله. في ذلك الوقت هو لم يعط فكرة او عناية للرجل المقيد، كونه قاتل، وكان لا يهم لو مات، وهو ما حصل".

وكما يستنتج يوثيفرو مبتهجا، كل أقاربه يقولون ان "من المعصية لولد ان يقاضي ابيه على جريمة. لكن افكارهم عن الموقف الديني من التقوى والمعصية هو خاطئ، يا سقراط".

سقراط حالا يطلب معرفة ما اذا كانت لدى يوثيفرو مثل هذه المعرفة الدقيقة بطبيعة المعصية عندما يتصرف بمثل هذه الطريقة المعينة والمثيرة للجدل، ويوثيفرو يؤكد بثقة موقفه ذلك. من المعقول الافتراض اننا نرى يوثيفرو كأحمق ومفرط في الثقة، حتى في هذه المرحلة من الحوار.

تعريف يوثيفرو للتقوى

بالرغم من ثقته المفرطة، يبدأ يوثيفرو بتعريف هو بالتأكيد لا يكفي كجواب لسؤال سقراط:

"انا أقول ان التقوى هي ان تعمل ما أعمله انا الآن، ان تقاضي الظالم كأن يكون قاتلا او سارق معبد او أي شيء آخر، سواء كان الظالم ابوك او امك او أي شخص آخر، وان لا تقاضيه هو المعصية".

كلاهما لايكفي لأنه ليس تعريفا للتقوى وانما مثال للفعل التقي، ولأنه ينقل الغموض حول مصطلح "معصية" الى مفاهيم اخرى ("الظالم" خصيصا) والذي هو الآن يجب ان يُعرّف بدوره. سقراط يلح على يوثيفرو ليكون اكثر وضوحا، وان يعطيه شيء ما، "لكي افكر به ، استعمله كنموذج، بحيث يشير الى ان ما تفعله او يفعله الاخرون هو من ذلك النوع من التقوى". يوثيفرو يجيب لهذا ببساطة ، "ما هو عزيز للالهة هو التقوى، وما هو غير عزيز هو معصية". سقراط يشعر بالابتهاج، ويقول ان يوثيفرو أجاب حقا بالضبط على ما أراد.

مازق يوثيفرو

غير ان سقراط حالا بدأ يشعر بالخذلان. يوثيفرو لا يستطيع توضيح كيف عرف ما تعتبره الآلهة عدلاً، وينتهي بالادّعاء ان ما تحبه الآلهة او تكرهه ببساطة هو واضح. لكن بالطبع ممكن، في ثقافة تعدد الآلهة، ان تلاحظ (كما يفعل سقراط) ان ما هو واضح لشخص ما هو مثير للخلاف لشخص آخر، لذا فان ما هو ورع لإله معين يمكن ان يكون معصية لإله آخر.

سقراط ينتقل من النقد الأول ليعرض نقدا آخر، هذا الأخير يُعرف بـ "مأزق يوثيفرو"، وهو يشغل الحوار بشكل كامل. المأزق ببساطة هو : "هل التقوى أحبها الله لأنها تقوى ام انها تقوى لأنها محبوبة من الله؟". هذا المأزق استُعمل لإستخلاص الضعف في تعريف يوثيفرو للتقوى التي تحبها الآلهة.

اذا كانت التقوى كذلك، ولا يوجد معيار آخر لها، عندئذ ستبدو التقوى مفهوما فارغا يفتقر للصفات التي تمتلك قوة تتعدى صفة كونها محبوبة من الآلهة. بالتأكيد الآلهة تحب ما هو تقي لسبب ما، نحن نستطيع تحديده.

أهمية مازق يوثيفرو

ما وراء الحوار ذاته، يبدو ان مأزق يوثيفرو يعرض خوفا عميقا حول طبيعة التقوى والأخلاق الدينية بعمومية أكبر. اذا اعتبرنا أنفسنا نؤمن ببعض الالهة، نحن في نفس الوقت نبدو نرغب بان الله يصدر احكاما حول الخيرية، لكي نلجأ لموافقة الله لتبرير أفعالنا. لكن، اذا كانت تلك الموافقة مبررة فقط لأنها تأتي من الله، ولا وجود لسبب آخر، سيبدو ان مفهومنا للأخلاق يرتكز خصيصا على اللجوء للسلطة الدينية.

قد يبدو هذا لبعض المؤمنين جيدا، ولكن للأكثرية لايكفي. أحد الخيارات هو محاولة إعادة توصيف "السلطة"، وإضافة خصائص معينة تجعلها أكثر تبريرا. فمثلا، نحن ربما نرغب الادّعاء ان السلطة الالهية تستحق الخضوع لها بالنظر الى حكمة الاله الفائقة اللامحدودة. مع ذلك، وعلى الرغم من اننا نخفف من المعاناة، لكننا نصنف اسس الاخلاق على انها لغز الهي.

يبقى الامر متروكاً للمؤمن ليقرر ان كانت هذه نتيجة ضرورية للعقيدة الدينية، او ان هناك طريقة لتعريف الأخلاق الدينية بعبارات أقل فوقية. يوثيفرو من جانبه، يغادر المشهد ساخطا، مستجيبا لطلب سقراط المتكرر للإجابة على مأزقه عبر الادّعاء انه ينبغي له الانصراف لعمل في مكان آخر.

***

حاتم حميد محسن

التساؤل كيف تكون اللغة هي الفكرحسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز إدراك العقل للاشياء التفريق بينهما أي بين الفكر واللغة.إذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد بأكثر من إدراك وتأويل واحد؟.

هنا اللغة والفكر الملازم لها في التعبيرليس بمقدورهما تفسير وجود الاشياء بمعزل أحدهما عن الاخر أي بمعزل اللغة عن الفكر، أو الفكر عن اللغة لأنه يكون ذلك إستحالة إدراكية تعجيزية للعقل.في إمتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغب العقل التعبير عنه وجودا مدركا.إن في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة أن الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، أو أن اللغة هي وعاء الفكر، أو أن اللغة هي بيت الوجود.وأن اللغة مبتدأ ومنتهى إدراك وجود الاشياء في العالم الخارجي.

جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على أنها فعالية إدراكية عقلية في تحديد الفكرة أو الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم إدراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبيرولا يتوفر مجال إدحاضه في الإحتكام للعقل إدراكه الوجود.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل أو خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة أو الموضوع المعّبرعنه بهما. فبهما (الفكر واللغة) أصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا و متعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا يكون تفكير العقل خارجيا أو بالأحرى من أجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.

صمت اللغة في إشكالية الفصل بين اللغة والفكر

حين نقول تفكير العقل الداخلي الاستبطاني المقصود به هو التفكير الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكيرالعقل واقعيا ماديا.وبالواقع أن هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، إنما هما في الأصل تفكير واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي أو متخّيل آخر.أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة الموضوع) المدرك في زمن واحد.وهكذا هي الحال في تناول أي موضوع أو شيء من العالم الخارجي.

إن ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعها وتوقيتاتها الزمنية المتباعدة والمختلفة في نوعيتها، لايعقلها العقل دفعة واحدة، ويعطي الدماغ ردود الافعال الإنعكاسية الإرادية وغير الإرادية لها بعشوائية من دون تراتيبية يعتمدها العقل.

ذهبنا الى إستحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة إفصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود أو شيء ما في العالم الخارجي.وليس في التفكير الصامت داخليا للعقل. نذّكر أن علم اللغة واللسانيات تعتبر اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسيروجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة.بإعتبار اللغة فعالية العقل في تعيين إدراكاته للموجودات والاشياء الخارجية.

لكننا نجازف بالمباشرقولنا أنه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكيربوجود شيء مادي أو خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه بل يحتاج الفكر وحده لأنه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما اللغة ، ويكون صمتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه كوجود غير مادي، أي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له.

للتوضيح أكثر التفكيرالمادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي أو شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، أما في تفكير الصمت (الخيالي) غير المعبّر عنه باللغة فهو إلهام تخييلي في إنتاج العقل موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة في حالة من الكمون خلف فهم الوجود الجمالي، لم يكن إدراكه متيّسرا قبل إفصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال إنتاج لوحة فنية أو قطعة نحتية أو أي ضرب من ضروب التشكيل ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنه بغير لغة الكلام أو لغة الكتابة.

نأتي الآن الى معالجة أصل إمكانية فصل الفكر عن اللغة، على أنها إستحالة إدراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في إستقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالإدراك وأعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها، أو لم يدركها في وجودها المستقل التي أيضا تستطيع الحواس و اللغة التعبير عنها.

يبقى عندنا أن التفكير العقلي الصامت ماديا أو خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية وأثناء التفكيربموضوع ما، أي حينما يفكر العقل صمتا فهويفكّربالفكرذاته كوسيط بموضوع الفكرالذي نقلته الحواس المدركة للاشياء أو في موضوع إبتدعه الخيال ايضا يحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه وإعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا أهمية ولا وجود لها يتاح إدراكه من غير الشخص الذي يفكربموضوعه عقليا ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية.

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، أي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فأن العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة ألا على أنها جزء من الفكر وملازمة له خارج ألدماغ أو العقل في وجود الاشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك خارجيا من غيره إلا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل (الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء.

وعندما يتجسد ويتعين الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا أو بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية أو المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكرعن اللغة ذات أهمية كبيرة في إتمام عملية الإدراك، ولكن تبقى اللغة في إثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها بأولويتها في التعبير عن الوجودات الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة إدراك الحس والعقل لها بعد تخليقها لموضوعها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.

بمعنى توضيحي أن اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكيرالعقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته المستقليّن كليهما عن العالم الخارجي، وإنما تستمد اللغة أقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في إدراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع. وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون إدراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرةعنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وأيضا من الفكر واللغة. لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غيرلغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل أهمية إنشغال العقل في التعبير اللغوي خارجيا عنه.اللغة إثناء زمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ابجديا ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه لكنه يلزم حضور التفكير الصوري لغويا. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، لكن العقل بتفكيره بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل الى مدركاته الشيئية.

فاتني تثبيت حقيقة لا يمكننا القفز من فوقها للتدليل على ان اعجاز العقل يكمن في تفكيره اللغوي الصوري. بمعنى آخر العقل لا يفكر بالفكر المجرد الانفصالي عن الابجدية اللغوية فهذا محال. تفكير العقل ابجدية لغوية صورية صامتة وليس فكرا تجريديا متحررا من ابجدية اللغة. الفكر داخليا وخارجيا في ادراكه العالم هو لغة. وهنا اعيد عبارة منسوبة للفيلسوف الاميركي سيلارزهي قمة ما توصلته فلسفة اللغة قوله (الوجود لغة). وهي تاكيد اننا لا ندرك اي شيء بالفكر وحده مجردا عن ملازمة الابجدية اللغوية له.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

      

النقلة والتحول في العنوان أعلاه قد يكون قاسيا في رؤية بعض الدارسين والمتابعين، وربما يفهم منه ما يزيد عليه من دلالات..، لكن النقلة والتحول اللذان يختزلهما العنوان أعلاه لا يعني بالضرورة نحوا من الإعمام والاسقاط على جل عملية الاستنباط المعهودة في بيئات علم الفقه.

ويمكن تصور تلك النقلة (من-إلى) عبر ملاحظة العامل المركزي في التفكير الفقهي إزاء القضايا الهامة التي تواجه الفقه بنحو عام، فكل عملية ذهنية حول أي نص يمكن أن تتمركز حول عامل أساس يحدد طبيعتها ويرسم ملامح هويتها، وعند التساؤل عما إذا كانت ثمة هوية للممارسة الذهنية للفقيه، فالإجابة أيضا سوف تكون ضرباً من تخيلات وأوهام في نظر بعض الدراسين، لكن ذلك المتخيل أمر راسخ لدى من يحلل بعمق أية ظاهرة علمية..

لذا تتحدد هوية كل علم تبعاً لمقاصده وأهدافه وغاياته..، فالعلم الديني لا يمكن أن تصنف غايته في مجالها الأخروي، بعدما يسلم كثير من العلماء بأن علم الفقه غايته تنظيم حياة الإنسان، بما يضمن غايات الدين التي تغطي العالمين (الدنيا والآخرة)، وعوداً على النقلة من قيم الفقه إلى الفقه القيمي، لابد من تبيان (قيم الفقه) وما المراد منها، وليس المراد المعنى الفعلي للقيم بقدر ما يراد منه معنى تسامحياً يحيل إلى الأدوات الثابتة التي يتحرك بها العقل الفقهي، بنحو من المنهجية الصارمة والقواعد الثابتة التي لا تتغير في الغالب، وهذا ما يشير إلى مركزية القاعدة دون الهدف، ومركزية القالب دون المحتوى، وفاعلية الأداة والصنعة دون النتيجة والغاية، القاعدة أداة ينبغي أن يحركها الهدف، وتكون في خدمة الهدف، أما أن يكون الهدف خاضعا لمقتضيات بعض الأدوات فهو ضرب من المبالغة في حفظ الأداة ولو على حساب ما ينتج عنها من صناعة..

وهذه المعاني تستدعي مراجعات دقيقة في دراسات الاستدلال الفقهي من خلال مراجعة مآلات ونهايات البحث الفقهي في المسائل والقضايا المختلفة، وليس المراد مسخ العملية بقدر ما هو توجيه لمسارتها وإعادة النظر في المحور التي تدور حوله، وربما تضغط قيمة النص كمحدد أساس لجل العملية الاستنباطية، لكن الأدوات والقواعد لا تأخذ صفة النص من حيث قدسيته وإطلاقه، بل تخضع لدلالته المركزية التي تعد أعم من بقية الدلالات سواء (الإجمال أو العموم أو الإطلاق)، بل جميع تلك الثلاثة تؤسس للمعنى الكلي، الذي يدركه الذهن بنحو غير قابل للتفسير دوماً، ويمكن أن تفسر بنحو من (الارتكاز الذهني، أو الراسخ في وجدان العقلاء بما هم عقلاء)..

إن توجيه الاستدلال الفقهي نحو (القيم) من جهة، و(الواقع) من جهة أخرى، يحتاج إلى منطق تفكير مختلف عن المنطق الأرسطي الذي ينشئ استدلالا جامدا بلا روح، فالمنحى الصوري لا يغطي متطلبات الواقع من جهة، ولا متطلبات القيم من جهة أخرى، وسلامة الاستدلال شكليا لا يضمن سلامة النتيجة وما يؤول إليه البحث من ظواهر عملية، ذلك أن منطق الاستدلال الفقهي يكاد يكون انعكاسا نسبيا لمنطق الاستدلال القياسي الارسطي الذي يتضمن كبرى وصغرى قياس، ومع التسليم ولو على نحو التعبد بالكبريات فإن الصغريات والنتائج سوف تكون محل قبول، بغض النظر عن طبيعة النتائج والمآلات طالما شكل الاستدلال أو عناصره سليمة منطقيا، والمشكلة أن المنطق لوحده غير معني بضمان البعد القيمي، فهو متسلط على عمليات الذهن رياضيا فحسب، في حين تستدعي القيم إحاطة واسعة بطبيعة النتائج والمخرجات بما يحفظ المصالح وبما يحفظ النظام العام.

إن إدراك القيم والاحاطة بها يمكن أن يعد أحد أهم مؤمّنات الاجتهاد الفقهي، إذ تمثل تلك الاحاطة مرتكزات ذهنية لدى الفقيه وهو يتحمل عبئ الاستنباط واستنطاق النصوص الدينية، وهنا ما تتم ملاحظته في هذه المقال، وهو ما يمكن أن يوضح معنى الفقه القيمي بأن يكون الفقه على مستوى الاستنباط يراعي القيم والمعاني التي تحفظ ملاكات الاحكام التي تعبر عن الحكم الواقعي، وما دام ادراك الملاك غير ممكن على وفق المنحى الاجتهادي عند فقهاء الإمامية فإن التطلع إلى حفظ القيم بالمجمل سوف يفضي إلى عملية إحراز نسبي لتحقق الملاك والغرض من الحكم، وهو غير منهج التعليل بل يمكن تحديده بمذاق الشرع أو ما يحصده الفقيه من جانب الخبرة في الاستدلال والاستنباط واصطياد الدلالة في خلال قراءة النص الشرعي.

إن ذلك كله يحتم على المشتغلين في المجال الفقهي أن يولوا أهمية بالغة للاجتهاد كتخصص دقيق له رجاله المتخصصين من دون أدنى ثغرة لفسح المجال أمام الاعتباط في الاستدلال والفتوى، كما نلحظ ذلك في توظيف النصوص والمرويات الدينية على مواقع التواصل الاجتماعي ومحاولة استنطاقها من دون تثبت علمي، واصدار الاحكام والفتاوى الغريبة عن المرجعيات الفقهية المعتبرة.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

كلية الفقه/جامعة الكوفة  

اذا كان هناك تاريخ، وهناك اشياء حدثت، فالسؤال الواسع هو كيف حدث هذا التاريخ وما الذي يقوده؟

على مر الزمن، جرى تداول مختلف الفلسفات للتاريخ، لذا من المألوف ان نجد مختلف التفسيرات لنفس الفترة ولنفس الشخص: التاريخ له تاريخ خاص به.

بعد قراءة التاريخ يمكن القول هناك على الأقل خمس مدارس مختلفة لما يقود التاريخ.

1- التكنلوجيا كمحرك في فلسفة التاريخ:

ويقود هذه المدرسة كارلوت بيريز العالمة البريطانية المتخصصة في التكنلوجيا والتنمية السوسيواقتصادية حيث تُعتبر التكنلوجيا هي المحرك الاساسي للتاريخ ونحن نستطيع فهم المستقبل أفضل عبر التنبؤ بالميول التكنلوجية. التنبؤ بالاتجاه الذي يسير به العالم يمكن ان يتم بالنظر الى التكنلوجيات الناشئة في أي عصر والوصول وفقا لذلك لإستنتاجات منطقية.

مثال: محرك الإحتراق الداخلي قاد الى صنع سيارة خلقت هيكلا حضريا للولايات المتحدة ولمناطق الضواحي.

2- الجغرافيا والديموغرافيا في فلسفة التاريخ:

الفرضية: الجغرافيا هي المحرك ونحن نستطيع فهم المستقبل بشكل افضل عبر تحليل الجغرافيا وتأثيراتها.

مثال: آلمانيا تاريخيا اعتُبرت بلدا حربيا لأنها تقع في منطقة يصعب الدفاع عنها بين روسيا(عبر بولندا) وفرنسا. الولايات المتحدة كانت ناجحة بسبب المصادر الطبيعية الغنية فيها والموقع الحصين للدفاع عنه بمحيطين من كلا الجانبين.

3- نظرية فوكاياما في فلسفة التاريخ (المأسسة):

الفرضية: الناس مخلوقات تتبع أعرافا ومعايير. هم يتبعون أعراف وسلوك الآخرين الذين حولهم. طالما المؤسسة ليست اكثر من عرف يستمر عبر الزمن، فان الناس لهم ميل طبيعي لمأسسة أعرافهم وسلوكهم.

مثال: في اوربا، الكنيسة الكاثوليكية غيّرت قواعد الإرث لتجعل من الصعب لجماعات النسب تمرير المصادر نزولا لذرياتهم او عوائلهم المتسعة التي جرى تأسيسها كمؤسسة منفصلة. حكم القانون يمكن فهمه كقواعد تقيّد حتى اكثر الافراد المؤثرين سياسيا وله اساسه في الدين و الثقافات. حكم القانون اصبح مؤسسيا بعمق في اوربا الغربية نتيجة لدور الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.

4- الاتجاه الثقافي:

هذه الفرضية يقودها المؤرخ نوح هاراري Yuval Noah Harari(1) وتقوم على ان الثقافة والقصص هي المحرك الرئيسي للتاريخ وان التاريخ يتطورعلى طول خطوط هذه الاساطير. ان الخاصية المتفردة الحقيقية للغة الانسان هي قدرتها على نقل المعلومات حول الاشياء التي لا توجد ابدا: قصص واساطير.

مثال: التجارة لا يمكن ان توجد بدون ثقة، ومن الصعب جدا الوثوق بالغرباء. شبكة التجارة العالمية اليوم ترتكز على ثقتنا في كينونات لا نرى لها وجود في أي معنى فيزيقي مثل العلامات التجارية الطوطمية للشركات، واشياء اخرى، انها أساطير جميعنا نثق بها.

5- فلسفة ماركس الاقتصادية للتاريخ:

الفرضية: التاريخ يُقاد اساسا بالاقتصاد. كان ماركس اول من دافع عن هذا الموقف المادي التاريخي وحيث الشيوعية هي النتيجة الحتمية للصراع الطبقي الناتج عن رأسمالية القرن التاسع عشر. نظريات اقتصادية مشابهة برزت عبر طيف سياسي واسع.

مثال: الامبريالية البريطانية والولايات المتحدة لاحقا تزرع دمى دكتاتورية او تتدخل في السياسة الخارجية المصممة لترسيخ المصالح الخاصة. هذا يمكن القول استمر عبر مؤسسات زُعم انها حيادية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان بالاساس فرضا برامج ليبرالية جديدة مقابل القروض. الدول التي تطورت بنجاح في النصف الثاني من القرن العشرين كانت هي التي تجاهلت هذه الافكار.

مدرستان في الحتمية التاريخية

هناك بُعد آخر هام. هذه الاتجاهات الخمسة تقع بين قطبين في كيفية عمل الآلية السببية للتاريخ كما صاغها اسحق برلين في مقاله (الثعلب والقنفذ). الى أي مدى تُقاد كل تلك العناصر بتفاعل مؤقت من القوى يصعب تحديده (مدرسة الثعلب) او الى أي مدى تلك تقاد بـ "اشخاص عظماء" يؤثرون على مسيرة التاريخ "مدرسة القنفذ".

مدرسة الثعلب

الفرضية: لا يمكن تمييز محرك للتاريخ، انه دائما معقد جدا ومليئ بتأثيرات الفراشة التي تنتهي بنا لنكون "ننخدع بالعشوائية"(2).

مدرسة القنفذ

التاريخ يُقاد باشخاص عظام يصوغون مسار التاريخ ونحن جميعنا فقط نسير في أعقابهم.

نحو نظرة دقيقة للتاريخ

يمكننا القول ان هناك ميول قوية نحو مدرسة الثعلب مقابل القنفذ لأن الاعتقاد الشائع هو ان التاريخ دائما هو اكثر فوضوية مما يبدو في كتب التاريخ. رغم ان قادة معينين ربما يحفزون على التغيير لكن الامر يشبه كومة كبيرة من القش الجاف وسط مخزون الحبوب، ما يحدث لا يعني ان حدثا مشابها آخرا سيتبع. لابد من التقليل من قيمة أي فلسفة تاريخية مبسطة لأن اختزال تلك الى نموذج بسيط من السبب والنتيجة هي عادة ما تكون طريقة خاطئة في التفكير. يُعتقد ان معسكر الاقتصاد هو السبب المباشر لمعظم التغييرات التاريخية.

المؤسسات والثقافة والجغرافيا والتكنلوجيا جميعها تستمد قوتها من الاقتصاد. التكنلوجيا تصبح تدريجيا اكثر تأثيرا والجغرافية أقل تأثيرا بمرور الزمن لذا نرى ان الاقتصاد والتكنلوجيا هما اكثر الفلسفات التاريخية مفيدة لوقتنا الحاضر.

غير ان هذا قد لا يكون صحيحا في سياقات معينة. لو اخذنا مثالا واحدا، عصر الاستكشافات الاوربية كان اكثر تحفزا بالاعتبارات الدينية والثقافية منه الى الاقتصادية. يذكر احد الكتاب عن تاريخ الامبراطورية البرتغالية:

"منذ سقوط القسطنطينية، شعرت اوربا المسيحية باستمرار انها مطوقة. ولكي تتغلب على الاسلام، وتتواصل مع القس جون والجماعات المسيحية في الهند، وتسيطر على تجارة التوابل لتحطيم الثروة التي غذت سلاطين المماليك في القاهرة، كانت هناك رؤية جيوستراتيجية ذات طموح واسع تتبلور سلفا لتكتسح في الوقت المناسب البرتغاليين حول العالم".

لابد من التأكيد ان هناك عنصر اقتصادي لكن يبدو من الصعب قراءة تاريخ العصور الوسطى مثل (كتاب مرآة بعيدة لبربرا توكمان) ونصل الى رؤية اقتصادية تكنلوجية اساسية محركة للتاريخ، الثقافة والمؤسسات يبدوان يلعبان دورا اكبر.

الشيء الرئيسي الذي يمكن اكتسابه من قراءة التاريخ هو كم عدد التفسيرات المختلفة هناك وكم عدد التفسيرات التي تنطوي على دفاع شرعي. ان أحسن طريقة للتفكير حول هذه المدارس هي الإعتراف ان جميعها تهم بدرجات مختلفة ولها تأثيرها المتغير بمرور الزمن. اذا كان الواقع فيه كمية مدهشة من التفاصيل فسيكون من الواضح ان ذلك ينطبق ايضا على تاريخ الواقع. لذا فان السؤال هو دائما ما هو الأكثر اهمية للحظتنا التاريخية.

***

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) هو مؤرخ واستاذ يهودي ومؤلف كتاب (العاقل: تاريخ مختصر للبشرية، 2014) تحدث فيه عن التطور المعرفي الذي يُفترض حدث قبل 70 ألف سنة عندما حل الانسان العاقل محل منافسيه من انسان نياندرتال والانواع الاخرى، حيث طور مهارات اللغة وأقام مجتمعات ارتقت الى أعلى مرتبة في سلّم الحيوان مستفيدة من الثورة الزراعية والتسارع في التقدم العلمي وهو ما سمح للانسان للاقتراب من السيادة على بيئته.

(2) تأثيرات الفراشة butterfly effects هي الفكرة بان شيء صغير يمكن ان يكون له تأثير كبير. يعتمد تأثير الفراشة على فكرة ان العالم مترابط بعمق بحيث ان حدثا صغير يمكن ان يؤثر في نظام معقد اكبر بكثير.

لا نفهم ذاتنا الجمعية فهما حقيقيا مطابقا دون وعي تاريخي. فمثلا عندما أقول أننا مازلنا نفتقر إلي رؤية واضحة فيما يتعلق بفلسفة التاريخ المعبرة عن مرحلتنا التاريخية المشخصة. فلا أقصد بذلك المواجهة الفلسفية مع بدايات التاريخ، ولكن بالأحرى المعالجة العقلية والروحية العامة للأحداث التاريخية المشخصة. أننا نحتاج الى فلسفة للتاريخ تنتمي إلى مجال الوعي التاريخي.

ويشير مصطلح فلسفة التاريخ ابتداءً الى مقاربة "واعية تاريخيًا" للظروف المعيشية للناس تتجاوز مجرد سرد  الوقائع والأحداث في زمانها ومكانها. فتعني فلسفة التاريخ في إطار هذا التصور العام الملاحظة "الفلسفية" للأحداث أو المجريات التاريخية.  كما أنها تمثل الاعتبارات التأملية التي تبدأ من لفت الانتباه إلى الأحداث الجارية وتتابعها في كل الحقول الرئيسة: السياسية، والأنثروبولوجية، والنفسية، والأخلاقية، والاجتماعية، أو الجمالية وغيرها.

بقدر ما تذكر وتفسر فلسفة تاريخ أشياء عامة وأساسية من حياة الإنسان في مجالات التجربة الإنسانية. فأنها أيضا تعمل علي مخاطبة ما نطلق عليه الوعي التاريخي المقترن بالوجود البشري والمرتبط بالحاجة البشرية العميقة الجذور والتي تتمثل في الحاجة إلى التعلم بطريقة ما من التاريخ.   

ويمكن الإجابة عن السؤال حول ماهية فلسفة التاريخ بوصفه جهدًا فلسفيًا لا يهتم أساسًا بمحتوى حوادث وقصص التاريخ، ولكن بشكلها وحدودها. فعندما نجد محاولات في عالم  الفكر نماذج نظرية أو أجزاء من مثل هذه النماذج، أو حتى مجرد مخططات وصور وصفية تتناول أفكار عامة حول التاريخ، أو بنيته، أو ما هو هذا التاريخ فعليًا فهذا له علاقة بفلسفة التاريخ. كان الحكم الأساس الذي أتخذه مفكرو العلوم الإنسانية والدراسات  الثقافية الأوائل، هو تمييز التاريخ كنوع مستقل حيث الموضوعية التجريبية والأشياء الطبيعية وبالتالي معارض لمنهج العلوم الطبيعية بأسلوبه التاريخي الخاص، وهذا الحكم ما نسميه فلسفة التاريخ. فكل المصطلحات التي نعبر بها عن تاريخية الوجود الإنساني لا يمكن فهمها أساسًا إلا في ظل ظروف الإطار التاريخي الفلسفي. وعلى اساس هذا الأعتبار يتم النظر الى مصطلحات "الماضي" و"الحاضر" و"المستقبل" بالإضافة إلى جميع نماذج العلاقات المتبادلة.

لذلك لا يمكن أن يوجد فهم أولي عام لمفهوم فلسفة التاريخ إلا إذا نظرنا أولاً في كيفية استعمال هذا المفهوم المعني وفي أي سياقات تم استعماله. عندما نطرح أسئلة مثل :"كيف وأين ولماذا  ندخل عندئذ في فلسفة التاريخ  التي تختلف عن الاعتبارات المنهجية مثل: "ما هو التاريخ؟ ما هي الفلسفة؟"

نفترض أن فلسفة التاريخ يجب أن تُفهم كنوع من الفلسفة. وتعمل كموضوع مفاهيمي يُسند إليه التاريخ. لذلك فلسفة التاريخ هي نوع من الفلسفة التي لها علاقة بالتاريخ. وهكذا يكون موضوع  البحث في فلسفة التاريخ عن البحث في تاريخ الفلسفة. فتاريخ الفلسفة علم تاريخي مساعد للفلسفة. إنه  نوع من التأريخ موضوعه تطور الفكر الفلسفي. لذلك فإن مؤرخ الفلسفة هو مؤرخ يتعامل مع الفلسفة.

يبرز جانبان في الإطار النظري للفلسفة بخصوص مفهوم فلسفة التاريخ. يمكن فهم فلسفة التاريخ بأنها كل محاولات الفكر النظرية لتبرير سياق  كلي عالمي لمعنى عالم الحياة البشرية على أساس مبدأ تاريخي. وتفترض نظريات من هذا النوع أنه يمكن للمرء أن يكتسب منظور لطبيعة وأصل وهدف ومسار سيرورة التاريخ الشاملة.  تسمى فلسفات التاريخ هذه بالجوهرية أو التأملية لأنها تدلي ببيانات أساسية حول التاريخ، وتقدم مفاهيم كلية شاملة عالمية لمخطط مسار التاريخ من خلال التفكير الخالص الميتافيزيقي أو المادي، وكذلك لأنها تطور أفكارًا حول بنية ومسار الأحداث التاريخية التي يتم تحديدها ليس فقط من حيث الشكل، ولكن من حيث المحتوى أيضًا، وقبول التاريخ بأكمله كما هو معطى.

إذا فكرت الفلسفة تاريخيا؛ عندما تفهم موضوعها سواء كان فعلا او معرفة بشرية، وسواء كان ذلك يتعلق بالدين أو الطبيعة البشرية كموضوع تاريخي، وسواء كان ذلك دين الإنسان أو جوهره، ككائن تاريخي؛ إذا كان يبرر*الشئ من * تطوره التاريخي ويستمد تكهنات حول المسار المستقبلي لهذا التطور؛ وإذا كان يعطي تاريخ لمعنى مبدأ أو الفهم للشئ الذي تم فحصه، فيمكننا أن نقول، هذه هي "فلسفة التاريخ المادية". وهذا بمعني عام ومنهجي حول سمة أساسية للتفكير الفلسفي في التاريخ. وبهذا المعنى العام، ليس هناك فلسفة تاريخ ولا نظريات  فيها لاترتبط  بحقب تاريخية معينة.

توجد فلسفات التاريخ من هذا النوع، بمجرد أن يعتقد الناس أن الفرد، ذات فريدة من نوعها ومحدودة في هذا الوجود وكمشكلة نظرية عامة، وموضوعية، ويتعرف الإنسان على نفسه على أنه "كائن عقلاني محدود" ويدرك أنه "غاية العقل"، حيث لم يعد من الممكن قبول أن تاريخية العلاقة الإنسانية بالعالم اعتباطية ومجرد صدفة باهتة أو تعسف ديني او غير عقلانية.

لم ير الإنسان نفسه على أنه مخلوق من بين المخلوقات الأخرى فقط، ولكن كفرد مفكر موجود في المكان والزمان أيضًا، والذي يختبر هذا الوجود المحدود باعتباره تاريخيًا. إن الفكر البشري بطبيعة الحال هو منطقي - عقلاني بقدر ما هو تاريخي. إنه ضروري أو تاريخي في الأصل بقدر ما يحدد بشكل منهجي الفرد في المكان والزمان من خلال تخصيص مكان ذي مغزى له في سياق ما يسمى بالسياق السردي.

التفكير التاريخي بهذا المعنى الواسع هو محاولة معقدة مطلوبة لإعطاء الفوضى التي لا معنى لها لـ "الكفاح والسعي" البشري معنى، وعقلانية للمصير. الفكرة التاريخية الفلسفية لوحدة التاريخ الكوني هي مبدأ هذه المحاولة.

تحاول فلسفة التاريخ أن تفسر نظريًا ظروف وجودنا المكاني الزماني، والذي لا يتوفر لنا دائمًا بشكل عقلاني لخضوعه للاحتمالات والصدف، بمساعدة نمط عقلانيتها الخاصة، أي عقلانية أو منطق التاريخ الذي يُفهم على انه الركيزة التي تشمل كل من التفكير والوجود على قدم المساواة. تحلل فلسفة التاريخ عالم الأحداث والمجريات في التاريخ أو من خلال صوًغ نمذجة لها. وتدعي أنها  قادرة على تحديد شروط إطار معياري (أي تاريخي) لكل ما هو حقيقي.  تستند عقلانية النماذج الفلسفية التاريخية دائمًا إلى فهم التاريخ باعتباره عملية كونية شاملة يحكمها قانون (لا يوجد لها خارج) بحيث لا يمكن تحديد موقع الوجود العرضي للفرد البشري بدقة، ولكن أيضًا- يمكن اشتقاق البيانات المعيارية المؤسسة من التحديد المستقبلي لجميع الأفعال البشرية. يتعلق الأمر دائمًا بالكائن البشري كنوع، والشعوب والأمم، وليس بمصير الفرد.

يمكننا أيضًا أن نسمي هذا الفهم الفلسفي العام ولكن غير التاريخي أو المنهجي لفلسفة التاريخ بأنه ضروري إذا أصبحنا مدركين لبنية الفكر الذي يقوم عليه وحاولنا تحديد مكانه ضمن المبادئ العامة للفكر.إن فلسفة التاريخ شكلا من التفكير الذي يحدد ويقدم تصور خاضع لمبدأ أعلى هو العقلانية.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

حفلات التخرج الجامعي في المجتمع المحافظ أنموذجا

عادة ما تصاب السلوكيات الاجتماعية بالتذبذب، نتيجة لتغير الظروف والفواعل المكونة لها، وغالبا ما يكون الصراع النخبوي في تحليل هذه الظاهرة الاجتماعية منبثقا من ارتكازين متنافرين: ارتكاز المبادئ الأخلاقية الثابتة (أو ما يسميها بعض المفكرين بــ: الخالدة)، وهي المبادئ الأخلاقية التي تقوم على أسس ثابتة، كالأسس الدينية السماوية، والتي تكون صالحة في كل زمان ومكان، وتحدد تعريف الإنسان الصالح.

 والضد منها: إرتكاز مبادئ التحرر والانفتاح القائم في أسسه التاريخية على مبادئ التنوير التي انبثقت في الغرب في القرن الثامن عشر وما بعده، والذي يرتكز على مفهوم المركزية التامة للإنسان الفرد القادر على التحليل والإدراك والفعل. هذا ويرى أصحاب هذا الارتكاز بأن هذه المركزية تتألف من جوهر داخلي نشأ بالأساس مع ولادة الإنسان ثم تطور معه تدريجيا. وطوال وجود الفرد بقي هذا المركز الأساسي للذات هو ذاته بشكل مستمر ويشكل الهوية الفردية. !

تعتبر السلوكيات الاجتماعية بشكل عام، عاملا من عوامل انجذاب الفرد نحو هوية اجتماعية تشكل وتحدد ملامح شخصيته وكينونته، وتؤطر لديه كل فواعل الانفعالات، بالإضافة إلى مساهمتها في التكوين لِلّغة الاجتماعية التي تميز مجتمع معين عن غيره.

وعلى الرغم من الزخم الكبير، والتعقيد الكبير لنمط العلاقات بين الأفراد في المجتمعات الحديثة التي حاولت العولمة فيها أن تخلق نمطا اجتماعيا موحدا، تُذاب فيه كل الفواعل الرئيسية للهويات العامة والهويات الفرعية التي كانت تتميز بها المجتمعات البشرية سواء على صعيد الدين أو الأخلاق او العرف القيمي أو القانوني، إلا أن الجذور الفطرية عند الإنسان والتي تدفعه بغريزة كبيرة في محاولة منه للانتماء إلى مجموعة بشرية، تبرز فيها ملامح هويته الاجتماعية، محاولا الحفاظ على وجوده وكيانه الاجتماعي من خلال هذا الانتماء وهذه الهوية، خاصة بعد أن أصبح المواطن الفرد جزءا ضئيلا ضمن الماكنة البيروقراطية والإدارية للدولة والمجتمعات الحديثة. !

الفرد لم يعد شيئا متميزا ومنفصلا عن منظومة الاجتماع العولمي والتكنولوجي التواصلي المعاصر، بل إن العلاقات بين الأفراد والمجتمع تدخلت فيها المعتقدات الجماعية وعمليات الجماعات. فمثلا هوية الفرد كانت مرتبطة بعضويته في طبقة اجتماعية معينة أو بمهنة محددة أو بأصوله ضمن دين معين أو قومية وما شابه، بينما تعدد الهويات اليوم قد قاد إلى نشوء مصادر للسلوك الاجتماعي الذي يكون بأغلبه متنافر ومنحرف، عن القيم الاجتماعية والدينية التي تمثلها هوية المجتمع المحافظ. !

تعرف الهوية: Identity  بأنها : مقدار ما يحققه الفرد من الوعي بالذات والتفرد والاسـتقلالية، وأنه ذو كيان متميز عن الآخرين، والإحـساس بالتكامـل الـداخلي والتماثـل والاستمرارية عبر الزمن، والتمسك بالمثاليـات والقـيم الـسائدة فـي ثقافتـه.

بينما تعرف الهوية الاجتماعية identity-Socio بأنها جزء من مفهوم الذات لدى الفرد، يـشتق مـن معرفته بعضويته في الجماعة واكتسابه المعاني القيمية والوجدانية المتعلقة بهـذه العضوية.

ومن هذا المنطلق، نجد أن مخالفة الأسس القيمية والأخلاقية للمجتمع المتدين، كالمجتمع العراقي، من خلال ظهور ممارسات منحرفة كالتي تكون مصاحبة للسلوكيات الشبابية في ما تسمى بحفلات التخرج، إنما تمثل بذاتها عملية تهديم لهوية اجتماعية ينضوي تحت عناوينها الرئيسية والفرعية هؤلاء الشباب، لأن امتلاك الأفراد لهوية معينة، إنما يمثل قيم ومبادئ معينة تصاحب تلك الهوية، فهي تسمح لسلوك الأفراد ليكون متشابها مع الآخرين وكذلك تجعل السلوك في المجتمع أكثر نمطية وانتظاما، وعملية ضرب هذا الانتظام داخل البنية الاجتماعية الشبابية الجامعية، إنما يمثل عملية تخريب متعمدة لنسق الاستقرار الأخلاقي والقيمي السلوكي في المجتمع.

يرى الباحثين في الشأن الاجتماعي بأن الهوية الاجتماعية لدى الأفراد تنمو وفق مراحل متتابعة يواجه الفرد في كل منها (أزمة) معينة، ويتحدد مسار نمـوه تبعـاً لطبيعة حلها إيجاباً أو سلباً متأثراً بعدة عوامل بيولوجية واجتماعية وثقافيـة، ويـشير بعضهم إلى أن تقاطع العوامل البيولوجية والاجتماعية تجعل الهوية الاجتماعية لدى الفرد إمـا فـي حالة: -الإنجاز أو -التعليق أو -الانغلاق أو -التشتت.

ما يهمنا هنا هو نوع الهوية المشتتة، حيث يمر الفرد بأزمة هوية حادة، تجعله يحس بحالة عميقة من الاضطراب الانفعالي والسلوكي، وحالة تذبذب ونفور عن التعهدات العقدية الاجتماعية والأخلاقية التي تربطه مع منظومته الاجتماعية، من خلال تفاعله مع ناظم المعتقدات أو الأدوار الاجتماعية التي تخلق سياقا خاصا للأفراد في المجتمع، حيث يقود كل ذلك إلى افتقادهم لأية دلائل تقود إلى نشاط شخصي يمثل سمة الهوية الاجتماعية لديهم.

ومن هنا، فعندما نريد تقييم الحالة التي يمر بها الطالب الجامعي وهو يقوم بممارسات وسلوكيات وأفعال، تخلق قطيعة كبيرة بينه وبين الناظم الاجتماعي الذي ينتمي له هوياتيا، إنما نحن نتلمس حالة من التشتت والقطيعة مع الفعل الاجتماعي الذي يمنحه دورا اجتماعيا يمكنه من الالتحاق بالنسق الاجتماعي مستقبلا، بكل فواعله ومؤثراته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، كل ذلك يدل دلالة واضحة على دور التشتت الذي يقع فيه هذا الأنموذج من الطلبة في لحظة إحساسهم بانعتاق عن هويتهم الاجتماعية والأخلاقية التي تبتني عليها شخصياتهم.

وهنا يرى بعض الباحثين، بأن الاختلاف والتناقض في سلوكيات الفرد، عن ناظم الجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها في لحظة معينة، إنما يشكل محاولة كسر أخلاقي، مما يقود لنشوء فواعل قد تتطور في المستقبل لتشكل أزمة أخلاقية.

تعتبر فترة المراهقة وبدايات النضوج لدى الشباب من كلا الجنسين، فترة تحول سياقي عصيب، فهي مرحلة تتميز بأزمات عاصفة تمثل قطيعة كبير مع هوياتهم الاجتماعية التي نشئوا معها وعليها، فأزمة الأخلاق أو التطرف في فترة المراهقة وبدايات الانتقال من المراهقة إلى النضج الرجالي، تمثل تعقيدا تكوينيا إن لم يتم التعاطي معه بانضباط وحزم، قد يقود على حصول تذبذب في مفهوم الهوية الاجتماعية لدى هذه الطبقة، مما يقود إلى ارتباك انفعالي كبير عندهم في خلق التصورات والتفاعلات السلوكية التي تتواءم مع مفهوم الجماعة الاجتماعية التي ينتمون إليها، والتي تشكل هويتهم الاجتماعية.

في الحالة الطبيعة، من المفترض أن يقود الناظم الأخلاقي والاجتماعي الأفراد الذين يمرون بحالة المراهقة إلى تكوين شخصياتهم والأنا المكونة لهذه الشخصيات، بطريقة تنساب بسهولة مع الناظم الأخلاقي المجتمعي، كل ذلك لإعادة خلق وتجديد الهوية الاجتماعية للأفراد الجدد، خاصة وأن النفس البشرية تتوق عادة إلى تكوين صورة إيجابية عن الجماعات التي ينتمون إليها، ونتيجة لذلك فإن عمليات الهوية الاجتماعية تنحو بهم إلى البحث عن السمات والاتجاهات والسلوكيات المقدرة، والقيمة التي يمكن أن ينظر إليها كخاصية تميز جماعاتهم عن الجماعات الأخرى.

 لذا ارتبط مفهوم الأسس الأولى في تكوين وتَشَكّل الهوية، بشكل كبير بمرحلة المراهقة وما يليها، حيث تعد فترة المراهقة نقلة نوعية للمراهق في المستوى التعليمي وتطور مهاراتـه الاجتماعيـة وقدراته العقلية والجسمية، ويعتبرها علماء النفس الاجتماعي مرحلة التعليـق الـسيكولوجي الاجتمـاعي للهوية، حيث تناضل الأنا في التفاعل مع الأدوار المعروضـة فـي المجتمـع، وإن كـل المراهقين يتوقعوا أن يختبروا بعضاً من هذه الأزمـة، لأن أزمة الهوية هي مرحلة نمائية، والقدرة على تحقيق متطلباتهـا بنجـاح يـرتبط بطبيعة نماذج الضبط والكبح الاجتماعي في صعيده القيمي الأخلاقي، أو في تمظهراته السلوكية في مؤسساتها ما قبل الجامعية (الأسرة، المدرسة، المؤسسة الدينية).

تعتبر حفلات التخرج التي يقيمها الطلبة كل عام بعد وصولهم إلى نهاية الدراسة الأولية في الكلية، عرفا عاما اتبعته الحالة الأكاديمية خلال تاريخها العام؛ وعندما نتحدث عن الحالة الأكاديمية، وما يصدر من تحت ردائها ومؤسساتها من فعاليات ونشاطات، إنما نتحدث عن حالة مؤسسية تكون فيها حالة انضباط عالي وتقيد بقوانين وتعليمات وضوابط وقيم وأعراف وأخلاقيات مجتمعية ودينية، تكوّن بمجموعها روافد مهمة في تشكيل عوالم شخصية الأفراد، وتساهم برفدهم بعوامل وظروف تكوين جزء من هويتهم الاجتماعية التي من خلالها يحصلون على ادوارهم في المجتمع.

وبما ان حالة الانضباط القانوني والقيمي والأخلاقي في العراق، تمر في تمظهراتها السلطوية (الحكومية)، والاجتماعية العرفية في السنين الأخيرة، بأعراض بدايات الأزمة، خاصة بعد التناحر الفكري والأخلاقي بين نخب جامعية وأكاديمية مؤثرة، جزء منها يدعو إلى التماثل مع توجه البشرية العام المعاصر، حيث تعيش اليوم تنوعا متخالفا في طبيعة القضايا الفكرية التي تتبناها حول نوع الإنسان الذي يـستطيع مواكبـة المتطلبـات المتجددة، مما يؤدي في نظرهم إلى تغاير في أنظمة التنشئة الاجتماعية والأخلاقية وطبيعة جهودها، وبالتالي فهم يصلون إلى نتيجة مفادها: أن الوضع الاجتماعي بحاجة إلى مرونة كبيرة من اجل استقبال وتقبل هذا التغيير، كما يَدَّعون.

هذا التوجه مع الأسف سيقود من وجهة نظر الباحث إلى التأسيس لقواعـد مضطربة في تكوين الشخصية عند طلاب الجامعات، وإلى طول فترة إنجاز الهوية الاجتماعية، أو الفشل فـي إنجـاز العديد من مجالاتها.! لذا يعد هذا الفريق من النخب الأكاديمية والفكرية والاجتماعية، التي تدعو إلى إطلاق الحريات، سببا مهما من أسباب خلق التسيب وحالات الاستهتار وتشتت الشخصية الاجتماعية لدى الكثير من الطلبة في الجامعات، مما يؤسس لشرخ عميق وتكسر كبير في مفهوم الهوية الاجتماعية عندهم.

الطرف أو وجهة النظر الأخرى، ترى بأن حفلات التخرج الجامعية، هي حفلات يقوم بها الطلبة الشباب من أجل توديع الحياة والجهد والمثابرة العلمية والتحصيل العلمي الذي جمعهم بعلاقة أساسها تبادل وبناء المعارف العلمية، فقيام حفلات يتم فيها حسر مفاهيم القيم والمبادئ بالاتجاهات والسلوكيات والمظاهر الشاذة والدخيلة على مجتمعنا العربي والإسلامي بكل ميراثه وارثه الحضاري والتاريخي بهذا التدني والإساءة لكل المفاهيم والقيم والمفردات التربوية والإسلامية والأخلاقية، هو أمر مرفوض عندهم، ويقود إلى تخريب الهوية الاجتماعية التي تجمع كل التنوع بين أبناء هذا البلد، بل ويعتبر صورة واضحة لعملية حرف مسارات نهاية فترة المراهقة لدى هؤلاء الشباب، وبالتالي إبعادهم عن كامل المنظومة الأخلاقية والدينية الاجتماعية لمجتمعهم.

وبما ان الحيز الديني له حضوره المكثف في ظاهرة تكوين الشخصية لدى الأفراد في هذا البلد، وتنشئة الهوية الاجتماعية السليمة سلوكيا وفكريا وعقائديا، فقد كانت وجهة نظر الدين رافضة ومستهجنة بشدة للممارسات المخلة بالآداب العامة التي تحصل في مثل هذا النوع من الاحتفاليات، وخاصة بتصريح المرجعية الشريفة في توصيف هذه الحفلات " "لما يجري فيها من تصرفات وسلوكيات غير لائقة".

تعتبر المؤسسة الجامعية هي الحلقة التربوية المكملة لنشاط التنشئة الاجتماعية والأخلاقية والدينية الصانعة للهوية الاجتماعية للشباب والمراهقين، والتي تقوم بها مؤسسات أولية قبلها، وأقصد بها مؤسسة الأسرة، ومؤسسة المدرسة، إضافة للمؤسسة الدينية، والتي تتمظهر في الكثير من فعاليات والشعائر الدينية، والتي تساهم بشكل فعال في الحفاظ على الهوية الدينية للمجتمع وأفراده، فتهاون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بفروعها من الكليات والجامعات، في السماح بإقامة حفلات تخرج، أبسط ما يقال عنها بوصفها بأنها مبتذلة وتفتقر لأخلاقيات الهوية الاجتماعية العراقية القائمة على أخلاق ومُثُل تميز بها المجتمع العراقي، تمثل بحد ذاتها تحولا سلبيا في سياسات هذه الوزارة بفروعها واذرعها التعليمية والتربوية، وتحولها إلى آلة تخريب للأخلاق العامة، وتغييب تدريجي وتشويه متعمد للهوية الاجتماعية الجامعة للأفراد في نسيجهم الاجتماعي.

فالمؤسسات الجامعية اليوم بأغلبها باتت غير مدركة لفداحة المشكلة التي كانوا هم جزءا من التأسيس أو التماهي معها، فعلى الرغم من أن نوعية الارتباط بين المتغيرات النفسية والفيزيولوجية هو العامل الأساس في خلق الإحساس بالأنا الاجتماعية عند الشباب الجامعي الذي يمر بنهايات فترة المراهقة وتشكل الشخصية، والذي من المفترض أن يقود إلى التطـور الإيجـابي للهوية وتشكيلها بشكل سوي، إلا أن ما يحصل في الجامعات في هذه الممارسات الهجينة يمثل اضطرابا وتشويشا في مكامن الشخصية عند الطلبة والطالبات، واضطراب وتذبذب في عوامل تشكل الهوية الاجتماعية السوية، مما ينتج عنـه تبنـي هويات سلبية ضارة بالفرد والمجتمع، والشعور بالاغتراب وعدم الانتماء والذي ينعكس سلباً في أداء الفرد نحو التزاماته المجتمعية البناءة.

***

د. محمد أبو النواعير

دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.

 

يرى نيتشة ان الأعمال الفنية العظيمة يمكنها أما إخفاء رعب الواقع او انها تساعدنا في مواجهته. وضع نيتشة الفن ضمن نطاق يتراوح من أبولوني (يشبه الإله ابولو) الى ديونيسي (إله اللاعقلانية والفوضى). الاول يرتكز على العقل والتفكير، اما الثاني يرتكز على العواطف والتجربة. الفن الديونيسي والذي لا يحظى بالتقدير التام اليوم، يساعدنا في قبول مشقة الوجود الانساني.

الفيلسوف الشهير فردريك نيتشة كانت له طريقة غير عادية في النظر الى الفن، طريقة مستوحاة من عمله المبكر كخبير في دراسة اللغة اليونانية القديمة والادب. بدلا من التمييز بين نوع العمل الادبي، وسائط التعبير، و فترة الفن، كما يفعل معظم النقاد، كان نيتشة مهتما بالتفاعل بين قوتين ابداعيتين اعتقد انهما يرشدان الفنانين.

كما في العديد من مفاهيم نيتشة، هاتان القوتان جاءت تسميتهما من ألهة اليونان ابولو و ديونيس وهما مفهومان معقدان ويصعب تعريفهما. الفن المستوحى من ابولو، اله الحقيقة والنبوءة، هو عقلاني وبنّاء ومثالي، بينما الفن المستوحى من ديونيس، إله الخمر والصخب ، هو عاطفي وغريزي. الفن الابولوني هو تأملي: يساعد الناس في فهم ما يحيط بهم، و يحدد ويحل المشاكل، ويجلب النظام الى العالم الفوضوي. الفن الديونيسي يتجذر في التجربة ويستمتع بالفوضى. انه حول الوجود في العالم بدلا من فحص طبيعة الوجود ذاته. هنا يبرز الانطباع العام للثنائية : الفن الابولوني يسعى لحل التناقضات التي تحدد واقعنا، اما الفن الديونيسي ينطلق من قبول الواقع كما هو، دون طرح أي سؤال .

الفن يمكن ان يكون بطبيعته ابولوني ودايونسي  في وقت واحد ، ما يهم لنيتشة هو النسبة. مثاليا، الفن يجب ان يكون أجزاءً متساوية من الابولوني والديونيسي، لكن ذلك نادرا ما يحدث. كما يجادل نيتشه في كتابه (مولد التراجيديا)، هذا بسبب ان المجتمع الحديث بدأ بإعطاء قيمة للفن الابولولي أعلى من نظيره الفن الديونيسي. يشير نيتشه بأصبعه الى تأثير واستمرار شعبية سقراط الاب المؤسس للفلسفة الغربية، الذي جادل معاصريه للوثوق في العقل كي تبقى عواطفهم المدمرة والمدمرة للذات تحت السيطرة. لم يتفق نيتشة مع سقراط. نحن لسنا مكائن،نحن نشعر بنفس مقدار ما نفكر، والفن الذي يلجأ فقط لعقلانيتنا يفشل في معالجة المظهر المصيري للتجربة الانسانية. هو كتب في مولد التراجيديا "نحن يجب ان نعمل الكثير لعلم الجماليات".

حالما نفكر ليس فقط بالاستدلال المنطقي، وانما باليقين المباشر للبداهة، فان التطور المستمر للفن هو مرتبط بالثنائية الابولونية والديونيسية: مثلما الإنجاب يعتمد على ثنائية الجنسين، يستلزم صراعا دائما و تسويات منتظمة . التوازن المثالي بين الصفات الابولونية والديونيسية  للفن،طبقا لنيتشة،يمكن العثور عليه في الترجيديا اليونانية لما قبل سقراط. الصفات السابقة تجسدت على شكل حوار، بينما الأخيرة جرى التعبير عنها من خلال الجوقات الموسيقية.

الفن والتأكيد

بعد ان فهمنا كيف فسر نيتشة الفن، نأتي لمناقشة أفكاره حول الدور الذي يلعبه الفن في حياتنا اليومية. بما ان هذه الافكار تغيرت اثناء مسيرة حياته، فمن الافضل دراستها الواحدة تلو الاخرى بدلا من نقاش جسّد رأيه القاطع. مثلما الفن يمكن ان يكون ابولوني وديونيسي كذلك ايضا وفي نفس الوقت هو يمكن ان يخدم اهدافا متعددة تبدو متعارضة . في كتابه الرغبة في السلطة، يرى نيتشة ان الفن الابولوني بالذات هو في جوهره وهم يحمينا من الواقع، من حتمية المعاناة والموت. "القول بان الجيد والجميل شيء واحد، هو خزي" هو يستنتج ان، "الحقيقة قبيحة، نحن نحوز على الفن لكي لانهلك من الحقيقة". نيتشة كتب شيئا مشابها في مولد التراجيديا: الفن يعمل كمشعوذة إنقاذ، خبيرة في الشفاء. هي وحدها تعرف كيف تحوّل هذا الغثيان من أفكار حول الرعب وسخافة الوجود الى افكار يستطيع المرء ان يعيش معها، هذا هو التسامي عندما يعمل الفني على ترويض الرعب، وعندما تكون الفكاهة افرازاً فنيا لغثيان السخافة.

الفن الابولوني يمكنه ان يتصور واقعا بديلا فيه  تُحل مشاكل العالم الواقعي او يتم تجاهلها. لكنه، لايمكن ان يساعدنا في مواجهة الواقع كما هو. وهنا يأتي الفن الديونسي ،اللاعقلاني والتجريبي. "الديونسي يتغلغل في روح الانسان بطريقة خلافا للأبولوني ، لا يضلل الحقيقة وآلام الحياة". استاذ الفلسفة البروفيسور ديفد ايفينهويس David Evenhuis يوضح في مقال. "بدلا من ذلك، الديونسي يكشف في كل ذلك القساوة والتناقض، مؤكداً ليس فقط المرح وانما ايضا المعاناة".

إعترف نيتشة بهذا الموقف "ما لا يقتلني يزيدني قوة" في التراجيديا اليونانية المفضلة لديه،حسب ايفينهويس، تنقل قصصا عن "الناس الذين واجهوا قساوة مفرطة للحياة، وعلى الرغم من هذا، عاشوا ليؤكدوا وجودهم". هو ايضا رأى ذلك في آلهة اليونان، والذي خلافا للاديان التوحيدية التي جاءت لاحقا،لم تنظّم آلهتها وفقا لخطوط الخير والشر. اخيرا، هو نظر اليها في احتفالات اليونان التي تُقام على شرف ديونيس، حيث المواثيق الاجتماعية العادية تُرمى من النوافذ والمشاركون "يفقدون أنفسهم" مؤقتا في الغناء المحموم والرقص المسعور، يشبهون كثيرا ما فعل أسلافهم في فجر الزمن .

يستنتج ايفينهويس ان نيتشة قيّم عمل الفن "على اساس كيفية ارتباطه بوجود الانسان. ذلك الفن يعتبره نيتشة جيدا لأنه يزيد شعورنا بالسلطة والفن يُنظر اليه كشيء سيء عندما يحفز شعورا غير صحي من الانحطاط والانحلال". يكتب نيتشة في مولد التراجيديا "الفن يرغب بإقناعنا بالمرح الأبدي للوجود" و يستمر:

نحن نبحث فقط عن هذا المرح ليس في الظواهر، وانما خلفها. علينا الاعتراف ان كل ما يأتي الى الوجود يجب ان يكون مستعدا للنهايات الحزينة، نحن مجبرون للنظر الى رعب الوجود الفردي – مع ذلك نحن لا نتجمد بالخوف: راحة ميتافيزيقية تسحبنا لفترة قصيرة من صخب الشخصيات التحويلية.

هذه الراحة الميتافيزيقية – راحة تخفف ألم المعاناة – نحن يجب ان نبحث عنها عندما نقرأ كتاب او نستمع الى قطعة موسيقى او ندرس لوحة.

عندما توضع التراجيديا في سياق حياة الفرد الشخصية، عادة تبدو بلا معنى وصادمة. وعندما يتم استطلاعها من خلال الفن، ستفقد وخزاتها وتصبح بطريقة ما جميلة وذات معنى. حسب نيتشة: "بالرغم من الخوف والأسى، نحن الكائنات الحية السعيدة، ليس كأفراد وانما ككائن حي واحد متّحدون بفرح ابداعي".

***

حاتم حميد محسن

تشتمل النسوية العديد من النزاعات حول الدين: الزواج القسري، استئصال البظر، قوانين الطلاق والميراث، حقوق الأطفال والتعليم، الرموز الدينية (الحجاب، البرقع، النقاب)، الإجهاض، الحقوق الجنسية والإنجابية، تعدد الزوجات، المساواة في الوصول إلى المنظمات الدينية، وما إلى ذلك. نجد أن الدين من منظور المساواة بين الجنسين مثير للانقسام بشدة  رغم أنه، من الناحية الإحصائية، عدد الذين يمارسون طقوس الإيمان بين النساء أكثر من الرجال.1[1] ونظرًا للاختلاف بين الجنسين من حيث التدين، فمن المفارقات إلى حد ما أن الممارسات والمعتقدات الدينية غالبًا ما تتشابك المعتقدات مع النظام الأبوي، ومع أنظمة الخطاب والسلطة المعقدة القائمة على التمييز والسيطرة على الفتيات والنساء في المجالين الخاص والعام.

لقد تطور إجماع عام متزايد حول حظر بعض هذه الممارسات، مثل استئصال البظر، والزواج القسري وزواج الأطفال، والتمييز على أساس الجنس، بشكل عام في الديمقراطيات الغربية وغير الغربية2.[2] ومع ذلك، لا تزال قضايا عديدة مثيرة للجدل بشدة. تقر المملكة المتحدة وكندا وتركيا بأن المعلمين أو التلاميذ أو الطلاب يمكنهم ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات العامة، بينما تبنت فرنسا موقفًا تحريميًا تتغاضى عنه المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وبالمثل، أعادت المملكة المتحدة إنشاء محاكم شرعية ذات اختصاص محدود في قضايا مثل الزواج والطلاق والميراث؛ على الجانب الآخر، غالبًا ما اتخذت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان موقفًا استبعاديًا حصريًا فيما يتعلق بالإسلام، وتقدمت بأحكام شاملة. فخلصت، عن سبيل المثال، إلى أن الشريعة تتعارض مع الديمقراطية. تطرح هذه المجموعة من القضايا المتنوعة أسئلة ذات صلة: هل يضع الدين النساء في مرتبة أدنى بشكل لا مفر منه أم أنه يمكن أن يساهم بشكل كبير في هويتهن وخبراتهن في الحرية فيظل  ديمقراطية  قائمىة على مساواة ؟ ما هو دور السلطة السياسية في تحقيق المزيد من المساواة بين الرجل والمرأة داخل المؤسسات والجماعات المختلفة (الأسرة، "المجتمع، إلخ)؟

أثار التوتر بين الدين والمساواة بين الجنسين، من الناحية التاريخية، أهتمام المفكرين والناشطين من حركات مختلفة من النسوية، من أوليمب دي جوج (مؤلف 1791 "إعلان حقوق المرأة والمواطنات") وجون ستيوارت ميل (إخضاع النساء) لسيمون دي بوفوار (الجنس الثاني). أما البانوراما الحالية للنظريات النسوية  متنوعة بشكل ملحوظ: فبعض النسويات يعتبرن الحجاب مظهرًا شرعيًا ورمزًا للتحرر، بينما يرى آخرون أنه علامة على الأضطهاد. يدافع بعض النسويات عن الحقوق الجماعية والتعددية القضائية3،[3] و يرى البعض الآخر أن هذه الترتيبات القانونية تديم الهيمنة على المرأة4.[4] يمكن تحليل هذه البانوراما المعقدة كنقاش ثلاثي الزوايا. تشير النسوية العلمانية أو الحصرية إلى مجموعة من المفاهيم التي تدرك وجود توتر جوهري أو شبه اساسي بين الدين والمساواة بين الجنسين5[5] وتركز على الدين باعتباره هيمنة على تعدد أبعاد الظواهر الدينية (انظر المقدمة)6.[6] تسود العلمانية بين العديد من النسويات، وخاصة في الأوساط الأكاديمية الغربية حيث  يشاع بما يعرف بالعلمانية الانسانوية. تشترك النسويات العلمانيات من مختلف المشارب (الماركسية الراديكالية، الاشتراكية، الليبرالية، الجمهورية، حركات البيئة، إلخ) عمومًا في فهم شامل للحرية باعتبارها تقرير المصير والاستقلال.  تنظر النسوية العلمانية إلى الدين باعتباره عقبة رئيسية في بناء مجتمع قائم على المساواة  حتى في صيغتها أو شكلها "الأضعف  التي لا تتعرض فيهاممارسات دينية معينة مع أجندة تحررية.

على الطرف المقابل، ترفض النسوية الجماعاتية أحيانًا كل ما هو غربي - أي مناشدة القيم الغربية والحقوق الفردية الحديثة- باعتبارها قيمًا وتقاليدًا محلية بدائية ومفسدة. تأتي النسوية الجماعاتية في أشكال مختلفة، من المتغيرات العقائدية الدينية إلى المتغيرات النسبية (لا يُنظر إلى القيم الغربية على أنها سلبية، بل مختلفة جذريًا في الصيغة الأخيرة). إن جزء من الصعوبة المستعصية للمواقف الجماعية النسوية هو اعتمادها على أسطورة نقاء التقاليد والسياق المتجانس. فتتجاهل هذه المواقف في الغالب عمليات الاتصال والتبادلات التفاعلية والتثاقف بين التقاليد ؛ علاوة على ذلك، إنها تركز من جانب واحد على الدين بينما تقلل من النضالات من أجل السلطة والشرعية والهيمنة داخل التقاليد نفسها وصراعها على المعنى ايضًا.

ثالثًا، هناك فضاء متوسط لمقاربات المساواة التي تأخذ على محمل الجد المساواة بين الجنسين والاعتراف الديني.[7] تقر النسوية الشاملة بأهمية البحث الروحي والديني في التنمية البشرية ودور الدين في عمليات التحرر. ليس النظام الأبوي، من هذا المنظور، الذي يعترف بتعددية الظواهر الدينية سمة لا مفر منها للدين، لكنه راسخ بما يكفي لإحداث توترات عميقة بين الاعتراف الديني والمساواة بين الجنسين.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

......................

[1] Trzebiatowska, M. and Bruce, S. (2012) Why are Women More Religious Than Men? Oxford: Oxford University Press.

[1] ومع ذلك، يجادل بعض الكتاب الليبراليين لصالح التسامح مع الزواج القسري كجزء من أسلوب الحياة الليبرالي.

Kukathas, C. (1992) "Are There any Cultural Rights?", Political Theory 20: 105-139.

[1] Phillips, A. (2007) Multiculturalism without Culture. Cambridge, UK: Polity Press.

Malik, M. (2012) Minority Legal Orders in the UK: Minorities, Pluralism and the Law. London: The British Academy.

Shachar, A. (2001) Multicultural Jurisdictions: C11ltural Differences and Women's Rights. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

[1] Okin, S.M. (1999) "Is Multiculturalism Bad for Women?", in  Okine,  S.M., Cohen, J., Howard, M., and Nussbaum, M.C. (eds) Is Multiculturalism Bad for Women? Princeton, NJ: Princeton

University Press: 9-24.

[1] Becker, M. (1992) "The Politics of Women's Wrongs and the Bill of ‘Rights': A Bicentennial Perspective", The University of Chicago Law Review 59: 453-517.

[1] هناك اختلافات في الخطاب النسوي المعاصر . أحدها هو الانقسام "الكونتنتالي" / التحليلي.تهتم ما يسمى بالنسويات القارية في عناصر التجربة الدينية ويسترجعانها من خلال الاعتماد على المدارس الفكرية مثل الظواهر، والتفكيك، والتحليل النفسي ( عن سبيل المثال، لوس إيريجاراي، وماريا كريستيفا، وجوديث بتلر). هذه المساهمات ذات قيمة غير متساوية. من وجهة نظرنا،من المثير للاهتمام أنتفكير بتلر ببناء قيم على اليهودية والنظرية السياسية. على النقيض من ذلك، يفترض منظور إيريجاراي اختلافًا جذريًا بين الرجال والنساء ويتكون مناراء لافته خاصة ومتفائلة لا نرى مساهمات مثلها في الفلسفة (السياسية).

[1]  أنظر:

[1] Trzebiatowska, M. and Bruce, S. (2012) Why are Women More Religious Than Men? Oxford: Oxford University Press.

[2] ومع ذلك، يجادل بعض الكتاب الليبراليين لصالح التسامح مع الزواج القسري كجزء من أسلوب الحياة الليبرالي.

Kukathas, C. (1992) "Are There any Cultural Rights?", Political Theory 20: 105-139.

[3] Phillips, A. (2007) Multiculturalism without Culture. Cambridge, UK: Polity Press.

Malik, M. (2012) Minority Legal Orders in the UK: Minorities, Pluralism and the Law. London: The British Academy.

Shachar, A. (2001) Multicultural Jurisdictions: C11ltural Differences and Women's Rights. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

[4] Okin, S.M. (1999) "Is Multiculturalism Bad for Women?", in  Okine,  S.M., Cohen, J., Howard, M., and Nussbaum, M.C. (eds) Is Multiculturalism Bad for Women? Princeton, NJ: Princeton

University Press: 9-24.

[5] Becker, M. (1992) "The Politics of Women's Wrongs and the Bill of ‘Rights': A Bicentennial Perspective", The University of Chicago Law Review 59: 453-517.

[6] هناك اختلافات في الخطاب النسوي المعاصر . أحدها هو الانقسام "الكونتنتالي" / التحليلي.تهتم ما يسمى بالنسويات القارية في عناصر التجربة الدينية ويسترجعانها من خلال الاعتماد على المدارس الفكرية مثل الظواهر، والتفكيك، والتحليل النفسي ( عن سبيل المثال، لوس إيريجاراي، وماريا كريستيفا، وجوديث بتلر). هذه المساهمات ذات قيمة غير متساوية. من وجهة نظرنا،من المثير للاهتمام أنتفكير بتلر ببناء قيم على اليهودية والنظرية السياسية. على النقيض من ذلك، يفترض منظور إيريجاراي اختلافًا جذريًا بين الرجال والنساء ويتكون مناراء لافته خاصة ومتفائلة لا نرى مساهمات مثلها في الفلسفة (السياسية).

[7]  أنظر:

Nussbaum, M. (2000). Women and Human Development: The Capabilities A pproach. Cambridge, UK, New York: Cambridge University Press.

Phillips, A. (2007) Multiculturalism without Culture. Cambridge.

Malik, M. (2012) Minority Legal Orders in the UK: Minorities, Pluralism and the Law.

 

الأنساقُ الفلسفية في البناء الاجتماعي نابعةٌ مِن الهُوِيَّة الوُجودية للفرد في رحلة بَحْثِه عن ذاته وحياته. ورحلةُ البحثِ لَيْسَتْ انتقالًا ميكانيكيًّا في الزمان والمكان، بَلْ هي انتقالٌ ديناميكي في تأثيرات سُلطة العقل الجَمْعي في مَصادرِ التاريخ وقَواعدِ المعرفة. وهذه التأثيراتُ مُرتبطة بجذور المشروع الحضاري للمُجتمع، وقُدرته على تَوحيد الذاتِ والمَوضوعِ في مَنطِق اللغة الرمزي الذي يتحكَّم بالعلاقاتِ الاجتماعية، وانعكاساتِها على الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية. وسُلطةُ المُجتمعِ المَعرفيةُ لا تتجذَّر في الإدراكِ الحِسِّي والوَعْيِ الفَعَّال، إلا باعتمادِ التفكير النَّقْدِي في الواقع المُعَاش، وتحريرِ الظواهر الثقافية مِن قُيود الأحكامِ المُسْبَقَة والقوالبِ الجاهزة. وإذا كانت المعرفةُ تَكتسِب شرعيتها مِن صَيرورةِ التاريخ ومَركزيةِ الوُجود، فإنَّ الهُوِيَّة تَستمد سُلطتها مِن الترابط المصيري بين مَنطِقِ اللغة الرمزي وأشكالِ الحياة اليومية. ولا يُمكِن أن تتحوَّل صَيرورةُ التاريخ إلى حالةِ خَلاصٍ مُستمرة في المُجتمع إلا بِصَهْرِ المعرفة في الهُوِيَّة، وتَذويبِ التجارب الشخصية في الأفكار الإبداعية الجَمَاعية. وهذا مِن شَأنه تَطهيرُ البناءِ الاجتماعي مِن الوَعْي الزائف، وتحقيقُ التجانسِ بين المضمونِ العميق لشخصية الفرد الإنسانية، والبُنيةِ الجَذرية لعملية صِناعة الثقافة.

2

العقلُ الجَمْعي لا يَقْدِر على تَحويل مَنطِق اللغة الرمزي إلى هُوِيَّة مَعرفية للمُجتمعِ والتاريخِ، إلا بتوظيف الوَعْي الواقعي في بُنية الفِعْل الاجتماعي، لأنَّ الوَعْي هو القُوَّة الدافعة للفِعْل. والوَعْيُ والفِعْلُ مُرتبطان بالتَّغَيُّرات النَّفْسِيَّة التي تَطْرَأ على حياة الفرد الداخلية والخارجية. وجميعُ هذه العناصر مُجتمعةً تُشَكِّل النسيجَ المعرفي، والتكوينَ الشُّعوري، والتطبيقَ العملي. وبالتالي، يُصبح المُجتمعُ شَبَكَةً مِن زوايا الرؤية المُتَنَوِّعَة والمُتكامِلة، وحاضنةً للظواهر الثقافية، والآلِيَّاتِ اللغوية القادرة على تفسيرها وتَوظيفها. وإذا صَارَ الواقعُ المُعَاش أداةً فِكرية للنهضة والإبداع، فإنَّ التاريخ سَيُصبح رافعةً للوَعْي بِكُلِّ أشكاله وانعكاساته، وهذا يُسَاهِم في السَّيطرة على المَعْنَى الوُجودي المُتَشَظِّي في العلاقاتِ الاجتماعية، والمعاييرِ الأخلاقية، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحرير الإنسان مِن ضَغطِ الاغترابِ الذاتي، ومَأزِقِ الخَلاص الفَرْدي، وقُيودِ الاستهلاكية المادية، وهَيمنةِ الآلَة على الطبيعة.

3

تحريرُ الإنسانِ تَجسيدٌ للهُوِيَّة الوجودية في السُّلطة المعرفية، التي تُمثِّل مَنظومةً مِن الشُّروط الضرورية لإعادة إنتاج الإنساق الفلسفية في البناءِ الاجتماعي والبُنيةِ الثقافية، مِن أجل بناء ماهيَّة الإنسانية على السِّيَاقات التاريخية القائمة على النَّقْد البَنَّاء، ولَيس التقديس المَصْلَحي. والتاريخُ الحقيقي هو الكِيَان الواقعي الذي يَستطيع الصُّمُودَ في رُوحِ الزمانِ وجَسَدِ المكانِ اعتمادًا على قُوَّته الذاتية بلا إسناد خارجي ومصالح مُغْرِضَة. وكُلُّ تاريخٍ يَستمد وُجوده مِن عوامل خارجية دخيلة، وأنماط تفكير استبدادية، سَوْفَ يَتفكَّك ويَنهار بسبب التناقضِ بين الإدراك الحِسِّي والوَعْي الفَعَّال، والتعارضِ بين الواقع المادي والتأويل اللغوي. ويجب أن يَكُون التاريخُ تَطَهُّرًا دائمًا مِن الأحلامِ المَكبوتة والأفكارِ المَقموعة، وتَطهيرًا مُستمرًّا للعلاقات الاجتماعية مِن الوَعْيِ الزائف والوَهْمِ النَّفْعِي المَصْلَحي الذي يُكَرِّر ذَاتَه، ويُعيد نَفْسَه وَفْق أشكال استهلاكية مادية تَضغط على ذاكرة الفرد، وتُضعِف شخصيته، وتَسْلُب حُرِّيته وإنسانيته، وتُحَطِّم مَركزيته في الطبيعة والوُجود.

4

البناءُ الاجتماعي لَيس كُتلةً أسمنتية جامدة، وإنَّما هو كَينونةٌ مُتماهية معَ مَنطِق اللغة الرمزي، ومنظومةٌ مُتفاعلة معَ السِّيَاق التاريخي للفرد والمُجتمع، ومنهجيةٌ مُندمِجة معَ عملية صناعة الوَعْي الفَعَّال. والبناءُ الاجتماعي يَمْزُج التجاربَ الشخصية بمصادر المعرفة،ويُحَوِّل العواملَ النَّفْسِيَّة إلى معايير أخلاقية قابلة للتطبيق على أرض الواقع، مِمَّا يُنتج بيئةً خِصْبَةً مُلائمة للأفكار الإبداعية، ويَدفَع باتِّجاه توليد ظواهر ثقافية مُلتصقة بتفاصيل الحياة، وغَير مُنفصلة عنها، ولا مُتعالية عليها، فَتَصِير الثقافةُ _ الشَّعْبِيَّة والنُّخْبَوِيَّة _ حَلًّا عمليًّا للواقع الإنساني المأزوم، ولَيْسَتْ جُزْءًا مِنه. وهذا يَستلزم أن يَكُون البناءُ الاجتماعي قادرًا على تجاوُز ذاته، وتَجَاوُز عناصر البيئة المُحيطة به. وهذا التَّجَاوُزُ الدائم للذاتِ والمُحِيطِ يُؤَدِّي إلى تَوليد الأفكار الإبداعية بشكل مُستمر، وكُلَّمَا تَوَلَّدَتْ أفكارٌ إبداعية، انبثقتْ تأويلاتٌ جديدة للتاريخ، مُستقلة بذاتها، وغَير خَاضعة للأدلجة السِّيَاسية. وهذه التأويلاتُ لا تَخترع تاريخيًّا ذهنيًّا بعيدًا عن الواقع، وإنَّما تَقُوم بدمج الهوامش معَ المركز، لِتَكوين صُورة شاملة بكل الزوايا والأبعاد، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحليل دور الفرد في التاريخ باعتباره إنسانًا فاعلًا في الزمان والمكان، وصانعًا للحَدَثِ، ومُكْتَشِفًا للحُلْم، ولَيْسَ شخصًا مَجهولًا بلا هُوِيَّة، وَمُسْتَلَبًا بلا شرعية، ومنسيًّا بلا ذاكرة. إنَّ الفردَ مِثْلُ التاريخ، كِلاهما يُجسِّد فلسفةَ الوجود في رحلة البحث عن المَعْنَى.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لا أجادل  بخصوص راي هابرماس بأن المؤسسات والإجراءات القانونية تهدف إلى توفير مساحة لعمليات المحاججة التي تخضع لمنطق مثالي خاص بها. فقد يكون هذا التوجه للخطاب هو العامل الأكثر أهمية في شرعية القانون. ويمثل القانون والسياسة أشكالًا من الخطاب المؤسسي إلى هذا الحد. ما أريد أن أصل إليه هنا، هو التعديل او التغيير الطفيف للخطاب في هذه المعادلة "ذات الطابع المؤسسي" على وجه التحديد . يمكن للإجراءات أن تعزز الخطاب إلى حد معين فقط، وبعد ذلك يكون القرار مطلوبًا. السؤال إذن هو ما إذا كان اتخاذ القرار نفسه يمكن أن يكون عادلاً بطرق لم يُعبر عنها في مفاهيم هابرماس للخطاب أو التسوية.

نجد دليلاً على طبيعة عقلانية اتخاذ القرار في إجراءات الصدفة. يمكننا  توضيح ما نقصد بمثال بسيط. لنفترض أن طفلين، صادفًا لوحة على الأرض في وقت واحد تقريبًا، بدأ الجدال بينهما حول من رأى اللوحة أولاً، وبالتالي له حق المطالبة بها. يعتقد كل منهم أن مطالبته باللوحة عادلة ويدافع عن ادعائه، بحيث تظهر القضية كمسألة أخلاقية تنطوي على حجة على الأقل. في حالة عدم تمكن أي من الطرفين من إقناع الآخر، فمن المنطقي أن يتفق الطفلين على إجراء مثل رمي عملة معدنية من أجل تسوية نزاعهم (على افتراض أنهم يريدون الحفاظ على علاقات جيدة). لا يبدو أن إجراء القرار هذا قابل للتفسير في حد ذاته سواء من حيث الخطاب أو الاجابة الصحيحة الواحدة. وبالمثل، ينطوي التوصل إلى توافق في الإجماع في خطاب أخلاقي مبرر على أن الاعتبارات المستقبلية لنفس القضية لن تبطل الإجماع الأول او الموجود اصلا.  على النقيض من ذلك ، فإن رمي العملة- الذي يمكن القول إنه إجراء عادل – لايدعي التوصل  إلى نتيجة  تؤكدها عمليات القذف المستقبلية، كما لو أن القرعة الأولى أنتجت نتيجة "صحيحة" أو "عادلة". في الوقت نفسه، نحن لا نتعامل مع حل وسط كما حدده هابرماس: فمن ناحية، سيخسر طرف ويفوز آخر؛ من ناحية أخرى، وقد نكتشف بعد رمي العملة مزيدًا من المعلومات- حجج جديدة- تظهر فجأة مما يجعل الأمر واضحا من الذي يستحق اللوحة حقًا. تظل القضية مسألة عدالة من حيث المبدأ.[1]

لا أقصد مساواة الإجراءات القانونية بإلقاء العملات المعدنية، على الرغم من أن العاب اليانصيب كانت وما زالت مستخدمة في القانون والسياسة.[2] ولكني اخترت هذا المثال فقط لأنه يبرز- بشكل واضح - الاختلاف بين الخطاب وصنع القرار.وهذا يعني أن  إن إجراءات أتخاذ القرار نفسها، التي تبدو عادلة، ليس لها في هذه الحالة سوى الحد الأدنى من العلاقة بمتطلبات الخطاب العقلاني. فمن المسلم به أن إجراءات اتخاذ القرار القانوني السياسي الأخرى مثل حكم الأغلبية أو إجراءات المحكمة تتمتع بعلاقة أوثق مع الخطاب. ومع ذلك، مايزال هناك اختلاف مماثل بين متابعة الخطاب حتى يصل كل مشارك إلى البصيرة نفسها، ووبين الإجراءات المنصوص عليه الذي يدعو إلى التصويت، أو قرارًا قضائيًا موثوقًا بعد أن يكون لكل حزب أو ممثله فرصة متساوية ليعرض قضيته. إن رمي العملة ليس سوى مثال متطرف للنقطة المنصوص عليها حيث يقطع الإجراء الحقيقي المناقشة العقلانية ويتطلب قرارًا.

هناك رد سهل وسريع على الملاحظة أعلاه: لن يكون الإجراء الذي يتم من خلاله التوصل إلى قرار عادلًا إلا إذا كان هو نفسه موضوعًا خاضعا لنوع من الميتا- خطاب الذي يناقش  فيه المشاركون بعقلانية أفضل طريقة للوصول الى قرار في القضية المعنية. وبهذا المعنى، حتى إجراءات الصدفة لها علاقة غير مباشرة بالخطاب، وهي نقطة أثارها هابرماس بالفعل فيما يتعلق بالتنازلات.[3] تنطوي مثل هذه الخطابات الوصفية على اعتبارات معقدة كما يتضح من المناقشات حول كل من إجراءات الأحتمال أو الصدفة وقاعدة الأغلبية. سوف يسأل المشاركون، عند التفكير في احتمالات الفرصة، أنفسهم عما إذا كان رمي عملة معدنية يمكن أن يلحق الضرر بواحد منهم بشكل ثابت على الأقل. من المفترض لن تقبل الأطراف مثل هذا الإجراء إلا إذا أعطت كل منهما فرصة متساوية في الفوز. إذا كان هذا ليس هو الاعتبار الوحيد فإن قرعة العملة المعدنية تنجح في "حماية القيم المهمة المتمثلة في المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص".[4] لا شك أن الميتا- خطابات حول حكم الأغلبية أو أشكال صنع القرار الموثوق به في نظام حكم مدني أكثر تعقيدًا. وسوف تركز على مدى جودة الشروط الإجرائية في زيادة فرص أن تتمتع النتيجة بافتراض يتزامن مع النتيجة التي سيصل إليها الخطاب العقلاني، مع إعطاء الوقت الكافي. ولكن تشكل الأفكار التي تركز على المساواة في المعاملة والفرص بعضًا من أهم المبررات هنا أيضًا.[5]

إن ما تعنيه "المساواة" هنا هو مسألة معقدة. فتبدو هناك حاجة إلى قول المزيد عن الشرعية أكثر من الرد السريع أعلاه. يفتح الاختلاف بين الخطاب واتخاذ القرار، ودور المساواة في الأخير، الباب أمام تفسير أكثر تعقيدًا للشرعية الديمقراطية ا في ظل ظروف التعددية. وحتى إذا كان ينبغي مناقشة إجراءات اتخاذ القرار في الميتا- خطابات، فبمجرد أن يتم تأسيس إجراء ما بشكل مؤسسي، يمكن أن تعمل سمات المساواة الجوهرية كمعيار مباشر للشرعية إلى جانب سماتها الخطابية. لا يمكنني في المساحة المتبقية إلا أن اقدم بعض الآثار المحتملة لهذا.[6]

لاحظ أولاً أن استخدام الميتا- خطاب لا يلغي الطابع المميز لإجراء القرار نفسه.  يلتزم المشاركون، من خلال الموافقة على استخدام رمي العملة، على سبيل المثال، بإجراء يمكنهم قبوله على أنه عادل من وجهة نظر المساواة، ولكن لا تتوافق نتيجته بالضرورة مع ما يمكن تبريره بشكل محايد في خطاب عقلاني محض بشكل كافٍ. إذا كان يكشف هذا شيئًا عن جميع الإجراءات القانونية والسياسية، فيمكن للمرءالتمييز بين الإنصاف الجوهري لهذه الإجراءات؛ ما إذا كان رمي العملة يمنح كل جانب فرصًا متساوية للفوز، أو ما إذا كان كل مشارك لديه فرصة متساوية لتقديم الحجج ويدلي بصوته بدرجة تقترب من متطلبات الخطاب العقلاني. لا تتطابق نتيجة رمي العملة أو التصويت أو إجراء قضائي حتى لو تم تنظيمها بشكل عادل  بالضرورة مع النتيجة المثالية التي سيصل إليها الخطاب في وقت كافٍ. وطالما أن جميع المتأثرين في وضع متماثل فيما يتعلق بالقرار، فإننا نميل عادةً إلى تسمية الإجراء "عادل" على الرغم من أنه لا يفي بالمتطلبات المعرفية الإلزامية التي حددها المنطق المثالي للمحاججة.[7]

ينشأ الاختلاف بين الخطاب المحايد وصنع القرار العادل من حقيقة أنه في أي نقطة معينة في معظم الخطابات الواقعية، ليست "الحجة الأفضل"، التي تستحق الموافقة بالإجماع، واضحة. يمكن أن يختلف الأشخاص بشكل معقول، حتى لو، ستثبت إجابة واحدة فقط أنها صحيحة على المدى الطويل. وبالتالي، يكون الحل العقلاني أو العادل لمسألة قانونية أو سياسية غير محدد أو غير مؤكد في أي نقطة زمنية معينة.[8]  يمكن للإجراءات القانونية، في هذه الحالة، أن توفر شيئين على الأقل في الطريق إلى اتخاذ قرار في الوقت المناسب: (1) أنها تفسح المجال لـ "الخطاب"، وبالتالي تزيد من فرص أن تؤثر الحجة الأفضل على الأغلبية أو على السلطة القانونية (اعتمادًا على نوع الإجراء)؛ و(2) تمنح كل طرف في النزاع "فرصة متساوية" للتأثير على النتيجة. ليس تكافؤ الفرص هنا المساواة نفسها بالضبط التي تتطلبها مثالية الخطاب. يفترض الأخير حقًا متساويًا في المشاركة لتكوين قناعة مشتركة، بحيث يمكن لكل فرد أن يوافق بشكل متساوٍ على النتيجة الموضوعية على أساس صحتها من وجهة نظربصيرته الشخصية. ومع ذلك، قد لا يكون، في الخطاب الواقعي، هناك اقتناع مشترك في النهاية، على الرغم من أنه قد يكون هناك تصويت يدلي فيه كل شخص بصوت واحد. يُعرَّف الشكل الأخير من المساواة الذي يحكم اتخاذ القرار المناسب عادةً على أنه "سلطة متساوية على النتائج" (أي فرصة متساوية للتأثير على النتيجة).[9] ومع ذلك، يخضع مفهوم القوة لغموض مرتبط بحالات الطوارئ أو المحتملة المتعلقة بتكوين الجماعة وسياقها.[10] ومن ثم، يجب أن يشير التفصيل المناسب لتكافؤ الفرص في صنع القرار، ليس فقط للتأثير على النتيجة، ولكن إلى فكرة التضامن الشامل المبني على الاحترام المتساوي لكل مواطن أيضًا. إن ما يهم، من هذا المنظور، هو أن تنقل شروط المشاركة في إجراء ما اعترافًا مجتمعيًا بقيمة فردية متساوية.[11]

إذا كان هذا التأكيد على المسار الصحيح، فإن الإجراءات العادلة تُظهر جانبًا فرديًا وإراديًا من القانون. يمكن لهذا الجانب من الإجراءات القانونية أن يفسر جزئياً امتثال الأطراف التي لا تزال تختلف مع العدالة فيما يتعلق بنتيجة جوهرية معينة. وهذا يعني، بما أن الإجراء يعبر عن الاعتراف بالمكانة المتساوية للفرد كمواطن بغض النظر عن مدى حكم الفرد ثاقبًا على قضية معينة، فإن المشاركة في الإجراء يمكن أن تعيد تضامن المجموعة، إلى حد ما على الأقل. وهذا بدوره يمكن أن يعزز الامتثال للنتائج غير المواتية. ويمكن أن يجعل الأحزاب الخاسرة أكثر إحجامًا عن خرق القوانين أو رفض التعاون مع البرامج السياسية القانونية التي تم سنها بشأن معارضتها على الأقل.[12] لا يعني هذا أن النقد والاحتجاج المدني مستحيلان، ولكن فقط للإشارة إلى أن مثل هذه الإجراءات قد ينطوي على تكاليف تضامن بالإضافة إلى تكاليف مواجهة العقوبات القانونية .[13] على أي حال، قد يكون لدى المرء مصدر امتثال أو اذعان يتضمن أكثر من إكراه ومعاقبة ولكنه ليس امتثال بدافع عقلاني  قائم على نظرة ثاقبة للشرعية والصلاحية المعيارية للقانون.

يخاطر هابرماس في تركيز الشرعية على مبدأ الخطاب حصريًا بإهمال الإنصاف الإجرائي الجوهري في القانون ومساهمته المحتملة في التضامن والامتثال. علاوة على ذلك، إذا كان من الممكن اعتبار مثل هذا الإنصاف عاملاً في الشرعية، فإنه يسمح للشخص بتحديد كيف تتداخل الخطابات المثالية والإجراءات القانونية العادلة بطريقة تجعل كل من العقلانية الخطابية والشكل القانوني يسهمان في شرعية قانون. وبما أن القضايا المطروحة في الخطاب القانوني السياسي لها مكونات أخلاقية براغماتية، فإن مناقشتها تخضع للمتطلبات المثالية لعمليات التفكير العقلاني. ويتم إعداد الخطابات القانونية والسياسية للسماح لمثل هذه الجدل بالحدوث من أجل تعزيز حكم المشاركين على المسألة المطروحة. لكن ليس تشكيل الحكم العقلاني كافيًا: حيث يخضع الى أين وكيف يبني إجراء قانوني معين ويقطع الخطاب في النهاية من أجل قرار محدد لمتطلبات التكافؤ للإجراءات العادلة. إن صنع القرار القانوني السياسي، إلى هذا الحد، موجه للوصول إلى قرارات ملزمة بطريقة تحافظ على التضامن من خلال الاعتراف المتبادل بالقيمة المتساوية للفائزين والخاسرين على حد سواء.

يشير هذا إلى أن التفسير المناسب لشرعية القانون يجب أن يشمل كلتا اللحظتين. لذلك، يجب أن يكون الصوغ المناسب للمبدأ الديمقراطي محايدة للتمييز بين التبرير العقلاني واتخاذ القرار العادل. يعني هذا أن المبدأ الديمقراطي لا يمكن صياغته من حيث الإجماع-؛ أيً، لا يمكن لمبدأ الخطاب أن يكتسب شكلاً مؤسسيًا دون أن يتأثر بشكل أساس. يعكس مبدأ هابرماس الديمقراطي تركيزًا مفرطًا على الخطاب. تثير كيفية تصحيح هذه المشكلة أسئلة أخرى بالطبع لا يمكن التطرق إليها هنا. لكن يشير الجانب التضامني للعدالة الإجرائية إلى أن البداية الجيدة ستشمل المزيد من فحص القانون من وجهة نظر التضامن في عمليات اتخاذ القرار وتماسك المجموعة. إذا كانت الملاحظات الموجزة في هذا التأمل صحيحة، فإن حكم القانون الحديث يفترض مسبقًا شيئًا مثل التضامن العقلاني الذي له جانبين خطابية وأرادية. وبينما لم ينكر هابرماس هذا، فقد طور في المقام الأول الجوانب الخطابية للقانون والسياسة، بل إنه أوضح أهمية وتشعبات الخطاب بدرجة ملحوظة بالفعل. بالنظر إلى التحديات المتزايدة التي تواجه الديمقراطيات التعددية اليوم، فإن مساهمته تستحق متابعة متعددة التخصصات بنسب متساوية.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...................

[1] يميز هابرماس عمليات المفاوضة (التي تهدف إلى التسويات) عن القضايا الآمرة من حيث نوع المصالح المعرضة للخطر: تتضمن الأولى تضارب المصالح الخاصة فقط ، في حين تتضمن الأخيرة مصالح قابلة للتعميم قادرة على إرساء حل يكون معرفيًا صحيحًا. . "يمكن أن تكون الحلول الوسط" عادلة "بقدر ما تستند إلى توازن متساوٍ في السلطة. راجع:

هابرماس، المصدر نفسه, 161- 67.

[2] أنظر:

ELSTER, JON E LSTER, SOMONIC JUDGEMENTS: STUDIES IN THE LIMITATIONS OF RATIONALITY Ch. 3 (1989). supra note 34, at 62- 6 7.

[3]هابرماس، المصدر نفسه, 166-67.

EISTER, المصدر السابق 34. at 99.

[4] EISTER, المصدر نفسه 34, at 170-71.

[5] Thomas Christiano, Social Choice and Democrats, in The Idea of Democracy 173 (David Copp et al. eds., 1993).

[6] للحصول على لمحات عامة عن القضايا المرتبطة بمختلف مفاهيم المساواة ، انظر ، على سبيل المثال ،

9 EQUAUTY (American Society for Political and Legal Philosophy,). Roland Pennock &John W. Chapman eds., 1967).

[7] هذا التمييز بين العدالة الإجرائية والقرار العادل  موجود في:

BRIAN BARRY, POLITICAL ARGUMENT Ch. 6 (1965).

وكذلك:

David Ingram, The Limits and Possibilities of Discourse Ethics in Democratic Theory, 21 POLITICAL THEORY 294 (1993),

[8] أنظر:

Thomas McCarthy, Legitimacy, and Diversity: Dialectical Reflections on Analytical Distinctions, 17 CARDOZO L. REv. 1o83 (1996) .

[9] BEITZمصدر سابق 16, at 4.

[10] Jones, مصدر سابق 16, at 165-72.

[11] RONALD DWORKIN, TAKING RIGHTS SERIOUSLY 266, 278 (1977).

[12] أنظر:

E, ALLAN LIND & TOM R. TYLER, THE SOCIAL PSYCHOLOGY OF PROCEDURAL JUSTICE  230-40 (1988).

[13]    انظر:

Habermas, Legitimation Crisis, Polity,1988.

 

الفلسفة المثاليّة عموماَ، هي مجموعة متنوعة من الآراء الميتافيزيقيّة التي تؤكد جميعها أن الواقع المعيوش بكل قضاياه لا يمكن تمييزه أو فصله عن الإدراك أو الفهم البشري. أي أنه بمعنى ما مبني عقليًا. أو من ناحية أخرى هو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأفكار. فالأفكار هي من يُثبت وجود الواقع وليس العكس. لذلك يأتي الحدس والضمير والوجدان والإرادة الذاتيّة والمنطق الصوريّ، (1) هي الأدوات الأكثر فاعليّة في التعامل مع هذا الواقع.

الفلسفة المثالية المعاصرة – الفلسفة الوجودية أنموذجا:

لقد كان للأزمة العميقة التي مر بها النظام الرأسماليّ منذ نهاية القرن التاسع عشر، نتائج مدمرة تجلت في قيام حربين عالميتين، تركتا آثارهما السلبيّة على حياة شعوب الدول الأوربيّة المتحاربة، ولم تزل هذه الاثار قائمة حتى اليوم، وخاصة على البنى النفسيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة بشكل عام، وعلى التوجهات الفلسفيّة المشبعة بروح التشاؤم والسقوط والعبث واللامعقول، بشكل خاص.

هذا وإن الفلسفة الوجوديّة موضوع بحثنا هنا، التي أفرزتها ظروف الحربين العالميتين الموضوعيّة منها والذاتيّة، لم تتجل أو تتمظهر في الفلسفة والفن والأدب فحسب، بل وفي نفسيّة المواطن وقيمه الأخلاقيّة وسلوكياته اليوميّة كما أشرنا قبل قليل. أو بتعبير آخر، لقد ظهرت هذه الفلسفة وتجلياتها في حاضنة اجتماعيّة مليئة بالأسى والحقد العام، والذعر، والآمال المبهمة في الانتقام، والمشبعة بالهيجان الهيستري لأجواء الفاشيّة والنازيّة... أجواء ساد فيها الشعور بالهزيمة والذل القوميّ، وذعر الطبقة البرجوازيّة الحاكمة من صعود المد الثوريّ، وخاصة بعد نجاح الثورة البلشفيّة.

ففي هذه الأجواء الموبوءة بالخوف والرعب وفقدان الاستقرار الفرديّ والاجتماعيّ، ظهر العديد من الفلاسفة الذين راحوا يحللون المجتمع ومعنى الحياة الإنسانيّة، ومصير الإنسان ومشكلات الاختيار والمسؤوليّة الذاتيّة للإنسان. (2). محاولين وضع الحلول للخروج من المأزق الذي دخلوا فيه،. فكان ظهور فلاسفة المدرسة المثاليّة الذاتيّة الحديثة أو المعاصرة ومنها الوجودية بشكل خاص، التي عبر عنها سارتر، وهيدجر، وكيركيجور، وكامو، وغيرهم.

ما هي أهم أفكار الفلسفة الوجوديّة:

أولاً - الدعوة إلى الفرديّة:

تشكل الدعوة إلى الفرديّة حجر الزاوية في الأيديولوجيا البرجوازيّة المثاليّة عموما، والوجودية منها على الخصوص، هذه الفلسفة التي وجدت الحل في خروج الإنسان من ظروف الضياع والقهر والألم التي فرضتها عليه الحربين العالميتين والتصدي لها، هو الانطلاق من الفرد، والفرد الوحيد المنطوي على ذاته، هذه الذات المغيبة والمستلبة والمحطمة، التي لا أمل فيها، إلا بتركيز الفرد على اهتماماته ومصالحه.

إن المسائل الوجوديّة التي تشكل المضمون الوحيد للفلسفة الوجوديّة، هي المسائل النابعة من حقيقة وجود الذات الإنسانيّة. أي من مشاكل وجود الإنسان ومحدوديّة هذا الوجود، وانغماسه في العدم... أو انتهاء الوجود و الوصول إلى الموت.

إن الذات الوجوديّة لا تهتم إلا بوجودها الخاص... وبمسيرتها إلى العدم. إي إلى الموت.

ونظراً لكون هذا الوجود، أي وجود الكائن، هو الشغل الشاغل للفلسفة المثاليّة عموماً، وبما أن هذا الوجود واسع للغايّة ولا يمكن إخضاعه للتعريف المنطقي، لذلك نجد الوجوديين يعلنون مفهوماً للوجود غير قابل للتحديد، كونه مستعصيّاً على أي تحليل منطقي. لذلك لا يمكن للفلسفة عندهم أن تصبح علماً عن الوجود، وعليها بالتالي البحث عن سبل أخرى غير علميّة وغير عقلانيّة لسبر أغوار هذا الوجود. ولكون هناك أشياء كثيرة متعذر معرفتها، إلا أن هناك شكلاً واحداً من الوجود يمكن معرفته جيداً هو (وجود الذات المنفردة عن غيرها).

إن الإنسان المنفرد يُمَيًزْ عن بقيّة الأشياء، كونه يستطيع القول بأنه موجود، دون أن يعي بالضرورة معنى الوجود. إن الطريق إلى فهم الوجود المحيط بنا كما هو في ذاته، يمر فقط عبر وجودنا الذاتي، وبالتالي فالوجود عند الوجوديين ماهيّة باطنيّة، لا يعبر عنها بالمفاهيم، ولا يمكن أن تصبح موضوعاً أبداً. فهذا الوجود مستعصي على المعرفة العقليّة، والسبيل الوحيد لإدراكه هو معاناة الفرد المنفرد بذاته ووضعه، كما يتكشف للإحساساته الباطنيّة في معاناته المباشرة. إن معاناة الفرد في هذا الوجود هي مادة هذا الوجود.(3).

ثانياً- الذعر:

يشكل الذعر أو الخوف عند الوجوديين البعد الذي ينكشف في الوجود كاملاً. إن الذعر أساس كل الوجود. إنه الشعور الذي يتجلى عند الوجودي في مواجهته للعالم الخارجي الغريب والعدائيّ لذاته.. أو في مواجهته للقوة التي تدفع بوجوده إلى نهايته ... إلى العدم.. إلى الموت.

إن القيمة المعرفيّة للذعر، هي أن يضع الذات في مواجهة نهايتها جنباً إلى جنب مع اللاوجود.. أي العدم. وفي هذه الحالة يتكشف وجود الذات. وبسبب الذعر يجد الإنسان نفسه وحيداً مع ذاته .. مع وجوده في مواجهة العدم.

يقول هايدجر: في الذعر يتكشف العدم. أي بما أن الوجود البشري محاط بالعدم، فإنه هو عدم أيضاً. إن العدم يولد الإنسان، وإن الذات عندما تعي عدميتها، ينتابها الذعر الذي يضيئ لها وجودها الذي هو العدم ذاته كما يقول سارتر. (4).

إن الجوانب العاطفيّة والنفسيّة، تكسب عند الوجوديين طابعاً انطولوجياً (وجودياً) في أشكال الوجود .. العدم.. الموت. لذلك يغدو الإنسان في فلسفتهم هو الذعر والذعر فقط. أو بتعبير آخر، إن الوجود البشريّ يتكشف في المواقف الحدّية داخل هذا الوجود، أي في المواقف التي تكشف عن قسوة عالمنا وغربته ومواقف الألم والنزاع فيه. بمعنى أن الإنسان يشعر بذاته عندما تصطدم بذات الآخرين، كما يقول سارتر.

ثالثاً- موقع الحريّة في الفلسفة الوجوديّة:

لقد تبين معنا أن الذعر في الفلسفة الوجوديّة يكشف محدوديّة الوجود البشري، ويضع الإنسان أمام ضرورة اختيار موقف بالنسبة للموت، أي العدم، ففي إمكانيّة مثل هذا الاختيار تكمن حريّة الفرد.

إن الفلسفة الوجوديّة بالرغم من اعترافها بأن جوهر الإنسان هو نتاج مجمل علاقات الحياة الاجتماعيّ، لكنها تسبغ على هذه الحقيقة طابعاً ذاتياً وإراديّاً محضاً. على اعتبار أن هذا الإنسان يختار ماهيّة الأشياء كما يشاء، لذلك هو يصنع ذاته بذاته، وأن ما هيته وفق هذا التصور لم تكتمل، كونها إمكانيّة احتياطيّة (وجود بالقوة).. فكرة ... أو مشروع. (5).

إن الوجودي وفق هذا المعطى للفلسفة الوجوديّة، ينزع دوماً نحو المستقبل، وفيه يخطط لنفسه متجاوزاً بذلك حدود ذاته. فالإنسان يختار نفسه بملء الحريّة، ويتحمل كامل المسؤوليّة عن اختياره هذا. إن الحريّة ليست ملازمة للإنسان في الفلسفة الوجوديّة فحسب، بل هي جوهر وجوده أيضاً. فالإنسان هو حريته.

إن أفكار الحريّة، والاختيار الحر، والمسؤوليّة كل هذه القضايا لم تساعد الإنسان في الحقيقة على إيجاد حل صحيح لها كما تدعي الوجوديّة، بقدر ما زادته ارتباكا وتخبطاً. ففي النظرة الوجوديّة عن الذعر، والتي يجد فيها الوجوديون اَلْمَنْفَذَ الوحيد للحريّة. يكمن جوهر الحريّة وأسباب انطلاقتها، إنها الحريّة التي تتجسد في نشاط الفرد الخلاق الذي يهدف إلى تحويل العالم المحيط به أو الموجود فيه.

إن نقدنا العقلانيّ لهذا الفهم المشبع بالوهم عن الحريّة، يأتي من معرفتنا العقلانيّة لحياة الناس، فالنظرة الموضوعيّة من قبلنا لما عاشته أوروبا أثناء الحربين العالميتين وما بعدهما، لا تنكر وجود الخراب والمرض والعذاب والذعر والموت، وهذه التجليات السلبيّة التي أفرزتها تلك الظروف، أو ظروف الحروب بشكل عام تفرز معها أيضاً حالات نفسيّة وأمزجة عقليّة تشير إلى انحطاط هذه الحياة.

إن الحريّة في الفلسفة الوجوديّة أمر متعذر عن التفسير، ولا يعبر عنه بالمفاهيم، فهو لا عقلاني، لذلك فالوجوديون يعارضون الضرورة بالحريّة، وينفون مشروطيّه الاختيار.. لذلك تأتي الحريّة عندهم خارج المجتمع، أي حريّة الفرد المنطوي على ذاته المنعزلة عن الاخرين.. وبالتالي هي حالة باطنيّة، ومزاج نفسيّ، ومعاناة ذاتيّة. لذلك هي هنا تعارض (الضرورة)، أي الظروف الماديّة والفكريّة التي تساهم في التوجه نحوها، أي المعيقة لتحقيقها، لكونهم عزلوها عن هذه الظروف المحيطة بها. فجاءت حريّة بلا قيمة، ومبدأ شكليّ فارغ، ونداء عقيم لا جدوى منه. إن الوجوديين لا يستطيعون ولا حتى يحاولون الكشف عن مضمونها الحقيقي. إنهم يؤكدون فقط على أن الإنسان يجب ان يختار مستقبله بحريّة، لكنهم لا يشيرون إلى ركيزة يعتمد عليها في هذا الاختيار، وبهذا يبقى الإنسان مسلوب الحريّة، كونه لا يجد شيئاً يختاره، فما يمكن أن يختاره ليس أفضل ولا أسوأ من غيره، ويبقى في نهاية المطاف اختيار بلا مغزى، إلا مغزى واحداً هو ما يُشْعِرُ الفرد بأنه معزولاً عن غيره، وبأن ما يريد تحقيقه بعيداً عن مصالح الآخرين ورغباتهم، وهنا تكمن مواجهة الفرد بالمجتمع.

إن الوجوديّة تطرح جانباً المضمون الحقيقيّ التاريخيّ للحريّة، لأن مسألة الحريّة عندهم ليست مسألة تحرير البشر من قسوة الحياة الطبيعية والاجتماعيّة عليهم.. أي ليس تحريرهم من ظلم الطبقات المستغلة وسيطرة القوانين العمياء في الطبيعة والمجتمع عليهم، إنها ليست أكثر من نصائح وإرشادات تهيب بالفرد أن يبحث عن حريته في أعماق وجوده الذاتي فقط.

رابعاً - النظرة المثاليّة الذاتيّة للعالم:

يرى الوجوديون أنه، برغم كون الإنسان حراً، فإن حريته تتحدد بأطر حالة معينة يختار فيها موقفه هذا أو ذاك، مع التأكيد هنا بأن الوجود البشري يتميز بأنه وجود بين الناس الآخرين . أي وجود في المجتمع وفي العالم. ومع ذلك فإن الإنسان لا يختار بنفسه ظروفه المعيوشة لأنه اقتيد إلى هذا العالم رغماً عنه، وسيبقى تحت رحمة القدر. إن قدر هذا الإنسان يتحدد عندهم بانتمائه إلى زمن معين، أو شعب معين بطبعه هذا أو ذاك، وبثقافة وقدرات المجتمع العقليّة وغيرها. وهذه جميعها يجدها الإنسان قائمة لا حول له فيها ولا قوة. وحتى أن بداية الوجود الإنسانيّ ونهايته بالنسبة له مستقلان عن إرادته الإنسانيّة. إن هذا كله يدفع بالوجوديين إلى وجود آخر لا واقعي، هو ماهيّة غيبيّة أخرى، بالإضافة إلى الوجود البشري. إن الوجود في العالم حسب رؤيتهم، ليس إلا قلق الإنسان وشعوره بالخطر.

إن العالم الخارجي عندهم يلف الوجود الإنسانيّ كما الضباب الذي يلف الظواهر في علاقة لا تنفصم.

يقول هايدجر: (طالما أن الإنسان موجود، يبقى العالم قائماً، وإذا انتفى وجود الإنسان انتفى وجود العالم.). (6).

نقد النظرة المثاليّة للعالم:

إن من يتفحص هذه النظرة الوجوديّة المثاليّة للعالم، يجد أنها تتجلى بالانفراديّة في جوهرها عند الوجوديين، فهي تنفي لا الطابع الموضوعّي للمكان فحسب، بل وللزمان أيضاً، وَتُحَوُلُهُمَا إلى أشكال لوجود الإنسان المنفرد بذاته. فالزمن هنا ليس إلا معاناة الإنسان لمحدوديّة وجوده أو ديمومته المؤقتة. فالزمن الحقيقي هنا ليس إلا الفترة الممتدة بين ولادة الإنسان وموته. وبذلك فإن أية نظرة أو تصور عن وجود الزمان قبل الوجود الإنساني أو بعده، هو وهم لا أكثر. أو يمكننا أن نقول بتعبير الوجوديين، إن الكلام عما سيكون بعدي هراء فارغ.

هكذا ينفي الوجوديون التاريخ، ليعترفوا باللحظة التي فيها يستيقظ وعي الذات. إن هذه النزعة اللاتاريخيّة ليست إلا صدى للذعر من قوانين التاريخ التي ستودي بالضرورة بالطبقة البرجوازيّة، أو النظام الرأسماليّ إلى نهايته المحتومة.

إن العالم عند الوجوديين المثاليين مليء بالألغاز.. عالم يستحيل فهمه...إن الرموز والاشارات المبهمة تكتنف الوجود من جميع جوانبه.. إنه عالم يمثل صفحة مكتوبة بالشيفرة، يسعى الإنسان دائماً إلى فك رموزها. بيد أن الفشل سيكون حليف هذه المهمة. لذلك لا بد من اللجوء إلى الإيمان وبشكله الدينيّ المبسط المفهوم للجميع، أو إلى الإيمان الفلسفيّ الأكثر تعقيداً، ولكنه لا يختلف عن الأول إلا بالصيغة. إن المواقف الحدّيّة، أو لحظة الاحتضار أو الموت، ستزيح الستار المدلى على الوجود ليلتقي الإنسان بالمتعالي. إن هذا الموقف الوجودي ينطوي على الشموليّة المشبعة بالموت والعدم، وعلى الله قبل كل شيء.

خامساً- الفرد والمجتمع:

إن الوجوديين لا ينكرون بأن الإنسان لا يستطيع العيش إلا بين ناس آخرين.. أي في المجتمع، لكن فهمهم لهذه الحقيقة يظل فهماً فرديّاً متطرفاً. فالمجتمع الذي يهيئ الظروف لحياة أفراده والذي فيه ينمو وعي الفرد وتتفتح شخصيته، ليس في نظر الوجوديين إلا قوة كليّة تضغط على الفرد وتسلبه وجوده وتجعله أسير أذواق وأخلاق ونظرات واعتقادات وعادة معينة، فرضتها الكتلة الاجتماعيّة.

فالوجوديون في حقيقة فلسفتهم يعبرون عن مجتمع أوربا الرأسماليّة، التي يُضطهد فيها الفرد ويشيء ويستلب ويغرب ويجرد من إنسانيته. والمشكلة عندهم أنهم يحاولون تحويل احتجاج المواطنين ضد معاناتهم هذه تحت مظلة الظروف الرأسماليّة إلى احتجاج ضد المجتمع عموماً، وليس ضد القوى التي فرضت عليهم هذه المعاناة.

إن الإنسان حين ينتابه الذعر أمام الموت، يلجأ إلى المجتمع ملتمساً فيه العزاء والسلوى، لا لكونهم سيقفون معه ويحلون معاناته، بل على اعتبار أن الآخرين سيموتون ايضاً وهنا تكمن سلواه. وبهذا يشيح الوجودي بأفكاره بعيداً عن موته الذاتيّ، أي عن موته هو. إن حياة الإنسان وفق هذا التصور عن حياته في المجتمع، ليست حياة حقيقيّة أصيلة، إنها وجود سطحيّ عمليّ لا أكثر. لذلك في أعماق الذات فقط، ينكشف الوجود الإنسانيّ الحق.. الوجود الفردي الأصيل، الذي يتجلى لنفر قليل من الناس أشبه بحالة الصوفي في تفرده مع المطلق. إن الذعر أمام الموت هو السبيل الوحيد لإدراك هذا الوجود، وهو الذي يضيء للإنسان وجوده الفرديّ، فلا أحد يموت بدلاً عن الآخر، وكل يموت بمفرده، بيد أن الموت سيصيب الجميع في النهاهية.

هكذا تتكرر المعرفة الوجوديّة هنا، فالإنسان يعيش لكي يموت، والموت هو الإمكانيّة الأخيرة المتبقّية للإنسان، أو هو نهاية كل الامكانات، وهو أسمى الحقائق، وأن الوجود يأتي من أجل الموت، وهو الهدف الأصيل لحياة البشر.

إن من يتابع أفكار الفلسفة الوجوديّة سيجد أنها تلحق ضرراً فادحاً في حياة الإنسان وبنيته الفكريّة وتوجهاتها، وبالتالي في سلوكه، حيث تزرع في نفسه الايمان بأن الموت هو معنى الوجود الإنسانيّ وغايته، وهذا ما يدفعه إلى الاستهتار بالحياة، وبالنضال من أجل مستقبل أفضل. ثم أن الوجوديّة بدعوتها إلى الفرديّة المتطرفة، تحاول أن تقنع الإنسان بأن لا فائدة ترجى من الحياة الاجتماعيّة، أي من تضامن الجهود الاجتماعيّة المشتركة للخلاص من معاناة الواقع وما تتركه التناقضات القائمة في بناه الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة من قهر وظلم على الإنسان. إن الوجوديّة بفهمها اللاعقلانيّ للحريّة، فهي تجرد الحريّة من أي مضمون حقيقيّ، وتجعل السلوك الإنسانيّ بمعزل عن أيّة ضرورة (أي أيّة ظروف موضوعيّة تحيط به داخل المجتمع)، ليتحول الإنسان إلى مشيئة (وجود) لا حدود لها وبدون أي معنى.

ملاك القول: إن الوجوديين يعارضون الفرد بالمجتمع، أي بالتنظيم الاجتماعيّ، أو المتحدات الاجتماعيّة. إن الوجوديّة حين تنفي القيمة الكليّة للمبادئ والقيم الأخلاقيّة، إنما تنادي بالنسبيّة الأخلاقيّة المتطرفة، مما يحول الإنسان إلى طريدة.. إلى كائن لا أخلاقي تماماً، فكل شيء عنده يصبح مباحاً.

إن هذه الحياة العبثية التي يمارسها الوجودي في مجتمعه، وصفها خير توصيف الفيلسوف "زيجمونت باومان" في حكاية البطل أوديسيوس، حيث يكتب باومان عن حياة الأوربيين الذين فقدوا سبل الحياة العقلانية بسبب ما خلفته الحربين العالميتين وطبيعة النظام الرأسمالي المتوحش. لقد وصف حياتهم بحياة الخنازير، هذه الحياة التي لم يعد يهمهم التحرر منها، وهي عيشة يجدون فيها كل ما لذ وطاب، يتمرغون بالوحل بلا مسؤوليّة متى يشاؤون، ويشربون ويأكلون بلا هموم أخلاقيّة، ولا التزامات اجتماعيّة، ويتلذذون بعلاقات جنسيّة بلا حب، ولا واجبات ومسؤوليات أسريّة ولا روابط اجتماعيّة، ويعيشون في استقرار لا يحمل هموم الحريّة والكرامة الإنسانيّة، ولا يطيقون صوت الحريّة وهمومها ومسؤولياتها وعواقبها. (7). علماً أن بعض الوجوديين يقفون مع حركة أنصار السلم، ويطالبون بعدد من المطالب التقدميّة، إلا أن فلسفتهم تبقى بطبيعتها معاديّة للأخلاق التقدميّة الاجتماعيّة منها والعلميّة والفلسفيّة، وبذلك هي تلعب دوراً تخريبياً، وتوهن من عزيمة الناس المتأثرين بها.

إن الوجوديّة تنادي بحريّة الإنسان كما بينا أعلاه، ولكن فهمها للذات الإنسانيّة وللحرية معاً، يأتي فهماً متناقضاً ومغلوطاً، ومفعم بنزعات اجتماعيّة وسياسيّة جد متباينة. لذلك لا نستغرب أن الوجوديين هم من منح الفاشيّة والنازيّة والأنظمة الشموليّة الحديثة والمعاصرة سلطات لا محدودة، وبالتالي تبرير استبدادها وقهرها لشعوبها وشعوب العالم. فالفلسفة الوجوديّة إذ تنطلق من اغتراب الفرد في المجتمع البرجوازي باعتباره مبدأ القياس ومعياراً لكل القيم، فهي تنفي أية إمكانيّة للتحليل العلميّ بالنسبة لظواهر الحياة الاجتماعيّة وتقويمها موضوعيّاً. كما تحجب عن الأعين رؤية مجرى الصراع السياسيّ والعقائديّ والطبقيّ داخل المجتمع... إن الفلسفة الوجودية حتى عندما لا تعبر بشكل مباشر عن مصالح اليمين البرجوازي، فهي تبقي معتنقيها في دوامة من الحيرة والضياع، وتدفع بأصحابها إما إلى الاقتراب المؤقت من القوى التقدميّة فعلاً، أو تدفعهم باتجاه معسكر القوى الرجعيّة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

........................

الهوامش:

1- المنطق الصوري أو المنطق الشكليّ، وهو علم آلي وضع لصيانة الذهن عن الخطأ في الفكر. فهو الميزان والمعيار الأساس لمعرفة التفكير الصحيح. أي هو النظر في التصورات العقلية والقضايا والقياسات من حيث صورتها لا من حيث مادتها، وأهم مبادئ هذا المنطق هي : آ- مبدأ الهوية: يقضي أن الشيء هو هو ولا يمكن أن يكون إلا هو، أي أن الشيء يكون مطابقا لذاته. ب- مبدأ عدم التناقض: مضمونه أن النقيضين لا يجتمعان، فالشيء لا يمكن أن يكون ذاته وغير ذاته. ج- مبدأ الثالث المرفوع: مضمونه أن لا وجود لحد وسط بين نقيضين، فالشيء إما أن يكون أو لا يكون.

2- (موقع لماذا؟. بحث بعنوان لماذا ظهرت الفلسفة الوجودية ومعناها.).

3- (الموسوعة الحرة – بحث الوجوديّة).

4- راجع كتاب - موجز تاريخ الفلسفة. مجموعة من الباحثين السوفيات – إصدار دار الأهالي - دمشق – بحث الوجوديّة.

5- المرجع نفسه.

6- موجز تاريخ الفلسفة.

7- ( راجع الحداثة السائلة – زيجمونت باومان - ترجمة حجاد أبو جبر – مكتبة بغداد – الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر –ص8و9).

يكمن جزء من الصعوبة في النقاش أعلاه في طبيعة المثالية نفسها. إنها ليست، حتى من حيث المبدأ، وصفًا  قابلة للتحقًيق تجريبيًا لحالة إجماع محتملة، بل هي افتراض على المشاركين في الخطاب تقديمها إذا أرادوا التفكير في أيً إجماع على الأطلاق.[1] قد يكون الحديث عن الإجراءات الديمقراطية بوصفها "تقريب" للإجماع العقلاني مضللاً. ومع ذلك، يبقى هناك جوهرًا صالحًا للأهتمام بشأن الخضوع؛ فيبدو أن الصعوبة الأساسية تكمن في تفسير الشرعية من خلال الإحالة  إلى المثالية الخطابية فقط. إذا كانت هذه تعيًن شرعية إجراء ما وحدها، فإن أي متطلبات مؤسسية تحد من متطلبات الخطاب العقلاني يكون لها دور سلبي يتمثل في تقييد المثل الأعلى أوالنموذج المثالي، فهي تكشف عن عدم قدرتنا على تحقيق خطاب عقلاني بالكامل. إنه من الصعب تجنب نوع من الخضوع في مثل هذا البناء مهما كان دقيقًا. ويثير هذا التساؤول حول ما إذا كان يساهم هذا البعد المؤسسي بشكل إيجابي في الشرعية على وجه التحديد، أي بطريقة لا يمكن تفسيرها بالكامل من ناحية المثالية الخطابية التي تحدد الإجماع العقلاني. إذا كان الأمر كذلك، فيجب أن نكون قادرين على تحديد مكون للشرعية له علاقة بإضفاء الطابع المؤسسي بطريقة ما على هذا النحو، بطريقة لا يمكن اختزالها في الخطاب. أيً، يجب أن نكون قادرين على التمييز، بالنسبة لإجراءات قانونية  أو سياسية معينة، جانب من الإجراءات لا يزيد من كمية ونوعية الخطاب، ومع ذلك فهو مهم للشرعية. وكما سنرى، فإن ما يسميه هابرماس "الوسيط القانوني" أو "الشكل القانوني" مكافئ تقريبًا لهذا المكون المؤسسي على وجه التحديد.[2]

إنه من المهم أن ينظر هابرماس في ظل هذه الصعوبات إلى المبدأ الديمقراطي بوصفه المصدر المباشر لصنع القرار الشرعي. يفترض هذا المبدأ مسبقًا العقلانية الواردة في الخطاب ويخبرنا كيف نؤسسها بوصفها "رأيًا سياسيًا عقلانيًا وتشكيل للإرادة".[3] وبالتالي فهي تمثل تعريفًا للشرعية يرتكز على كل من المثالية الخطابية والمتطلبات المحددة لإضفاء الطابع المؤسسي القانوني. فينجم المبدأ الديمقراطي عن الجمع بين مبدأ الخطاب والشكل القانوني، على حد تعبير هابرماس. إنه يعرف المبدأ الديمقراطي على النحو التالي:

يجب أن يرسخ مبدأ الديمقراطية إجراءات سن القانون الشرعي. وأن ينص على أن القوانين التي يمكن ان تدعي الشرعية هي فقط تلك التي تحضى بموافقة جميع المواطنين في عملية تشريع خطابية شُكلت بدورها بطريقة قانونية. بعبارة أخرى، يفسر هذا المبدأ المعنى الأدائي ممارسة حرية إرادة مشرعين يعترفون ببعضهم البعض كأعضاء أحرار ومتساوين.[4]

على الرغم من أن هذا التعريف مازال يشير إلى المثل الأعلى الخطابي للإجماع الكامل، وهي نقطة سأعود إليها، إلا أنه يربط  الشرعية بالاعتراف المتبادل بين أشخاص قانونيين أحرار ومتساوين. ولايمكن أختزال  مساهمة الشكل القانوني حول الشرعية في الخطاب فقط. يجب علينا فحص نظام الحقوق الذي يحدد الموضوع القانوني لنرى كيف يلعب الشكل القانوني دورًا إيجابيًا في شرعية القانون.

لايمكن للمبدأ الديمقراطي أن يتخذ شكلًا مؤسسيًا إلا في نظام حقوق إذا أراد المواطنون أن يكونوا مخاطبين ومشرعين لقانون ينظم حياتهم بشكل شرعي معًا.[5] وبشكل أكثر تحديدًا، تطبيق مبدأ الخطاب على الوسيط القانوني على هذا النحو في مجموعة من الحقوق التي تضمن استقلالية المخاطبين من قبل القانون، في حين أن اشتراط أن يكون المرسل لهم أيضًا مؤلفي القانون يولد حقوق المشاركة السياسية وبالتالي الاستقلالية العامة للمواطنين. [6]

يشير هذا إلى أنه يمكننا تحديد مساهمة مؤسسية خاصة للشرعية على مستوى الحريات السلبية التي تحدد الأستقلال الذاتي الخاص،  لأنه هنا يجتمع مبدأ الخطاب والوسط القانوني معًا.  تتضمن استقلالية الفرد ثلاثة فئات أو أنواع من الحقوق حسب هابرماس. الأول هي تلك الحريات السلبية التي تضمن مجالات الفعل الفردي المستقل. الثاني تشمل حقوق العضوية في المجتمع السياسي. والثالث حقوق التقاضي القانونية التي تسمح للأفراد بمقاضاة النوعين الأولين من الحقوق. فيجب على الدولة الدستورية، وفقًا لهابرماس، تفسير وتطوير حقوق وقوانين تقع ضمن هذه الفئات الثلاث. ليست الفئات الثلاث نفسها متطابقة مع أي مجموعة محددة من الحقوق الخاصة؛ فهذه الفئات هي أفكار مجردة تتطلب تطويرًا تاريخيًا وسياسيًا. فعلى سبيل الإيضاح يمكن للمرء ملاحظة أن الحق في الكرامة الشخصية، والحياة، والحرية، والنزاهة الجسدية، وما إلى ذلك، تفسر الفئة الأولى. تشتمل فئة حقوق العضوية مختلف القوانين والحقوق التي تحدد وضع الأعضاء في المجتمع القانوني. يشمل تفسير هابرماس هنا المحظورات ضد تسليم المتهمين، وحقوق اللجوء السياسي، وما إلى ذلك. أخيرًا، تجد الفئة الثالثة تعبيرًا عنها في حقوق الإجراءات القانونية الواجبة مثل: حظر العقوبة بأثر رجعي، وما إلى ذلك.[7]

تُعد مثل هذه الحقوق مركزية في القانون الحديث و مكونة للشكل القانوني. وبهذا الأعتبار فهي تحدد مجالات الفعل التي يمكن للأفراد أن يسعوا فيه بثقة إلى تحقيق غاياتهم الخاصة دون تدخل الآخرين ودون الاضطرار إلى تبرير خياراتهم في خطاب.[8] إذن يكون القانون قادرًا من خلال هذه الحقوق الفردية على تأمين مجالات للفعل يتم فيها إعفاء الأشخاص من الحاجة إلى الوصول إلى إجماع أو توافق في الآراء من خلال الخطاب: لا تتطلب التسوية أو التنسيق القائم على القانون سوى الامتثال الخارجي على عكس أشكال التسوية أو التنسيق الاجتماعي التي تتطلب من المشاركين التوصل إلى اتفاق بناءً على رؤية كل منهم. وبهذا المعنى، ليس الحقوق الفردية مجرد وسائل للخطاب ولكن لها وظيفة تتعلق بالشرعية فيما تضمن من مساواة في الحريات الفردية للمواطنين، رغم انهذه المساواة ليست سمة ضرورية للشكل القانوني نفسه. فوفقا لهابرماس، يمكن للمرء من خلال إدخال مبدأ الخطاب فقط أن يثبت أن لكل شخص الحق في حريات متساوية".[9] لذلك إذا كنا نتطلع إلى مثل هذه الحقوق من أجل الجانب المؤسسي المحدد للشرعية  فلن نجدها بمعزل عن الخطاب - حتى لو كانت الحقوق التي تحدد الاستقلال الذاتي هي نفسها ليست قابلة للاختزال في خطاب ولا مجرد أدوات من أجل خطاب.

حجة هابرماس هنا هي: إذا أريد مأسسة الخطاب، فيجب أن يتخذ الشكل القانوني بنية محددة  قبل بداية أي خطابات سياسية- قانونية. بمعنى، يجب تعريف الأشخاص القانونيين بوصفهم أعضاء أحرار ومتساوون في المجتمع القانوني. لأن الخطاب يفترض مسبقًا أن المشاركين فيه هم أفراد مستقلون، وفقط مدونة قانونية منظمة من حيث الحقوق الفردية  ما يضمن مثل هذا الاستقلالية  والتي يمكن أن تحدد مسبقًا حتى المشاركين المحتملين للخطابات االموجودة بالفعل، حيث يتم تعريف المشاركة من حيث حقوق التصويت، والتمثيل، وما إلى ذلك. وكما يرى هابرماس، ينطوي وضع مجموعة القوانين على هذا النحو على حقوق الحرية التي تولد وضع الأشخاص القانوني وتضمن سلامتهم. وإن هذه الحقوق هي شرط تمكين ضرورية لممارسة الاستقلال السياسي. وبالتالي، فإن محاولة إضفاء الطابع المؤسسي على الخطاب تضع قيودًا على الوسيط القانوني الذي يمكن أن تقوم فيه مثل هذه المؤسسات، وهذه القيود موجودة في الأنواع الثلاثة للحقوق التي تؤسس الاستقلال الذاتي.[10]

ما يهمني هنا ليس كيف يمكن للمرء أن يدافع عن الادعاء بأن الاستقلال الشخصي الخاص هو شرط مسبق ضروري للديمقراطية التداولية.[11] ولكن مهتم في المقام الأول بكيفية فهم هابرماس للمساهمة التي تقدمها حقوق الحرية هذه في إضفاء الشرعية على العملية الديمقراطية. إنه يؤكد، حتى لو لم يستمد الحريات السلبية من المثل الخطابية مباشرة، فأن الخصائص الشرعية لهذه الحقوق تنبع من علاقتها غير المباشرة بالخطاب. وعلى وجه التحديد، تنشئ الحقوق التي الاستقلال الشخصي الخاص لها دور في الشرعية الديمقراطية عندما تكون مرتبطة بالخطاب السياسي فقط. يمكن للأشخاص القانونيين تفسير حقوقهم المدنية وتوضيحها بشكل تلقائي، وبالتالي يصبحون مشرعين للقانون وموجهين له بموجب حقوق المشاركة السياسية فقط، التي تمكّن المواطنين المستقلين من الانخراط في الاستقلال الذاتي الجماعي.[12]

وهذا يعني، باختصار، أن الاستقلال الشخصي الخاص والعام يفترض كل منهما الآخر في تفسير الشرعية.[13] ومن هنا يلعب الشكل القانوني في الشكل المحدد للحرية الفردية المتساوية دورًا إيجابيًا في الشرعية الديمقراطية. ومع ذلك، فإنه يكشف، في اتحاد مبدأ الخطاب والشكل القانوني، أن الأخير هو الذي يتأثر حقًا- أيً أنه مجبر على تبني شكل معين. من ناحية أخرى، يندمج مبدأ الخطاب مع المبدأ الديمقراطي دون تغيير، طالما أن شرط الإجماع يظل كما هو في المبدأ الديمقراطي. قد يبدو هذا غريب الى حد ما، بالنظر إلى أن صنع القرار الديمقراطي يتم تعريفه عادةً من حيث حكم الأغلبية بدلاً من الإجماع. وهكذا يلعب مبدأ الخطاب الدور المهيمن في تفسير الشرعية، مما يشير إلى أن دافع الخضوع مايزال قائمًا في وصف هابرماس للحقوق على الرغم من الدور الإيجابي الذي يلعبه الشكل القانوني. على الرغم من أن هابرماس لا يتبع تفسير كانط الأخلاقي للحريات المتساوية،[14] إلا أنه يفسر الحريات فيما يتعلق بإضفاء الطابع المؤسساتي على خطاب يقيس نجاحه مقابل إجماع مثالي من حيث استمرار الخضوع لهذا المعيار المطلوب في المبدأ الديمقراطي.[15]

لا ينطوي إخضاع القانون للخطاب المثالي على دلالات إشكالية تثقل كاهل نظرية كانط القانونية. لذلك حضورها عند هابرماس مفهوم لأنه يريد التأكيد على ضرورة الخطاب من أجل تشريع شرعي في المقام الأول.[16] إذا كان القانون والسياسة  تتمثل في مؤوسسات صنع القرار أولاً وقبل كل شيء ، فإن المداولات والخطاب يمثلان بُعدًا واحدًا فقط. فإلى جانب الحاجة إلى تحويل مبدأ الخطاب إلى قانون، على المرء أن يطرح قرارات عادلة وملزمة في الخطاب أيضًا. فلا يمكن للمبدأ الديمقراطي، مع شرط الإجماع، أن يخبرنا كيف نقرر القضايا المتنازع عليها. وبالتالي، هناك مستوى من المأسسة لا يصل إليه المبدأ الديمقراطي. وبشكل أكثر تحديدًا، ساشير  في القسم الأخير الى أن اعتبارات الإنصاف المعمول بها على مستوى اتخاذ القرار هذا لا يتم استيعابها بالكامل من خلال نموذج التبرير المحايد.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..................

[1] Habermas, Jürgen, supra note I, at 323:

أنظر ايضا:

Habermas, JUSTIFICATION AND APPLICATION: REMARKS ON DISCOURSE: ETHICS 54-57 (Ciaran Cronin trans., 199 3).

[2] أنظر: هابرماس، المصدر نفسه ، 113-18

حول تفسير هابرماس الاجتماعي للشكل القانوني ؛ أنظر أيضا المصدر نفسه. 178 – 79

ولتجنب مصدر ارتباك محتمل ، لاحظ أن هابرماس أسقط التمييز السابق مكررًا بين "القانون كمؤسسة" و "القانون كوسيط". انظر: 561  .48.

[3] هابرماس، المصدرنفسه: 110

[4] هابرماس، , المصدر نفسه ،110

[5]. هابرماس, المصدر نفسه:, 110

[6]، هابرماس، المصدر نفسه:,  118

[7]- هابرماسن المصدر نفسه:, 26

[8] هابرماسن المصدر نفسه، 115-19.

[9] هابرماس، المصدر نفسه   ، 123 .

[10] هابرماس، المصدر نفسه، . 128

لاحظ أن هابرماس لم يضع سلطة الدولة في الصورة بعد ؛ على الرغم من أن النظام القانوني لا يمكنه تثبيت نفسه دون دعم سلطة الدولة القسرية.

[11]   : لمزيد من المناقشة أو العلاقة بين الحرية السلبية والعملية الديمقراطية ، انظر

Albrecht Wellmer, Models of Freedom in the Modern World, 21 PHL F. 227 (1989-90).

[12] هابرماس، المصدر نفسه  126-27.

[13] هابرماس، المصدر نفسه، 408 .

[14] هابرماس، المصدر نفسه   ،105-06 .

[15] للحصول على نقد لنماذج الاجماع  بشأن الشرعية أنظر:

Bernard Manin, On Legitimacy and Political deliberation, 15 PoL. THEORY 338 (Elly Stein & Jane Mansbridge trans., 1987).

[16] هابرماسن المصدر نفس 304 .

نستكشف هنا الطريقة التي يؤسس بها يورغن هابرماس في كتابه "بين الوقائع والمعايير" العلاقة بين القانون (أو الإجراءات التشريعية للقانون) ومفهوم مثالي للخطاب العملي العقلاني. يوضح الجزء الأول من هذا البحث المشكلة التي تنشأ إذا قام أحدهم بإخضاع القانون لمثالية العقل العملي؛ وسأحاجج هنا بأن خضوع القانون للأخلاق هو جزء من مشكلة أكبر لا يمكن الأفلات منها بمجرد تحليل القانون بواسطة التبرير الخطابي بشكل عام. يتابع الجزء الثاني مسألة ما إذا كانت نظرية هابرماس القانونية تفلت من هذه الصعوبة من خلال تفسيره للمأسسة الديمقراطية للخطاب وعلاقته بالشكل القانوني كنظام للحقوق. ويتناول القسم الثالث مسألة الخضوع أو الأمتثال في تفسير هابرماس للحقوق ويختم بتناول صنع القرار الشرعي بوصفه لا يقتصر على الخطاب فحسب بل يشمل ايضًا شكلاً من أشكال العدالة الإجرائية التي يميل تحليل هابرماس للخطاب النظري إلى إهمالها.

I

يمكن للمرء أن يتعامل مع المشكلة من خلال طرح السؤال ابتداءً: كيف يرتبط القانون بالأخلاق؟ حاجج هابرماس في كتابه، (بين الوقائع والمعايير)،[1] بأن شرعية القانون نشأت عن الطريقة التي تتداخل فيها العقلانية الأخلاقية العملية مع و\الإجراءات القانونية المؤسسية.[2] فُسر هذا الجانب الأخلاقي من القانون بمصطلحات إجرائية، فيتحدث هابرماس عن القانون بوصفه يتضمن نوعين من العقلانية الإجرائية، أحدهما أخلاقي-عملي وآخر تشريعي. وجدت العقلانية الإجرائية الملائمة للأخلاق تعبيرها الكامل في مفهوم الحياد الذي يُعبر عنه بمبدأ التعميم: فلكي يكون معيار العمل صحيحًا أخلاقيًا، يجب أن يكون قادرًا على كسب موافقة جميع الخاضعين له بعد أن يأخذوا في الاعتبار التأثيرات المختلفة التي قد تحدثها مراعاة المعيار أو القاعدة العامة على مصالح واحتياجات كل شخص. تُعرف الصلاحية الأخلاقية، إذن، من خلال إجراء مثالي لمنظور يأخذ فيه كل شخص متأثر بالمشكلة أو الصراع الحل المعياري المقترح من وجهة نظر كل شخص آخر متأثر أو متضرر.[3] وبطبيعة الحال نادراً ما يتم التوصل إلى حل حقيقي للصراعات في مثل هذا الاتفاق العقلاني المثالي بالإجماع على قاعدة. ومن هنا جاءت الحاجة إلى النصف الآخر من معادلة هابرماس وهي "التداخل"، أيً الإجراءات القانونية التي تضمن نتائج واضحة ضمن أطر زمنية محدودة".[4] ونظرًا لصعوبة الوصول إلى توافق عقلاني في مواقف الصراع، فإن الإجراءات القانونية المحددة للتوصل إلى قرارات واضحة لا لبس فيها تصبح مكملاً ضروريًا للخطاب الأخلاقي. قد تغري بعض صيغ هابرماس المرء باتخاذ خطوة أخرى وإخضاع القانون ضمنًا للأخلاق- بغض النظر عن استعارة المساواة للإجراءات "المتداخلة". وهذا يعني أنه يمكن إغراء المرء بسهولة لرؤية النتائج القانونية على أنها مشروعة بقدر ما يقترب الإجراء القانوني المؤسسي من سمات المنظور العام الشامل المتضمن في الإجراء الأخلاقي المثالي.[5] لا شك أن هابرماس قد أقر في صيغ أخرى بتعقيد الشرعية القانونية: فلاتمثل الإجراءات المثالية للحجج الأخلاقية سوى جزءًا من الشرعية.[6] ومع ذلك، فإن الإغراء مفيد، لأنه يُظهر مدى سهولة انزلاق استعارة التداخل إلى شكل من التبعية يحمل آثارًا قوية من"الإرث الأفلاطوني" الذي اكتشفه هابرماس في تحليل كانط للقانون، أيً، أن يقيس صلاحية القانون مقابل المعايير التي يقدمها عالم مثالي، كما نجدها عند كانط كقضية أخلاقية.[7]

ما الخطأ في إضفاء الطابع الأخلاقي على القانون بالطريقة التي قام بها كانط؟ تكمن الصعوبة الرئيسة لهذه النظرة في تبسيطيتها. لا ينصف إخضاع القانون للأخلاق تعقيد الاعتبارات والحجج التي تتعلق بشرعية القانون الحديث. يجب أن تكون القرارات القانونية المشروعة، في أعقاب عمليات المفاضلة والتمايز الناتجة عن التبرير المجتمعي الحديث، متوافقة ليس فقط مع الاعتبارات الأخلاقية؛ ولكن عليها الاهتمام أيضًا بالمسائل التقنية الذرائعية أو العملية الممكنة حول اختيار الوسائل والاستراتيجيات الفعالة للتعامل مع مشكلة معينة؛ ويجب أن تكون مقبولة في ضوء فهم المجتمع، وهو ما يسميه هابرماس قضية "أخلاقية - سياسية"؛ ويجب أن تكون منصفة بين كل عناصر التسوية للمصالح الخاصة المتنافسة. [8] إن أيُ تفسير للشرعية لا يعكس هذا التعقيد هو أمر مشكوك فيه من وجهة النظر المعيارية والاجتماعية. علاوة على ذلك، إنه لن يؤدي إلا إلى زيادة الصعوبات في تفسير الشرعية بطريقة تنصف كل من الاستقلال الذاتي الخاص والسيادة العامة، إلى الحريات السلبية للفرد، والقدرة الجماعية للنظام السياسي على تنظيم نفسه وحكم نفسه بالقوانين.[9]

يُعرِّف هابرماس علاقة القانون والأخلاق، في كتابه بين (الوقائع والمعايير)، بطريقة تحاول تجنب مثل هذا الخضوع أو التبعية. يمكن وصف الخطوة الرئيسة على النحو التالي: يؤسس كلا الإجراءين المتداخلين للأخلاق والقانون عقلانية أكثر تجريدية وحيادية يعبر عنها "مبدأ الخطاب"، " أخلاق الخطاب".[10] فقد قدم هابرماس بداية هذا باعتباره المبدأ الرئيس لنظريته الأخلاقية. ثم أعاد لاحقا تصنيف أخلاق الخطاب بحيث يتجاوز القانون والأخلاق بطريقة لا تضر بأي منهما. ياخذ الخطاب في سياق تكوين الحكم الأخلاقي شكل أكثر تحديدًا مع مبدأ التعميم الذي نوقش أعلاه؛ حيث يفترض شكل "المبدأ الديمقراطي" كنظام للحقوق الأساسية في سياق أنظمة الفعل المؤسسية للقانون. يبدو الطريق مفتوح الآن للتعامل مع الطابع الخاص للعقلانية والشرعية القانونية التي تنطوي على أكثر من تقليد للمثالية الأخلاقية.

تسمح إعادة تموضع الخطاب لهابرماس بتحديد موقع الصلاحية القانونية فيما يتعلق بالنطاق الكامل للعقلانية الخطابية وعمليات التسوية. أي أن التعقيد الكامل للشرعية يمكن أن يظهر بشكل أوضح مما كانت عليه في الصوًغ السابق التي قدمه هابرماس. تعتمد شرعية القانون، كما تم التعبير عنه في المبدأ الديمقراطي، على الإجراءات القانونية التي تضفي الطابع المؤسسي، ليس فقط على منطق المحاججة المقابل للتعميم الأخلاقي، ولكن أيضًا على منطق المحاججة المقابل للاختيار البراغماتي التقني للوسائل والاستراتيجيات، والقرارات الأخلاقية السياسية حول السياسات والأهداف، والتسويات بين المصالح الخاصة.[11]

ومع ذلك ، إذا كانت إعادة تموضع الخطاب تعني ببساطة ربط الشرعية القانونية بمجموعة أكثر تعقيدًا من المثالية الخطابية، فستظل مشكلة أخرى مرتبطة بدافع الخضوع قائمة. يأتي حل هذه المشكلة من صوًغ هابرماس للخطاب الأخلاقي: أن تلك المعايير العملية هي فقط التي يمكن أن يتفق عليها جميع الأشخاص المتأثرين الذين يحتمل مشاركتهم في الخطابات العقلانية.[12] يحتوي مبدأ التبرير العقلاني العام هذا على اثنين من النماذج المثالية على الأقل. الأول هو وجوب موافقة جميع الأطراف المتأثرة بالقرار قبل اعتباره صحيحا ساري المفعول. والثاني، يجب أن يأتي مثل هذا الاتفاق على أساس الحجة الأفضل، أي من خلال المشاركة في الخطابات العقلانية.[13] وان يضع المرء في اعتباره هنا الأنواع المختلفة من القرارات والخطابات. تتطلب القضايا الأخلاقية، على سبيل المثال، موافقة جميع الأشخاص، بينما تتطلب مسائل السياسة والأهداف الجماعية موافقة جماعة محددة.[14] ومع ذلك يهدف منطق المحاججة في كلتا الحالتين، إلى اتفاق كامل في دائرة المخاطبين المرسل لهم. المشكلة هنا هي: أن فكرة الإجماع العقلاني تذهب الى نصف الطريق فقط في تفسير شرعية الإجراءات القانونية. وماتزال هذه الفكرة مجردة إلى حد كبير من التعقيد المؤسسي على وجه التحديد لعملية صنع القرار القانوني والسياسي: لا تخبرنا المثالية الخطابية الكثير عن مكان وضع الحدود المؤسسية اللازمة للتوصل إلى قرارات واضحة في ظل قيود زمنية أكثر من الإجراء الأخلاقي المثالي. إن العقلانية الإجرائية المثالية،كما قال بيرنهارد، غير محددة لتعريف مؤسسات صنع القرار المناسبة لقيود للمكان والزمان، والقيود التي تحرمنا من الراحة في مناقشة قضية متنازع عليها حتى يتحقق الإجماع التام.[15]

تبدو المثالية الخطابية مفيدة لإخبارنا لماذا يعتبر المشاركون في نتيجة معينة أكثر أو أقل شرعية- على سبيل المثال، ولماذا يعتبرون القرار الذي أُتخذ على أساس مناقشة طويلة ومفتوحة نسبيًا وإصداره بأغلبية ثلاثة أرباع أكثر شرعية من القرار الذي بالكاد يمر بعد مداولات متسرعة. لكن لا يمكن للمرء أن ينتقل مباشرة من الإجراء الخطابي المثالي إلى الوصفات والتعليمات الملموسة لإجراءات صنع القرار المؤسسية. لا يمكن للمرء أن يستنتج من هذا المثال أن المطلب المؤسسي لأغلبية ثلاثة أرباع هو أكثر عقلانية وبالتالي يولد شرعية أكبر- من شرط الأغلبية البسيطة. [16] المشكلة هي أن الإجراءات القانونية لا تخلق مساحة للخطاب فقط؛ لكنها تحد من فرض قيود على المتطلبات الخطابية الصعبة على الصلاحية الشرعية. ألا يمكن أن يكشف هذا الأختصار أو التقييد الخاص بعملية صنع القرار القانوني عن مزيد من شروط الشرعية غير تلك التي تعبر عنها أفكار الخطاب العقلاني؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن فكرة التبرير المحايد، حتى في شكلها الأكثر تعقيدًا، تفسر جزئياً فقط الشرعية المحددة للمؤسسات الديمقراطية وأشكالها صنع القرار فيها. وهنا يكمن المغزى الأعمق لمبدأ هابرماس الديمقراطي، والذي سأتناوله بمزيد من التفصيل في القسم التالي.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.................

[1] Jurgen Habermas, Between Facts and Norms: Contributions to A Discourse Theory of Law and Democracy (William Rehg trans., 1996).

[2] الشرعية ممكنة على أساس الشرعية على الرغم من أن إجراءات إنتاج وتطبيق المعايير القانونية تتم أيضًا بشكل معقول، في الجانب الأخلاقي والعملي والعقلانية الإجرائية. ترجع شرعية الشرعية إلى تشابك نوعين من الإجراءات، وهما الإجراءات القانونية مع عمليات الجدال الأخلاقي التي تخضع لـ. العقلانية الإجرائية الخاصة بهم...

Jurgen Habermas, law and Morality, in 8. The Tanner Lectures on Human Values 217, 230(Sterling M. Mc Murrin ed., 1988).

[3] Jurgen Habermas, Discourse Ethics: Nots on a Program of Philosophical Justifica­tion, in Moral consciousness and Communicative Action 43-115 (Christian Lenhardt & Shierry W. Nicholsen trans., 1990);

وكذلك

Thomas McCarthy, The Critical Theory of Jurgen Habermas ch.4 (1978).

و:

Willman Right, Insight and Solidarity: A Study in The Discourse Ethics of Jurgen Habermas pt.1 (1994)

[4] Habermas, Discourse Ethics: Nots on a Program of Philosophical Justifica­tion, in Moral consciousness and Communicative Action, note2, at 230,244,246-57.

[5] يكتب هابرماس، في القانون والأخلاق على سبيل المثال: "يمكن للشرعية أن تنتج شرعية إلى الحد الذي يستجيب فيه النظام القانوني بشكل انعكاسي للحاجة إلى التبرير التي تنبع من إضفاء الطابع الإيجابي على القانون، ويستجيب بطريقة تجعل الخطابات القانونية تنصب على طرق تجعلها سابقة للحجج الأخلاقية". المصدر السابق، 243-44.

[6]. إن ممارسة السلطة السياسية في شكل قانون وضعي تحتاج إلى تبرير تدين بشرعيتها ... - على الأقل جزئيًا - إلى المحتوى الأخلاقي الضمني للروابط الصحيحة للقانون. هابرماس، "االمصدر نفسه 241-42.

[7] هابرماس المصدر نفسه 1, at 05 - 07.

[8] للحصول على تفسير هابرماس للتمايز الاجتماعي الحديث، انظر هابرماس ، المصدر نفسه: 94-99 ، 105- 07 ؛ ولنقده المعياري للخضوع كتبسيط مخل، انظر: . 22-34.

إن مشكلة إيجاد توازن بين الاستقلال الذاتي الخاص والعام تشغل الفصل الثالث ، ولكن انظر بشكل خاص: 83-84 ، 92-94 ، 104 ، 121-122.

[9]  من أجل حساب هابرماس الاجتماعي عن التمايز الحديث ، انظر المصدر نفسه، 94-99, 105- 07

لنقده المعياري للخضوع باعتباره التبسيط المفرط ، انظر المصدر نفسه:، 229-34 . حول مشكلة تحقيق التوازن بين الحكم الذاتي الخاص والعام أنظر الفصل الثالث ، لاسيما ص 83-84 ، 92-94104.

[10] Jurgen Habermas, Discourse Ethics: Nots on a Program of Philosophical Justification, in Moral consciousness and Communicative Action.

[11] هابرماس، المصدر نفسه، 108, 155- 56

[12]، هابرماس المصدر نفسه، 108 -109

[13] هابرماس، المصدر نفسه، 163-164

[14] هابرماس، المصدر نفسه، 123-124.

[15] Peters, Bernhard Peters, Rationality, supra note 6, at 246- 50.

[16]للحصول على نظرة عامة على التعقيدات التي تحضر قاعدة الأغلبية ، انظر:

Robert. A. Dahl, Democracy and Its Criticise 135-52 (198g).

Charles R. Beitz, Political Quality: An Essay in Democratic Theory chs1-4(1989);

Peter Jones, Political Equality and Majority Rule, in The Nature of political Theoey,1983, 155.

 

 

أطلق السوسيولوجي زيجمونت بومان على ما بعد الحداثة "الحداثة السائلة". ورغم انها متعددة الأوجه ومعقدة، لكن ظروف ما بعد الحداثة يمكن وصفها بخيبة الأمل من التوضيحات الشاملة للعالم، بما في ذلك تلك التي يعرضها الدين والعلم. ما بعد الحداثة ايضا يمكن فهمها من خلال اعراضها الرئيسية مثل مضاعفة الثانوي، الروايات المؤقتة، النسبية (عدم المقدرة على قول أي من الروايات هي أصح او أحسن من غيرها)، والواقع المفرط (المزج بين الواقع والخيال).

في عام 2018، اقتحمت ما بعد الحداثة البرازيليين بقوة بكل ألوانها كأكبر محطم للحقائق التجريبية والأفكار. انها تجسدت في حريق 2 سبتمبر من تلك السنة، الذي دمر أكبر متحف تاريخ طبيعي في البلاد، حيث ملايين الحقائق كانت محفوظة فيه سلفا. لا شيء اكثر رمزية من تلك النيران. هذا التدمير لمتحف الحقائق ايضا قابله قبل سنتين افتتاح متحف بلا أشياء في البرازيل، متحف الغد الذي ركز على استكشاف قصص بُنيت بمساعدة الصور الرقمية.

في الحقيقة، كان المتحف التقليدي بما فيه من مجموعة القطع الأثرية، هو حقا متحف الأمس. يُشار هنا الى ان تحطيم قطع المتحف بدلا من ان تكون حدثا تاريخيا، كانت نتيجة حتمية لظرف ما بعد الحداثة، وان إيقاف هذه النزعة هو ذو أهمية جوهرية للحفاظ على هوية النوع البشري.

انحدار الحقيقة المطلقة

ان الخط الفكري الذي قاد بالنهاية الى ما بعد الحداثة بدأ اثناء التنوير، وتحت تأثير اكتشافات كوبرنيكوس وجيوردانو بونو وكبلر وغاليلو، وفيزياء نيوتن، انتشرت عقيدة واسعة بان العلم يكشف تدريجيا عن الواقع وبالنهاية يكشف حقيقة الأشياء. الفلاسفة الوضعيون في القرن التاسع عشر – خاصة اوكست كومت – اخذوا هذا التفاؤل حول العلوم الى مستوى كلي جديد. هم اعتقدوا مثلا، بانه من خلال المعرفة التامة بالأجزاء نحن سنسيطر على الكل. عندما تعرف خلاياك جيدا، انت تستطيع السيطرة على جسمك. إعرف الانسان جيدا، ستعرف الانسانية. استعمل العلم جيدا، سوف تكون قادرا على بناء نظام أخلاقي سليم. أفكار كومت الأخلاقية – و"دين الانسانية" العلماني الذي أسسه – اصبح ذائع الصيت في البرازيل. "معابد الانسانية" الكومتية تأسست في مختلف أجزاء البلاد، والشعار الذي يظهر في علم البرازيل (النظام والتقدم) مشتق من كتابات كومت. لكن، الفلسفة وبعد وقت قصير فرضت أسئلة مقنعة: هل نحن نستطيع حقا معرفة العالم؟ هل أحاسيسنا تسمح لنا لنتأكد من الواقع؟ او هل سنكون ملعونين الى الأبد بأوهام كهف افلاطون؟

في معالجته لهذه الأسئلة، بيّن لنا عمانوئيل كانط ان الحقائق تصبح فقط حقائق لدينا، كجزء من تمثيل العالم المركب بواسطة أذهاننا. لاحقا سنكتشف انه بالاضافة لفلاتر حواسنا، اصطبغت الحقائق ايضا بالمعرفة وأنظمة القيم لأولئك الذين تصوروها. من هنا اصبحت الحقائق وبشكل متزايد يُنظر اليها كبناء انساني، ذاتي بعيدة عن الانطباع الأصلي في كونها كينونات مطلقة وثابتة.

العبارة القديمة "لا جدال ضد الحقائق " فقدت الكثير والكثير من معانيها. والطريقة التي نتصور بها العالم ستكون دائما متفردة. فريدة من نوعها كالوجه.

حالما جرى تفكيك الحقائق التجريبية والعقائدية، بقي الفلاسفة الوضعيون يأملون بامكانية بناء نظام أخلاقي مرتكز على المعرفة العلمية. ولكن بعدما حدث لاحقا من حربين عالميتين وقنبلتين نوويتين، أثبت العلم انه غير قادر وحده على بناء مثل هكذا صرح أخلاقي.

كان الفيلسوف كارل بوبر قد أغلق الطريق امام الوضعية حين قال ان  الفرضيات تكون علمية فقط عندما يكون بالإمكان تكذيبها. هذا يعني اننا لا يمكننا اعتبار أي فرضية علمية كحقيقة مطلقة. لم تعد هناك أي فرضيات علمية مثبتة. هناك فقط فرضيات مختبرة ومؤيدة. كل الفرضيات قابلة للتفنيد وهي مؤقتة وأكثر تمثيلا للواقع منه الى الواقع نفسه. حكمة سقراط "انا أعرف فقط اني لا أعرف" كانت وعلى نحو حاسم قد اندمجت في العلم.

من المثير، ان العلم الذي نُظر اليه مرة كمتجهم ومتغطرس، أصبح أكثر انظمة المعرفة انفتاحا . راح ينظر لنفسه كترجمة للعالم اكثر مما هو وصف له، كان من الطبيعي ان يسمح بوجود متزامن للنماذج التفسيرية المتنافسة. احيانا، نحتاج الى اكثر من اداة في علاقتنا مع الواقع. وباستعمال القول الكلاسيكي الفرويدي، نماذجنا ونظرياتنا تشبه منارة في الليل تضيء البحر لكي تبحر السفن بأمان. انها تضيء فقط لما يهم، بينما بقية السفن تبقى عائمة في عتمة جزئية .

هناك مثال مفيد نادرا ما يُناقش خارج البايولوجي وهو الأنواع. الانواع هي كائنات يتم تجميعها بالارتكاز على معايير مفاهيمية معينة. ولكن توجد هناك مفاهيم لأنواع مختلفة عديدة، كل واحد يؤدي الى تجمع مختلف. هناك علماء يعتبرون التكاثر باعتباره ذو أهمية اساسية لتعريف الانواع، هناك آخرون يعتبرون علاقات القرابة اكثر أهمية. كذلك، هناك من يعتبر التشابهات والاختلافات الفيزيقية هي الاساسية. هناك من يعتقد ان المسافات الوراثية بين المجموعات السكانية هامة. وبالنتيجة، عالِم ما بعد الحداثة يمكن ان يعيش مع مختلف التصنيفات من الجماعات الحيوانية او النباتية دون اعتبار أي من الافتراضات خاطئة بالضرورة. وبالعكس، هذا التعدد للروايات الصغيرة هو ذو أهمية كبيرة، كونه يوفر للعلماء ذخيرة واسعة من الأدوات لفهم العالم. امام كل سؤال، يمكن للعالِم ان يستعمل النموذج الذي يناسبه بشكل أفضل.

يمكن القول ان البحث عن الحقيقة في ما بعد الحداثة سيكون شيئا يشبه تسلق قمة جبل لكي يمكن النظر الى المشهد. نظريا، كل متسلق يستطيع تسلق الجبل عبر وضع يده وقدمه بالتناوب في شقوق او فجوات متميزة وبعدد لا متناهي من الاختيارات. ولكن طالما هناك احد يتسلق الجدار اولاً، سيكون هو من يضع القاعدة (ربط البراغي) التي تُستعمل من قبل متسلقين آخرين. هذا لا يمنع المتسلقين الآخرين من خلق مسارات اخرى وربط براغي جديدة.

لكن تلك الحرية تفرز معها بعض الفخاخ والمصائد. العلماء الذين لايقولون ابدا ان لديهم الحقيقة هم ليسوا أي شخص. العلماء الممارسون الحقيقيون الذين يجدون من الصعب العيش بتاريخ و روايات متعددة، ينتهون بعرض مشاكل خطيرة مرتبطة بعدم الارتياح النسبي هذا.

الكثير من العدمية والإنكار

من بين أكثر التأثيرات الشائعة غير المرغوب فيها المتصلة بانتشار روايات ما بعد الحداثة هي العدمية والنفي . في العدمية، يفقد الفرد تدريجيا الاتصال بالواقع ولا يعرف كيف يختار بين الروايات المتوفرة، حيث يصل للإعتقاد ان لا شيء له معنى. هذه العملية هي تجسيد قوي لما يسمى "الواقع المفرط" – نوع من فنتازيا تغذيها وسائل الاعلام وتقود لحياة من الأوهام، والوثنية الجنسية والاستهلاكية.

ان مفهوم الواقع المفرط  hyperreality طوره الفيلسوف جينس بودربلارد (1923-2007). هو الفكرة باننا نتوقع استنساخ الواقع من خلال تجسيداتنا الاعلامية له. النسخة تصبح اكثر كمالا في عيوننا من "الواقعي"، حتى بدون امتلاك الصفة الاساسية للواقعي. هذا الموقف جرى تجسيده في الفيلم (Her) (2013)، الذي يصف شغف الممثل في نظام تشغيل يحاكي امرأة متيقظة ومتفانية.

المنطقة الرخوة من الروايات تفضل ايضا ظهور ما سمي "الانكار"، الذي يمكن تعريفه كانكار للروايات العلمية بسبب الجهل او لمجرد الراحة. هناك اولئك الذين ببساطة يتجاهلون المعرفة العلمية، واولئك الذين يستخدمونها لغايات سياسية. هذه العملية تؤدي الى انحرافات مثل الايمان بان الارض مسطحة او انكار الاحتباس الحراري او نظرية التطور، وأخيرا الرؤية السيئة الفهم للعلم التي ادت الى حركة مضادة للتطعيم وانكار الوباء الأخير. لكن الجدال المستخدم من قبل السياسيين المنكرين الذين يدّعون ان العلماء يتصرفون لغايات سياسية هو مدعاة للاثارة. وهنا تأسس ارتداد سريالي ، فيه نرى العلماء غير النزيهين يمارسون السياسة، والشرفاء السياسييبن يمارسون العلم – وهي العقيدة الممكنة فقط في مجتمع سيء ونمطي.

غير ان وجود روايات متعددة لا يعني بالضرورة الفوضى الفكرية. حيث المواطن لديه ادوات فكرية مناسبة، ان امتلاك نطاق من الإمكانات لفهم العالم يمكن ان يكون جيدا، كما لاحظنا بمثال تسلّق الجبل. الجماعة العلمية قادرة تماما للاشارة الى تلك الروايات التي هي صالحة او غير صالحة. ايضا بالامكان التمييز بين النظريات العلمية التي تشكل فرضيات اكثر قوة، ويمكن اثباتها او تكذيبها. التحدي الرئيسي أمامنا هو استعادة ثقة المواطن بالعلماء بدلا من السياسيين.

ان ميدان الروايات العلمية هو الواقع، مصدر دليل يقودنا لتعريف ما هو أقرب للحقيقة. هذا الدليل – مثل ملايين القطع من الدليل التي احترقت في المتحف الوطني – هي قطع اساسية لعلاقاتنا مع الكون. باختصار، قطع المتحف تجعل فرضياتنا عن العالم قابلة للتصديق. بدون هذه الوثائق من التاريخ وبيئاتنا، لايكون هناك ضمان بان أجيال المستقبل ستكون قادرة على التمييز بين الخيال والواقع، او انهم سيكون لديهم أي تقدير أكثر  للديناصورات او النمور او الدب الاسترالي منه الى التنين والجن والبيكومون.

بعد حريق المتحف الوطني، سأل أحد الأصدقاء ما اذا كانت جمجمة "لوزيا" اسم أول انسان وُجد في جنوب امريكا قد استُنسخت قبل ان يحترق المتحف. رغم ان الجواب كان نعم، بالإمكان ايجاد نسخة ثلاثية الأبعاد له، لكن المرء يشعر بعدم الإرتياح الفكري. في زمن الحداثة السائلة، والذكاء الاصطناعي وعرض الروايات، تعمل هذه المتاحف والعلم ذاته كركائز تسمح لنا للإبقاء على اتصال مع العالم الواقعي. غير ان العالم المفرط في الواقعية – العالم الذي خُلق عبر استغلال الانسان وفُرض بواسطة المجتمع الاستهلاكي – لايريدنا بالضرورة ان نمتلك هذا الخيار. الأمر متروك لنا لنفكر في أهمية الواقع ونكافح للابقاء على حقائقنا التاريخية.

***

حاتم حميد محسن

الفِعْلُ الاجتماعي - على الصعيدَيْن التاريخي والرمزي - يُمثِّل توليدًا مُستمرًّا للفِكْرِ والشُّعورِ، وهذا يُؤَدِّي إلى صناعةِ إطار مرجعي يَشتملُ على تفاعلات اللغة معَ شخصية الفرد الإنسانية، ويُسَاهِمُ في تكوين فهم عميق للعلاقة التبادلية بين مَضامينِ الوَعْي الواقعي وتَراكيبِ العوالم الذهنية، التي يَبتكرها الفردُ لإيجاد بناء اجتماعي خيالي يُوَازِي الواقعَ المادي، ويتعالى عليه. والانفصالُ بين الواقعِ الذي يعيش فيه الفردُ، والواقعِ الذي يعيش في الفردِ، هو نتيجة طبيعية لضغط الأنساق الاستهلاكية الخشنة على السُّلوكِ الفردي والطُّموحِ الجماعي. وهذا الضغطُ يَدفع الفردَ والجماعةَ إلى إنشاء تفسيراتٍ مُتَنَوِّعَة للحياة، وتأويلاتٍ مُتَعَدِّدَة لِبُنية اللغة، ضِمْن السِّيَاق الاجتماعي، بحثًا عن مَعنى لِمَركزية الفِكْر وجَوهرِ الشُّعور . وإذا كانَ الدافعُ الإنساني - فرديًّا وجماعيًّا- يُعيد تشكيلَ الواقع المادي استنادًا إلى رمزيةِ اللغة وخصائصِ الفِعْل الاجتماعي، فإنَّ العقل الجَمْعِي يُعيد تَكوينَ مصادر المعرفة اعتمادًا على المصالح الشخصية والمنافع العَامَّة، أي إنَّ المُجتمع - بِكُلِّ هياكله الوجودية وآلِيَّاته اللغوية وأدواته الاجتماعية - يُطَوِّر المعرفةَ كَي تَخدِم شرعيةَ النسقِ الحياتي الذي يَقُوم على البُنيةِ اللغوية والفِعْلِ الاجتماعي . وهذا يَعْني انتقالَ المعرفة مِن القُوَّة الذاتية المُكتمِلة بِنَفْسِها إلى الفاعليَّة المركزية في العلاقات الاجتماعية، وَتَحَوُّلَ هُوِيَّة اللغة (وَسِيط تواصلي) إلى سُلطة اجتماعية (وَسَط إبداعي).

2

فلسفةُ اللغةِ تُحَرِّر الفِعْلَ الاجتماعي مِن الوَعْي الزائف، وهذا يُكرِّس العقلانيةَ كَنَزعة إنسانية عابرة للحُدود الزمنية والحواجزِ المكانية، ويُجذِّر الثقافةَ كَتَيَّار معرفي مُتَجَاوِز للصِّرَاعات التاريخية، التي تَدفع الفردَ إلى تَكوينِ رؤية أُحَادِيَّة ضَيِّقة، واحتكارِ تفاصيل الحياة اليومية، والسَّيطرةِ عليها، وأدلجتها فكريًّا وعمليًّا، واستغلالها لتثبيت الذات كمرجعية أساسية، وجَعْل الآخرين يَدُورون في فَلَكِها. وهذا يَعْني أنَّ الفرد يَعتبر كِيَانَه هو مركزَ الحقيقة، وكُلَّ العناصرِ الخارجة عن مَسَارات كِيَانِه أطرافًا عابرةً، ويَعتبر كَينونته هي مَتْنَ الوُجود، وكُلَّ العوامل الخارجة عن حدود كَينونته هوامشَ تابعةً . وتكريسُ الفردِ لذاته - كِيَانًا وكَينونةً وهُوِيَّةً وسُلطةً -، وإلغاءُ ما سِوَى ذاته، ونَفْيُ مَا عَدَاها، وإقصاءُ كُلِّ ما يُعارضها، مِن شأنه حَشْر الفرد في الزاوية الضَّيقة، ودَفْعه إلى الانكماش على نَفْسِه، والتَّقَوْقُع عليها، ورفض إنجازات الآخَرِين جُملةً وتفصيلًا، وهذا لا يُؤَدِّي إلى التَّطَرُّف فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَقُود الفردَ إلى تدمير نَفْسِه بِنَفْسِه، لأنَّ قُوَّة الآراء كامنة في تَنَوُّعها، وشرعية الوجود الإنساني مُستمدة مِن تَعَدُّدِ الشخصيات وتَلاقُحِ الأفكار. وجُمُودُ الفردِ ذاتيًّا وفِكريًّا سَيُنتج سُلطةً وهميةً تَحتكر الحقيقةَ، وتتحدَّث باسمِ عناصر الطبيعة. والفردُ إذا ألغى الآخَرين، فهو يُلْغِي نَفْسَه مِن حَيث لا يَشْعُر، وإذا رَفَضَ الحضارةَ فهو يَشْطُب تاريخَه مِن حَيث لا يَدْرِي.وعُذوبةُ الماءِ نابعة مِن جَرَيَانه،وإذا استقرَّ صَارِ آسِنًا.

3

لا يُمكن تحقيق التَّحَرُّر الإنساني إلا ضِمن الإطار الأخلاقي، وهذا مِن شَأنه رَأْب الصَّدْع بين اللغة كَهُوِيَّة وُجودية والثقافةِ كَتَيَّار معرفي . وإذا كانَ الفِعْلُ الاجتماعي يَستمد شرعيته من اللغة والثقافة، فإنَّ التاريخَ يَستمد طاقته مِن عملية البحث الدَّؤُوب عن مَعنى الأشياءِ ومَنطق العلاقات. والمُجتمعُ يَعتمد على القِيَمِ الأخلاقية والرموزِ اللغوية والظواهرِ الثقافية، مِن أجل إعادة صِياغة التأويلات اللغوية في فلسفة الأنساق التاريخية . ولا يُوجَد تاريخ بِدُون فِعْل اجتماعي، ولا تُوجَد فلسفة بِدُون رمزية لُغوية . واللغةُ تعتمد على المَعَاني الإبداعية والصُّوَرِ الذهنية والوَعْي الواقعي، مِن أجل إعادة صناعة شخصية الفرد الإنسانية في البُنية الوظيفية للسُّلوك الفردي والجماعي . ولا يُوجَد سُلوك بِدُون هُوِيَّة اجتماعية، ولا تُوجَد شخصية بِدُون سُلطة اعتبارية .

4

البُعْدُ الاجتماعي لفلسفة اللغة يَحفظ التوازنَ بين النظامِ الواقعي العَمَلي (الموضوع الثقافي والمَضمون الإنساني) والنظامِ الشخصي العِلْمي (الشُّعور النَّفْسِي والإدراك الحِسِّي)، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحليل أبعاد الوَعْي الواقعي في الفِعْل الاجتماعي، ودَمْجهما معًا في الظواهر الثقافية، مِن أجل تَكوين مُجتمع ديناميكي مُتَحَرِّر مِن الأوهام، ومُنفتِح على التأثيرات الحياتية المُتبادلة بين الفرد وبيئته مِن جِهة، وبين اللغةِ والتاريخِ مِن جِهة أُخْرَى . والتَّحَرُّرُ مِن الأوهام يُؤَدِّي إلى مُسَاءَلَةِ الأنساق الاجتماعية، والبحثِ في كيفيةِ نُشوئها وتَشَكُّلها، وعدم اعتبارها مُسَلَّمَات فوق النقد والنقض، وعدم تصنيفها كأيقونات مُقَدَّسَة، لأنَّ الأنساق الاجتماعية صناعة إنسانية تَختلف باختلاف المَاهِيَّات والهُوِيَّات. وإذا كان العُنصرُ الاجتماعي مُتَغَيِّرًا في الواقعِ المُعَاشِ والأحداثِ اليومية، ولا يَتمتَّع بالثبات والدَّيمومة، فهذا دليلٌ على خُضوعه لِصَيرورة التاريخ، التي تتأثَّر - سلبًا وإيجابًا - بالتأويلات اللغوية المُختلفة . والتاريخُ يَمْلِك أولويةً على اللغةِ في بُنيةِ الفِعْل الاجتماعي، واللغةُ تَمْلِك أسبقيةً على التاريخ في جَوهر الفِكْر الإنساني .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

أنتج فلاسفة اليونان القديمة عددا كبيرا من الافكار. ومع ان قضايا حول كيفية العيش شغلت معظم تفكيرهم، لكنهم ايضا تسائلوا حول ما الذي يشكل العالم من حولهم. لايهم ان بدت معظم تخميناتهم بعيدة عن الواقع لكنها لاتزال تضيء التجارب المفاهيمية للبشرية  ومحاولات فهم طبيعة الواقع.

طاليس: كل شيء ماء

يرى ارسطو ان طاليس كان أول فيلسوف أصلي. عاش في ميليتيس المدينة اليونانية القديمة في القرن السادس قبل الميلاد  والتي تقع  في تركيا الحالية، عُرف طاليس بعمله في الفلسفة وعلم الفلك والرياضيات. هو ايضا حاول توضيح أصل جميع المواد معتبراً الماء هو المبدأ الاول الذي خرجت منه كل الاشياء الاخرى. هو اعتقد بان الماء يتحول الى مواد اخرى، وان جميع المواد تعود الى الماء. ارسطو(384-322) في وقت لاحق عرض عدة اسباب دعت طاليس لإختيار الماء، معظمها ملاحظات بسيطة حول ما تتطلبه الحياة من ماء وكيف يمكن تحول المادة من حالة الى اخرى. يُعتقد ان طاليس جادل ايضا بان الارض كانت عائمة في بحر من الماء. التحولات العرضية للكوكب في هذا البحر، كما يرى، كانت سببا للزلازل. ارسطو يخبرنا ان طاليس كان اول فرد في تاريخ اليونان غير مقتنع بالتوضيحات الميثولوجية للعالم الذي حوله لذا حاول تقديم بدائل من خلال التفكير. وبصرف النظر عن فكرته الوهمية بان الارض ربما نشأت من الماء والتي اُبطلت علميا منذ عام 1768، لكن طاليس يستحق الإعجاب الدائم لبدئه اولى تقاليد التوضيح العقلاني للعالم، مستعملا فقط الدليل الملاحظ.

اناكسيماندر: اللامحدود aperion

كان اناكسيماندر معاصرا وتلميذا لطاليس، عاش في ميليتس وهو اول فيلسوف يوناني كتب افكاره على الورق. هو ايضا طور ما اعتُبر اول نقاش فلسفي لموقفه مقابل ملاحظات طاليس التجريبية. هو ايضا قيل اول من وضع خارطة للعالم المعروف باليونان.

نظر اناكسيماندر بأربعة عناصر كلاسيكية – الماء والهواء والنار والارض وجادل بان لا أحد من هذه العناصر يمكن ان يكون المبدأ الاول. هذه العناصر كانت محدودة ومتناهية وتميل لإلغاء تأثير بعضها على البعض الآخر. بدلا من ذلك، هو اقترح مادة جديدة تسمى ابيرون apeiron ترجمتها "اللامحدود" وافترض ان تكون لا متناهية.

هو ايضا نظّر حول الكون. كان اول من جادل بان الأجرام السماوية خلقت دوائر كاملة عندما تحركت في سماء الليل، وهي الخطوة الكبرى الى الامام في علم الفلك. كذلك، هو جادل بان الارض كانت طافية في فضاء فارغ وان الاجسام السماوية التي نراها لم تكن متساوية المسافات وهو اختراع لمفهوم الفضاء الخارجي. واذا كانت هذه الافكار استنفذت فائدتها، فان حالات التقدم الكبرى بدرجة او بأقل نشأت من حجج فلسفية نقحها الفلاسفة اللاحقون مثل افلاطون وارسطو.

اناكسيمين: كل شيء هواء

وهو آخر الفلاسفة الكبار في ميليتيس وقيل انه عمل او درس تحت اشراف اناكسيماندر. هو انتقل بعيدا عن فكرة معلمه في المادة المجزأة التي اصبحت عناصر نتفاعل معها، واقترح ان الهواء هو المبدأ الاول. هو كان يعني ضمنا ان الهواء كان شبيه بالاله وهو غير متناهي في الحجم.

خلافا لأسلافه، هو ايضا وضع نظرية في كيفية عمل هذا. اولا، هو اقترح ان الهواء الكثيف يبرد ويصبح ماءً وارض. وعندما يمتزج بالماء، يسخن الهواء ويصبح نارا. هو ايضا اشار بان هذا يمكن اختباره عبر النفخ على اليد بهواء أقل كثافة بينما الرطوبة وقلة درجات الحرارة ارتبطت بتكثيف الهواء. بعد ذلك، وفي موضوع الكون هو اقترح ان الهواء كان ايضا اساس النجوم والذي عمل تماما مثل احتراق الاشياء على الارض. بهذا الاقتراح أدخل اناكسيمين للفكر الغربي فكرة نظرية التحول المدعومة تجريبيا التي يمكن مناقشتها واختبارها. فكرته قبل 2000 سنة بان قوانين الطبيعة تنطبق على الكون مثلما تنطبق على الأرض جرى إثباتها من قبل اسحق نيوتن في بداية القرن الثامن عشر.

هيراقليطس: التدفق والنار

كان هيرقليطس فيلسوفا من مدينة أفسس Ephesus الواقعة في تركيا الحالية. عاش في القرن السادس قبل الميلاد. وبينما عمله كان استجابة لفلاسفة ميليسان، لكنه لا يُعتقد  انه درس معهم. بقي من كتاباته فقط جزءا بسيطا منها ، هو قال ان العالم وُجد دائما وهو مرتكزا على نار أزلية، وان كل شيء يتغير باستمرار. أدخل هيرقليطس نظاما تتحول به العناصر الى عناصر اخرى وان بدت التفاصيل غامضة للعقل المعاصر. فمثلا، هو يوضح : "تحول النار: اولاً بحر، ومن البحر نصف هو ارض، ونصف رياح نارية". كذلك، هو اكد على ان هذه العملية ايضا تعمل رجوعا مع الحفاظ على تناسب المادة.

جادل هيراقليطس بان الكون هو في تدفق مستمر،ولاشيء يبقى ذاته اكثر من لحظة واحدة. قوله الشهير (لا احد يستطيع النزول في نفس النهر مرتين) يبدو في الظاهر عميقا وله مضامين هامة تجاه المعرفة التجريبية.

بارمنديس: عالم الوحدة

وهو فيلسوف من ايليا (مستوطنة يونانية في ايطاليا الحديثة) عاش حوالي سنة 500 قبل الميلاد. كان بارمنديس ربما أعظم فلاسفة ما قبل سقراط. تقليديا كان من أهم أعماله كتاب "حول الطبيعة" وهو تحفة فنية ضم حوالي 800 قصيدة شعرية حول طبيعة الواقع، فيه يجادل ان العالم الذي نراه ليس الاّ وهما. الطبيعة الحقيقية للعالم غير متاحة لأحاسيسنا لكن يمكن الوصول اليها عبر العقل. كذلك، هذا العالم "الواقعي:" هو لا يتغير، وموحد وبلا زمن. حجته تبدأ بفكرة اننا لا نستطيع امتلاك مفهوم عقلاني لـ "العدم". طالما العدم لا يمكن ان يوجد، هو اعتقد بعدم وجود مكان فارغ. (ميكانيكا الكوانتم اثبتت صحة هذا). بدون مكان فارغ يتم التحرك نحوه، تكون الحركة مستحيلة. هو استمر في هذه الطريقة حتى دحض فكرة التغيير والاختلاف والنهاية. بعد ذلك هو التفت الى العالم الذي نتفاعل معه، موضحا اياه كظهور فقط.

تأثيره على الفكر الغربي كان هاما، خاصة من خلال افلاطون.  زينوس صاحب المفارقات الشهيرة دعم افكار بارمنديس التي استمرت بالتأثير على الفلسفة انذاك. اقتراحه بان أحاسيسنا هي بلا فائدة عند النظر للحقيقة اثبت نجاحه. (عمانوئيل كانط طرح حجة مشابهة). فلاسفة ما قبل سقراط الآخرون اعترفوا بجدية وأهمية افكاره.

ديموقريطس: الذرات

وُلد في ابديرا (المستوطنة الايونية) عام 460 ق.م. كان ديموقريطس مؤلفا غزير الانتاج كتب حول كل شيء من الاخلاق الى علم النبات. كان ديموقريطس من بين اوائل المفكرين الذين اقترحوا فكرة الذرة. هو او ربما تلميذه ليوسيبوس وضعا نظرية سميت "الذرية". هو جادل بان من المستحيل تجزئة المادة الى مالانهاية، لأنه يجب الوصول الى نقطة فيها لم يعد ممكنا تجزئة الشيء الى نصفين. وبهذا، انت لديك ذرات، وتعني "لا تتجزا".

الذرات التي تتحرك من خلال الفراغ حسب قوله، تبني كل العالم بالارتكاز على شكلها، ترتيبها، موقعها في زمن معين. السمات النوعية للعالم ليست متأصلة في ذرات وانما نتجت بواسطة التفاعل بين الذرات التي تصنع الاشياء الخارجية وتلك التي تشكل أجسامنا. الذرية اليونانية كانت تأملية بالكامل – لم يتم ابراز دليل مادي الاّ في بداية القرن التاسع عشر – وديموقريطس نال احترام اولئك الذين لم يتفقوا معه. من بينهم كان ارسطو الذي مدحه لقدرته الفكرية بينما رفض الذرية. الفكرة اعيد مراجعتها بعد قرون عندما قام مفكرون مثل غاليلو وديكارت باستطلاع قضية فلسفية مشابهة.

افلاطون: الأشكال

عمل افلاطون بشكل رئيسي في أثينا في القرن الرابع ق.م، وبقي قمة شاهقة بين الفلاسفة. تفكيره ذهب الى ما وراء فكرة معلمه سقراط، وأثّر بشكل جوهري على كل فلسفة الغرب والشرق الاوسط اللاحقة. كذلك، هو اسس اكاديمية اثينا حيث درس فيها كبار العقول بمن فيهم ارسطو. كتب افلاطون عدة موضوعات من ضمنها الميتافيزيقا. نظريته في الأشكال كانت مرتكزة عل افكار ما قبل سقراط. هو جادل ان العالم الذي نعيش به هو نسخة غير تامة لعالم "الاشكال": اللامتغير، الغير مادي، الجوهر المستمر لكل الاشياء. الاشياء اليومية مثل الكرسي هو اعادة انتاج ناقصة لـ "شكل الكرسي". ونفس الشيء ينطبق على كل شيء يوجد في العالم المادي.

يجادل افلاطون (مثل بارمنديس لدرجة ما) ان العنصر المؤسس للواقع هو رياضي ومثالي وهو يتفق مع هيرقليطس بان العالم الذي نتفاعل معه هو دائما يتغير ،وهو يستعير من فلاسفة ميليتس افكارا حول الكيفية التي تتحول بها العناصر الى عنصر آخر.

فتح افلاطون  نظريته للتساؤل. حوار بارمنديس الذي يصور اجتماعا وهميا بين سقراط وبرمنديس يناقش الاشكال، يبدو يبيّن اما رفضه للنظرية لاحقا في حياته او الحاجة الى اجراء تنقيح عليها.

تراث افلاطون يبقى عصيا على المقارنة. الفريد نورث وايتهد ذكر ان كل الفلسفة الغربية ليست الى سلسلة من حواشي افلاطون.

***

حاتم حميد محسن

إنَّ أول الفلاسفة الإغريق الفيلسوف (طاليس) الذي ينسب الى المدرسة الطبيعية القديمة الذي وضع لبناتها مع  فلاسفة ثلاثة يرجعون الى مدرسة (ملطيا)، إذ يرى (طاليس)  بإن كل شيء يرجع الى ماء،أو أن كل شيء يأتي من الماء والذي عد الماء هو سبب وجود الموجودات وهو العنصر الأصلي الذي تتألف منه عناصر الأشياء في الأرض، وأن الأرض أصلاً هي مرتكزة على الماء، ويرى  الفيلسوف الإنكليزي (برتراند رسل) بأن (طاليس) في تفكيره هذا هو رجل علم أكثر منه فيلسوفاً على اعتبارات أن بحثه كان منطقياً من فرضية علمية بحتة(1)، على الرغم من أن هذه النظرة العلمية كانت مؤطرة بشكل فلسفي مكّن من خلالها نظرته الى ما هو أبعد من الماء في بعده الوجودي،  بل ذهب في رؤيته هذه الى أن الارض هي وجود أبعد من أن تحضر في العين المجردة وهي بحاجة الى تقنيات حديثة حتى يتم التأكد من أن هذا الفرض الذي يجعل من الأرض مرتكزة على الماء،  لذا فإن النظرتين العلمية والفلسفية شكلت رؤية (طاليس) الأولى الى شيئين في آن واحد هما الوجود والموجود .

إنَّ (طاليس) عندما يُرجع كل العناصر الى الماء والأرض مرتكزة عليه يرى بأن الماء مادة حية ولها روح وأن حركة الأشياء منطلقة من الحياة التي يوفرها هذا العنصر كما أن حركة الموجودات تأتي بالدرجة الأولى من هذه الحياة التي أوجدها عنصر الماء وهذه النظرة الى حركة الاشياء والى أصل الحياة في الماء التي تستمد منه هذه الموجودات في تشّكل وجودها وما يتكون من ماهيات نتيجة لهذه التشكيل يتطابق معه في النظرة الفيلسوف (لتاوي) الصيني (ليه تز) في القرن الخامس قبل الميلاد في أن الماء هو المادة الأولية التي ترجع اليها الموجودات(2) .

إنَّ طبيعة الموجودات التي يرجع أصلها الى الماء بحسب نظرة (طاليس) في المدرسة المالطية تأتي من مبدأ الذهاب والنظرة الى ما هو موجود وليس الى نظرة تأملية بعيدة عن الموجودات وتشكيلاتها في داخل هذه الطبيعة، لذا فأن النظرة هذه حتى وأن كانت أولية ولا ترتقي بنظر البعض ممن يبتعدون بنظرتهم الى الأشياء ويركزون فقط على الأفكار المسبقة تبقى نظرة بحاجة الى تأمل أكثر قبل أن ينطلق بالحكم على نوع الأسلوب والطريقة المتبعة في الوصول الى الحقيقة،لذا فإن المدرسة الطبيعية المالطية تعد هي من أول المدارس الفلسفية التي طبقت شرطية البحث في ما هو موجود والتفكير به حتى وأن كان الرأي الفلسفي متعارض بين أفرادها في من هو أصل الأشياء سواء أكان الماء حسب رأي (طاليس)،أو رأي  (انكسمندرس) الذي يرى بأن الموجودات وطبيعتها ترجع الى عنصر آخر لا نهائي ولا يحده الزمان،ويقول في هذا المجال حسب ما ينقله لنا (رسل) بأن " الاشياء تعود فترتد الى العنصر الذي نشأت منه كما جري بذلك القضاء لأنها تعوض بعضها بعضاً لما وقع منها من إجحاف كما يقضي بذلك أمر الزمان "(3) وهذه النظرة في الطبيعة هي من الهمت (انكسمندرس) في أن الأشياء توجد من عنصر لا متناهي موجود في داخلها وكأنه المصنع الذي لا ينضب من عملية خلق وإيجاد مستمر،هذا يجري بحكم القضاء الذي أوجدها لأول مرة . أما الرأي الثالث في هذه المدرسة عند (أناكسمانس) الذي يرى بأن الهواء هو أصل الأشياء ويرجعه الى عملية التخلخل والتكاثف المصاحب للهواء في تكوين الأشياء والموجودات في هذا المجال(4).

وهنا يمكن أن نوجه نقدنا الى نظرة الانتقاص التي يقدمها (ولتر ستيس) في كتابه (تاريخ الفلسفة اليونانية) اذ يرى الأخير أن هذه " المذاهب الفكرية كانت فجة نظراً الى كونها لا يمكن أن تتبين فيها بذور التفكير الفلسفي إلا في عتامة "(5) وكذلك الى آراء أخرى في نفس الموضوع ترى بإن هذه المدرسة تعذر فيها التمييز بين ما هو (ذهني) وما هو موضوعي (وجود)، وتركيز فلاسفة هذه المدرسة فقط على ما هو مادي أو أشياء مادية فقط،(6) على عكس من هذه النظرة التي قدمها فلاسفة المدرسة المالطية كانت مبنية على بعد آخر اكثر منه اشياء مادية مباشرة وإذا أعدنا طرح أفكار هذه المدرسة التي انطلقت من الموجودات ذاتها في تشكيل أفكارها فهي ابتعدت الى ما هو أبعد من النظرة القاصرة، أو الفجة كما في النقود السابقة، فالذي يرى بأن الماء هو أصل الأشياء يتطابق مع القول القرآن الكريم (وجعلنا من الماء كل شيء حي)،  والحياة التي ركز عليها(طاليس) وإنَّ أختلفت في التفاصيل مع الآية القرآنية لكنها تطابقت معها في الأصل في أن الماء هو أصل الحياة وهو أصل تشكيل الحياة على الأرض، كذلك ترجع الى نظرة (انكسمندرس) الذي رأى بأن الأشياء ترجع الى عنصر لا متناهي مستمر في عملية الهدم والبناء على وفق قانون الوجود هي ايضاً نظرة تكررت في آراء اخرى مثل نظرية الخلق المستمر عند (ابن عربي) الذي اثار اعجاب (برتراند رسل) كما أثار أعجابه بالفيلسوف (انكسمندرس)، إذ يرى فيهما بأنهما يثيران الأهتمام والمتابع لما طرحاه من آراء مهم مهدت الى جدلية فلسفية مع من أتى من بعدهما من الفلاسفة(7).

إنَّ ما قدمته المدرسة المالطية من آراء فلسفية حول الوجودات والموجودات جاءت بعدها آراء مناقضة تارّة ومكملة تارّة أخرى، ومن الذين هاجموا أفكار المدرسة الطبيعية هو الفيلسوف الأيلي (بارمينيدس) الذي أعتمد على العقل وحده دون الحواس في معرفة الوجود،أي أنه لم يتجه بشكل مباشر الى الحقيقة المتمثلة بالموجودات وكيفية تشكلها وبناء حركتها وإعطاءها البعد الحضوري الفعلي، بل اقتصر على ما يوفره العقل من أفكار في هذا المجال الحسي لكنه أعتمد في تفسيرها على ما قدمته المعطيات العقلية في إنتاج المعنى دون إشراك الجانب الموضوعي في ذلك، لذا كانت الجدلية التي اطلقها في مهاجمة الفيلسوف الآخر(هيراقليطس) أن الجدلية بين الطرفين تجسدت في اعتقاد " بارمينيدس أن الإنسان يجب أن يتبع العقل وحده إلا أن عقله أوصله الى نتيجة هي عكس ما وصل اليه (هيراقليطس) تماماً، قال (هيراقليط): كل شيء يتغير وقال (بارمينيدس): لا شيء يتغير ؛ قال (هيراقليط): ليست الحكمة سوى تفهم الطريقة التي يدور بها العالم وقال (بارمينيدس) أن الكون لا يدور حقاً على الإطلاق وإنما هو ساكن سكوناً مطلقاً أن التغير والحركة والتبدل لم تكن في نظرة سوى أوهام مصدرها الحواس "(8).

إنَّ النتيجة لهذا السكون الذي يراه (بارمينيدس) في الكون والذي وصفه بالإطلاق جاء نتيجة لتبني أفكار قد لا تكون مستندة على قواعد حسية،أو أدلة قائمة على أن يكون هذا العالم ثابت ولا يتغير وأن الحواس هي مجرد مصدر غير مقبول يؤدي الى الوهم الذي يبعد العقل عن الحقيقة التي يتبناها العقل والتي أوجدها العقل وحده دون أدوات مهمة مثل الحواس،لذا فقد كانت نتيجة ذلك معارضة لما سبقه من الفلاسفة الطبيعيين، وكذلك لمعاصره (هيراقليط) .ودخل فيلسوف آخر قد دخل في جدلية انطولوجية مع (بارمينيدس) وهو (أمبذوقليس) من أصل (صقلي) الذي اعتبر فلسفة (بارمينيدس) راكدة، اذ يرى من خلال معارضة لمبدأ (بارمينيدس) الأعتماد على العقل وحده في إصدار الأحكام وعلى الرغم من القبول بمبدأ أن الحواس لوحدها غير كافية في إنتاج الأحكام النهائية لكنه دافع عنها باعتبارها تقدم من الشواهد التي تفيد في الوصول الى الأحكام،وهي قابلة للنقد والتمحيص في آن واحد(9)، لذا فقد عمل على إيجاد غاية محددة من اتباع الحواس ونقدها وتمحيص ما تقدمه من شواهد، هذه الغاية تتجسد في اتباع طريقة لتوضيح هذه الشواهد حتى لا تكون قاصرة فقط على الحواس وقد صاغ ذلك النقد في قالب شعري يقول فيه " والآن أدرس كل شيء بالطريقة المؤدية الى توضيحه بكافة حواسك، لا تعط لما ترى أهمية اكثر مما تعطي لما تسمع، وبالمثل لا تقّدر أذنك المرددة للأصوات أكثر من تقدير ما ينطق به لسانك من بيان فصيح ولا تحجب ثقتك عن أي جزء آخر من الجسم يمكن أن يوصلك الى تفهم شيء من الأشياء وعليك أن تدرس كل شيء بالطريقة المؤدية الى توضيحه ".

إنَّ عملية الفهم للأشياء هي ما تقع بين الحواس والعقل من عملية لا بد أن تكون تواصلية مستمرة في تبني الأشياء ودراستها مع ما تقدمه من دلائل كامنة في آليات هضمها عقلياً من بعد أن تقدمها الحواس بشكلها الأولي،لذا  فإن التخلي من جزء من عملية تلقي وتقبل الأشياء هو بعين وفكر (امبذوقليس) غير سليم في تلقي المعرفة وبذلك فإن الجدلية مع (بارمينيدس) هي في أصل استخدام (العقل والحواس) معاً في الوصول الى المعارف وإطلاق الأحكام في ذلك المجال .

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

......................

الهوامش

1. ينظر: رسل، برتراند: تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، ص 61-63.

2. ينظر: العلوي، هادي، نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي، دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، ط 2، 2007، ص 7-8.

3. رسل، برتراند، المصدر السابق، ص64 .

4. ينظر: العلوي، هادي، المصدر نفسه، ص 8 .

5. الشلبي، كمال عبد الكريم حسين، أصالة الوجود عند الشيرازي، دمشق: دار صفحات للدراسات والنشر، 2009، ص 44.

6. ينظر: المصدر نفسه، ص 44 .

7. ينظر: رسل، برتراند، المصدر السابق، ص 64-66.

8. فارنتن، بنيامين: العلم الاغريقي ج 1، ترجمة: احمد شكري سالم، القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2011، ص 66.

9. ينظر: المصدر نفسه، ص 68 .

10. المصدر نفسه، ص 821 .

هل هي مصادفة ثقافية: أنْ يحمل المتطرفون ألقاباً أبويةً، بينما يحمل العلماءُ والمفكرون ألقاب البنوّة؟!

في جميع مراحل تكوين التنظيمات الدينية، كان معنى الأبوةِ حاضراً بشكل أو بآخر. والأبوة هنا ليست بالمضمون البيولوجي (أب، ابن، أحفاد، عائلة، عشيرة، قبيلة ...)، وإنما بمعناها الثقافي القائم على دلالتي (السلطة والاعتقاد) في رأسٍ واحد. وبالطبع، لا تأتي هذه المفردات مستقلةً كنوعٍ من التناسل الحسي الإجتماعي، لكنها تطرح دلالتها عبر الثقافة، حين تُعطيها هيمنةُ الاعتقاد وجوداً متحولاً أثناء التداول. وهو وجود ثقافي مُتحول من بيولوجيا المعاني إلى إشكالٍّ رمزيةٍ وشفافةٍ، لكنها مُؤثرة وأكثر قوةً في الوقت نفسه.

المفارقة الدالة

معاني الأبوة ومشتقاتها هي الألصق بالثقافة العربية الإسلامية إلى درجةٍ أعمق من سواها، فتلك الثقافة تنتج مفاهيم أبويةً وتشخصها واقعياً. على سبيل التوضيح، كان ثمة انتشارٌ واسع لألفاظ الأبوة بين أعضاء الجماعات المتطرفة، حتى أضحت ماركةً مسجلةً لشيوخهم وجهادييهم على السواء. إذْ بدا الارهابُ سِكيْناً أبويّاً بحدِّهِ الدموي تجاه المجتمع لا الأفراد فحسب، وهو استعمالٌ للأسماءِ التي تُطلق على أكثرهم بقطعية الدلالةِ والثبوتِ.

التساؤل المنطقي إذن: لماذا تُفرز الأسماءُ معانيها العنيفةَ حين تنقل فكر تلك الجماعات؟ وبأي منطقٍ تشير الكلماتُ إلى واقعِ الحال لديهم؟ التفسير المبدئي أنَّها أسماء قاتلةٌ بحسب الأدوار المنوطةِ بأصحابها، فلم تكن الأبوةُ سوى ذروةٍ انتحارية يمتطيها الشخصُ ليهبط على رقابِ خصومه. إنَّه يقف على تأويلاتٍ وأخيلةٍ ونماذج جهاديةٍ أساسها اقصائي، فيكون" أقنومُ الأبِ" مُعبراً (بخلفيته الأخلاقية والدينية والمعرفية والتاريخية) عن سلوكٍ متطرفٍ.

لكّمْ سمعنا وقرأنا - على سبيل المثال - ألقابَ الأبوة: أبو عبد الله (أسامة بن لادن)، أبو مصعب الزرقاوي، أبو بكر البغدادي، أبو دجانة الخرساني، أبو صالح المصري، أبو حمزة المهاجر، أبو يحيي الليبي، أبو قتادة الفلسطيني، أبو جندل الأزدي، أبو هاجر المهاجر، أبو مصعب السوري، أبو عمر المصري، أبو طلحة الألماني ... وغيرهم كثيرون، بينما المفارقة الدالة أنَّه كان لفلاسفة ومفكري وأدباء ومتصوفي العرب والمسلمين ألقاب الابن: ابن سينا، ابن الهيثم، ابن رشد، ابن باجة، ابن طفيل، ابن عطاء الله السكندري، ابن عربي، ابن سبعين، ابن طباطبا، ابن خلدون، ابن حوقل ... كانت البنوةُ علاقةً تاريخيةً ثرية كضربٍ من التفوقِ الفكري والروحي.

ماذا يوضح هذا الفارقُ الخاص بالتسمية؟ كيف نفهم هذا التحولَ الثقافي؟ من خلال الارهاب ينال كلُّ من يعتنق فكراً متطرفاً مرتبةَ الأبوة دون ترددٍ. وأخذت الأبواتُ تتوزع على الخريطة العربية الاسلامية كأنَّها ألفاظ حاملةٌ للإيمان بالفكر التكفيري. الأبوة القاتلةٌ ألقابٌ حركية تُعطِي حاملها تجاوزاً لحدود الدين وانتهاكاً لوجود الآخر، ذلك باعتقاده أنَّه لا يفعل إلاَّ الحقَّ ولا يُمارس دوراً إلاَّ ما أعطاه إياه الشرعُ الحنيفُ!!، وإذا اطلعنا على ألقابِ هؤلاء سندرك هذا التدثر بمضامين الكلمة، لكننا سندرك أيضاً أنها ليست مظلةً رحيمةً بحالٍ من الأحوالِ. هي أبوةٌ عنيفةٌ عنف المضمون، ومسمّمة قدر ما يتوغل السُمُ في جسم الفريسةِ. فالشخص كان يُعدُّ ويُدرّب على إفراغ الأبوة - نصاً وفعلاً- مع متفجرات يحملها لإيقاع الضحايا كما شاهدنا مراراً.

الأبوة والدين

عندما ترتبط النصُوص الدينية بصورة دلاليةٍ واحدة لا تتغير، وكذلك عندما تكون " للداعية " عباءة ثقافية وتاريخية متطرفة، فإنَّ المعتنقين للفكر ذاته هم تجسيدٌ لسياجٍ فكري أبوي مغلقٍ. وهؤلاء الخلف عن سلفٍ لا مناص لهم من جز رقابِ مخالفيهم في الرأي مهما اتسعت الأمورُ. باختصار كان " النص والداعية والعنف" يتماهى مثلّثهم في رأسٍ أبويٍّ غير قابل للانفلاق. هذا الرأس- فرداً أو جماعةً- مركّبٌ على جسدٍ تنظيمي يتولى رعايته شيوخ الجهاد ومدربوهم لأجل التضحية والقتل الفاجع باسم الله. إنَّه الانحراف التكويني للجماعة من دلالة الأب father إلى شكل بطريركي patriarchy بتوسط النص وتأويله المتطرف.

وتكوينُ الأبوة لا يعبرُ عن تسلسلٍ هرميٍّ، إنما ينقل جيناتَ النصوص المغلقة والقراءات العنيفة[1]. وفوق هذا وذاك، يعتبر الأبُ مصدراً لدماءٍ تُراق بمنطق الوكالة عن الله في أرضه. لقد يظن الأب الجهادي مسئوليته المباشرة عما يقع من أفعالٍ يراها منافيةً لجوهر النص المؤول من وجهة نظر جماعتهِ. ولذلك، فالأب نوع من الكسْر المضاعف في مفاصل التواصل الإنساني الحُر مع المجتمع وعناصره المتنوعة.

فتبعاً لبنيةِ الجماعات المتطرفةِ، تعتبر اللغة بمثابة لغة الأب / الداعية الوارث عن السماء. الأب الذي يعْلم كل شيء وأي شيء في مقام متعالٍ غير قابل للمنازعة. والنص كما يذهبون هو لسان الأبوة التي تعرف ولا نعرف نحن، وتدرك بينما نحن معشر العميان، أبوة تخبر الماضي والمستقبل ولا نملك إلاَّ زمنَ الخنوع لها. النص كان يلاصق اللام، فكان نصلاً لحد السيفِ في بعض عهود المسلمين، ثم جاء نصلاً لحد الرصاص بعد اختراع الأدوات الأخرى ولحد الموت بعد قيام أدوات التفجير بالمهام. كيف كانت المسافة صفراً بين" النص" و" النّصْل " في تاريخ الإسلام السياسي؟![2]

حقاً أصبح التداخلُ بين النصِ والنصْل عصيّاً على الفهم وممتنعاً على المساءلة. كيف نسائل ما ينتج فهمنا للحياة والعالم والزمن؟! لأنَّه تداخل يضعنا أمام الأمر الواقع بحكم استغلال الفرصة لإرهاب الآخرين وقتلهم. ومنْ بإمكانه إدراك الخيط الرفيع بينهما منذ رفع الخوارجُ المصاحف على أسنةِ الرماح؟! عندئذ غدا المصحفُ نصْلاً وله معالم السيف، حتى قيل أخيراً مع الدواعش: إنَّ نبي الإسلام بُعِث بالسيف رحمة للعالمين، وإنَّه لا شيء أحب إلى اللهِ من قطع رؤوس الكفار والمرتدين. كيف عُرِفنا الأمرُ المحبوبُ بخلاف المكروه إلى الله؟!

إنَّ كل نزعة نصية مطلقة textualism absolute نوعٌ من الأبُوة مقطوعة النسب بغيرها مقابل النسب مع الله. هي ظاهرة العلُّو بلا نسلٍ إلاَّ إليها رأساً في عملية استبدال لا تنتهي. أقصد أنَّها نواة حول أب مؤسَّس على اليقين الكامل بوجوده في ذاته ولغيره. فالأبُ يتوّحد مع نفسه معطياً إياها درجة الصفر في المرتبة والتسلسل. من هنا ذكرها القرآن كمقدمةٍ غامضة الملابسات لادعاء الأصل الموثوق به: " إنا وجدنا آباءنا على ملةٍ وإنّا على آثارهم لمهتدون " .. لماذا الآباء هكذا ذوو مكانة قصداً في تاريخ الاعتقاد؟ وهل ذلك استباق توثيقي لمعنى الارهاب مؤخراً باسم الدين؟

المثلث السابق (النص والداعية والعنف) يتأسس على الموقع من الله، ومن النصِ الأصلي (القرآن)، فيكتسبُ عناصره ذات المكانة الملتمسة من الموقع نفسه. ليغدو النصُ البديل (المؤول- أو التأويل ذاته) نصاً أصلياً. إنَّ نصوص ابن تيمية وابن القيم الجوزية وأضرابهما وصولاً إلى نصوص شيوخ الجهاد لا تقل قداسة عن القرآن!!.. هكذا يزعُم أتباع الجماعات الدينية هذا القول ضمنياً وصراحةً مهما كان إنكارهم لذلك. فلعبة اللغة التي يصوغها الأبُ خطاباً دينياً تُزحْزح مكانَ النص الأصل وتأخذ بنيته تدريجياً. طالما كان الخطابُ خارج التاريخ أو يعلوه رأساً، فلن تكون الرسالةُ إلاَّ ابتلاع النص الأصلي (القرآن) وانتهاك آلياته الإنسانية. إنَّ الأيديولوجيات الإرهابية تنسج معانيها على غرار الدين الصادق صدقاً ايمانياً لا معرفياً، على غرار أحد عناوين كتب ابن القيم" اعلام الموقعين عن رب العالمين"[3].

هناك حديثٌ يتداول عن رسولِ الإسلام يخاطب علياً بن أبي طالب: " يا على أنا وأنت أبوا هذه الأمة ". وليست المشكلة في الحديث وإشارته إلى الأبوة، ولكن كثيراً ما فهم الناس هذا الحديث خطأ. وإذا كان الحديث يدلل على شيء فإنما يدلل على الفراغ لا الامتلاء، على الغياب لا الحضور. يبدو أن نمطُ الأب إندرج – مع اختلاف العصور- في مساحة الفراغ التاريخي الذي تبحث الفرق والملل والنحل والجماعات عن ملئه بأية صورة من الصور. فراغٌ كان عند بعض الشيعةِ موالاةً عنيفة للإمام على، بينما حاولت السلفية الوقوف في مجري التاريخ لدي سلفٍ صالحٍ بدايةً ونهايةً. وظلت الأيديولوجيات الدينية تصع فقدان الأب نصب أعينها.

الأبوة - تكملةً لنموذج الحديث السابق- نوعٌ من التراتب الذي يعيد بناءَ التاريخ على هذا الأب الغائب، بل يعيد بناءَ الدين بحسب المآرب والمصالح. لم يكن أيُّ أبٍ في الجماعات المتطرفة إلاَّ عارفاً بالفراغ التاريخي هذا مؤولاً إيَّاه لصالح التطرف. وهو بذلك يعطِي لنفسه حقاً مزيفاً في أخذ مكانة الرسول، الأب النبوي...، إنَّه تكرار انحرافي لأصلٍ مقدسٍ يحتاجُ إلى فهمٍ جديدٍ يواكب العصر لا ليتحول إلى نصلٍ قاتلٍ.

أبوة الجماعة

تحتل الأبوةُ الدينية مكانةً خطيرةً في تاريخ الفكر الإسلامي، لم تكد تختفي حتى تظهر في شكل تنظيمات نتيجة الثقب الأسود (الفراغ الأبوي) في جسد المجتمع الإسلامي. يتجلى هذا الثقب مرةً بإسم الخلافة، وأخري بدعاوى تطبيق الشريعة، وغيرهما بأنظمة المراقبة الدينية والهوس بتتبع الآخرين. إنَّ الأبوة جزءٌ لا يتجزأ من حركةِ المجتمع الإسلامي و رمزيته، بفضل اعتماده على نموذجِ الأبوة النبوي والقبلي والعشائري والعائلي بعد ذلك. وكادت مراحلُ التاريخ الاجتماعي تبحث صراحةً عن أبوةٍ في شكلِ الحاكم والسلطان والأمراء والملوك والأنظمة والمؤسسات.

جاءت الأبوةُ الدينية المعاصرة مؤشراً عائلياً- لاهوتياً، إذ تستعمل أبناءها عبر انفجار قاتل لا نتائج وراءه إلاَّ الأشلاء المتناثرة. إنها مرحلة راهنة من نصية حرفية قديمةٍ ليست إلاَّ عدماً متواصلاً في تاريخ الإسلام السياسي، وهي نقش جسدي حتى الموت، كتابة الموت. ومن ثمَّ، كانت النزعة الأبوية تفسيراً متطرفاً للنص الديني وتكفيراً للآخرين. ونظراً لأنَّ الأبوةَ الإرهابية متعديةٌ عضوياً، فلن ترضى بديلاً عن سلطة القتل. ألم يذهب الجهاديون إلى تطبيق كلام الله بلا انفتاحٍ فكري ولا ابداع معرفي؟!

الأبُ هنا عبارة عن "نص بيولوجي وديني" يكتب دلالاتَه بالأنماط السائدة في الجماعة التي تتبناها. تبدو الجماعة المتطرفةُ مبرمجةً بهذا الاعتقاد، حتى إذا طُلبَ من أحدِ أفرادها تفجير نفسه يذهب فوراً كأبٍ يتصرف كيفما شاء. لكن لماذا يغيب وعيه؟ التغييب ليس لنقص الوعي، بل يزعم– كما يُروج بين أقرانه- أنَّه يتلقى الأمر من الله. فالأب يخلِّق جماعته، يخلق فضاءَ تأثيرها كحال علاقات القرابة. إنَّ مسيرته في ثقافتنا العربية الاسلامية لا تُقطع إلاَّ وتُعاد مجدداً نتيجة التألُّه الماثل خلف فكرة الجماعة المؤمنة. ويقف هذا الأبُ بادعاء الألوهية خفاءً في تفاصيل وصايته على الآخرين من جهةٍ، وفي ولاء الجماعة لصورتهِ من جهةٍ أخرى.

إنَّ أيّ أب تنظيمي هو لوحةٍ مشفرةٍ من الوصايا الموسوية (كألواح موسى) التي أخذت أنماطاً ولهجات فكرية عدةً. وإذا كان الأبُ يبيح لنفسه انتزاع الحياة من الآخرين، فلن يكون إنساناً عادياً. إنَّه بعض إله الجماعة باعتباره ينتزع حقاً وجودياً لله (حق التصرف في حياة مخلوقاته). على أنَّ الشرع الإسلامي نقيض ذلك كله، فقد أوكل هذه المهمة في القصاص للمجتمع، للقانون وليس للأفراد (ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب). لقد تكلم القرآن بإرجاع القصاصِ إلى ما يرتئيه المجتمع مشروطاً بالحياةِ لجميع الناس. معنى هذا أنه قد يتم إلغاء القصاصُ أو إهماله في حالةٍ لو أدى إلى انتهاك تلك القيمة. لأنَّ الحياةَ ليست جزئيةً إنما تعدُّ هدفاً كلياً خلال هذه اللحظة أو تلك. وما يأخذه شخصٌ منها يخصُ جميع الناس قاطبةً وما يضيفه إليها إنما يُضيفه إلى جميع هؤلاء دون استثناءٍ.

بينما الأب المتطرف يأخذ بالسبب الجزئي في انتزاع حياة الآخرين، ليتصور أنَّه المهيمن على حياة الجماعة والقادر على انزال العقاب بهم. تقول البصمة اللغوية كما يذهب الراغب الأصفهاني "يُسمى كل من كان سبباً في ايجاد شيء أو صلاحه أو ظهوره أباً، ولذلك يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أب المؤمنين ...."[4]. فحوى هذا أنَّ الإرهابي يهيمن على الآخرين بمبرر سببي من غير فهم منفتحٍ لقضايا الحياه ككل ولمغزى الدين فيها. هذا المبرر تمتدُّ داخله نواة بيولوجية عضوية، فكما أنَّ الابن مولود بالتناسل، فكذلك الأب مرفوع بذات الوضع، غير أنَّ التحول يتم بخطوة تنظيمية ارهابية فيغدو السبب المقتنع به هؤلاء في صلاح الناسِ هو السبب البيولوجي والروحي ذاته للإضرار بهم!!

وبما أنَّ نبي الإسلام ليس والداً بيولوجيا للمؤمنين بالمعنى الحرفي، فإنَّه يأخذ تلك المكانة روحياً ودينياً. أمَّا ضمن حدود الإرهاب، فيكون الشخص المتطرف قد جمع بين مكانة الأب التناسلي والأب الروحي على قاعدة الأب - الإله. لأنَّه حريص على التنظيم العضوي للجماعة والتنظيم الإيديولوجي لها. وهذا يفسر القتل العشوائي لمخالفيه في الآراء والاعتقاد، ويوضح معاداته لمؤسسات الدولة الحديثة لمجرد أنَّها دولة. فالدولة لا تعترف بروابط الأبوة، وليست منضوية تحت الأب المؤمن ولا الأب الحاكم، لكنها في كل توثيق قانوني وإجراء تنظيمي تنفي أيَّة تقنيات أبوية من هذه الأصناف[5].

ولذلك لا تلتئم الدولة كفكرة حداثية وتشريعية مع الجماعات المتطرفةِ، وستظل الدولة بمثابة المضاد الحيوي التكويني لأفكار الجماعات الدينية. وليست الأنظمة التي صعدت فيها الجماعات الإسلامية إلى سدة الحكم إلاَّ دليلاً على هذا التصور. بسبب أنَّ نمط التفكير الأبوي يتعارض مع التفكير المُؤسسي ابتداءً.

الأصل والأبناء

لن تكون أيةُ جماعة دينية سوى جماعةٍ بمنوال التفكُّك لا الجمع، فكل عنصر فيها قابل لحمل تأسيسها وانهيارها بالتوازي. أي أنَّها تخضع لمفاهيم الخلخلة بسهولةٍ لأن كل فرد فيها يشعر أنه الأولى بمكانة الأب ويحمل وصاياه على كتفيه. وذلك يلقي الضوء على انشاق قيادات الجماعات التكفيرية بعد الخلافات التي قد تنشب بينهم. فمع كل انشقاق تخرج جماعةٌ أخرى بمفهوم مختلف للتكفير وآليات للخطاب وتأويل للنص الديني. ثم سرعان ما يُعاد هيكلتها بأبويةٍ مماثلةٍ للأبوات السالفة، مع هذا تزعم الاتصال بالمصادر النقيةِ لفهم الدين وامتلاك حقيقته النهائية.

ذكر الجرجاني في كتابه التعريفات " الأب، حيوان يتولد من نطفته شخصٌ آخر من نوعه"[6]. وهذا كان هو مصدر هشاشة الجماعات الدينية، فإذا كانت تنبني على أبٍ بخلفية التوالد، فلن يكون إلا تلك الإمكانية (الهشاشة). فلم يكن هناك شيءٌ متوقعٌ قدر ما ينفرط عقدها، لأنَّ أي تصور أومفهوم يحمل في ثناياه بذورَ الأب، سواء أكان قائداً للتنظيم أم مجاهداً أم داعيةً أم أباً زعيماً أو انتحارياً. جميعهم نقطة ضعف من حيث كونهم نقطةَ قوة. فلا شيء أخطر على الأبوة الدينية من ذاتها. وستتحقق قابلية الانهيار من خلال التصلُّب والاستحواذ والعنف. أين قوة تنظيم القاعدة بعد اختفاء أسامه بن لادن؟ فعلى الرغم من أنَّه نموذج للأبوة كما كان يعتبره أتباع القاعدة، بيد أنَّه لم يدرك في حياته أنَّ ضعفَ تكوين القاعدة في هذا الإطار تحديداً.

أولاً: تشكلت الأبوة الدينية ميتافيزيقياً بناء على الاستخلاف (إني جاعل في الأرض خليفة). وبالتالي يمكن لأي فردٍ القول بكونه خليفةً بالقدرِ ذاته من المعنى. لقد وصل الأمرُ إلى أنْ عُدَّ الاستخلاف حِكْراً على تلك الجماعة أو غيرها، وأصبح مبرراً لأبوتها إزاء أبناء لا حصر لهم.

ثانياً: تم طرح نمط الأب- ضمنياً- دون أبناء، رغم أنّه يوجد لكل أبٍ أبناء وإلاَّ لما سُمِّي بالأب. تحديداً قُيّضَ غيابُ الأبناء باعتبار الأفراد الآخرين أبناءً له بواسطة التنظيم. وهذا جانب الوعظ والوصاية حين يواجِه آباء الجماعات الدينية أقرانهم ومخالفيهم معاً. يُعزَز ذلك الصاق صفات الشهادة والجهاد والعلم بهم.

ثالثاً: الأبوة نمطٌ أخلاقي تربوي على أساس سيكولوجي[7]، وفي نطاق الدين بمثابة العمل بنموذج لاهوتي سابق التكوين يستثمر هذا النمط كما أشرت. صوت أبوة الارهابي ذو أزيز عقابي في المقام الأول، سواء أكان مرتبطاً بخطابٍ صارمٍ التوجه أم مرتهناً بشخصيه ذات سمات جسديةٍ وشكليةٍ.

استناداً إلى هذه النقاط تعدُّ الأبوة كما يمارسها المتطرفون نزعةً مسيحية مقلوبةً. إنَّها عكس عنيف لمعالم الآب وآلياته العقيدية في الديانة المسيحيةِ. فإذا كان آباء الجماعات الإسلامية يعادون المسيحيين ويتبنون تفجيرهم وذبحهم، فهم يمارسون (أبوة اسلامية) تزعم لنفسها منزلةَ الأب معتبرين الله حالَّاً فيها. وهم بهذا (أي آباء الجماعات الإسلامية) يزورُون الإسلام الذي قال بوضوح (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد).

أمَّا في المسيحيةِ، فالأبوة واضحةٌ بموجب الاعتقاد بصلب الابن (المسيح). فارتضى بعض المسيحيين الآب الإله في مقابل التعويض ببنوةٍ كان هذا مصيرُها المحتوم. فالابن المصلوب كلمة لآبٍ وَضَعَه لخلاص رعاياه الأرضيين. وثلاثية" الآب والابن والروح القدس" هي ثلاثية الحقيقة التي هي مصدر العلاقة كما يؤمن أتباع المسيحية. فالأبوة –على ألوهيتها- وقفت عارفةً بصلب الابن، لأنَّ ذلك لهدف أسمَّى. ولئن كانت الأبوة لا تعلم، فهذا قدح في قداستها الإلهية.

أمَّا والأبوة عارفة بذلك، فلقد تركت الابن معلقاً هكذا على صليبه مقابل غفران الخطايا. وتلك الفكرة لهاصدى بعيد: أنَّ كل أبوة لا تخلو من منطق تضحيةٍ بالأبناء، بالبنوة ولو عن طريق الخلاصِ. كانت الخطيئةُ هي المذبح الفعلي لجريان السرد التاريخي لهذه الحبكة اللاهوتية. وتلك فكرةٌ ليست الجماعات الاسلامية بعيدةً عنها، لكن في شكل مذابح ونصوص تكفيريةٍ مازالت تشتغل حتى اللحظة.

من تلك الزاوية، تعد الأبوة حيواناً ميتافيزيقياً ينتظر التهام غيره، ولا يكف عن ملاحقة الآخرين. وبالمثل عندما يتحول الشخص إلى أب، إنما تعطيه الجماعة الدينية عمراً زمنياً للتخلص منه. فكل أب مصيره إلى تدمير وجوده ووجود الآخرين. وهذه كانت علة أن ارهابيا يفجر نفسه بحزام ناسف وسط الناس الأبرياء.

ربما يسأل الأب في الجماعات الدينية: ما الخلاص من خطايا البشر؟ لا لكي يساعدهم على الخلاص، لكنه يجيب بحتمية الموت الذي يراه استشهاداً أو اغتيالاً أو تفجيراً أو سحقاً للرأس أو إغراقاً أو إحراقاً للضحايا مثلما كان يتفنن الدواعش. إنه حين يصدر صاحب الأبوة فتاوى اهدار الدم أو حين يدفع اعضاءَ التنظيم إلى ذلك إنما يترجم النص إلى حالةٍ مدمرةٍ. وليس ذلك انقطاعاً عن هذا المفهوم المقدّس للأبوة عندما تتجسد في أشخاص.

***

د. سامي عبد العال

.......................

[1]- لأنَّ مفهوم الأبوة يمثل استعارة توظف المشاعر وثقافة السلطة داخل نسيج مجازي أبويparental imagery في إطار الدين، وهذا مفهوم قديم قدم الديانات الوثنية والابراهيمية ولعب في تاريخها دوراً كبيراً.

Sarah J. Dille, Mixing Metaphors, God as Mother and Father in Deutero- Isaiah, T&T International A continuum imprint, London, New York, 2004. PP.2-5.

[2]- ليس النص هو النص المؤسس فقط، المتون، كالقرآن والسنة وكتب الأئمة والفقهاء الكبار، فحتى لو أطلق عليها هذا المعنى، فإنه ذو نطاق أوسع، لأنَّ كلَّ نص حدثٌ ثقافيٌّ واجتماعيٌّ. يشارك في انتاجه المؤوِلُ بمقدار ما لا يستطيع الافلات من اللغة التي يحيا داخلها.

[3]- فضلاً عما يدل علية العنوان من اتصال طبقة الفقهاء بالله وتوقيعهم عنه، يذكر ابن القيم أنهم "في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء".

ابن القيم الجوزية، اعلام الموقعين عن رب العالمين، الجزء الأول، دراسة وتحقيق طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1986، ص8.

[4]- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق وإعداد مركز الدراسات والبحوث بمكتبة نزار مصطفى الباز، بدون مكان ولا تاريخ للنشر، ص7.

[5]- Carol Gilligan, David A .J. Richards, The Deepening Darkness, Patriarchy, Resistance, Democracy future, Cambridge University Press, New York, 2009 وP. 225.

[6]- الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت، 1985، ص 5.

[7]-Ron Spielman, The Father in the Mind, Focus on Fathering, Edited by Robin Sullivan, Acer Press, Melbourne, 2003. PP 95- 100.

الرَّمزيةُ اللغوية في العلاقاتِ الاجتماعية تُمثِّل شبكةً مِن الأفكارِ الإبداعية والتجاربِ الوجودية والظواهرِ الثقافية،وهذه الشبكةُ تُسَاهِم في إعادةِ تعريف مصادر الوَعْي في حقول المعرفة، ونقلِ شخصية الفرد مِن البَرَاءة إلى الخِبرة،وتحويلِ التفاعل الاجتماعي مِن تراكيب الفِطْرَة الإنسانية إلى عناصرِ المَنهج العِلْمِي والعَمَلِي، الذي يقوم على تحليل دَور المُجتمع في فلسفةِ حركة التاريخ ومَنطقِ العقل الجَمْعي. وكُلُّ مَنهجٍ فَعَّال هو بالضَّرورة ثَورةٌ لُغوية تُغيِّر طريقةَ تفكير الفرد،بِحَيث يَندمج الوَعْي معَ الأحداث اليومية، ولا يَتَعالى عليها، ولا يَنفصل عن السِّيَاقات الحضارية الموجودة في البناءِ الاجتماعي والبُنيةِ الوظيفية للواقع المُعَاش. والثَّورةُ اللغويةُ غَير مَحصورة في نِطَاقِ طبيعةِ الألفاظ ومركزيةِ المَعَاني، وغَير مَحدودة في إطارِ إشاراتِ التفاهم وَدَلالاتِ التواصل. إنَّ الثَّورةَ اللغوية حياةٌ قائمة بذاتها، ومُكتملة بِنَفْسِها، وهي هَيكلٌ مَعرفي عابر للحواجز الزمنية، ونظامٌ اجتماعي مُتجاوز للحُدود المَكَانية. والمُجتمعُ القائمُ على ثنائية (الرَّمزية اللغوية / الثَّورة اللغوية) لا يُولَد في الفَرَاغ، ولا يُؤَسِّس للعَدَم، لأنَّ اللغةَ هي القُوَّةُ الدافعة للعلاقات الاجتماعية، والمُحَرِّكُ الأساسي للفِكْرِ والإبداعِ، والرافعةُ الحقيقية للمعايير الأخلاقية.وهذه الحركةُ الدَّؤُوبةُ_اجتماعيًّا وفِكريًّا وأخلاقيًّا_ تَجعل هُوِيَّةَ المُجتمعِ مُتماسكةً، ولا تُحِيل إلى غائب، وإنَّما تستعيد التجاربَ الحياتية مِن الغِيَاب، وتسترجع أحلامَ الفردِ مِن الاستلاب.

2

تاريخُ العلاقاتِ الاجتماعية لَيس رُجُوعًا إلى الزمن الماضي أوْ هُروبًا مِن المكان الحاضر، وإنَّما هو خِطَابٌ وُجودي يُعاد تشكيلُه باستمرار كواقع مَحسوس يُنقِّب عن سُلطة المُجتمع في ماهيَّةِ الفرد، ويَكشِف حقيقةَ اللغة في عملية إعادة إنتاج المعرفة، باعتبارها تأسيسًا للمَعنى الإنساني في مُوَاجَهَة قَسوةِ الأحداث اليومية، وخُشونةِ الوقائع التاريخية. وهذا التأسيسُ يُؤَدِّي إلى تحويل مصادر الوَعْي إلى منظومة مِن الأسئلة المصيرية، مِن أجل اختبارِ الماضي لا تَقْدِيسِه، وتفسيرِ الحاضرِ لا تَحنيطِه. وبالتالي، تنتقل العلاقاتُ الاجتماعية مِن حالة الأُسطورة إلى بُنية المُسَاءَلَة، وتنتقل الظواهرُ الثقافية مِن وَضْعِيَّة الأيقونة إلى مشروعية التأويل، مِمَّا يَكسِر وِصَايةَ الماديَّة الاستهلاكية على اللغةِ والمُجتمعِ، ويَصنع هُوِيَّةً مَعرفية خالية مِن التناقض، وذات طبيعة إنسانية بعيدة عن المصالحِ الشخصية الضَّيقة، والتفسيرِ المُغْرِض لمسارات التاريخ في العقل الجَمْعي والتجارب الوجودية والتفكير الأخلاقي. وإذا كانَ الكِيَانُ الإنساني هو النظامَ الجامع لِبُنيةِ الفِعْل الاجتماعي ومَضمونِها وتأويلِها، فإنَّ الكَينونةَ المُجتمعية هي المَنظومةُ الجامعة للظروفِ المادية زمنيًّا ومكانيًّا، والرُّؤيةِ الفلسفية لهذه الظروف ضِمن شُروطِ بناء التاريخ في الحضارة، وعواملِ قِيَام الحضارة في فلسفة حركة التاريخ. وهذا التداخلُ مِن شأنه إعادة تَفسير مُحاولات سَيطرةِ الفرد على ذاته ومُحيطه، وهَيمنةِ المُجتمع على مساره ومصيره. والتَّحَدِّي الأبرزُ في هذا السِّيَاق يتجلَّى في كيفيةِ مَنعِ الآلة مِن السَّيطرة على الفرد (حماية الشُّعور الإنساني مِن التَّحَوُّل إلى نظام ميكانيكي)، ومَنْعِ المُجتمع مِن استنزاف موارد الطبيعة لتحقيق رفاهيته، وتكريسِ سُلطته، وتعزيزِ سَطْوته.

3

اللغةُ تَمْنَع العَقْلَ الجَمْعي مِن التَّحَوُّل إلى أداةٍ لقمع أحلام الفرد، مِمَّا يُؤَدِّي إلى صناعة نظام اجتماعي قائم على القِيَم العقلانية والوَعْي النَّقْدِي. واللغةُ تُحَافِظ على التوازن بين المُجتمع والطبيعة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تكوين بيئة إبداعية قائمة على المعايير الأخلاقية والتعابير الجَمَالية. وإذا كانَ الهدفُ مِن النظام الاجتماعي هو دَمْجَ هُوِيَّةِ الفرد معَ سُلطة اللغة، فإنَّ الهدفَ مِن الوَعْي النَّقْدِي هو تحريرُ إنسانيةِ الفَرْد مِن الخَوْفِ، وإعادةُ تشكيل ملامح شخصيته الوجودية بحيث تُصبح آلِيَّةً مَعرفية للانعتاقِ مِن تَسليع الكِيَان الإنساني (تَحَوُّله إلى سِلعة ضِمن ثنائية العَرْض والطَّلَب)، والتَّحَرُّرِ من الرابطة النَّفْعِيَّة المادية التي تَجعل البناءَ الاجتماعي شيئًا قابلًا للبيع والشراء. ولا يُمكن للمُجتمع أن يَترك بصمةً مُؤثِّرة في فلسفة حركة التاريخ إلا إذا تَمَّ بناءُ العلاقات الاجتماعية وَفْق مَنطِق اللغة،ولَيس مَنطِق السُّوق، وهذا يَتَطَلَّب حمايةَ شخصية الفرد الإنسانية مِن أثرِ الاغتراب وتأثيرِ الاستلاب، وتحليلَ البُنية الوظيفية الجوهرية في الأنساقِ اللغوية والسِّيَاقاتِ الواقعية، مِمَّا يَمنح الفردَ القُدرةَ على تجاوز الواقع، مِن أجل صِناعة واقع جديد قائم على الوَعْي الحقيقي لا الزائف. والوَعْيُ الحقيقي لا يتكرَّس كَهُوِيَّةٍ وسُلطةٍ وشرعيةٍ، إلا إذا نَجَحَ في انتشال الأفكارِ الإبداعية المقموعة في أعماق الذاكرة الوجودية للفرد والمُجتمع. وهذا يُحقِّق التجانسَ في الحراكِ المُجتمعي وحركةِ التاريخ معًا، وَيَحْمِي المَعنى مِن الغِيَاب، ويَحْرُس العقلَ الجَمْعِي مِن الغَيبوبة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

- الخيال جوهر لغوي صامت يلازم جوهر العقل بالتفكيرفي تمثّله شكل اللغة في ادراكه اشياء وموجودات العالم الخارجي.

- اللغة خيار الانسان الوحيد في ترسيمه ظواهر الطبيعة والحياة تجريديا.

-  الحياة تكتسب مدركاتها المادية بتعبير اللغة في تمثلاتها الواقع ومظاهر الحياة.

- ادراكات العقل للاشياء تسبق وعيه المعرفي بها. الادراك استلام الاحساسات الخارجية بواسطة الحواس. والوعي استرجاع عقلي رد فعل يعبر عن تلك المدركات وإحتوائه فهمها.

-  القلق النفسي ارجوحة خطأ اتخاذ قرار بلا معنى في افتقاده الواقع.

-  وحدة الوجود مطلق ميتافيزيقي صوفي يتوزعه الدين والطبيعة.

- يقول ياسبرز (حقيقة الاخفاق هي التي تؤسس حقيقة الانسان ). الاخفاق بالحياة هي مرتكز مفترق طرق تجعل اهمية مراجعة الانسان ليس لماذا اخفق فقط. بل المطلوب مراجعة مجمل معتقداته وسلوكياته التي تحكمها بالتعامل مع مظاهر الحياة الخاطئة والصائبة معا بنفس منهج كيفية الخلاص من الاخفاقات المتكررة..

- الانانية غريزة فطرية انسانية ليست مكتسبة تنمو وتسود تحت وصاية انتشار تضليل العقل الجمعي.

- الطبيعة ألزمت الانسان التكيّف معها من دون ارادتها ووعيها بخلاف وعي الانسان تكيفه بالطبيعة قصديا غائيا في مسار يحقق اهدافه.

- دارون اعتمد تطور الانسان بالطبيعة بايولوجيا في حين كان خلاف الماركسية معها انها درست تطور الانسان جدليا انثروبولوجيا تاريخيا.

- الطبيعة تملي على الانسان التكيف في بقاء الاصلح لكن ارادة وقوة الاصلح بالبقاء جعلت من تكيف الانسان مع الطبيعة ظاهرة وقتية زائلة بزوال اسبابها الطبيعية.

- نظرية مالثوس في معادلته العكسية كلما زاد عدد السكان قلت موارد معيشتهم على الارض معادلة ستحكم وجود ومصير حياة الانسان مستقبلا.

- الفلسفة تحتوي لغة التعبير عن كل الاشياء ولا يحتويها شيء.

- اللغة (صوت ومعنى) حين ينعدم الصوت الصائت خارجيا او الصامت داخليا لا يبقى هناك معنى. وفي انعدام معنى اصوات دلالة ابجدية اللغة لا يعد هناك تواصل جمعي مفهوم.

- قالها احدهم بوجهي مستفزا اياي : إنك استفزازي فاجبته نعم لاننا انت وامثالك من جهة وانا وامثالي من جهة اخرى نختلف بالعقل والتفكير.

- كل خارق للطبيعة يعلو قوانين الطبيعة والحياة لذا يكون وجوده مستعصيا قبول محدودية ادراك العقل به.

- ليس مهما ان تسعى تحقيق ان يفكر الناس مثلك بل الاهم ان لا تفكر مثلهم.

- اعتزال او اغتراب المثقف للمجتمع الضال ليس اتقاء شر فوضى الازدواجية وسماجة التعامل الثقافي المنافق بالمجاملات الرخيصة. بل كي لا يكون شاهد زهور على ادعاء امجاد زائفة لمن لا اهلية ولا كفاءة لهم..

- لكل مرحلة تاريخية معرفة غير معلنة هذا ما يذهب له بعض الفلاسفة. ولا وجود لروابط تجعل ما نستقبله لاحقا لا علاقة معرفية له بالماضي. تعقيبي ان المستقبل لا يحدد للانسان ما ينبغي الوصول له بل الاهداف التي تعيش في احشاء المستقبل هي مدركات عقلية معروفة لعقل الانسان وسلوكه وحاجته لها صوب الوصول لتحقيقها. بمعنى الادراك الحقيقي يعقب تفكير العقل ولا يسبقه.

- لا يوجد ما يدعيه بعض الفلاسفة ان هناك شروطا لا يدركها العقل ولا تعمل بارادته .سببها المسلمات المنطقية المعرفية القارة التي تفسر مرحلتها وتقاطع ما سبقها. اعتقد ان المقصود بهذه الاشتراطات هي القوانين الطبيعية التي تحكم الطبيعة والانسان. الشيء الاهم ان قوانين الطبيعة لا تدرك الزمن الذي يحتويها في فاعليتها كي تقاطع ما قبلها. قوانين الطبيعة نسق كلي منّظم لا تخضع لرغائب الانسان ولا لتحقيب الزمن الى ماض وحاضر ومستقبل.

- قرات لفلاسفة منهم اسبينوزا ان ماهية الانسان تسبق كينونته الوجودية. اذا تماشينا مع مقولة ان الانسان صفات خارجية يدركها العقل, وماهية مصنوعة من قبل الانسان لا يدركها العقل. نجد انفسنا امام حقيقة ان الماهية او الجوهر ليس صفات وخصائص داخلية محجوبة عن ادراك العقل لها وانما هي جوهر متداخل مع الصفات الخارجية ولا يمكننا فصل الماهية المحتوى عن الصفات او الشكل لكننا نفشل بمعرفة الماهية بدلالة الصفات..

- خاصية اللغة بمعنى هي ابجدية حروف لها صوت ومعنى تكون قبلية على خاصية قواعد اللغة من نحو وصرف وبلاغة ومجاز وتجريد التي لاتكون قبلية على وجود وتعلم اللغة لمجتمع معيّن. فالفرد والمجتمع يتعلم ويتكلم ويكتب بعض رموز لغته الابجدية قبل ان يضع له علماء مختصين قواعد وضوابط تلك اللغة المختلفة عن غيرها من اللغات.

- فقدت تسليط الاضواء على كتاباتي الفلسفية بفعل فاعل تاكله الانانية والغيرة.

- كلما تحوز الاخلاق والضمير والمعرفة كلما زاد اعداؤك.

- اجمل عبارة تحمل ايمانا عميقا رددها باسكال قوله( لا يكون الايمان خاطئا بالمعنى الحرفي في وقت يكون صادقا بالمعنى الروحي).

- بداية كل حركة بالحياة ينتظرها نهاية دائرية من الفناء المتجدد.

- تعابير وافصاحات الايمان الفطري الديني للفرد كحاجة تعبدية ذاتية لا تشكل حمولة متقاطعة مع جوهر الدين. كعلاقة ثنائية تربط العابد بالمعبود. كما الايمان الديني السليم لا يقاطع وضعية الفرد اجتماعيا مع سريان تدفق الحياة وجريانها الدائم وهو ما يمثّل جوهر التدين في فطريته قبل تناول الايديولوجيا له لاغراض تعبوية باسم الدين.

- يعرف ليفي شتراوس البنيوية اللغوية في اصلها انما هي محاولة علمية من اجل القيام بحفريات جيولوجية بدلا من الاقتصار على تقديم وصف جغرافي سطحي لبعض ربوع الثقافة البشرية.

- يؤيد محمد اركون قول بارت ( يرى رولان بارت احد اهم رواد الفلسفة البنيوية ان اللغة اصبحت شارحة لكل حضارتنا المعاصرة .وعلينا اكتشاف عالم اللغة على نحو ما نستكشف اليوم الفضاء).

- الافكار الديكارتية والكانطية اذا قيست بمعيارية المنفعة البراجماتية تكونان خارج قوس الفهم البراجماتي التجريبي في تحقيق المنفعة. وما يقوله ديكارت العقل ماهيته الفكر. وما يقوله كانط العقل من غير الاحساسات يبقى فارغا. كلاهما من وجهة نظر معيارية عملانية انما يقومان بتوصيف آلية الادراك الحقيقي للاشياء ان كل شيء يتم بالذهن فقط متجاهلين الواقع والحياة.

- اشار كانط الى ان العقل يدرك الزمكان بقالبي فطريتهما الموروثة.

- قرات خبرا لم اتاكد من صحته ان علماء اميركان توصلوا الى خلق شيء من لا شيء وهذا في حال البرهنة على صحته نكون بحاجة لمراجعة كل معارفنا العلمية ووضعها على المحك.

- يقول اوستن احد رواد الفلسفة التحليلية (انه قد اذهله حقيقة ان قول شيءلا يعني ببساطة ان ذاك التعبير اللغوي يفصح عن الشيء). وفي هذا المعنى نفهم اما ان تكون اللغة مخاتلة ومراوغة في عدم المامها الصادق في التعبيرعن الاشياء. واما ان يكون العقل عاجزا تماما عن مطابقة مدركاته ذهنيا في تضليل اللغة له في نقص المعنى المطابق. وخطأ الفكر يجب ان لا يعلق على مشجب اللغة بماهي لغة, فاللغة حسب تعريف سوسير هي وعاء الفكر الذي يملأ محتوى تعبير اللغة قبل الافصاح عن شكل اللغة بحروفها الابجدية التي هي (صوت ومعنى). عليه نكون مطمئنين ان تفكير اللغة الصامت داخليا هو ابجدية لغوية ذات معنى قبل ان تكون تجريدا معبّرا عن معنى مدركات العقل الداخلية والخارجية للجسم.

- اثقل من تصحيح الخطأ بحقك الاعتذار انك كنت سببا فيه وليس نتيجة عليك وزرها.

- تنفرد المسلمة الانثروبولوجية باليقين ان الانسان كائن اجتماعي ناطق. صحيح ادراك العالم الخارجي والداخلي هو تعبير لغوي في حالتي التعبير الافصاحي عن العالم الخارجي وصمتا لغويا في حال عدم توفر الارادة والرغبة في التعبير لغويا عن ظواهر عالم الانسان الداخلي. والاهم اننا نخطأ في اعتبارنا الانسان كائن تتحدد كينونته الموجودية باللغة فقط.

- الدين الحق ضرورة مجتمعية بغيرها لا تغتني حياة الانسان بالاستقامة الاخلاقية التي يضمنها القانون..

- اثقل هموم النفس عدم رد الجميل بمثله وليس الاساءة بمثلها.

- حين تعلو كلمة الحق بي وقتها لا اندم على اخراج المنافقين من حياتي.

- الزمن ادراك معرفي دلالي محايد بواسطته ندرك الاشياء والجدل الديالكتيكي محايد لا يساعدنا على الادراك المعرفي ولا يتداخل تموضعيا معها في تكوينها. الجدل بهذه الحالة هو زمن محايد ولا يحضر خارج تضاد حالة من جدل سوى انه احد العوامل الموضوعية المساعدة.

- الفيلسوف كاردينال العصور الوسطى دي سوكا قال (الله اوجد العالم عن قصد لا عن ضرورة. وهذا ينفي كل اشتراك في الوجود بين الخالق والمخلوق.).الفرق بين القصدية والضرورة يعني ان القصد يعفي العقل من ضرورة انتساب الخالق للمخلوق في كل اشكال النزعات الصوفية. اما خلق القصدية الالهية بالعالم تجعل من الوجود الانساني كمخلوق مركزي بقصدية الحياة ولا ضروري في خلق الله للعالم.

- اورد فيلسوف القرون الوسطى الاوربية الكاردينال دي سوكا ( كمال التفكير في وقف التفكير). ربما يمكننا القول بضوء العبارة ان اللغة وصلت عجز التفكير عندما يكون الصمت اللغوي اكثر تعبيرا عن اللغة المنطوقة. واوصى دي سوكا بالابتعاد عن ان الله (متعيّن) فوجود العالم حسب قوله بالقياس الى وجود الله الذي يحتوي كل شيء. كما ان النقص يلازم كل متعيّن يدركه العقل.

- الزمان ادراك معرفي محايد لذا لا تربطه علاقة جدلية مع الاشياء.

- من اقوال كانط قوله (الدين ليس عقيدة بل هو عبادة روحية).

- اعتذار الكلمات لا تشفي جروحها النفسية.

- لا تثق من اعتاد خيانة صاحب ضمير فهو يبقى بداية مزبلة ونهاية عار..

- لا تدين احدا بسوء انت مدان باكثر منه.

- لا اعتب على جاهل يعاديني بل على مثقف يحاول النيل مني.

- العقل صمام امان انزلاقات العواطف نحو كل ما هو بلا نتيجة محسوبة سلفا.

- كلما ذكر احدهم متغنيا بالزمن الماضي الجميل امامي اتعاطف معه حينما اتذكر كيف وضعنا العربة امام الحصان لثمانية عقود من التراجع المجتمعي على كافة الصعد.

- ادراك المكان يتم بدلالة وهم احتواء الزمن له.

- اجمل عبارتين قراتهما الاولى لسارتر (جوهر الانسان الحقيقي انه بلا جوهر) والثانية لبراتراند رسل (ما اعرفه هو العلم وما لا اعرفه هو الفلسفة).

- جوهر الطبيعة هو الانسان في ادراكه سيروراتها التغييرية بتخارج معرفي تكاملي نفعي معها.

- كل ارادة يحكمها الوعي القصدي هي العامل الاول في تفعيل قوانين الطبيعة بما توفره له من فهم افضل للحياة.

- النقص يلازم اللامتناهي الذي هو صيرورة غير محدودة ولا يلازم المتناهي الذي هو نقص يلازم تكوينه في حال تعيّنه.

- كل ظاهرة في حال من السيرورة في عالمنا هي نقص في طور بلوغ الاكتمال.

- كل شيء يصنعه او يخترعه الانسان لسد حاجته له يكون فيه الماهية تسبق وجود ذلك الشيء على العكس من المادية التي ترى فهمنا ماهية او جوهر الشيء يكون بدلالة اسبقية وجوده كينونة مدركة متعينة.

- كل امنية يصبو الانسان تحقيقها بحياته يجدها انها وعي قصدي يخترعه العقل وتحاول تحقيقه الارادة.

- الوعي جوهر تجريدي في مرجعيته للعقل. ويكون وعيا قصديا حين يكون موضوعه ملازما له.

- لن اندم على خطأ لم اكن سببا فيه بل كنت نتيجة تحملت وزرها.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

- أسئلة مفتوحة: إفراط تايلور في الشمولية؟

يدعو تفسير تايلور للحداثة إلى إنسانية حساسة لـ "حياة الروح" (هيجل)، وشاملة لتعددية الخيارات الدينية وغير الدينية). يركز في نظريته الأنطولوجية المبكرة على أهمية التقييمات القوية والمطالب المقابلة أو الممماثلة للأعتراف. يطور تايلور، على هذا الأساس، فكرة سياسة الاعتراف التي تتمثل ميزتها في تصحيح العمى عن الاختلاف في التنظير السياسي التقليدي.

لكن مايزال نموذج تايلور للإندماج يردد صدى حلم روسو بالتوفيق والمصالحة من خلال الاعتراف المتبادل. تتطلب صورة تايلور للمجتمع القائمة على الاعتراف الإيجابي والمتبادل باختلاف الآخرين نموذجًا أخلاقيًا وسياسيًا للديمقراطيات التعددية التي تتميز بخلافات عميقة وصراعات على السلطة.[1] إن سياسة الاعتراف، في سياق النضالات الديمقراطية، هي سيف ذو حدين، اذ يمكن أن تضمن ادعاءات الهوية/ الاختلاف في المجال السياسي صعوبات مختلفة ومترابطة. أولا، يمكن أن يؤدي إلى استخدام الأدوات والوسائل الاستراتيجية التي تفسح مجالًا وتقدم فرصًا لأصحاب المشاريع العرقية والدينية. وتستعمل نخبا السلطة لغة الاعتراف والهوية والحقوق فقط من أجل الحصول على الحماية والامتيازات. وهذا يقوي أو يخلق بدوره أشكالًا من الهيمنة والإقصاء. ثانيًا، قد يؤدي تسييس الاختلاف إلى استقطاب اجتماعي سياسي وعدم استقرار وليس مصالحة (وفقًا لأفضل نوايا تايلور). فمن المرجح أن تؤدي سياسات الاختلاف إلى تقنين متضارببين مطالبها وحدودها.[2] ويمكن أن تنطوي ديناميكية التقنين على أنغلاق وتحجر" للجماعات الدينية، مما يؤدي – مثلًا- الى استمرار الهيمنة على النساء[3] واستبعاد الأصوات المعارضة.

تخلى تايلور، في سياق طروحاته المتأخرة بخصوص تسييس الادعاءات الدينية والقومية، عن شكل أو صيغة سياسة الاعتراف التي طورها في أوائل التسعينيات. فشدد لاحقا على أهمية التفاعل الحواري والتبادلات بين الثقافات على تسييس الاختلاف؛ وكذلك، أكد على أهمية- ما يطلق عليه- مسار المواطن على المسار القانوني في التفاوض بشأن مطالب الهوية.[4] ومع ذلك، تظل مسألة الاعتراف/ سوء االأعتراف محورية في الرؤية الأنطولوجية والفلسفة السياسية التي يطرحها،[5] وتقوده إلى مقاربة توافقية تكيفية قوية مع الادعاءات الدينية.

ما مدى إقناع اقتراح تايلور الأخير بنموذج الإندماج القائم على الاعتراف؟ نرى أن اقتراحه يثير صعوبات أنطولوجية (وجودية) ومعيارية- سياسية تتعلق بالدين. فأولاً، رأينا تايلور يشدد على أهمية التعالي بما يتجاوز الأزدهار البشري.[6] ومع ذلك، فإن تعدد معاني وغموض مصطلح "التعالي" يجعل الدور الذي يلعبه في تصور تايلور غير واضح، فضلاً عن آثاره السياسية. ( ستجد تفصيله في (أ) أدناه. ثانيًا، أن تايلور محق في موقفه ضد المدافعين عن الحياد المطلق في الاعتراف بأن يجب أن تأخذ الدولة في الاعتبار الضرر المعنوي الذي يلحق بالمواطنين المتدينين من خلال القواعد التمايزية ضد معتقداتهم وممارساتهم الأساسية ومع ذلك، فإن الإشارة إلى صدق الاعتقاد كسبب مقنع لمنح الاعتراف يؤدي إلى نموذج شامل للغاية للاعتراف والتكيف. إن اقتراح تايلور الأخير شامل للغاية على عكس تصوره السياسي السابق للأعتراف، ويمكن أن يقوض عدالة واستقرار الإطار القانوني السياسي. قد يخفف اعتماد معايير أكثر تطلبًا للاعتراف من هذه المشاكل، لكنه لا يحلها بالكامل. نرى أننا تُركنا مع لغز: فيمكن أن يؤدي الموقف المحايد (مثل موفقف براين باري) إلى أشكال غير مباشرة من التمييز، كما يجادل تايلور وكيمليكا؛ ومع ذلك، قد يؤدي حتى النهج المعتدل أو المحدود للتكيف في عصر التعددية المفرطة إلى منح مكانة مميزة لمعتقدات معينة وتقويض الحياد والاستقرار القانوني (سأتناوله في ب و ج).

أ- انطولوجيا الأخلاق: مسألة التعالي:

يتسم استخدام تايلور لـ "التعالي" بالتناقض والغموض، حيث يدعي أنه يدرك قواسم مشتركة لمجموعة متنوعة محيرة من الظواهر كالإيمان المسيحي، والطريقة البوذية إلى النيرفانا، والسمو الجوهري لبنيامين وبلوخ، وأفكار كانط التنظيمية، وموقف فوكو ودريدا المضاد للتنوير، وحتى الفاشية. فيمكن أن يشير "تعالي تايلور" إلى "الرغبة في الخلود"، أو "حياة ما بعد الحياة"،[7] أو "واقع روحي خارج الإنسان"،[8] ولكن أيضًا إلى مُثُل إنسانية أكثر وضوحًا مثل "جمهورية المساواة" أو السلام الدائم نفسه.[9] وتشير كل هذه الإشارات إلى "التعالي" بشكل مفترض إلى أهداف أو ادعاءات تتجاوز الازدهار البشري،[10] والتي يؤدي السعي نحوها إلى تحولات جذرية. يثير هذا التعدد في المراجع مسألة فائدة التعالي عند تايلور، وتحوله إلى مفهوم شامل. ليس من الواضح أيضًا لماذا تهدف المُثُل التنظيمية مثل "جمهورية المساواة" إلى شيء يتجاوز ازدهار الإنسان وحتى الحياة؛ كما أنه ليس من الواضح متى تتوقف الرغبة أو الطموح عن كونه محايثًا ويصبح متعاليًا. يشير تايلور في إحدى الفقرات إلى معيار هو: "عندما يكون معيار السلوك الطبيعي مرتفعًا بدرجة كافية، قد لا يبدو مصطلح" المحايثة "هو المصطلح الصحيح".[11] ليس هذا الاقتراح لتحديد المساحة المحايثة / التعالي مفيدًا جدًا: أنه "مرتفع بما يكفي" يختلف عن "ما وراء الحياة" ويمكن أن يشير إلى أفكار الخير البشري؛ فالصياغة التي يقدمها هي مثال على لغة تايلور الغامضة عندما يتعلق الأمر بالتمييز بين المحايثة و التعالي. ليس محتوى التعالي غير واضح فقط ولكن مكانة حجة تايلور ليس لصالحها أيضًا.[12] لا يشرح تايلور، في كتابه عصرعلماني، حالة حجته فيما يتعلق بأهمية" التعالي".[13] يعترف في بعض الأحيان بما إذا كان "التعالي" وثيق الصلة بأزدهار الأنسان أم لا يعتمد على مجرد قفزة في الإيمان: ما يدفعنا بطريقة أو بأخرى هو ما يمكن أن نصفه بأنه يأخذنا في الحياة البشرية، ومحيطها الكوني والروحي (إن وجد). فعادة ما ينبثق موقف الناس من مسألة الإيمان بالله، أو الفهم المفتوح مقابل الفهم المغلق للإطار المحايث، من هذا المعنى العام للأشياء.[14]

يمكن تفسير هذه الحجة من التعالي على أنها ذات أهمية سلبية، أي أنها تشير إلى قيد أو حد وافتتاح. وكما يقترح برنشتاين، يمكن تفسير إطار تايلورالمحايث بأنه مغلق أو منفتح على التعالي ولا يمكن التعبير عن موقف قاطع في هذا الصدد.[15] إن إدراك هذا الحد والانفتاح من شأنه أن يقود تايلور إلى منظور تعددي ينتقد بنفس القدر الملحد المتشدد والمؤمن العقائدي، لأنهم يرتكبون الخطأ نفسه في تقديم ادعاءات حصرية لا مبرر لها.

ومع ذلك، يعطي تايلور أهمية إيجابية للتعالي. ويجادل بأن كتابه عصر علماني بأكمله هو محاولة لدراسة مصير الغرب الحديث ازاء الإيمان الديني بمعنى قوي. هذا المعنى القوي يعرِّفه بمعيار مزدوج: الإيمان بواقع متعالي من ناحية، والطموح المرتبط بتحويل يتجاوز الازدهار العادي من ناحية أخرى.[16]

يضيق هذا التوصيف الغربي المسيحي القوي للتعالي غموض المفهوم؛ ومع ذلك، فإنه يتعارض مع الفهم المنفتح والتعددي الذي يتبعه تايلور في أماكن أخرى أيضًا.[17] وكما يلاحظ كازانوفا، إذا كانت تكشف الأجزاء الأولى من كتاب اصر علماني عن المواهب التحليلية والتأويلية والسردية لفيلسوف يمكنه مساعدتنا لفهم تخيلاتنا الاجتماعية العلمانية"، فإن الأجزاء الأخيرة تكشف عن ضيق ومحدودية في تساؤل وتحقيق تايلورفي حديثه عن: "الروح الرومانسية للحب المسيحي، وإرادة الإيمان التي ترافق أمل الخلود، والعطش الطوباوي للتألوه المتجسد والتعالي وراء مجرد ازدهار الإنسان".[18] أنه صحيح وجود هذه الرغبة في الخلود أو "حياة ما بعد الحياة" وهي تميز المهام الدينية كما في المسيحية والهندوسية والإسلام،[19] لكن هذه الرغبة ليست مطلبا بشريًا بشكل مطلق، وأن الحياة الخالية منها ليست بالضرورة "مكبوتة".[20] بل على العكس من ذلك، رفض مثل هذا التوق إلى التعالي هو، بالنسبة للبعض، فعل ضروري للتحرر من التطلع الوهمي.[21]

على الرغم من غموض مصطلح التعالي عند تايلور، فإن اهتمامه بتجارب التحول أو التغيير وتفكيك الهوية يظل وثيق الصلة بفلسفة سياسية حساسة للاختلاف.[22] فيلفت تحليله الانتباه إلى تعددية المعتقدات، وخيارات الحياة، والتجارب الهادفة للحرية التي لا يمكن اختزالها في وجهات النظر الليبرالية أو الجمهورية التي تتمحور حول الموضوع السيادي (سواء كان فرديًا أو جماعيًا). حتى لو لم نتمسك بمصطلحات "التعالي"، فإن حساسية تايلور الهيرمينوطيقية للتجارب التي تنطوي على عدم التمركز (الراديكالي)، أو التنازل، أو عدم التجانس يمكن أن تكون تصحيحية لوجهات النظر الليبرالية والجمهورية المألوفة في الأوساط الأكاديمية الغربية التي تركز على مفاهيم الحرية غير القابلة للتعميم. يرى تايلورإن وجهات النظر هذه "محايثة"، لأنها تستند إلى مفاهيم الحرية باعتبارها ازدهارًا فرديًا وجماعيًا، أو الحرية باعتبارها تعظيم الاختيار والرفاهية، أو الحرية كاستقلالية. وأنه يمكن للتجارب الدينية والروحية للحرية غير القابلة للاختزال لوجهات النظر المحايثة أن تقود التغيير المجتمعي ويضرب أمثلة باللاعنف الراديكالي (غاندي، مارتن لوثر كينغ)، الترابط الإيكولوجي العميق (آرني نريس)، وفي ماقامت به من تغيير تجاه العدو وذلك بحب هذا العدو، وكذلك كما في التضحية والتفاني في خدمة الآخرين (بي آر أمبيدكار، آرثر شنيتزلر، دوروثي داي). يجادل تايلور بأن الأديان التاريخية قد جمعت بين الاهتمام بالازدهار والتعالي في ممارساتها المعتادة. لقد كانت القاعدة هي أن الإنجازات العليا لأولئك الذين تجاوزوا الحياة عملت على تغذية الحياة الكاملة لأولئك الذين بقوا على هذا الجانب من الحاجز. [23]

ب-الأذى المعنوي واختبار الصدق والإفراط في الشمول:

هناك، كما أشرنا، استمرارية في عمل تايلور فيما يتعلق بدور التقييمات القوية، والاعتراف، والضرر الأخلاقي على مستوى الأنطولوجيا والفلسفة السياسية. تحدد التقييمات القوية أو المعتقدات الأساسية الشعور بالأستقامة أو النزاهة الأخلاقية؛[24] وغالبًا ما يستند سوء فهم المعتقدات الأساسية إلى اختزالها الزائف إلى "مجرد تفضيل يمكن نسيانه أو استبداله بسهولة"،[25] ويمكن أن يتعارض مع حرية الضمير والاحترام المتساوي، و يؤدي، بالتالي، إلى "إلحاق الضرر". يشير تايلور إلى أنه، في الديمقراطية الدستورية، يجب الاعتراف بالمعتقدات الأساسية، وتعديل القوانين والقواعد (عن طريق توسيع القواعد، والإعفاءات، وما إلى ذلك) من أجل استيعابها. [26]

لقد اعترض المحايدون الليبراليون بشدة على المنطق التوافقي. فبالنسبة لبريان باري، إذا كان القانون شرعيًا وله قابلية للتطبيق بشكل عام، فإن تعديله لتصحيح تأثيره المختلف على جماعات أو أفراد معينين لا يمكن إلًا أن يؤدي إلى التعسف وعدم الاستقرار القانوني وتقويض حياد الدولة. لا تستطيع الدولة ولا ينبغي لها أن تصحح آثار قانون عام شرعي، ولكن تأكد فقط من أنه لا يستهدف جماعات معينة من الأشخاص. وفقًا لموقفه الحيادي، ينبغي على الليبراليين بدلاً من ذلك أن يهتموا بجميع حالات الإكراه، التي يجب أن تكون مبررة بمصالح عامة مناسبة، وليس بالاعتراف بقيمة المعتقدات والهويات الدينية الثقافية وتعزيزها. إذا كان هناك ما يبرر قاعدة قسرية، فيجب أن تطبق بشكل منفرد على جميع المواطنين بغض النظر عن عواقبها على جماعات أو أفراد معينين.[27] وهي قواعد موحدة لجميع أعضاء المجتمع السياسي بغض النظر عن معتقداتهم الأساسية.

نحن نجادل بأن القانون لا يستطيع ولا ينبغي أن يصحح جميع آثاره غير المتكافئة. وليست الآثار غير المتكافئة غير عادلة تلقائيًا: فيمكن، على سبيل المثال، أن تنشأ من الخيارات الشخصية التي نتحمل مسؤوليتها.[28] يجب على الدولة - كلما كان ذلك ممكنًا ومرغوبًا فيه - أن تضمنليس للقوانين العامة طابع تمييزي فيما يتعلق بأفراد وجماعات محددة بموجب مبادئ حرية الضمير والاحترام المتساوي. علاوة على ذلك، تُظهر حجة باري حول الإكراه أنه في بعض الحالات يكون مبدأ عدم التدخل كافيًا لتبرير إلغاء أو تعديل قاعدة عندما يتبين أنها غير عادلة. إذا كان ارتداء الحجاب الإسلامي لا يعيق المرأة عن أداء وظيفتها في متجر بيع بالتجزئة، على سبيل المثال، فيجب أن يحمي القانون حقها في القيام بذلك ليس بالضرورة لأن الدولة بحاجة إلى الاعتراف بقيمة هويتها الدينية أو معتقداتها الأساسية ولكن، يمكنها أن تفعل ذلك لأن التدخل في حريتها الدينة والضمير سيكون غير مبرر.

ومع ذلك، فإن تكيف تايلور يلتقط رؤية معيارية يغفلها المحايدون والتي لها صلة بالتوصل إلى قرارات عادلة ومفيدة في الخلافات المتعلقة بالدين. فكما يشير، على الدولة أن تكون محايدة لأن القوانين والمؤسسات العامة يجب ألا تمنح أي مجتمع ديني امتيازًا؛ ولكن التجاهل التام للتأثير التفاضلي للقوانين واللوائح يؤدي إلى تقييم غير لائق لدور الحياد والمعاملة العادلة. يمكن أن تؤدي القوانين واللوائح إلى ضرر معنوي وتمييز غير مباشر حتى لو كانت صحيحة بشكل عام ولا تستهدف بشكل مباشر أي مجموعة محددة.[29] الاعتراف بهذا التأثير التمييزي التفاضلي ومعالجته هو مسألة عدالة، علاوة على ذلك، يمكن أن يكون مفيدًا للتعاون الاجتماعي والعيش معا. عموما، لا يمكن التعامل مع قضايا تقع تحت هذه الحال من خلال تقييم الإكراه بشكل مجردة (وفقًا لاقتراح باري). فأولاً، يعتبر تقييم الإكراه سياقيًا، ويعتمد على تقييم مدى ملاءمة وقيمة أسلوب حياتهم ومعتقداتهم. ثانيًا، يؤدي تطبيق الاختبار السلبي للقسر فقط إلى إهمال الدور الذي يمكن أن يلعبه الاعتراف الإيجابي في بناء علاقات عادلة ومثمرة ومستقرة بين الجماعات أحيانًا. يحول موقف باري مبدأ الحياد إلى هدف في حد ذاته حيث يجب السعي وراءه بغض النظر عن السياق والتأثير، ويخلط بين المعاملة المتساوية ومبدأ القاعدة الواحدة للجميع.[30] ينتهي هذا الحياد الليبرالي بالعمى[31]عن الثقل الذي يمكن أن يؤديه تجنب الأذى الأخلاقي ومنح الاعتراف الرمزي في بناء علاقات تعاون اجتماعي عادل واستقرار سياسي.

ومع ذلك، يبقى السؤال الشائك عن تكيف تايلور هو التأسيس عندما يصبح سوء التعرف على معتقد ما أمرًا أخلاقيًا وسببًا لإجراء تعديل. بالنسبة لتايلور وماكلور، لفهم الضرر الأخلاقي بشكل صحيح، نحتاج إلى اعتباره معادلاً للضرر الجسدي الناتج عن سوء التعرف على حالة خاصة.[32].....

لكن التكافؤ بين نوعي الضرر بعيد كل البعد عن كونه بديهيًا.[33] يمكن التحقق من الأذى الجسدي بشكل موضوعي. لا يوجد اختبار مكافئ للمشكلة المثيرة للجدل المتمثلة في تقييم ما هو في الواقع معتقد أساسي، وما إذا كان يمكن أن يكون الاعتقاد الجوهري سببًا لمنح تكييف أو متى يمكن ذلك. يختلف الفلاسفة والمحاكم بشكل كبير حول هذه القضايا الحاسمة المتعلقة بمجال التفسير الفلسفي / القانوني، وليس بمجال الاختبارات العلمية الروتينية.

ج- معضلة االتوفيق:

يتمثل أحد الحلول البديلة للتكيف القوي عند تايلور في اعتماد معايير مختلفة وأكثر صرامة للاعتراف. ليس هذا النهج المتعدد المعايير غير مألوف في الممارسة القانونية.[34] عموما، لا يمكننا متابع المهمة المعقدة المتمثلة في إنشاء إطار عمل تقييمي لتصفية المعتقدات الأساسية التي تستحق الاعتراف وتبرير استيعاب الممارسات الدينية هنا بالتفصيل. فإذا كانت معايير التقييم هذه مقنعة فالواجب أن تتجنب ضيق الأفق بتفضيل نوعًا معينًا من المعتقدات والممارسات (الدينية). ويعتمد تعريفها على السياق وذلك لتنوع الترتيبات القانونية الموجودة مسبقًا والمكانة المختلفة للدين في كل مجتمع سياسي.

يشير معيار الملاءمة إلى المعتقدات والممارسات التي تلعب دورًا مهمًا في مجتمع المعتقدات تلك - أي المجتمع القادر على التعبير عن قصة أو سرد حدث ذي مغزى وموقف أمام الوجود والعالم. يستلزم التحقيق في أهمية المعتقدات والممارسات الأساسية تقييم مدى اتساقها وقيمتها الأخلاقية. ويتطلب تبرير الادعاءات التي يرفعها الأفراد بناءً على مجموعة متماسكة من المعتقدات التي يُعبًر عنها من خلال تقليد خاص بها من الاستقصاء الديني والأخلاقي. يوفر التقليد الداخلي للمجتمع خلفية من المناقشات وأساليب الحياة التي يمكن على أساسها تقييم القيمة الأخلاقية والوجودية للمعتقدات وممارساتها بشكل مناسب.

هل يخفف شكل من التكيف المحدود مخاوف المحايدين الليبراليين؟ لا توجد، كما نقترح، حجة كضربة قاضية لصالح أو ضد الحياد الليبرالي أو التكيف. يكمن ضعف الموقف الحيادي في أنه يمكن أن يؤدي إلى أشكال غير مباشرة من التمييز. من ناحية أخرى، ينطوي الشكل المحدود من التكييف في عصر التعددية المفرطة على خطر منح اعتراف خاص بمعتقدات محددة وتقويض الحياد والأندماج والاستقرار القانوني. فحتى التكيف المحدود أو المقيًد وغير الضيق لا يمكن أن يتعامل بشكل صحيح مع جميع مشاكل الانتشار والاستغلال. قامت العديد من مجتمعات المعتقدات الجديدة بالضغط على حدود المقاربة التوفيقية ؛ في حالة زيادة الفردية وتعدد المعتقدات، يصبح تحديد عتبة الملاءمة أمرًا صعبًا بشكل متزايد.. ...

وهناك صعوبة أخرى تتعلق في إن التكيف يحول المحاكم إلى مقيِّمين، مما قد يقوض حيادهم وثباتهم. تنطوي عملية التمييز النوعي على مخاطر التعسف واستبعاد المعتقدات والممارسات الأصلية وغير التقليدية ؛ علاوة على ذلك، لا سيما في الديمقراطيات التعددية والمعقدة، فإن إجراء التقييمات وفقًا لمعايير عامة ومستقرة يمثل تحديًا وطعنًا في جوهره. بينما أن الاستقرار المعياري والاتساق مرغوب فيهما، نجد النهج التوافقي يميل إلى توليد نهج يتعامل مع كل حالة على حدة مما يؤدي إلى عدم الاستقرار والتعسف.

استنتاج

بينما تقوم رؤية راولز وهابرماس للدين والسياسة على مفهوم كانط الإجرائي للعقلانية، تعيد تأويلات تايلور النقدية للحداثة صياغة مفهوم هيجل القائم على الاعتراف الأكثر حساسية لتضمين العقلانية والسياق التاريخي. إن "الواقع الروحي" و"التعالي" و"الرغبة في الخلود" مفاهيم غامضة في كتابات تايلور، ومع ذلك تحتل مكانة بارزة في الجدل ضد الأشكال المبتورة للعقلانية والدوغمائية الدينية. تأتي قوة الشكل الذي يقدمه من الليبرالية من عدم اختزاله الحرية في أي مفهوم محدد سائد في التقاليد الغربية (الفردية أو تحقيق الذات أو تقرير المصير) فهي منفتحة على أنواع مختلفة من البحث عن الامتلاء متمحورًا حول الذات الفردية أم لا. ولكن مع ذلك، آثار تكيف تايلور الشامل للغاية إشكالية لأنه يفتقر إلى معايير لتصفية وتمييز المطالبات ذات الصلة بالاعتراف ويمكن أن يؤدي إلى محاكم معطلة غير قادرة على التعامل مع التعددية المتزايدة للمعتقدات الصادقة.

تهدف رؤية تايلور إلى المساهمة في الفهم النظري والمصالحة العملية؛ ولكنه أيضًا نداء لاستعادة البعد الروحي الذي يميل إلى الخنق في الممارسة الفعلية للدين المؤسسي والفلسفة من خلال التركيز على الرموز والإجراءات على حساب تجارب التحول. إن الفلسفة السياسية، من هذا المنظور، ليست مجرد مسألة فهم على كرسي بذراعين؛ أن جزء اساس من أخلاق مشروع تايلور هو ضرورة تجنب اختزال الفلسفة الى مجرد حقل أكاديمي، واستعادتها كممارسة تحدث تغيير ملحوظ في المجتمع. ترتبط الأهمية المركزية للدين والروحانية في نقد تايلور للحداثة ارتباطًا وثيقًا بهذا الفهم للفلسفة كمعرفة ذاتية عملية ومشاركة نشطة. تعد مصائر مارتن لوثر كينج وغاندي نموذجًا يحتذى به للأحداث التغييرية التحويلية ونقطة تقاطع بين الدين والأخلاق والسياسة التحررية. تحتفي نصوص تايلور بالتعددية والتواصل المتبادل والدعوة - وإن كانت ضمنية - من أجل التجديد والتحول.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..........................

[1] للأطلاع على نقد نموذج الأعتراف بالأحترام أنظر:

Forst, R . (2014) Justification and Critique: Towards a Critical theory of Politics. Cambridge, UK: Polity Press.

[2] Habermas, J. (1987) The Theory of Communicative Action: Lifeworld and system. A Critique of Functionalist Reason, Vol. II. Boston, MA: Beacon Press.

[3] Okin, S.M. (2002) " ' Mistresses of their Own Destiny': Group Rights, Gender, and Realistic Rights of Exit", Ethics 112: 205-230.

[4] يوصي تقرير بوشار - تايلور بمتابعة التسويات التعاونية بين المواطنين في معظم الحالات، واستخدام المسار القانوني كاستثناء. لكن لا يخلو مسار المواطنين من الصعوبات. فقد يؤدي مسار المواطن في الواقع إلى تقوية الأغلبية على حساب حرية الضمير والحرية.

Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation. Report". The full Report is available online at: www.mce.gouv.qc.ca/publications/CCPARDC/ rapport-final-integral-en pelf (last accessed 29 March 2017).

[5] هناك اشكال أو صيغ أخرى قوية من التكيف والتوفيقغير صيغة تايلور التعددية، بالبعض الآخر محافظ ويتمحور حول تفضيل مؤسسة دينية معينة أو جماعة معينة.

[6]لا يمكننا الدخول هنا في نقاش تاريخي حول إعادة بناء تايلور للعلمنة في الغرب.

[7] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.726.

[8] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.404.

[9] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.769.

[10] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.21.

[11] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.632.

[12] يعترف تايلور في الواقع بهذا الغموض فيقول : بالطبع، أريد الاحتفاظ بمفهوم التعالي، على غرار تمييزي الأصلي بين النزعات الإنسانية الحصرية والشاملة، لأغراض أطروحتي الرئيسية. لكني هنا أريد أن أوضح إلى أي مدى تبدو فكرة التعالي غير واضحة وغير مرضية. Taylor, C.(2007a) A Secular Age.632.

[13] بدأ الحجة المتعالية من سمة من سمات تجربتنا غير قابلة للشك، ثم تنتقل إلى استنتاج أقوى يتعلق بطبيعة الموضوع وموقعه في العالم. يتم إجراء هذه الخطوة عن طريق الانحدار "إلى أن النتيجة الأقوى يجب أن تكون كذلك إذا كانت الحقيقة غير القابلة للشك حول التجربة ممكنة (وكونها كذلك، يجب أن يكون ذلك ممكنًا)". بعبارة أخرى، فإن الحجج المتعالية هي "تراجع من سمة لا جدال فيها للتجربة إلى أطروحة أقوى كشرط لإمكانية حدوثها". إنها تصوغ إنهم يصوغون "شروطًا حدودية يمكننا جميعًا التعرف عليها". فهي ليست "قائمة على أسس تجريبية، بل قبلية. فهي ليست مجرد احتمالية، ولكنها ثابته بشكل واضح لا خلاف عليه.

Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?".20.21.27. 32.

إنه خارج  هذه الدراسة مناقشة صحة خط محاججة تايلور بشأن التعالي. ومع ذلك، يمكننا أن نفسر ذلك على أنه شكل ضعيف من استراتيجية محاججة التي لا تؤدي إلى بيان واضح ومفصل.

[14] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.331.

[15] Bernstein, R. (2008) "The Uneasy Tensions of Immanence and Transcendence", International

Journal of Politics, Culture, and Society 21(1): 11-16.13-14.

[16] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.510

[17] Fraser, I. (2003) "Charles Taylor on Transcendence: Benjamin, Bloch and Beyond”, Philosophy and Social Criticism 29(3): 297- 314.

-Fraser, I. (2015) Dialectics of the Self: Transcending Charles Taylor. Exeter: Andrews UK Limited

[18] Casanova, J. (2008) "Secular Imaginaries: Introduction", International Journal of Politics, Culture, and Society 21(1): 1---4.2.

[19] انظر على سبيل المثال تحقيق جون جراي الرائع في كتابه:

John Gray, (2011)The Immortalization Commission: The Strange Quest to Cheat Death.

[20] أنظر:

John Gray's fascinating inquiry in his The Immortalization Commission: The Strange Quest to Cheat Death (2011).621.

[21] يقول تايلور: سوف يفترض المنظور الروحي أنه في مكان ما، في أعماقنا، سنشعر بالانجذاب للاعتراف والعيش فيما يتعلق بما يعرفه على أنه واقع روحي. قد نشعر بالانجذاب إليه، وقد نتحمس له، ونشعر بعدم الرضا وعدم اكتمالها بدونه. يتحدث الناس عن "السخط الإلهي"، عن "الرغبة في الحياة". قد يكون هذا مدفونًا في الأعماق، لكنه إمكانات بشرية دائمة. لذلك حتى الأشخاص الناجحين جدًا في مجال الازدهار البشري الطبيعي (ربما على وجه الخصوص هؤلاء الأشخاص) يمكن أن يشعروا بعدم الارتياح، وربما الندم، وبعض الإحساس بأن إنجازاتهم جوفاء.، فإن هذا القلق من وجهة نظر أولئك الذين ينكرون هذه الحقيقة الروحية المفترضة لا يمكن إلا أن يكون مرضيًا؛ إنها غير وظيفية تمامًا؛ يمكن أن تعيقنا فقط.

Taylor, C.(2007a) A Secular Age.620--621.

[22] لحجة مماثلة، انظر:

Abbey, R. (2014) T11e Return of Liberal Feminism. New York: Routledge.

[23] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?",13-38.12..

[24] هناك اختلاف في التركيز بين "التقييمات القوية" و "المعتقدات الأساسية" المرتبط بالتحول من عمل تايلور المبكر إلى عمله اللاحق. يتم تضمين التقييمات القوية في الحياة المجتمعية، في حين أن المعتقدات الأساسية يمكن أن ترتبط فقط بنزاهة الفرد.

[25] Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of Conscience. Cambridge, MA: Harvard University Press.91.

[26]يجب استيعابهم طالما أنهم لا يدخلون في تضارب مع القيم الدستورية الأساسية.

[27] Barry, B. (2001 Culture and Equality: An Egalitarian Critique of Multiculturalism). Cambridge, MA: Harvard University Press.119.

[28] Nagel, T. (2012b) Mortal Questions. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

[29] تحدث ماكليور وتايلور، لتأطير هذا الشكل من الأذى الأخلاقي، عن "الأهمية التي يحملها البعد الروحاني للوجود لبعض الناس، ونتيجة لذلك، أهمية حماية حرية الضمير للأفراد"

Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of Conscience. 58.

[30] Patten, A. (2014) Equal Recognition: The Moral Foundations of Minority Rights. Princeton, NJ: Princeton University Press.

كما يشير آلان باتن، "هناك ما هو أكثر من المعاملة العادلة من التطبيق الموحد لقانون واحد" 117, n. 23.

وبالنظر الى حالة المؤسسة ؛ يشير باري إلى أنه لا يوجد اعتراض شرعي قائم على الحياد للمؤسسة الدينية طالما أن القواعد والسياسات التي تشكل المؤسسة يتم تطبيقها بشكل موحد على جميع المواطنين. يعترض باتن على أنه، في ظل حياد المعاملة، فإن المؤسسة غير عادلة لأن الدولة تمنح شكلاً من أشكال الامتياز لدين معين لا توفره للآخرين.

[31] يقترح باتن أن المنظور الليبرالي الذي يركز على الحياد ليس بالضرورة معاديًا لحقوق الأقليات والتسويات الدينية. وهو يجادل بأن الحقوق الثقافية يتم تبريرها في الواقع من خلال مفهوم محدد للحياد الليبرالي يركز على حيادية المعاملة بدلاً من حيادية التبرير والآثار.

Patten, A. (2014) Equal Recognition: The Moral Foundations of Minority Rights.

[32] Maclure J. and Dumont I. (2017) "Selling Conscience Shore: A Response to Schuklenk and Smalling on Conscientious Objections by Medical Professionals", Journal of Medical Ethics 43 : 241-244.

[33] للمزيد من التفصيل عن هذا الموقف الليبرالي وفي ما يطلق علي فيشر : " التطوع السحري" أنظر:

Fisher, M. (2016) The Weird and the Eerie. London: Watkins Media Limited.

[34] على سبيل المثال، طبقت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أحيانًا، كجزء من تفسيرها القانوني، "اختبار كامبل"، الذي تنص المادة 9 من الاتفاقية الأوروبية على أنه لا يعترف إلا بالمعتقدات والمظاهر التي تصل إلى مستوى معين من "الحجة والجدية والتماسك والأهمية

Arguelles, E.E.V.I. (2016) "The Adjudication of Beliefs Before the European Court of Human Rights: Some Observations Against the Campbell Threshold", MA Thesis (unpublished).

 

الرابطةُ الوجوديةُ بين الظواهرِ الثقافية ومصادرِ المعرفة تُمثِّل منظومةً اجتماعية حاضنة للتفاعلات الرمزية المُسيطرة على علاقة الفرد بِنَفْسِه وبيئته ومُجتمعه. والتفاعلاتُ الرمزيةُ جَوْهَرٌ أخلاقي مُتجانِس،ونَسِيجٌ مُتشابِك مِن الصُّوَرِ الذهنية والأحداثِ الواقعية، يُؤَدِّي إلى إنتاج آلِيَّات لُغوية قائمة على تأويلِ تفاصيل الواقع المُعاش، وتفكيكِ أدوات الهَيمنة السُّلْطَوِيَّة على الوقائع التاريخية، واستنباطِ المعاني الكامنة في السلوكياتِ الفردية والمصالحِ الجماعية، وصناعةِ عوالم فكرية قادرة على صهر الماضي والحاضر والمُستقبَل في بَوْتقة واحدة، وفتحِ الزمن على جميع التفسيرات للمَعْنَى الحَاكمِ على السِّيَاق الاجتماعي،والمَحكومِ بطبيعة السُّلوك الإنساني، والمُتَحَكِّمِ بشروط إنتاج المعرفة في العناصر التاريخية المُحيطة بشخصية الفرد الإنسانية، باعتبارها كِيَانًا حياتيًّا مركزيًّا، وكَينونةً لُغوية مُتجدِّدة. وإذا كانَ التاريخُ -كَوَعْيٍ خَلاصِي وإدراكٍ رُؤْيَوِي وإرادةٍ إنسانية - تَوليدًا مُستمرًّا لفلسفة السُّلطة في المعرفة حِسِّيًّا ومَعنويًّا، فإنَّ اللغةَ - كَسُلوكٍ مُجتمعي ومَضمونٍ إبداعي ومشروعٍ تَحَرُّري - إعادةُ صناعةٍ للنَّوَاة الأساسية لِهُوِيَّةِ المُجتمع روحيًّا وماديًّا. وعندما يتحرَّك التاريخُ باتِّجاه اللغة، فإنَّ تفاصيل الحياة المَلموسة تُصبح مَركزًا مُتَجَذِّرًا يَستعيد الهوامشَ، ومنهجًا عقلانيًّا يُحرِّر السِّيَاقَ الاجتماعي مِن الكَبْت، وزمنًا مُتَشَعِّبًا يُعِيد العناصرَ المنسيَّة إلى ذاكرة المجتمع، بِوَصْفِهَا فِعْلًا وفاعليَّةً وتَفَاعُلًا. وعندما تتحرَّك اللغةُ باتِّجاه التاريخ، فإنَّ تعقيدات المشاعر الإنسانية تُصبح جَوْهَرًا فلسفيًّا يُولِّد الأسئلةَ المصيرية في التُّرَاث، ومنظومةً معرفية تُكرِّس مركزيةَ الذات في الذكريات، ومَرجعيةً رمزية تُحلِّل الدَّوْرَ الحضاري للمنطقِ اللغوي والعقلِ التاريخي.

2

الوجودُ صِناعةٌ مُستمرة للخِبرات العملية، والثقافةُ إنتاجٌ دائم للأسئلة المصيرية، والمعرفةُ تشييدٌ مُتواصِل للبناء الاجتماعي. وهذه الأركانُ الثلاثة (الوجود والثقافة والمعرفة)، تُمثِّل نِظَامًا مِحوريًّا لا يَتَعالى على التاريخ، ولا يُقِيم قَطِيعةً مع أنساقه، وإنَّما يُؤَسِّس مناهجَ اجتماعية للكشف عن الشروط الضرورية لتوظيف الأفكار الإبداعية في عملية تفسير مصادر المعرفة، من أجل دَمْجها معَ الآلِيَّات اللغوية التي تُسَاعِد العقلَ الجَمْعي على تحويل الوَعْي الحضاري إلى تاريخ مُشْتَرَك بين مَاهِيَّةِ الوُجود الحَي والحُر (طبيعة الفردِ وهُوِيَّة المُجتمع) ومَاهِيَّةِ النشاط الواقعي والعَقْلي (دِينَامِيَّة الحياةِ اليومية والصَّيرورة الزمنية المكانية). وإذا كانت الظُّرُوفُ المعيشية تُؤَثِّر في تراكيبِ الهُوِيَّةِ والماهيَّةِ سَلْبًا وإيجابًا، فإنَّ العقل الجَمْعي يُؤَثِّر في تفاصيل الحياة اليومية، ويَستطيع مَنْحَ الشرعية لها أوْ نَزْعها عَنها. والامتحانُ الحقيقي لا يَكْمُن في قُدرة الفرد على تغيير مُجتمعه، وإنَّما يَكْمُن في قُدرة الفرد على تغيير نَفْسِه، مِن أجل إعادة بناء مُجتمعه، باعتباره هُوِيَّةً وُجوديةً قائمةً بذاتها، ومُتَفَاعِلةً معَ العناصر المُحيطة بها، ومُتَجَانِسَةً على صَعيد البُنية التحتية والبُنية الفَوقية، ومُنْدَمِجَةً معَ عملية تَحويل الظواهرِ الثقافية ومصادرِ المعرفة مِن الكِيَان إلى الكَينونة، ومِن الذات إلى الطبيعة، ومِن النظرية إلى التطبيق. والمُجتمعُ لَيْسَ مرحلةً زمنيةً عابرةً، وإنَّما هو زمنٌ مُتَجَدِّدٌ ومُتَكَاثِرٌ يَلِدُ نَفْسَه بِنَفْسِه، لذلك كانت العلاقاتُ الاجتماعيةُ حاضنةً للأزمنة المُختلفة. وكما أنَّ الروابطَ بين الأشياء أَهَمُّ مِن الأشياء ذاتها، كذلك العلاقات بين الأزمنة أَهَمُّ مِن الأزمنة ذاتها.

3

الثقافةُ تُطهِّر الوُجودَ مِن الوَعْي الزائف، والمعرفةُ تُنقِّي الوُجودَ مِن الإدراك الوهمي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى مَنْعِ العلاقات الاجتماعية مِن إنتاج ذاتها ضِمْن المُسَلَّمَاتِ الافتراضية المُغْرِضَة، والمصالحِ الشخصية الضَّيقة. وكُلُّ تَطهيرٍ للوُجود ثقافيًّا ومعرفيًّا يُؤَدِّي - بالضَّرورة - إلى تَطَهُّر في العلاقات الاجتماعية شكلًا ومُحتوى، وهذه العمليةُ لا تَقُوم على الآلِيَّة الميكانيكية، بَلْ تقوم على القَصْدِيَّة الواعية، التي تَستطيع تحريرَ الفرد مِن المَأزِق الوجودي في بيئةٍ مُعقَّدة وعَالَمٍ مُركَّب. والمأزقُ الوجودي هو النتيجة الحتمية لِخَوْفِ الفرد مِن نَفْسِه ومُستقبَله، وعدمِ رِضَاه عن أدائه الحياتي. وهذا يَعْني انفصالَ الفِعْل الاجتماعي عن فاعليته المعرفية، فَتُصبح حياةُ الفردِ حركةً مَحصورةً بين الحُدود الزمنية والمكانية بلا أثر ولا تأثير، وتُصبح السُّلطةُ الاعتباريةُ للفرد مُجرَّد دَوَرَان في حَلْقَة مُفْرَغة، وعِندئذ يَعْجِز عن الانطلاق مِن تغيير نَفْسِه إلى تغيير مُجتمعه. لذلك، يجب على الفرد - إذا أرادَ أن يَكُون فاعلًا في الأحداث اليومية - أن يُحَوِّل عَقْلَه إلى أداة لصناعة المفاهيم الجديدة، التي تَقْدِر على توليدِ المَعْنَى لا نَسْخِه، وإبداعِ المفاهيم لا تقليدِها، ومُواجهةِ الواقع لا الهُروب مِنه.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

- عمل تايلور المتأخر: العلمانية والإطار الجوهري والليبرالية الشاملة

أعرب تايلور من حين لآخر عن وجهات نظر قوية حول صلة الدين في السياسة، لكنه لم يوضح أثر وعواقب سياسات الاعتراف على مكانة الدين في الديمقراطية قبل تسعينيات القرن الماضي. بقيت الأسئلة الخلافية فيما يتعلق بالدين دون إجابة: ما هي أهمية العلمانية والحياد في الدولة الحديثة؟ إلى أي مدى يجب أن تمضي الدولة العلمانية في الاعتراف بالمطالب الدينية؟

أصبحت هذه الأسئلة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى بدءًا من تسعينيات القرن الماضي، عندما أفسح الطريق للدين في سياق نقاشه لمسألة الوطنية. يطور تايلور التفسير النقدي للحداثة في سياق الصعوبات التي تواجه فرضية العلمنة من خلال التركيز على معنى العلمانية في الغرب. لقد أوضح وجهة نظره على ثلاثة مستويات متداخلة: أولاً، يضيف مفاهيم جديدة (الامتلاء، التعالي) على مستوى الأنطولوجيا الأخلاقية الخاصة به؛ ثانيًا، يستعرض المسار الدقيق لظهور الحداثة العلمانية. ثالثًا، يرفض وجهة النظر القائلة بأن الدين خاص ويقترح سياسة موضوعية لها أساس متين في الواقع للاعتراف بالفوارق والاختلاف  الديني وغير الديني. سننظر أولاً إلى الجوانب الأنطولوجية والاجتماعية والتاريخية لتفسير تايلور ثم ننتقل إلى ليبراليته الشاملة.

أ- عنصر انطولوجي جديد: الامتلاء والتعالي

تكتسب الأنطولوجيا الحوارية لتايلور، في كتاباته المتأخرة، بُعدًا "روحيًا" مميزًا، يوضح بشكل  منهجي فكرة "اللحظات الخاطفة" أو العابرة  في  كتابه "مصادر الذات".[1] وأشار- في كتابه عصر علماني- إلى أن "كل شخص وكل مجتمع يعيش من خلال بعض التصورات حول ما هوالازدهار البشري، أيً: ما الذي يشكل حياة مكتملة؟ ما الذي يجعل الحياة تستحق أن نعيشها حقًا؟ وما أكثر شيء نقدًر الناس عليه؟"[2] يرتبط البشر، في السعي وراء تجارب ازدهار الحياة والامتلاء، بمعتقدات حول معنى الواقع البشري، والخير والشر- أي المعتقدات و التقييمات الأساسية. فإذا كنا نرغب في فهم أنفسنا، لا يمكننا، اذن، التجرد من تلك المعتقدات القوية من أجل الوصول إلى منظور محايد أو غير متحيز مفترض. نحن نلبي حاجتنا الحيوية للازدهاركبشر ونكون في كامل طاقتتنا عندما نكون قادرين على متابعة خطتنا الخاصة في الحياة، ونعيش بشكل أو بآخر وفقًا لمعتقداتنا الأساسية وإحساسنا بالنزاهة والأستقامة الأخلاقية. يشير "الامتلاء" هنا إلى الشعور بأن جزءًا أو جانبًا من وجودنا أعمق وأغنى وأكثر أهمية لنا، وبالتالي يمكن أن يوفر شكلاً من أشكال التوجه الأخلاقي و / أو الروحي.[3] يأتي اختبار الامتلاء بأشكال مختلفة وهو مفتوح للمؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء.

يرى تايلور إنه من الأهمية بمكان ألا تقتصر هذه التجربة على الأزدهار الفردي / الجماعي. وأن التمييز بين الأزدهار والامتلاء مناسب من وجهة نظره المبكرة. ويجادل بأنه أصبح من الشائع في الغرب الحديث المساواة بين الاثنين، أي النظر إلى الامتلاء  على وجه الحصر بأنه تأكيد على الحياة وجوهرها؛ وينشأ هذا التكافؤ من الأهتمام بالحفاظ على الحياة، وتحقيق الازدهار المادي والرفاهية، وبالتالي تقليل المعاناة.[4] يُنظر إلى الجهود المبذولة لدفع "حدود الموت والمعاناة" إلى الوراء  بوصفها "ذات قيمة عليًا" لأزدهار الحياة.[5] وتتحول المعاناة والحزن والشر إلى أمور تقنية تُدار بالوسائل العلاجية عندما تختزل الحياة في محايثتها – الداخلية أو ذاتيتها. تفقد المعاناة والشر أهميتهما الأخلاقية والروحية المحتملة للفرد أو الجماعة.

إن أزدهار الحياة الفردية / الجماعية داخل "فضاء المحايثة" ما هو إلًا شكل من أشكال تحقيق الامتلاء. يمكن للأفراد البحث عن امتلاء يتجاوز ما تؤكد عليه الحياة المحايثة، سواء كان ذلك رفاهية الفرد المادية أو الأزدهار الجماعي. يفترض تايلور "توجهاً نحو التعالي"- أي الشوق الذي لا يمكن اختزال أهميته في السعي من أجل الخير. وحجته هي أننا لا نستطيع أن نفهم الوجود المستمر والمنتشر للظواهر الروحية الدينية ما لم نعترف بالتوق إلى "شيء ما ورائي" والحاجة إلى "االإجابة عن شئ ما في مابعد الحياة".[6] وهو يدعي أن هناك "نزعة لايمكن استئصالها" للإجابة عن "حقيقة روحية" أو دعوة يكون إنكارها خانقًا.[7] إن هذه النزعة منتشرة في العصر العلماني، ويمكن أن تتخذ أشكالًا دينية وغير دينية، وقد تكون واضحة أو غامضة: فــ"الشوق الديني"، على سبيل المثال، هو أكثر من " التوق والاستجابة لمنظور تحول من محايثة الى تعالي، هو ما تسميه شانتال ميلون- ديلسول "الرغبة الدائمة"، حيث يظل مصدرًا قويًا ومستقلاً للتحفيز في الحداثة".[8]

يوضح تايلور التوجه نحو التعالي بطريقتين. (i) يستدعي، أولاً، الحدس القائل بأن الغاية من الأشياء لاتستنفدها الحياة أو أمتلائها، أو حتى خير الحياة"؛[9] بل يمكن أن يتطور هذا الحدس إلى اعتقاد بأن المعاناة والموت ليسا مجرد نفي للحياة "، ولكن لتأكيد شيء ما بعد الحياة أيضًا، أنه شيء ذو أهمية ليس فقط لأنه يحافظ على الحياة".[10] إنه شئ قد يأخذ أشكالًا مختلفة كما يظهر في: بالمصطلحات الدينية، "يريد الله ازدهار الإنسان.[11] و كما ايضًا الدعوة إلى الخضوع لله في الإسلام التي تمكن وتقوي الإنسان بشكل لا يتوفر بأي شكل آخر .. وهكذا.[12] لا يناقش تايلورما إذا كان هذا التوجه أو "الرغبة في الخلود" له الأهمية نفسها بالنسبة للجميع - مثل ضرورة تناول الطعام أو التنفس أو اكتساب الكفاءة اللغوية. ولكن يرى أنه غالبًا ما يُظهر البشر حاجة حيوية  دائمة إلى  التعالي. ويلاحظ في كتابه "عصر علماني"، أن الناس يتحثدون عن "السخط الإلهي"، و"الرغبة الشديدة في البقاء". قد يكون هذا مدفونًا في الأعماق، لكنه يعبر عن إمكانات بشرية دائمة. لذلك يمكن أن يشعر حتى الأشخاص الناجحين جدًا في مجال الازدهار البشري الطبيعي بعدم الارتياح، وربما الندم، وبعض الإحساس بأن إنجازاتهم جوفاء.[13]

(ii) يمكن أن يعني الانفتاح على التعالي أيضًا "الدعوة لتغيير الهوية"،[14] والتوق إلى التغيير أو التحول الروحي.ويظهر ذلك جليًا في الأديان كما في التصوف الإسلامي والدعوة الى الأتحاد مع الله أو في البوذية حيث  يكون التحول الناتج عن التنوير هو التحول من الذات إلى "اللاذات" بينما تدعو المسيحية إلى تفكيك شامل لـ "أنا" في العلاقة مع الله. أو يمكن أن تلهم الإيكولوجيا العميقة التحول إلى طريقة جديدة للحياة يتشكل من الشعور بوحدة جميع الكائنات الحية. لا يمكن متابعة تحليل تجارب التحول الواسعة هذه بشكل مرضٍ من المنظور محايث لتأكيد حياة الإنسان ورفاهه. نظرًا لأن "معظم مفاهيم الحياة المزدهرة تفترض هوية مستقرة، فيمكن تحديد الذات التي يمكن أن تزدهر"،[15] وأن الاعتراف بأهمية التعالي يعني السعي وراء الحياة أو الانفتاح على تغيير في الهوية.

إن التحول الروحي والديني في علاقة توتر مع السعي وراء الخير العام أو الصالح العام  الفردي/ المشترك، ولكنه يمكن أن يغذي ويجدد فهمنا له.. أنظر مثلا الدور المركزي للجمعيات الخيرية في الإسلام ( دفع الزكات ، بوصفها  "ما يطهر"  الروح او الحياة، وهي واحدة من أركان الإسلام الخمسة) أو في المسيحية  "أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم" حيث هناك عدد لا يحصى من المنظمات المشاركة في التعليم والرعاية الصحية. أو كما في حياة غاندي التي تخاطر "بتجارب مع الحقيقة"، التي الهمت إصلاحات عميقة في الهند.[16]يربط تايلور تجربة التعالي بعدم المعاملة بالمثل، مما يشير إلى وجود صلة وثيقة بين الدين والتضامن، لكنه لا يطور هذا الارتباط. إن التوتر بين الازدهار والتعالي مع محاولة التوسط بينهما أمر شائع في الأديان الكبرى حيث جمعت بينهما في ممارستها الموروثة العادية.  فيرى تايلور أن الإنجازات العليا لأولئك الذين ذهبوا في نظرهم وعملهم الى ماهو مابعد الحياة الدنيًا  قدعملت على تغذية الحياة الكاملة  حتى لأولئك الذين بقوا على هذا الجانب من الحاجز، أيً محصورين في الحياة المحايثة.[17]

(ب) العلمانية والإطار المحايث والإنسانية الشاملة

يتعلق البعد الثاني لمفهوم تايلور للدين بتفسيره للحداثة العلمانية. نحتاج للحصول على فهم جيد للوضع الحديث إلى تجاوز التعريفات التقليدية للعلمانية والبحث عن شروط الإيمان بالحداثة الغربية العلمانية.[18] يقدم تفسير تايلور الاجتماعي والتاريخي لهذه الظروف الإطار الأوسع لليبرالية الشمولية.

يسأل تايلور في كتابه "عصر علماني": ماذا يعني الإيمان في سياق الحداثة؟ ما هي الافتراضات الخلفية لتكوين المعتقدات في العصر الحديث، وكيف ظهرت؟ ما هو مكان المعتقدات الدينية في الدولة العلمانية؟ تستند هذه الأسئلة إلى تحقيق تايلور السابق في الهويات الحديثة والتقييمات القوية: بينما يستجوب  كتابه "مصادر الذات " شروط تشكيل الهوية في الحداثة، يركز كتابه "عصر علماني" على الظروف الجديدة لإمكانية تكوين الإيمان في الغرب. فيرى من أجل فهم ظهور العصر العلماني بشكل صحيح، يجب أن نفسر الفجوة بين تجربة الإيمان عام 1500 واليوم. باختصار، تشير الحداثة العلمانية إلى تحول غير مسبوق تاريخيًا في "التجربة الحية"،[19] من التعالي إلى المحايث وتأكيد على ما يتعلق بهذه الحياة.  لقد حدث أنتقال في الغرب" من مجتمع يكون فيه الإيمان بالله بلا منازع، وبلا إشكال، إلى مجتمع يُفهم فيه الإيمان كأحد الخيارات من بين أخرى، بل وفي كثير الأحيان ليس من السهل أعتناقه".[20]  تقوم رؤية تايلور بخصوص ظهور العصر العلماني على فكرة المصادفة والظرفية التاريخية، في حين  يعتمد نموذج العلمنة – في تفسير ظهوره- على نظرة غائية وخطية للتاريخ. لم تنشأ ظروف الاعتقاد الحديثة عن طريق الطرح التدريجي للدين وإزالته ولكن من خلال عملية معقدة من التحولات التي لعب فيها الدين دورًا جوهريًا. وبذلك اكتسب الغرب الحديث سماته الخاصة في الأمور الدينية - أي ظهور وتعميم إطار مرجعي محايث يشكل تكوين المعتقدات. ليس الإطار المحايث " مجموعة من المعتقدات التي نفكر فيها بشأن محنتنا، مهما كانت بدايتها؛ بل هو السياق المحسوس الذي نطور فيه معتقداتنا".[21] يشير الإطار المحايث إلى ما يسميه فيتجنشتاين صورة ((Bild)، تعبر عن خلفية تفكيرنا، و غالبًا ما تكون غير مصاغة إلى حد كبير، وجزء من منها هو تأكيد على هذه  الحياة  الدنيًا على وجه التحديد ، وهي -طبقا لراي تايلور- نتيجة غير مقصودة للإصلاح البروتستانتي والثورة ضد النخبوية الدينية، مع ما يرتبط بها من تأكيد وتقديس "للحياة العادية إلى حد كبير. علاوة على ذلك، يرتبط التحول الأخلاقي والروحي نحو خيبة الأمل من العالم ارتباطًا وثيقًا بالثورة العلمية الحديثة. ويلعب ظهور الذات القائمة على الاكتفاء الذاتي دورًا حاسمًا؛ حيث يشكل العلم الحديث، جنبًا إلى جنب مع العديد من الأوجه الأخرى- مثل الهوية العازلة،[22] والفردية الحديثة، مع اعتمادها على العقل الأداتي والعمل في الزمن العلماني - الإطار المحايث.[23]

لا يُولًد الظهور التدريجي للإطار المحايث فضاءًا متجانسًا من الإيمان، ولكنه فضاءً متعدد الأركان ومليء بالتوتر. يميز تايلور ثلاثة خيارات أو نطاقات رئيسة من المعتقدات: (1) الإنسانية الحصرية-الخاصة، (2) مناهضة النزعة الإنسانية، و(3) النزعة الإنسانية الشاملة أو المفتوحة.

(1) يُعطى النطاق الأول من خلال النزعة الإنسانية الحصرية-الخاصة، حيث تصبح أسبقية الحياة والمحايثة الخيار الوحيد المتاح. تميل هذه النزعة الإنسانية إلى الاعتماد على شكل أو صيغة مبتورة من العقلانية الإجرائية. هناك العديد من الأشكال والأوجه للإنسانية الخاصة- من نفعية جيريمي بنثام، الليبرالية الفردية، الماركسية، والى المعتقدات الشعبية المنتشرة على نطاق واسع والتي تتغلغل في الثقافة والنزعة الاستهلاكية الرأسمالية. إن القاسم المشترك بينهم هو الاعتقاد بأن "لا يوجد هدف صحيح وصالح ماعدا" الحياة المحايثة. فمن وجهة نظرهم، إن الإحساس القوي الذي ينشأ باستمرار بأن هناك شيئًا آخر، وأن الحياة البشرية تهدف إلى ما وراءها، تعبيرعن وهم ويُحكم عليه بأنه خطر لأن التعايش السلمي للناس بحرية هو ثمرة تلاشي الرؤى المتعالية.[24]

يتطابق تطور فكرة الكونية الحديثة عن الحرية والحقوق العالمية مع ظهور النزعة الإنسانية الحصرية-الخاصة في تأكيدها العلماني على الحياة العادية  لكنها غير المعترفة بجذورها التي تعود الى تلك الحقوق الشاملة وغير المشروطة التي نادت بها المسيحية، مما بدا محيرًا إنكارها التعالي.[25] ومع ذلك، على الرغم من أن تايلور ينتقد النزعة الأحادية الجانب للإنسانية الحصرية وما ينتج عنها من عداء للبحث الروحي والاحتياجات الدينية، إلا أنه يرى  أن التركيز على الحياة والرفاهية العامة والازدهار يُعد مكسبًا كبيرًا  آزاء المجتمع النخبوي السابق.

(2) تمثل مناهضة  النزعة الإنسانية نطاق ثاني من المعتقدات. يعتبر رفض النزعة المناهضة  للإنسانية للأفكار العالمية لحقوق الإنسان والازدهارخطرًا ولّدته الإنسانية الحصرية- الخاصة نفسها، بالنسبة لتايلور،؛ إنه ينشأ من عدم الرضا والاغتراب  الناتج عن الرؤية المبتورة للحياة الحديثة (مثل البرجوازية، والرأسمالية، وما إلى ذلك).  إن النيتشوية[26]  ونسلها المثقف الحالي - كما الاقتصاد العام لباتاي، وتفكيك دريدا،  وجينالوجيا فوكو - هي أمثلة على الموقف المناهض  للنزعة الإنسانية. يكشف  الموقف المناهض للنزعة الإنسانية  عن زيف العقل الأداتي للحضارة البرجوازية الرأسمالية للتنوير  بوصفه عرض من أعراض الانحلال والتفاهة الروحية؛ و خلاف ذلك يُحتفل بالعنف الفوضوي والأخلاق البطولية  كما عند نيتشه. فيرى تايلور أن أمراض الحداثة هذه تقوم على الانبهار بإنكار الحياة[27] والهروب إلى التعالي السلبي.[28] وإن مناهضة  النزعة الإنسانية هي الجانب المظلم والصورة المرآوية للعقل التي تم اختصارها في طريقة أو نظام حساب أو استنتاج معين: وتمثل الفاشية، في أكثر أشكالها السياسية راديكالية، وكذلك الخيار المناهض للإنسانية بتبجيله للعنف والفضائل البطولية ورفض  الحرية الفردية "البرجوازية".

(3) تقع الإنسانية الشاملة أو المفتوحة بين هذين القطبين المتقابلين. يمثل الفضاء الوسيط للمعتقدات شكل أو صيغة من التنوير لا تضع العقل في مواجهة البحث الروحي والديني، وتتجنب العلموية والمادية الاختزالية والميل إلى قصر العقلانية العملية على مجرد مسألة حساب أو قياس أو إجراءات. تهدف وجهة نظر تايلور الخاصة إلى التوفيق بين التراث الإنساني للتنوير والبحث عن الخيرات الروحية التي تجسدها التقاليد الدينية. إن المشهد الأخلاقي والروحي للحياة البشرية، وفقًا لهذا المنظور، ثلاثي الأبعاد: هناك، أولاً، الشعور بالامتلاء الذي يتجاوز خبرتنا العادية إلى عمق الوجود أو القوة التي فيه ويمكن أن يتخذ شكل تجارب محايثة أو متعالية. ثانيًا، هناك لحظات من النفي والأغتراب أو الانكسارفي هذا الامتلاء؛ وثالثًا، هناك نوع من الفراغ المتوسط ​​بين الامتلاء والنفي أو الأغتراب. أحد الأسئلة الحاسمة، بالنسبة لتايلور، كيف يتصور المرء ويسكن هذه الأرض الوسطى (حيث يعيش معظم أجزاء البشر): بين حقيقة توقنا إلى التحول وحالتنا المحدودة وأغترابنا. لكن لا تعترف النزعة الإنسانية الحصرية بتعقيد هذا الفضاء الأخلاقي والروحي، لأنها تعمل مع فكرة مجردة عن الامتلاء داخل الإطار المحايث.

يرى تايلور أن الإنسانية الحصرية تطالب بالهيمنة في حين أن مساحة الاعتقاد الحالية تعددية. وكذلك يحاجج بأن تبجيل المحايثة القائمة على إضفاء الطابع المطلق على العلم والعقلانية الأداتية والمادية  حصلت على جاذبيتها الهائلة لأنها تتغذى إلى حد كبير النجاح الاستثنائي للعلوم الطبيعية والتكنولوجيا وثقافة الجسد مع تركيزها على الاهتمامات المادية والملذات. فيصبح العلم، بالنسبة للإنسانيين الحصريين، هو الطريق الملكي للمعرفة والحقيقة على حساب أشكال أخرى من الاستقصاء والتحقيق. ويشير الى أن العلم والفردية الحديثة والعقل الأداتي والزمن العلماني كلها تستعمل كأدلة أخرى على المحايثة. حيث لم يُنظر الى العلم الطبيعي، على سبيل المثال، مجرد طريق واحد إلى الحقيقة، ولكنه أصبح نموذجًا لجميع الطرق.[29] تمثل الهيمنة الحالية للنزعة الإنسانية الحصرية انعكاسًا لظروف الإيمان الموجودة سابقًا في الغرب "لقد انتقلنا من عالم تم فيه فهم الامتلاء بشكل غير مشكوك فيه بوصفه خارج أو" ما بعد "الحياة البشرية، إلى عصر متضارب يتم فيه تحدي هذا التفسير من قبل الذين يضعونه داخل هذه" الحياة".[30] ومن ثم فإن التحول الحاسم  الذي حصل في الغرب هو أن النزعة الإنسانية الحصرية القائمة على الإيمان بإطار محايث مغلق للتجربة والرفض المقابل لأي لجوء الى التعالي الروحي والديني قد تحول إلى خيار ومرموق للغاية يمكن الوصول إليه.

يلفت تشخيص تايلور للعصر الحديث الانتباه إلى التكلفة الأخلاقية والسياسية للنزعة الإنسانية الحصرية.[31] إنه مهتم كما في كتاباته المبكرة بتعديل ما يعتبره وجهة نظر مبتورة وذاتية للحداثة وكذلك حسابات للعقل الأداتي من أجل بناء وجهة نظر أكثر ثراءً للحرية والعقلانية والمجتمع الحديث. تتجاهل شبه هيمنة النزعة الإنسانية الحصرية في الغرب تعددية المعتقدات الدينية وأهمية البحث الروحي عن الخير الذي تجسده؛ ونتيجة لذلك، فإنها تؤدي إلى حياة أخلاقية وسياسية فقيرة، ومبعثرة المصادر الأخلاقية والروحية والدينية، وتفتقر إلى التماسك. إن اختزال الفهم البشري إلى الجوانب الحسابية والإجرائية للعقلانية يسيء الى تمثيل العلاقات الجماعية التي تقوم على على التضامن وعدم المعاملة بالمثل،[32] ويميل إلى تقويضها، فضلاً عن تجربة اكتشاف الذات والتحول والتطلع إلى الامتلاء. فكتاب "عصر علماني" إذن هو نداء لاستعادة حياة الروح (هيجل) من نفوذ الحساب والعقلانية الأداتية وإعادة الاتصال بالمصادر الروحية الأخلاقية للخيال والتضامن الدينيين .[33]

ج- الليبرالية الشاملة

كان رد تايلور على النزعة الإنسانية الحصرية هو "تعددية الحياة الروحية"؛ فتؤسس مقاربته الجينالوجية التشخيصية للحداثة النهج السياسي للنزاعات الجارية المتعلقة بالدين، ويهدف إلى المساهمة في التفاعل المفتوح والمصالحة بين الخيارات المختلفة في أوقات "الحروب" الثقافية والدينية.[34] يرى أن "أسطورة التنوير" قد أسست تحيزًا سياسيًا وإبستمولوجيًا يرى الدين كتهديد اجتماعي وتوجه وهمي. ويحاجج بأننا بحاجة إلى تجاوز هذه الرواية الإقصائية لتبني فهم مفتوح للعلمانية السياسية هدفه الرئيس "إدارة التنوع الديني والميتافيزيقي الفلسفي للآراء (بما في ذلك وجهات النظر غير الدينية والمعادية للدين) بشكل عادل وديمقراطي".[35] يعتقد تايلور، على عكس راولز وهابرماس، أن اللغات الدينية يجب أن تكون موضع ترحيب على قدم المساواة في العمليات التداولية للمواطنين والممثلين المنتخبين. واذا كان يتطلب حياد الدولة ألا تعطي اللغة الرسمية التي تُصاغ بها القوانين والقرارات اعترافًا خاصًا لأيً رؤية شاملة  كتلك التي تحمله "الكتب المقدس"؛ فسيكون من غير المناسب أيضًا وجود بند تشريعي ينص مثلا على قول " ماركس، الدين أفيون الشعوب"، أوقول كانط "أن الشيء الوحيد الجيد بدون شروط هو الإرادة الخيرة".[36] ياتي هذا الخط من الجدل في فكر تايلورفي سياق معين؛ كرد فعل على النزاعات التي تقسم سكان مقاطعة كيبيك الكندية حول دور الدين في المجال العام وقضايا الهوية الجماعية، والعلاقات بين الكنيسة والدولة، وإجراءات إدارة طلبات التكامل الثقافي والديني.[37] فبينما موقف الجمهورية الفرنسية في كيبيك ضد المظاهر الدينية في المجال العام، تعترف الليبرالية التعددية بالدين كعنصر حيوي للحياة الديمقراطية. كان على مشروع تايلور للمصالحة في كيبيك  أن يقدم توضيحًا لأهمية علمانية الدولة. وكان على تحليله ان يعالج  السؤال الاجتماعي التاريخي "كيف نشأت ظروف الإيمان الجديدة؟" ولا يتوقف فقط عند السؤال السياسي "ما هي أهمية علمانية الدولة في الظروف الجديدة لتعددية المعتقدات؟"

تجيب الجمهورية العلمانية على السؤال السياسي من خلال السعي النشط للفصل بين السياسة والدين كهدف مركزي للدولة. يشير تايلور إلى أن علمانية الدولة غير قابلة للاختزال  في مبدأ الفصل: فليس هذا الفصل سوى بُعد واحد من أبعاد العلمانية، ولكن تحويله الى هدف أو غاية أمر مشكوك فيه معياريًا وضار عمليًا. أولاً، إن إضفاء الطابع المطلق على الفصل النموذجي للجمهورية الفرنسية ليس محايدًا من الناحية المعيارية: تقوض العلمانية، أبعاد الهويات والخصوصيات من نشاط الدولة، والمبادئ العقلية الأساسية لحرية الضمير والدين. ثانيًا، يولد النموذج العلماني مزيدًا من الإحباط والانقسام من خلال تجاهل حقيقة أن التكامل الاجتماعي يتحقق عن طريق المعرفة والتبادلات بين المواطنين وليس عن طريق تهميش الآخر أو تقييده.

يحاجج تايلور بأن علمانية الدولة هي ممارسة متعددة المستويات تتسم بالتوترات والمعضلات الداخلية.[38] فغالبًا ما يتم الخلط بين مستويين: مستوى المبدا الأساسي الأخلاقي الذي يتشكل من خلال أهداف الدولة العلمانية؛ والمستوى المؤسسي المكون من وسائل تحقيق هذه الأهداف. تتضمن العلمانية، على المستوى المؤسسي، مبدأين أخلاقيين يتعلقان بمجال القيم التأسيسية والأخلاق الأساسية، ويرددان وجهة نظر تايلور المبكرة عن السياسة المتشعبة للأعتراف بالاحترام المتساوي وبالاختلاف. فالمبدأن الأخلاقيان اللذان يشكلان غايات الدولة العلمانية هما الاحترام المتساوي لحرية الضمير والدين. ليست هذه المبادئ في وئام دائمًا؛ فيمكن أن تنطوي حماية حرية الضمير على الاعتراف بالاختلاف وبالتالي تتجاوز مجرد احترام  المساواة في الكرامة.

تتحقق الغايات الأخلاقية للدولة العلمانية من خلال مبدأين أو ترتيبات مؤسسية: الفصل بين الدولة والدين وحياد الدولة فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية والعلمانية. الانفصال والحياد هما وسيلتان تسعى من خلالهما الدولة العلمانية إلى تحقيق أهدافها، ويمكن أن يكونا في حالة توتر أيضًا. لا يعني المزيد من الحياد مزيدًا من الانفصال بالضرورة: لا تتطلب المعاملة المحايدة للأشخاص من معتقدات مختلفة الفصل دائمًا ولكنها تتضمن اعترافًا عامًا نشطًا بالأعباء المحددة الناتجة عن وجود معتقدات محددة أحيانًا. كحالة المسلمين على سبيل المثال في فرنسا الذين، وفقًا للدراسات التجريبية، يواجهون عوائق كبيرة في سوق العمل.[39] لا تقوم سياسات الدولة العادلة لمعالجة هذا الوضع التمييزي على زيادة فصل الدولة عن الدين ولكن على مشاركته النشطة. يجب استخدام المبادئ المؤسساتية اعتمادًا على فائدتها وعدالتها في تحقيق الغايات الأخلاقية للدولة العلمانية، وليس العكس. إن العيب الرئيس في النموذج العلماني هو تحويل الوسائل إلى أهداف. فكانت نتيجة بالعكس حيث اصبح الانفصال والحياد كآليات مؤسسية فتنة على حساب الغايات الأساسية للدولة العلمانية.

يتصور تايلور، أن هذا الإطار الليبرالي التعددي يتضمن نوعين من التكييف يتوافقان مع المواطن والطريق القانوني الذي يٌتخذ.[40] يهدف مسار التكييف مع المواطن إلى نزع الشرعية عن الدين ومنح السلطة للمواطنين وتمكينهم. ويعتمد مسار التعديلات غير القانونية على التفاوض والحوار والبحث عن حل وسط. وهدف ذلك إيجاد حل يرضي الطرفين. بينما يكون المسار القانوني هو الحل الوحيد المتاح أحيانًا، إلا أنه يكون طريق المواطن إلى التفاوض والتسوية هو الأفضل في جميع الحالات الأخرى.[41] ومع ذلك ليس من الممكن تجنب المحاكم دائمًا.  يجب أن تتوافق مطالبات الاعتراف مع الإجراءات الرسمية المقننة التي تحدد الفائز والخاسر بموجب المسار القانوني للتسهيلات المعقولة. إن "التسهيلات المعقولة" مصطلح قانوني ظهر بداية مع قوانين العمل، وينطبق على مجالات مختلفة، بما في ذلك الدين.

يوفر تايلور أساسًا فلسفيًا لهذا الفهم فيما يتعلق بالمعتقدات الأساسية. وتعكس  حجته هذه  سياسات الأعتراف المبكرة التي قال بها إلى حد كبير. وتهدف وجهة نظره إلى مواجهة بعض أشكال التمييز التي اعتبرتها المحاكم غير ذات تأثيرمباشر؛ فتشير إلى قواعد عامة (الأوضاع والقوانين وما إلى ذلك) التي لا تستبعد مسبقًا أو تهمش أو تتكبد مشقة أو تكلفة لا داعي لها على أي فرد أو مجموعة ومع ذلك لها آثار تمييزية غير مباشرة تجاه الأفراد بسبب سمات معينة مثل الإعاقة الجسدية أو العمر أو المعتقد الديني. تتطلب هذه الحالات علاجات تفاضلية وليست تفضيلية.[42]

تنشا تدابير المواءمة أو الأنسجام لأسباب دينية من نفس المنطق المتعلق بالتمييز غير المباشر. لكن هل تقف الادعاءات الدينية بالاعتراف على قدم المساواة مع الادعاءات  التي تستند إلى أسباب متعلقة بالصحة؟ تم تطوير إجابة تايلور الإيجابية بشكل معاكس: إن عدم الاعتراف بالاختلاف الديني يمثل نوعًا من الأذى.[43]

ليس الدافع وراء هذا الموقف هو يجب أن تمنح الدولة اعترافًا خاصًا بالدين، ولكن يجب أن تعترف بالمعتقدات الأساسية باعتبارها حيوية لتطوير الهوية والحياة المتكاملة. ويشير تايلور إلى أن المعتقدات الدينية ليست خاصة في حد ذاتها، لكنها تمثل نوعًا من المعتقدات الأساس. إذا كان لابد من استيعاب الادعاءات الدينية والاعتراف بها، فهذا ليس بسبب كونها دينية، ولكن كونها معتقدات أساسية- أي معتقدات مكونة للهوية، والشعور بالكمال، وإدراك الحرية وتحققها. تختلف المعتقدات الأساس بشكل قاطع عن المعتقدات والتفضيلات الذاتية بسبب الدور الحيوي الذي تلعبه في الهوية الأخلاقية للأفراد ونزاهتهم وكمالهم؛ إنها تسمح للناس ببناء هويتهم الأخلاقية وممارسة قدرتهم على الحكم في عالم القيم فيه محتملة وخطط الحياة متعددة وغالبًا ما تتنافس مع بعضها البعض. تعتمد النزاهة الأخلاقية، بالنسبة إلى تايلور وماكلور، على درجة التطابق بين أفعال شخص واحد وما تعتبره واجباته والتزاماته الأكسيولوجية. نظرًا إلى الأهمية الحاسمة للاعتراف "كلما زاد ارتباط الاعتقاد بإحساس الفرد بالنزاهة الأخلاقية، كلما كان شرطًا لاحترامه لذاته، ويجب أن تكون الحماية القانونية التي يتمتع بها أقوى".[44] إذا كان الاعتقاد مبنيًا على تقييمات قوية ويساهم في "إعطاء معنى وتوجيه لحياتي" باعتباره "شرطًا لأحترام الذات"،[45] عندئذٍ يمكن أن يولد التزامًا بالتكيف إما من خلال توسيع القاعدة القائمة، أو من خلال الإعفاء منها. لذلك يمكن أن يكون التكييف مطلوبًا من أجل تجنب الأذى، أي لتعزيز النزاهة الأخلاقية والامتلاء والحرية الفردية. قد يشمل هذا الفضاء من الإدراك الذاتي والامتلاء احترام الخيارات الدينية التي تقصر تطوير بعض القدرات الشخصية، حيث تدعو بعض الأديان إلى التحول الجذري والتغلب على الذات.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

........................

[1] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of tl1e Modem Identity. Cambridge, MA: Harvard University Press.335-336.

[2] Taylor, C. (2007a) A Secular Age.16.

[3] لا يعرِّف تايلور "الروحانية" ، حتى لو كان ذلك مركزيًا في تشخيصه للحداثة ولسياسة الحداثة . ويبدو أنه يشير ضمنيًا إلى أنه مثلما لا تحتاج الحياة الروحية إلى أن تكون دينية ، فإن الحياة الدينية يمكن أن تكون خالية من الروحانية (كما هو الحال في التطبيق الميكانيكي للقواعد والإجراءات الدينية). يميز تايلور بين الفهم السطحي والعميق للروحانية.

Taylor, C. (2007a) A Secular Age.38-40

لتحليل أكثر منهجية للروحانية أنظر:

Comte-Sponville, A. (2012) The Little Book ef Atheist Spirituality. London: Penguin.

[4] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?" 22-23

وهذا ما يسمى في مصادر الذات وكتابات أخرى "تأكيد الحياة العادية". يقول تايلور: إن ما كنت أحاول أن أشير إليه بهذا المصطلح هو الثورة الثقافية في الفترة الحديثة المبكرة ، والتي أزاحت الأنشطة العليا للتأمل من حياة المواطن ووضعت مركز ثقل على الخير في الحياة العادية والإنتاج و الأسرة. وينتمي إلى هذه النظرة الروحية إلى أن اهتمامنا الأول يجب أن يكون زيادة الحياة وتخفيف المعاناة وتعزيز الازدهار. هذا الارتباط ، الذي يشكل مكونًا رئيسيًا في نظرتنا الأخلاقية الحديثة.

[5] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?23.

[6] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?27.

[7] يقول تايلور: "المنظور الروحي سوف يفترض أنه في مكان ما ، في أعماقنا ، سنشعر بالانجذاب للاعتراف والعيش فيما يتعلق بما يعرفه على أنه واقع روحي". ما يعنيه تايلور بعبارة "الواقع الروحي" يبقى ، مع ذلك ، غير محدد انظر:

Taylor, C. (2007a) A Secular Age. 620.

[8] Taylor, C. (2007a) A Secular Age. 530

يمكن للتركيز على التعالي وخير ما وراء الحياة أن ينفصل عن أحد الجذور الدينية ، ألا وهو الافتتان بالعنف والموت. يقول تايلور: إنني أميل إلى التكهن أكثر وأقترح أن قابلية الإنسان الدائمة للفتن بالموت والعنف هي في الأساس مظهر من مظاهر طبيعتنا كدينيين. من وجهة نظر الشخص الذي يعترف بالتعالي ، فهو أحد الأماكن التي يذهب إليها هذا الطموح بسهولة أكبر عندما يكون ممتلئًا ليأخذنا إلى هناك. هذا لا يعني أن الدين والعنف مجرد بدائل. على العكس من ذلك ، فقد عنى أن معظم الأديان التاريخية كانت شديدة التعقيد مع العنف ، من التضحية البشرية إلى المذابح الطائفية. يبقى معظم الدين التاريخي موجهًا بشكل ناقص للغاية إلى ما بعده. إن الصلات الدينية لعبادة العنف بأشكاله المختلفة واضحة بالفعل. ما قد يعنيه ذلك ، مع ذلك ، هو أن الطريقة الوحيدة للهروب تمامًا من الانجذاب نحو العنف تكمن في مكان ما من الورم إلى التعالي - أي من خلال الحب الخالص لبعض الخير ما بعد الحياة.

Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?28-29.

[9] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity? “, 20.

[10] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?",: 21.

[11] Taylor, C. (2007a) A Secular Age. 430.

[12] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.818, n. 23.

[13]Taylor, C.(2007a) A Secular Age.143.

[14] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity? “: 21.

[15] Taylor, C. (2011f) Dilemmas and Connections: Selected Essays. Cambridge, MA: Harvard University Press.17.

[16] Gandhi, M. (1993) An Autobiography: The Story of my Experiments with Truth. Boston, MA:

Beacon Press.

[17] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity? “: 21.

[18] يرى تايلور  أن هذه الرؤية تتجاهل أيضًا مساهمة الإرث اليهودي المسيحي في تكوين الحداثة السياسية - على سبيل المثال. الفكرة الرئيسية للحقوق غير المشروطة كـ "إطالة أمد الإنجيل".

Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity? “: 56.

[19] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.7.

[20] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.3.

[21] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.3

[22] وهي التي تمنع الأشخاص  غير المتوافقين  أو العدائين من الأتصال أو الأضرار ببعضهم البعض.

[23]Taylor, C.(2007a) A Secular Age.566.

[24] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?",: 19.

[25] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?

[26] تمرد نيتشه على فكرة أن هدفنا الأسمى هو الحفاظ على الحياة وتحسينها، لمنع المعاناة. إن فهم نيتشه للحياة المعززة، والذي يمكن أن يؤكد نفسه تمامًا، يأخذنا إلى ما وراء الحياة أيضًا، ويشبه في هذا المفاهيم الدينية الأخرى للحياة المعززة (مثل "الحياة الأبدية" في الأديان  ذات التقليد الإبراهيمي). لكنه يأخذنا إلى أبعد من ذلك بدمج الافتتان بإنكار الحياة والموت والمعاناة. إنه لا يعترف ببعض الخير الأسمى وراء الحياة، فيرى نفسه بهذا المعنى أنه مناقض للدين تمامًا.

Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity? 27-28.

[27] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?",: 28.

[28] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.455.

[29] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.566.

[30] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.15.

[31] طور تايلور فكرته القائلة بأن الفهم المبتور للحداثة والعقلانية (التي تعتبر الليبرالية السائدة فيها عمومًا) يهدد جوهر المشروع الديمقراطي الليبرالي ، أي الحرية الشخصية. كما يجادل تايلور ، "الأسبقية الميتافيزيقية للحياة خاطئة وخانقة. استمرار هيمنتها يعرض الأولوية العملية للخطر".  Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?",29.

[32]   يشير تايلور  في كتابه " عصر علماني" إلى أن الدين وحده هو القادر على "توفير" تجارب عدم المعاملة بالمثل هذه. لكن تجارب العطاء والتسامح والصدقة ليست بالضرورة تجارب دينية. بشكل عام ، يشير تايلور فقط إلى أهمية عدم المعاملة بالمثل بالنسبة للممارسة الأخلاقية ، وهي فكرة تتناقض مع نماذج الأخلاق والسياسة القائمة على المعاملة بالمثل عند راولز وهابرماس.

[33] Gagnon, B. (2014) "Reconciling Diversity and Solidarity? A Critical Look at Charles Taylor's Conception of Secularism", in Requejo, F. and Ungureanu, C. (eds) Law,  Religion  and  the State. London and New York: Routledge: 106-120.

[34] Bouchard, G., and Taylor , C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences , Building the Future : A Time for reconciliation. R eport".www.mce.gouv.qc.ca/publications/CCPARDC/ rapport-final-integral-en.pelf (last accessed 29 March 2017).

-Stepan, A. and Taylor, C. (eds) (2014) The Bo1mdaries of Toleration. New York: Columbia Uni­versity Press.

يظل التضامن والتماسك محوريين في مشروعه: فهما لا ينبثقان من إجبار الخصوصيات (الدينية) على المجال الخاص ، ولكن من تفاعلهما المتبادل وتعلمهما وحوارهما في المجال العام.

Gagnon, B. (2014) "Reconciling Diversity and Solidarity? A Critical Look at Charles Taylor's Conception of Secularism"

[35] Taylor, C. (2014) "How to Define Secularism", in Stepan, A. and Taylor, C. (eds) Bo,mdaries of

Toleration. New York: Columbia University Press: 59- 78.59.

[36] Taylor, C. (2014) "How to Define Secularism",72.

[37] Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation.

[38] Taylor, C. (2011f) Dilemmas and Connections: Selected Essays.

[39] Connor, P. and Koenig , M. (2015) "Explaining the Muslim Employment Gap in We stern Europe: Individual-level Effects and Ethno-Religious Penalties", Soda/ Science Research 49: 191-201.

Silberman, R., Alba, R., Fournier, I. (2007) "Segmented Assimilation in France Discrimination in the Labour Market Against the Second Generation", Ethnic and Radal Studies 30(1): 1- 27.

[40] Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation.

[41] Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation.19.

هذا جيد لأسباب مبدئية وعملية: من الجيد أن يتعلم المواطنون أنفسهم كيفية إدارة خلافاتهم واختلافاتهم وتجنب ازدحام المحاكم. إن "الروح" والقيم التي يقوم عليها طريق المواطن (التبادل والتفاوض والاعتراف المتبادل) تعزز المجتمع السياسي. يتيح هذا المسار للشركاء "الانخراط في مفاوضات تؤكد في نفس الوقت على نهج سياقي وتداولي" للقضايا الخلافية. يعد السياق ملائمًا لأنه يأخذ في الاعتبار "الطبيعة الفريدة للحالات الفردية". يمكن للمشاركة المتبادلة أن تغذي التفكير والحوار ، في حين أن المنطق القانوني الثنائي للفوز / الخسارة يمكن أن يولد الاستقطاب ويؤدي إلى الانهيارات التواصلية.

. Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices

Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation.168.

[42] Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation.161.

[43]  مثال ذلك النظر في قضية تحريم ارتداء اللحى على ضباط الشرطة. يبدو أنه من غير المقبول أن يتمتع شخص ما بإعفاء من القاعدة العامة إذا كان يعاني من حالة صحية تتطلب منه إطلاق لحيته لتجنب الأذى الجسدي. لكن هل المزاعم الدينية لإطلاق اللحية تتساوى مع الادعاءات التي تنطوي على مشاكل صحية؟ هذا هو السؤال في القضية الأمريكية الأخوية للشرطة ضد مدينة نيوارك (1999) ، حيث اعترض ضابطان مسلمان سنيان على القاعدة ، مستشهدين بمعتقداتهم الدينية كمبرر. حكم قاضي المحكمة العليا صموئيل أليتو ، الذي كان قاضي استئناف فيدرالي في ذلك الوقت ، لصالح الضابطين ، مشيرًا إلى إعفاءات مماثلة تم تقديمها في الماضي لأولئك الذين يعانون من أمراض جلدية. يتفق تايلور وماكلور مع هذا الموقف حيث : يمكن أن يؤدي سوء التعرف على الادعاءات الدينية ذات الصلة إلى ضرر متساوٍ.  قد تختلف طبيعة الضرر- رمزي أو معنوي - ومع ذلك فالضرر هو ضرر.

Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of conscience. Cambridge, MA: Harvard University Press,77.

[44] Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of C onscience,76-77.

[45] يتناسب مفهوم تايلور مع إجماع راولز المتداخل ، إلا أنه يصل إليه من خلال مسار اجتماعي تاريخي مختلف.

إنَّ النظرة التاريخية في اطار تحديد ملامح الهوية لشعب ما هو قائم على صيغ من الحفر المعرفي في نتاجات الشعوب التي تميزها عن غيرها في ضوء علل حدوث الوقائع التاريخية وأسباب نشوئها، من أجل التعرف على هذه المسببات ودراستها، أي أرجاع كل حدث الى أسبابه في طور بحث المحركات المعرفية لهذه الأحداث والوقائع وصمودها لفترات طويلة على الرغم من عمل الآخر المغاير على محاولة محوها أو تغيير مسارها لصالحة، لكن ثباتها يعني أنها تمتلك مقومات البقاء تاريخياً، كونها حية في أنتاجها المعاصر لها،والهوية الجمالية في تفوقها التاريخي لا تأتي من كون أن في الحضارات الأخرى لا يوجد منافس لها، لكنها أكثر ثراء في مرتكزاتها المعرفية، التي انتجت مفاهيم قادرة على الاستمرارية في قابل الأزمان، وأنتجت سلطة معرفية واعية بحقيقة معاصرتها للمفاهيم الأخرى، لذا عملت على تشكيل وعي جمالي في أطاره التاريخي مما جعل غائيتها التاريخية قائمة على رغبتها في الأستمرار . وتعد الهوية الجمالية الإغريقية في أطارها التاريخي مشروع وعي قائم على مرتكزات سلطة معرفية واعية بحقيقة ما أنتجته من مفاهيم على وفق تكاملها مع النتاجات الفنية المختلفة وأطرها النافدة في الوعي الجمالي المؤسس لهذه الهوية الجمالية.

لقد تجسدت الأبعاد الثلاثة في مقومات للهوية الجمالية في الفكر الإغريقي على وفق الرؤية للغائية التاريخية التي أصبحت معها الهوية الجمالية الإغريقية هي المعيار الذي يعد صورة من صور التفوق في المجال التاريخي . أنَّ هذه الأبعاد التي تجسدت في الجسد الجمالي للهوية في بعدها الثقافي للفرد والجماعة، والكوجيطو الفكري الذي أنتج ثقافة ذات دلالات معرفية جمالية في أطار الفنون الجميلة، والبعد الوضعي في أنتاج مجتمعات قادرة على هضم نتاجات الفنون في أطارها الجمالي الذي رافقه التمركز حول الذات القادرة على بناء بيئات فكرية أنتجت رؤية جمالية لتلك الهوية في بعدها التاريخي، مما جعل الهوية الجمالية هي التاريخ وهي الثقافة وهي السلوكيات الأجتماعية لوضع الجماعات في ذلك الزمن المنتج للفن والجمال، كون الفن المنتج في تلك الحقبة هو من جعل الممارسة الجمالية قابلة للتطور على وفق الرؤى المتعددة في ظاهرها والمتوحدة في مضمونها عند الإغريق .

إنَّ فعل التمركز حول الذات العارفة بالمنتج الفني والثقافي قائم على فعل البحث في أنتاج هوية ذات ملامح تاريخية قادرة على تبيان هذا التمركز وأهدافه القارة في الذات، من خلال خطابات بعيدة المدى الفكري والثقافي والجمالي، فهي تؤسس لمعطى جمالي بعيد الآفاق والرؤى لتكوين وعي فكري جمالي يدخل في تأسيس وتثبيت الهوية الجمالية، لذا فإن قراءة الأفكار الجمالية الإغريقية في فلسفاتها المختلفة تعد من الروافد الداعمة للوجود الكلي للمعطى الجمالي الذي يؤسس للهوية في أطارها الفكري والثقافي، وما يسور ويجمل فكرة الذات المؤسسة لهذه الهوية في تكوينها الكلي الداعم لفكرة التفوق الثقافي على الآخر، ليس في آنية زمنية ضيقة، لا بل في صراعات ثقافية مستمرة مع الآخر الذي تتعدد صورة وأمكنته تبعاً لمراحل الصراع التاريخية.

إنَّ من مميزات الهوية الجمالية في أطارها التاريخي الذي يترتب عليه مجالات البحث في تاريخ النظرية الجمالية بحثاً في مكونات الوعي الجمالي عند الانسان ومظاهره المختلفة. وهذا الوعي المعرفي بما هو جميل يعطي للفن والتاريخ مقارنة تدخل في كون أحدهما قد توازى معرفياً مع الآخر في تبيان الهوية الجمالية في أطارها الثقافي ، كون أن الفن هو جزء من تاريخ الأمم وجزء من ثقافتها، والأفكار التي رافقت الفن في أنتاج الهوية الجمالية، قد قيدت تفاصيل مهمة للتاريخ والفن مما أصبحت هذه الأفكار هي الوسط الناقل للطرفين على الرغم عدم تواصلهما زمانياً في لحظة أنتاج الفن والتاريخ، فالتاريخ يدرس الوقائع، ولفن يرسم ما هو واقع في بعض أعماله، وما هو متخيل في أعمال أخرى، والرؤية الجمالية تقع ما بين الواقع في أطاره التاريخي والمتخيل في أطاره الفني، وهنا تكون الهوية الجمالية مرتبطة بالطرفين ومتحررة من كل واحد منهما بما يفقده لدى الأخر، فالتاريخ لا يؤمن بالخيال، هو يعتمد على الوقائع وما يحدث فيها، والفن لا يؤمن بكل ما هو في الواقع والوقائع، بل هو يبحث عن المستقبل في تجسيد الاشياء، والكن الهوية الجمالية هي قراءة متحررة من الأرتباط الكلي للطرفين معاً، ويقع الأختلاف في الرؤية الجمالية لدى فلاسفة الإغريق الذين تعددوا في طرحهم الجمالي قياساً للواقع، أو الوقائع، وتطوير الحياة من جهة، وبين ما هو عكس ذلك، فجمالية التناسب الهارموني عند فيثاغورس عمل في تقديم رؤية لموضوعات حول قضايا الفن في اليونان القديمة على وفق الرؤية المثالية، على خلاف نسبية هيرقليطس المادية في رؤيته للفنون على وفق التراتبية بين الموجودات، وكذلك الرؤية الأفلاطونية التي ترى في المحاكاة رؤية تختلف عن الرؤية الارسطوطالية التي وضحناها في الفصل السابق . والهوية الجمالية تمتلك مسافة بين طرفين الفن والتاريخ تكون فيها قادرة على أن تكون رؤية متحركة غير جامدة من الممكن أن تهيمن في بعدها التاريخي على حقب زمنية وتاريخية متقدمة ومتعددة، أعطتها سيطرة مطلقة على دارسي الجمال وتاريخه، والمشتغلين في تاريخية المنجز الفني في أكبر المحافل الفنية الى الوقت الحاضر، بل حتى أنها أثرت على عدد كبير من الفلاسفة الذين اعتمدوا الرؤية الجمالية الإغريقية، أو بنوا نظرياتهم الجمالية على وفق الفنون الإغريقية والهوية الجمالية لهذه الفنون، وما رؤية (هيغل) ببعيدة عن روحه المطلقة وميزات الفن الكلاسيكي في تجليات هذه الروح .

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

مقدمة: الليبرالية والتأويل النقدي للحداثة الغربية

يهدف دفاع تشارلز تيلور عن الليبرالية إلى تقديم تصحيح منهجي وموضوعي لشكل مؤثر من الليبرالية يركز على منهجية فردية، حقوق الفردية، حياد صارم، ومفهوم تجريدي للعقل. إن هدف تايلور هو استعادة أهمية ودورالمجتمع، والخير العام أوالصالح العام، والاعتراف بالأختلاف من أجل تطوير نظري لليبرالية التأويلية تهدف الى حل النزاعات الفعلية التي تنطوي على مطالب الأعتراف القومية والدينية والثقافية وغيرها.[1]

يمكن فهم ليبرالية تايلور بوصفها أحد ابعاد مقاربته الشاملة للمشاكل الفلسفية. وتقوم ليبراليته على أرضية الأستنطاقات الأنطولوجية والاجتماعية والتاريخية فيما يتعلق بالهوية والمعنى واللغة والإيمان والعمل البشري والعلمنة و الحداثة. يرى تايلور أنه لا يمكن تطوير التعامل مع القضايا الفلسفية بشكل مجرد، ولكن يجب القيام بذلك من خلال وضعها في سياقها الاجتماعي والتاريخي؛ وعليه، تعتمد الفلسفة على مجموعة من التخصصات والمصادر،أي: النظرية الاجتماعية والتاريخ وعلم اللغة وعلم الاجتماع والدراسات الدينية والأنثروبولوجيا. يتسع نطاق الأستنطاقات السياسية-الفلسفية، ويتغذى من الأفكار الوجودية والاجتماعية والتاريخية حول الأوضاع الحديثة. فيصبح الفهم الصحيح للأهمية السياسية لأسئلة مثل "ما هو مكان الدين في الديمقراطية؟" و"إلى أي مدى يجب أن نعترف بالمؤمنين ونمنحهم التسهيلات؟" جزءًا من تأويل الحداثة.

يقدم اثنان من أوائل كتب تايلور التاريخية، هيجل (1977) وهيجل والمجتمع الحديث (1979)، دليلًا حاسمًا على أن تأويلات هيجل للحداثة ذات أهمية حتى يومنا هذا. ينطبق قول هيجل الشهير فيما يتعلق بالفرد بأنه أبن عصره على الفلسفة باعتبارها بنت عصرها، العصر الذي أنتج به هذا الفكر.[2] يستوحي تايلور هذه الرؤية، فيقدم تفسيرًا تاريخيًا يهدف إلى استعادة "حياة الروح" من الرؤية المبتورة للحداثة، ومتخليًا في الوقت نفسه عن الزخارف الميتافيزيقية للهيجلية. لأنه يعتبر هذه الرؤية للحداثة مبنية على مفاهيم اختزالية للعقلانية والمجتمع السياسي فتولد الانحلال والسخط والعزلة. ينتقد تايلور، على خطى هيجل، أي محاولة حديثة لبناء نظرية مجردة للعقلانية منفصلة عن السياق والتاريخية- أي، كما هي العقلانية الإجرائية للكانطيين الجدد، أو التركيز على التفضيلات الفردية في نظرية الاختيار العقلاني، أو العقلانية الأداتية للنفعية. ويقدم بدلاً من ذلك وجهة نظر تأويلية للعقل العملي لا تختزل هذا العقل إلى قواعد عامة أو تفضيلات فردية أو حسابات نفعية بل: تُشكيل العقلانية العملية- وفقا لمقاربته الما بعد هيغلية والشاملة- بشكل حواري، ومُتضمنة في العلاقات الاجتماعية والتاريخية، وفي التفاعل مع التقاليد الأخلاقية والدينية. يتمثل الهدف السياسي المركزي لمشروع تايلور ما بعد الهيجلي في التخفيف من الأشكال الحديثة من الاغتراب وبناء ديمقراطية نابضة بالحياة وشاملة لكل المجتمع من خلال الدعوة إلى الليبرالية المضيافة لتعددية الخيارات الروحية والدينية في التفاعل والتواصل المتبادل.

طور تايلور ليبراليته البديلة على مرحلتين كإجابة تفسيرية عن الصراعات العملية والمتعلقة بالتغيرات المهمة في السياق الفكري/ السياسي. أولاً، طورعمله المبكر، الذي بلغ ذروته مع "مصادر الذات": صنع الهوية الحديثة (1989) و"سياسة الاعتراف" (1994)، ليبرالية تراعي المجتمع وتؤكد على أهمية الصالح العام والوطنية، من ناحية، و"سياسة الاعتراف" بالجماعات وحقوقها من ناحية أخرى. وبهذه الطريقة،ي قدم تايلور حلًا للنزاعات الناتجة عن طلب الاعتراف، ويأخذ اقليم الكيبيك في كندا كمجتمع وطني متميز يسعى لتحقيق مصلحته كمثال على ذلك. ويهدف هذا الحل الذي قدمه تايلور كما في هذا المثال إلى شكل من أشكال المصالحة يتجنب إجابتين متعارضتين: إما انفصال كيبيك أو مجتمع كندي غير حساس لخصوصية كيبيك. طور تايلور في مرحلة ثانية بدأت في منتصف التسعينيات وبلغت ذروتها مع كتاب "عصر علماني" (2007) ليبرالية التوفيق والمصالحة كإجابة عن سياق يتميز بالصراعات المتعلقة بالدين في كندا والديمقراطيات الغربية الأخرى ويركز على إضفاء الطابع الفردي على الحياة الروحية والدينية.

سوف نتعامل في ما يلي مع مرحلتين من ليبرالية تايلور (1-2) مع الأخذ في الاعتبار ثلاث مستويات مختلفة لمقاربته الشاملة للقضايا الأنطولوجية- السياسية والاجتماعية- التاريخية. يحدد تايلور في الفترة المبكرة من أعماله العناصر الأساسية لنهجه تجاه الدين والديمقراطية وأن لم يكن الدين قضية مركزية في المرحلة. يضع تايلور في المستوى الأول من مقاربته الشاملة الخطوط العريضة لأنطولوجيا الأخلاق التي يكون فيها البشر "حيوانات ذاتية التفسير"-كما يطلق عليه- حيث تُبنى هوية كل فرد بشكل حواري مع الآخرين في المجتمع.[3] يتسم تكوين الهوية بالتوجه نحو الخير القائم على تقييمات قوية؛[4] ويتميز تكوينها في عمله اللاحق الذي يلعب فيه الدين دورًا رئيسيًا أيضًا بالحاجة الحيوية لتجارب الامتلاء والتعالي.[5]

يقدم تايلور في المستوى الثاني من مقاربته تفسيرًا لظهور العلمانية في الغرب فيرى أنها: لا تظهر كنتيجة للانحدار التدريجي للدين ولكن للتحول التاريخي الذي يلعب فيه الدين دورًا مهمًا.[6] يعالج تايلور في المستوى الثالث، المسائل القانونية والسياسية المتعلقة بمعنى العلمانية في الغرب، وأسباب منح الاعتراف والتوافق مع المعتقدات الدينية. تتمحور الليبرالية الهيرمينوطيقية (التاويلية) لتايلور[7]على الاعتراف[8] بالأختلاف الديني وتكييفه المعقول.[9] سوف ندرس العواقب القانونية والسياسية لليبرالية الشاملة لتايلور مع التركيز على الدين. وسنقوم بتحليل تكيفه بشكل نقدي من خلال مقارنته بالموقف الليبرالي الحيادي المؤثر الرافض عمومًا للتكيف الديني.

1 عمل تايلور المبكر: من الأنطولوجيا الأخلاقية إلى الليبرالية الحساسة للمجتمع

تركزهيرمينوطيقيا (التأويل) تايلور على الحداثة، ومبنية على سياق أنطولوجي أخلاقي مستقل أو أنثروبولوجيا فلسفية.[10]إن انطولوجيا تايلور شاملة بطبيعتها، أيً تتميز بفهم الأجزاء بوصفها مترابطة بشكل وثيق وقابلة للتفسير بالرجوع إلى الكل فقط. وقد تم تطويرها في مجموعة متنوعة من الأعمال منذ السبعينيات حتى منتصف التسعينيات، بما في ذلك عمله الأكثر طموحًا مصادر الذات (1989)؛ وهو مزيج من التحليل المتعالي للهوية وإعادة بناء المراحل التاريخية لتشكيل الهوية الحديثة لدعم تفكيره في السياسة.

ا- الأنطولوجيا الأخلاقية: تكوين الهوية، والتقييمات القوية، والخير

ترتبط الأنطولوجيا الأخلاقية، بالنسبة لتايلور، ارتباطًا وثيقًا بالطريقة التي نتفلسف بها حول السياسة. يرى بأن موقف المرء من القضايا الأنطولوجية لا يحدد موقفًه بشأن قضايا سياسية معينة. و"يمكن الجمع بين أي من موقفين في النقاش حول الذرية أو الكلية[11]( الشمولية) مع أي موقفين بشأن مسألة الجماعي - الفردي" والانقسام الليبرالي / غير الليبرالي.[12] لكنه يلفت الانتباه الى طريقة وصول القضايا أنطولوجية الصحيحة إلى المسائل الحيوية التي يتم تجاهلها من قبل الليبرالية الإجرائية والذرية السائدة.[13] فغالبًا ما يمكن إرجاع الميل الليبرالي لتقليل أهمية الجماعة والخير العام إلى مفاهيم أنطولوجية مسبقة؛ وهذا ميل يعكس نزعة فردية للحداثة الغربية توهن وتقطع المجتمع السياسي من الداخل.[14]

تُعالج مشاكل الهوية والسياسة بشكل أكثر ملاءمة من خلال البناء على الأنطولوجيا الحوارية التي تأخذ في الاعتبار الأهمية الحيوية للمجتمع، والاعتراف المتبادل والتواصل لتشكيل الهوية. تحدد الهوية " فهم الشخص لنفسه مَنْ يكون، وخصائصه الأساس المُعينه له كإنسان".[15] لا تشير كلمة "حواري" إلى تبادل الحجج المجردة (كما طرحها هابرماس)، بل إلى عمليات مجسدة للتفاعل التواصلي والاعتراف. غالبًا ما يتم التوسط في هذه العمليات من خلال اللغة، وأحيانًا من خلال المحاججة.[16] اننا "نعبر/ ونشكل علاقات مختلفة قد نقف فيها مع بعضنا البعض في: حميمة، رسمية وظيفية، عفوية، مزاح، جديًة، وما إلى ذلك" من خلال الانخراط في العلاقات الحوارية كأعضاء في المجتمع.[17] تُبنى هذه الأشكال الشائعة من التواصل على الحاجة الحيوية للأعتراف من الآخرين - أفراد الأسرة والأصدقاء والعشاق والمواطنين. حتى النساك الذين يبدو أنهم يتخلون عن الحاجة إلى الاعتراف هم في علاقة حوارية مع الله وكذلك في حوار داخلي دائم مع أنفسهم.[18]

تتضمن عملية تشكيل الهوية التوجه نحو الخير؛ يقوم هذا التوجه على التمييز بين القيم العليًا / الدنيًا والأفضل / الأسوأ. فبالنسبة الى تايلور، "جزء حيوي من معرفة من أنا هو معرفة موقفي".[19]ويشير إلى هذه الفروق على أنها تقييمات قوية؛ تتجاوز نطاق التفضيلات الفردية ولا يمكن تفسيرها على أنها مجرد تعبير عن الرغبات الشخصية.[20] التقييمات القوية هي تمثيل للتقييمات من الدرجة الثانية التي تعطي مضمون لمفاهيم الخير: نختبر رغباتنا وأغراضنا بوصفها تمييز أو اختيار نوعي، مثل أعلى أو أدنى، نبيل أو أساسي، موحدة أو مجزأة، مهمة أو تافه، جيدة أوسيئة. وهذا يعني أننا نختبر بعض رغباتنا وأهدافنا باعتبارها أكثر أهمية وجوهرية من غيرها.[21]

ترتبط مفاهيم الخير هذه بالتمييز بين نوعين من ردود الفعل البشرية، أي الطبيعي والأخلاقي: فالغثيان، على سبيل المثال، هو رد فعل سلبي مباشر لشيء مثير للاشمئزاز؛ على العكس من ذلك، يتم التوسط في رد الفعل الأخلاقي من خلال مفردات تفسيرية أو إطار أخلاقي يشكل تجربتنا ويرتب قيمنا. إن هذه الأطر ضرورية لما يعنيه أن تكون إنسانًا، وغير قابلة للاختزال في ردود الفعل العادية أو الطبيعية. مثلما نحتاج إلى إحداثيات لإيجاد طريقنا في الفضاء المادي، نحتاج إلى إحداثيات لإيجاد توجهنا في "فضاء من الأسئلة"،[22] وأكثر من ذلك ، لبناء سرد حدثي متماسك لحياتنا: "لأننا لا نستطيع إلا نوجه أنفسنا نحو الخير، ومن ثم نحدد مكاننا بالنسبة إليه، وبالتالي نحدد اتجاه حياتنا، فلا مفر من فهم حياتنا في شكل قصصي سردي، على أنه "بحث وتقصي".[23] ترتبط أطر الهوية والذات الفاعلة والقيم بعلاقة ضمنية؛ فنحن نعمل من خلال "مفردات لغة أخلاقية، ونبني حكاية للتواصل مع الآخرين"؛ وهذه "متطلبات بنيوية لا مفر منها للفاعلية البشرية".[24]

لا يمكن اختزال تكوين الهوية في الأنطولوجيا الحوارية لتايلور إلى مجرد مجموعة من الاختيارات الطوعية أو التفضيلات الذاتية ("أريد أن أذهب إلى السوق"؛ "أنا أفضل الفانيليا على آيس كريم الشوكولاتة"). نحن نعتمد باستمرار على مجموعات محددة من التقييمات القوية (إسلامية، بوذية، مسيحية، ماركسية) التي نرثها ونستوعبها كأعضاء في المجتمع. ليست هذه المجموعات من التقييمات جميعها ثايته؛ يمكننا تغيير الأطر بوصفنا كائنات قادرة على التفسير، ومع ذلك فإن ابتكاراتها لا معنى لها إلا فيما يتعلق بالمفردات والممارسات الموجودة والمعارضة لها ايضًا. لا يُقصد من حجة الأهمية الحيوية للأطر مجرد حقيقة نفسية طارئة عن البشر. ولكن القصد هو الادعاء بأن العيش ضمن هذه الآفاق المؤهلة هو أحد مكونات الذات البشرية، وأن الخروج من هذه الحدود سيكون بمثابة الخروج عما نعتبره جزءًا لا يتجزأ من الشخصية السليمة.[25]

الليبرالية المراعية للمجتمع وسياسة الاعتراف

تُعد الأنطولوجيا الحوارية أرضية دفاع تايلورعن الأهمية الحيوية للاعتراف ومطالب الهوية والخير العام. يقدم مفهوم تايلور إجابة ومبررًا للعدد المتزايد من المطالبات بالاعتراف من قبل جماعات مختلفة (قومية ودينية وجنسية، إلخ)؛ وهذه الأرضية وثيقة ذات صلة بالهوية والاعتراف والخير لما بينهم من أرتباط. لا تعود اهمية هذا الأرتباط الى مسألة تشكيل هوية المرء فقط؛ ولكن الى مسألة العدالة أيضًا.

نظرًا لأن الهوية تتشكل جزئيًا من خلال الاعتراف أو غيابه، وغالبًا ما يكون ذلك بسبب سوء التعرف على الآخرين، وبالتالي يمكن أن يعاني شخص أو مجموعة من الأشخاص من ضرر حقيقي، أو تشويه حقيقي، إذا كان يعكس عليهم الناس الآخرين أو المجتمع الذي من حولهم صورة مهينة أو مزرية عن أنفسهم. يمكن أن يؤدي عدم الاعتراف نتيجة لسوء التعرف إلى إلحاق الأذى بالأشخاص، ويمكن أن يكون شكلاً من أشكال اضطهادهم، وسجنهم في وضع زائف ومشوه ومختزل.[26]

إن إنعام النظر في عدم الاعتراف مهم من الناحية المعيارية لأنه يمكن أن يسبب "جرحًا مؤلمًا يثقل كاهل ضحاياه بكراهية ذاتية مدمرة".[27] ويترتب على ذلك أن مجرد التسامح مع أولئك الذين يدعون الاعتراف لا يكفي لتجنب إلحاق الضرر؛ فالاعتراف الواجب أن يكون اعترافًا إيجابيًا بمطالب الهوية الأساسية "ليس مجرد مجاملة ندين بها للناس. إنها حاجة إنسانية حيوية".[28]

يدعم تايلور حجته من أجل الاعتراف عن طريق التفكير التاريخي أيضًا. إن أسباب الاعتراف أكثر إلحاحًا اليوم بسبب الانتقال التاريخي من مجتمع هرمي تقليدي إلى مجتمع ديمقراطي. يتم تحديد الهوية، في المجتمع الهرمي، من خلال الوضع الاجتماعي. ويفسح ضعف هرمية المجتمع المجال للكرامة ومُثل الأصالة - أي أن يعيش الشخص حياته بطريقته ويمكنه أن يكون صادق مع نفسه دون اتباع نموذج خارجي مفروض لتحقيق الحرية.[29] تعتمد الهوية الفردية في كل من المجتمعات التقليدية والديمقراطية على الاعتراف. تم بناء الاعتراف العام في الهوية المشتقة من المجتمع بحكم أنها قائمة على تصنيفات اجتماعية يعتبرها الجميع أمرًا مفروغًا منه. وعلى كل حال، لا تتمتع الهوية الأصيلة بالاعتراف بشكل مسبق، ولكن يجب أن تكتسب.[30]

أدى تطور المجتمع الديمقراطي إلى انقسام بين مطلبين لكسب الاعتراف. جاء الأول مع الانتقال من شرف المكانة إلى الكرامة، فظهر نموذج ليبرالي لسياسة المساواة في الكرامة. وهذه بوصفها "سياسة عامة وذات صلاحية كونية تؤكد على المساواة في الكرامة بين جميع المواطنين، مضمونها المساواة في الحقوق والاستحقاقات".[31] ونشأ نوع ثان من سياسات الاعتراف عن النوع الأول، وهو سياسة الاختلاف، التي تركز على تفرد الفرد / التفرد الجماعي: هناك أساس عام-عالمي لهذا أيضًا، مما قد يجعل تداخل وألتباس بين الاثنين. قد بكون المطلوب أن يتم التعرف على كل شخص من خلال هويته الخاصة التي يتفرد بها. لكن الاعتراف هنا يعني شيئًا آخر. فما يتم تأسيسه مع سياسات الكرامة المتساوية يُقصد به أن يكون هو نفسه عالميًا، وسلة متطابقة من الحقوق والحصانات؛ أن ما يُطلب منا التعرف عليه مع سياسة الاختلاف، هو الهوية الفريدة لهذا الفرد أوالجماعة، وتميزهم عن أي شخص آخر. إن الفكرة هي هذا التمييز هو بالضبط ما تم تجاهله، أوالتستر عليه، أو استيعابه في هوية مسيطرة أو أغلبية. وهذا الاستيعاب هو الخطيئة الأساسية ضد مبدأ الأصالة.[32]

يتوافق التمييز بين معنيً الاعتراف مع أشكال أو صيغ مختلفة من الليبرالية، يقوم أحدهما على الاعتراف بالاحترام المتساوي حصريًا، ويضيف الآخر اهتمامًا بالاختلاف، الأول هو الليبرالية الإجرائية القائمة على الحقوق. الدولة الليبرالية محايدة تمامًا فيما يتعلق بمفاهيم الخير، ويتمثل دورها في توفير إجراءات عامة تضمن أن يتمتع كل مواطن بالحرية نفسها في متابعة تصوره عن الخير. لقد حارب هذا الشكل من الليبرالية القائمة على الاحترام المتساوي أشكالًا مختلفة من التمييز، إلا أنه كان أعمى عن الطرق التي يختلف بها المواطنون. تنكر وتنفي هذه الليبرالية القائمة على الاحترام المتساوي أختلاف" الهوية من خلال إجبار الناس على قالب متجانس غيرحقيقي بالنسبة لهم"؛ فالادعاء بأن القواعد والمبادئ الليبرالية محايدة هو مجرد انعكاس لثقافة مهيمنة، وانه " ليس غير إنساني (بسبب قمع الهويات) فقط ولكن أيضًا بطريقة خفية وغير واعية، هو نفسه تمييزي للغاية ".[33]

تتفاعل، في المقابل، سياسات الاختلاف التي دعا إليها تايلور ضد أنواع من التمييز تؤثر، بشكل غير مباشر، على جماعات محددة. لا تظهر صياغة تايلور لهذا الموقف الليبرالي الثاني الحساس للاختلاف والصالح العام كنقد نظري لليبرالية السائدة فقط، ولكن كإجابة عن صراع سياسي ومشكلة عملية تتعلق بالمجتمع الذي يعيش فيه، اي بمقاطعة كيبيك والشعوب الأصلية في كندا أيضًا. فيطبق نظريته على الخلاف الذي ظهر في الثمانينيات مع تبني الميثاق الكندي للحقوق. تتتعلق المسألة- بالنسبة له- بإمكانية التوفيق بين أقرار حقوق متساوية لجميع المواطنين ومطالب التميز التي يطرحها الكيبيكيون والشعوب الأصلية وهي: إلى أي مدى مطالبتهم بالاعتراف وبشرعية الأختلاف متوافقة مع الليبرالية؟ هل مطالب السعي وراء الأهداف الجماعية والمصالح المشتركة متوافقة مع المجتمع الليبرالي؟

يجادل تايلور بأن الحكومات الليبرالية في كيبيك وكندا لا يمكن أن تكون محايدة في عديد قضايا، وعليها أن تدرك أنه لايمكن أختزال أهداف وخيرات جماعية معينة من خلال الإجراءات أو الحقوق الفردية مثل بقاء الجماعة السياسية؛ والحفاظ على التفرد الثقافي واللغوي في كيبيك. إن بقاء وازدهار الثقافة الفرنسية في كيبيك يعد أمرًامهمًا بالنسبة لحكومة كيبيك. ليس المجتمع السياسي محايدًا بين أولئك الذين يقدرون الوفاء وأن يظلوا صادقين لثقافة الأسلاف وأولئك الذين قد يرغبون في الانفصال باسم بعض الأهداف الفردية. لا يتعارض السعي من اجل الأختلاف بواسطة التشريع وصنع السياسات بهدف البقاء والنزاهة والازدهار لجماعة الكيبيك الفرنسي مع الليبرالية.[34]

لكن تعتبر سياسة الاختلاف، بالنسبة لتايلور، شرعية تمامًا فقط عندما يتم احترام الحقوق الأساسية- الحق في الحياة، والحرية، والإجراءات القانونية الواجبة، وحرية التعبير، وممارسة الدين، وما إلى ذلك.[35] هناك حد اساس بين هذه الحقوق كحرية كتابة اللافتات التجارية باللغة التي يختارها الفرد مثلًا. [36] لا يمكن اتباع أيً مفهوم للخير العام بشكل شرعي إذا كان يمس جوهر الحريات والحقوق؛ ومع ذلك، تختلف الحقوق والحريات الأساسية عن "الامتيازات والحصانات ذات الأهمية التي يمكن إلغاؤها أو تقييدها لأسباب تتعلق بالسياسة العامة على الرغم من أن المرء يحتاج إلى سبب قوي للقيام بذلك".[37]

إن صيغة تايلور الثانية من الليبرالية لها عواقب مهمة تتصل بالدين على مستويين: أولاً، إن سياسة الاعتراف ملائمة في الظاهر لمطالب الأقليات الدينية. ومع ذلك، لم يطور تايلور هذه الفكرة في عمله المبكر. لكنه يدافع عن شرط منح الاعتراف بالتقييمات القوية التي تشكل الهوية شريطة ألا يقوض ذلك الحقوق والحريات الأساسية.

ثانيًا، لا يمكن لدولة أن تتبنى بشكل شرعي تصورًا دينيًا أو مستوحى من الدين للخير العام أوالصالح العام. يتفق تايلور هنا مع راولز ودوركين على أن الدولة التي تدعم مفهوم ديني للخير سيكون لها موقف تمييزي ضد أولئك الذين لا يؤيدون هذا المفهوم. ولكن هناك فرق حاسم بين دعم الدولة لمفهوم ديني للخير ودعم الدولة وولائها لجماعة تاريخية معينة واستمراريتها، أي لمفهوم الخير أو الصالح العام. هناك تمييز قاطع بين الصالح العام (موضوع الوطنية) وخير خاص (ديني أو غير ديني): يجب أن تكون الدولة الليبرالية محايدة تجاه المؤمنين وغير المؤمنين، لكنها لا يمكن أن تكون محايدًا بين الوطنيين والمناهضيين لهم او المعادين للوطنية.[38] تنطوي الوطنية على أكثر من مجرد الالتقاء حول المبادئ الأخلاقية والدستورية الأساسية، من ناحية، وهي تختلف عن الولاء لمفهوم ديني معين عن الخير من ناحية أخرى. الوطنية هي "حب خاص" ينطوي على "ولاء اجتماعي واسع النطاق لمجتمع تاريخي محدد"، يعتز به المرء ويحافظ عليه كصالح مشترك وهدف مشترك.[39]

أصبحت تعقيدات العلاقة بين الدولة والدين واضحة بشكل متزايد مع التغيير في المناخ السياسي ابتداءً من التسعينيات.[40] طور تايلور، في عمله المتأخر المكرس للدين، أنطولوجياة السابقة وتشخيصه السابق للحداثة ثم طور بالتفصيل نهجا قائمًا على الأعتراف بالدين. وهذا ما سنتناوله لاحقا.

***

1-3

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.....................

[1] يدمج تايلور في وجهة نظره الاهتمامات الليبرالية التي تقع في صميم الجمهورية (أي الصالح العام ، والوطنية ، والمشاركة) ويعبد الطريق نحو التعددية الثقافية.

[2] Hegel, G.W.F. (1991) Elements of the Philosophy of Right. Wood, A.W. (ed.), Nisbet, H.B. (trans.). Cambridge: Cambridge University Press, 21.

[3] أنظر:

-Taylor, C. (1985b) Philosophical Papers II. Philosopl1y and H11man Sciences. Cam bridge, UK: Cam­ bridge University Press.

-Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of tl1e Modem Identity. Cambridge, MA: Harvard University Press.

- Taylor, C. (1989b) "Cross-purposes: The Liberal-Communitarian Debate", in Rosenblum, N.

L. (ed.) Liberalism and the Moral Life. Cambridge, MA: Harvard University Press: 159-183.

-Taylor, C. (2007a) A Secular Age. Cambridge MA: Harvard University Press.

[4] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.

[5] -Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?", in Heft, J.L. (ed.) A Catholic Modernity? Charles

Taylor's Marianist Award Lecture. Oxford: Oxford University Press: 13-38.

-Taylor, C. (2007a) A Secular Age. Cambridge MA: Harvard University Press.

-Taylor, C. (2007b) '.'C cultures of Democracy and Citizen Efficacy", Public Culture 19 (1): 117-150.

-Taylor, C. (201la) "Why We Need a Radical Redefinition of Secularism”, in Butler, J., Haber¬ mas, J., Taylor, C., and West, C. (eds) The Power of Religion in the Public Sphere. New York: Columbia University Press: 34-59.

[6] تركز جينالوجيا تايلور في كتابه عصر علماني على الغرب. حدثت في فضاءات حضارية أخرى. ظهور وتعميم الاطار كعلامة مميزة للغرب.

[7] التأويل هو نهج فلسفي يتعامل بشكل عام مع مشكلة تفسير الأفعال البشرية ذات المعنى ومنتجاتها الثقافية.

Mantzavinos, C. (2016) " Hermeneutics”, in Zalta, E.N. (ed.), The Stanford Encyclopaedia of Philo­sophy. https:/ / plato.stanford.edu/ archives/ win2016/ entries/ hermeneutics/ (last accessed 8 May 2017).

يهتم نهج تايلور في التأويل في الغالب بالعلاقة بين الفهم السائد للذاتية البشرية التي تطورت خلال العصر الحديث والترتيبات الأخلاقية السياسية للديمقراطيات الليبرالية المعاصرة.

[8] يعيد تايلور صياغة نظرة هيجل الشاملة حول الاعتراف (Anerkennung).

-Taylor, C. (1979) Hegel and the Modem Society. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

-Taylor, C. (1977) Hegel. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

[9] يتبع تايلور تقليد فيلهلم هومبولت في الجمع بين الأنطولوجيا الشاملة والليبرالية.

Taylor, C. Philosophical Arguments. Cambridge, MA: Harvard University Press Cambridge.

لقد أدى هذا المزيج الى سوء فهم واسع النطاق لتايلور باعتباره جماعاتيًا، أنظر:

Mulhall, S. and Swift, A. (1996) Liberals and Communitarians. Oxford: Blackwell.

لكن تايلور مهتم بالمجتمع لأنه يضع الحرية الشخصية في مركز وجهة نظره. لذلك ، نفضل التحدث عن ليبرالية تايلور الحساسة للجماعة بدلاً من جماعاتيته، فقد رفض الجماعاتية صراحة بوصفها تسمية فلسفية باعتبارها مضللة فيقول: أنا غير سعيد بمصطلح "الجماعاتية". يبدو الأمر كما لو أن منتقدي هذه الليبرالية أرادوا استبدال بعض المبادئ الأخرى الشاملة ، والتي يمكن بطريقة متساوية ومعاكسة تمجيد حياة الجماعة فوق كل شيء. في الحقيقة ، أن الهدف أكثر تواضعًا: أريد فقط أن أقول إن الليبرالية الحيادية أحادية المبدأ لا تكفي.

Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition", in Gutmann, A. (ed) Multiculturalism. Princeton, NJ: Princeton University Press: 25--73.: 250.

[10] لا ينبغي فهم السياق المستقل "بعبارات مطلقة. لا يدعي تايلور من خلال أنطولوجيته الأخلاقية أنه قادر على الخروج من اللعبة التأويلية المتمثلة في تبادل الأسباب في سياق تاريخي محدد ؛ يفشارك في اقتراح غير معصوم لتفسير الخصائص العامة لظروف الإنسان وهويته ، والاعتماد على السياق هو أحد هذه الخصائص. لمزيد من التفاصيل حول حالة الحجج المتعالية التي تشكل أنطولوجيا تايلور ، انظر:

Taylor, C.(1989b) Philosophical Arguments. Cambridge, MA: Harvard University Press.

[11] النظرية القائلة بأن أجزاء من الكل في حالة ترابط وثيق ، بحيث لا يمكن أن توجد بشكل مستقل عن الكل ، أو لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى الكل ، والذي يعتبر بالتالي أكبر من مجموع أجزائه.

[12] Taylor, C. Philosophical Arguments.185.

[13] يجادل تايلور بخصوص ذلك في "الأغراض المتقاطعة: النقاش الليبرالي والمجتمعي" ، الأ أن أطروحاته حول الهوية إلى مستوى الدفاع عن أي شيء. إن ما يدعون القيام به ، مثل التفكير في الانطولوجيا جيدة ، هيكلة مجال الاحتمالات بشكل أكثر وضوحاً. البحث عن الخيارات التي تساعد في دعمها.

Taylor, C. Philosophical Arguments.183.

[14] Taylor, C. Philosophical Arguments.187.

[15] Taylor, C. The Politics of Recognition", in Gutmann, A. (ed) Multiculturalism: 25--73. 25.

[16] إن السمة الحاسمة للحياة البشرية، بالنسبة لتايلور، هي طابعها الحواري في الأساس. نصبح واشخاص قادرين على فهم أنفسنا، وبالتالي تحديد هويتنا، من خلال اكتسابنا للغات غنية للتعبير. أريد، من أجل أغراضي هنا، أن آخذ اللغة بمعناها الواسع، بحيث لا تغطي فقط الكلمات التي نتحدثها، ولكن أيضًا أنماط التعبير الأخرى التي نعرّف أنفسنا بها، بما في ذلك "لغات" الفن، والإيماءات، والحب، وهكذا. لكننا نتعلم طرق التعبير هذه من خلال التفاعلات مع الآخرين. لا يكتسب الناس اللغات اللازمة لتعريف الذات بمفردهم، ولكن خلال التفاعل مع الآخرين الذين يهموننا - ما أسماه جورج هيربرت ميد "الآخرين المهمين". وبهذا المعنى، فإن نشأة العقل البشري ليست أحادية، وليست شيئًا ينجزه كل شخص بمفرده، بل هو أمر حواري.

Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition", in Gutmann, A. (ed) Multiculturalism. Princeton, NJ: Princeton University Press: 25--73.25.

[17] Taylor, C. (1985a) Philosophical Papers I. Human Agency and LAnguage. Cambridge, UK: Cambridge University Press, : 234.

[18] Taylor, C. Philosophical Arguments. Cambridge.

[19] Mulhall, S. and Swift, A. (1996) Liberals and Communitarians.106.

[20] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.34.

[21] Taylor, C. (1985b) Philosophical Papers II. Philosophy and Human Sciences. Cam bridge, UK: Cam­ bridge University Press. 220.

[22] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.29.

[23] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.51-52.

[24] Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.51-52.

[25] "إن الأطر الأخلاقية ليست اختيارية ، والوجه الأخلاقي لا مفر منه ، لتكوين الفاعل الإنساني الحر: بديل عن طريقه. أن تكون أسئمة الأسئلة التي تمثل الأسئلة التي تمثل الأسئلة التي تمثل إطار العمل الخاص بـ A3s ، الإصدار الأول من الأسئلة والأشكال التي تمثلها ، وذلك من خلال طرح الأصدار الأول منها ، نعرف من أين نقف ، وما هي المعاني التي تحملها الأشياء بالنسبة لنا ".

Taylor, C. (1989a) Sources of the Self: The Making of the Modem Identity.29.

[26] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",25.

[27] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",26.

[28] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",26.

[29] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",20.

[30] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",35.

[31] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",41.

[32] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",41.

[33] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",43.

- Kymlicka, W. (1995a) Multicultural Citizenship: A Liberal Theory of Minority Rights. Oxford: Oxford University Press.

[34] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",58.

[35] يشير تايلور إلى الحريات المدنية والسياسية الأساسية التي تشكل، بشكل عام، جوهر مبادئ راولز للعدالة. في كتاباته اللاحقة ، يؤيد صراحة وجهة نظر راولز حول القيم التأسيسية والإجماع أو التوافق المتداخل. ولكن على عكس راولز ، يتبنى تايلور وجهة نظر تأويلية للعقل، ويهتم بالخير العام (في قلب الجمهورية) والاعتراف بالاختلاف (في قلب التعددية الثقافية والتعددية الثقافية).

أنظر: Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of C conscience. Cambridge, MA

: Harvard University Press.

[36] تعتبر وجهة نظر تايلور الحساسة تجاه المجتمع ليبرالية من حيث أنها تهدف إلى احترام ومعاملة الأقليات التي لا تشترك في التعريف العام للخير أو للصالح العام.

Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",59.

[37] Taylor, C. (1994a) "The Politics of Recognition",59.

[38] أنظر:

Taylor, C. (1995) "Cross-purpose: The Liberal-Communitarian Debate “in Taylor, C. Philosophical Arguments. Cambridge, MA: Harvard University Press Cambridge, M-A: Harvard University Press

[39] Taylor, C. (1995) " Philosophical Arguments.p.198.

[40] نعم أصبح الفصل بين القضايا الثقافية واللغوية والقضايا الدينية ممكنًا إلى حد كبير في كيبيك العلمانية اليوم. ولكننا نسأل هل هذا هو الحال دائما؟ من الصعب للغاية إخراج القومية من الدين في دول مثل الهند أو إسرائيل في دمجهما وسياساتها التميزية التي يشكو منها العرب، وكذلك اخراج القضايا الثقافية من القضايا الدينية. ويبقى السؤال الشائك أيضًا ما إذا كان السعي وراء الخير العام أوالصالح العام جنبًا إلى جنب مع ترسيخ القيم التأسيسية للسياسة يجب أن يكون منفصلاً بشكل قاطع عن التقاليد والممارسات الدينية.

تبدو الفلسفة أحيانا مجردة وكأنها تنتمي الى عالم آخر، خاصة عند مقارنتها بالتكنلوجيا التطبيقية في حياتنا اليومية. ولكن هناك الكثير يمكن ان نتعلّمه من الفلسفة وبالعكس.

السوفتوير صُمم بالأساس بهدف زيادة فاعلية الاتصال سواء الاتصال ضمن السوفتوير او من خلال سوفتوير يسمح بالاتصال بين الناس. لكن الاتصال هو اكثر من مجرد تبادل المعلومات. الناس يتحدثون او يكتبون لمختلف الأسباب، عادة ليبقوا على اتصال او فقط لأنهم أصدقاء.

ان تاريخ الفلسفة وعلم النفس مليء بمحاولات اختزال كل الحافز الانساني الى دافع او مبدأ نهائي واحد – كأن يكون البقاء، الجنس، السلطة، او الرغبة او القناعة. اتجاهات مشابهة استُخدمت في الاتصالات: فيلسوف القرن السادس عشر جون لوك اقترح اننا نتصل من أجل الحصول على المعلومات حول كل واحد منا، وهذا بدوره يساعدنا لإشباع رغباتنا. رؤية لوك لازالت سائدة في الطريقة التي تُصمم بها تكنلوجيا اتصال المعلومات اليوم. لكننا سنكون أفضل لو استبدلنا هذه الرؤية ومعها التوضيحات الاختزالية الاخرى برؤية اخرى أكثر تعددية في سبب قيامنا بالأشياء التي نفعلها. ربما الفلاسفة سيقومون بعمل أفضل لو انتبهوا جيدا لسلوك الانسان.

كيفية الاتصال هي بنفس أهمية لماذا الاتصال

تكنلوجيا الاتصالات الموجّهة لحاجات الانسان بحاجة للتقدير والاعجاب. من خلال التواصل الاجتماعي نحن نحب ونشارك ونعيد التغريد ونعلق على أفعال الآخرين التي ليست موجّهة في الغالب نحو نقل المعلومات. البيانات الثمينة تصبح متاحة بالطبع، وهي بيانات يبحث عنها المعلنون لأجل المعلومات، ولكن من الخطأ مساواة البيانات مع المعلومات. عندما أعمل نكتة، انا في الاساس لا أحاول ابلاغ اي شخص عن أي شيء، مع اني ربما بلا قصد أكشف عن إحساسي بالفكاهة.

صناعة بطاقات الأعياد كلها - مهما كان الشيء الذي نفعله بها – بُنيت على فهم اننا عادة نريد التعبير (او يُنظر الينا نعبّر) عن تمنيات طيبة في المناسبات الخاصة. الفيلسوف اللساني لودفيج فيتجنشتاين أعلن ان التعبير العام عن الرغبة، التمني، العاطفة او العقيدة هو ليس وصفا لحياتنا العاطفية. هذا يفسر لماذا عبارة "هذا التطبيق معيب لكني لا اعتقد انه معيب" هو قول صحيح عن الحقيقة حتى عندما ينطوي على مفارقة.

لماذا كل هذا يجب ان يهم المصممين والمصنعين ومستعملي التكنلوجيا؟ الرؤية الضيقة لسبب قيامنا بالاتصال بالتأكيد تقيّد انواع الاتصالات التكنلوجية التي نقوم ببنائها. من الملفت، ان العديد من الاشياء التي ننجزها بالتكنلوجيا هي عرضية لما صُممت له بالأصل (مثلا، الانترنيت نشأ كنتيجة لخطة وزارة الدفاع الامريكية في امكانية البحث عن وحدات صغيرة من البيانات ونقلها عبر الكومبيوتر). حالما نتخلى عن تصورنا المسبق بان نقل المعلومات هو هدفنا الوحيد – وهو افتراض قصير النظر – فان إمكانية ماذا يمكن ان نخلق هي إمكانية غير محدودة.

من الإتصالات الى الفهم

ان سوء تصوّر الاتصالات هو ايضا ينطبق على إحساسنا بالفهم. لا الفهم ولا الاتصالات يمكن اختزالهما الى مجرد اكتساب حقائق جديدة. هناك فرق بين فهم كلمات المتحدث وفهم المتحدث ذاته – فهم "لماذا" بالاضافة الى "ماذا".

فيتجنشتاين ذكر مرة: "لو استطاع الأسد التكلم، لما استطعنا فهمه". ليس بسبب عوائق لغة لا تُقهر، وانما بسبب اننا لا نعرف ماذا كان يهدف بكلماته. شركة ابل سري ومايكروسوفت كورتانا اللذان يسعيان الى تفعيل الصوت وتنشيط التفاعل، يستفيدان من الذكاء الاصطناعي. مثل هكذا سوفتوير يبرز من الأمل بخلق تكنلوجيا يمكن ان تفهمنا، ويمكن ان تُفهم من جانبنا. لافائدة هناك من السؤال ما اذا كانت مثل هذه المكائن يمكنها حاليا او دائما ان تفهمنا بدون ان نسأل اولاً أنفسنا ماذا نريد ان تفعله هذه المكائن. لماذا يجب علينا الاتصال بها بالمقام الاول؟ الجواب من غير المحتمل انها تحتاج لفهمنا بأي شيء الاً بالمعنى الفضفاض. المكنسة الكهربائية الجيدة لا تحتاج تفهم لماذا نحتاج شفاط اكثر قوة لكي يمكن التحوّل الى توربين عندما نضغط على الزر المناسب. ونفس الشيء يصح على خدمة خرائط الويب، الفهم يُحتمل ان يقف عائقا في طريق منفعتي.

يحتاج الناس ان يحرروا انفسهم من التعامل مع الاتصالات كشيء موجّه نحو نقل المعلومات التي هي اما تمكّن الفهم بين الانسان والماكنة، او انها تتطلب ذلك. الطريقة التي نصمم ونستعمل بها التكنلوجيا الواسعة الانتشار لغرض الاتصال سوف تستفيد من اتجاه لا ينطلق من هذا الافتراض غير المعترف به.

Philosophy’s influence on technology design and why it needs to change, The conversation.com, Feb12, 2016

***

حاتم حميد محسن

 

- تمهيد: يسعى هذا المقال إلى توضيح كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على مستقبل البشرية من خلال التعرّف على الدور الهام الذي يلعبه في حياتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية بعد أن نجح العلماء في تطوير ذكاء اصطناعي يحاكي الذكاء البشري من حيث المبدأ. في حقيقة الأمر، يعتبر هذا التطور أكبر حدث في تاريخ البشرية جمعاء بعد أن أصبح موجوداً في كل مكان ليغزو كل مفاصل حياتنا اليومية، ويتسلل إلى بيوتنا وسياراتنا وهواتفنا وأجهزة الحاسوب وأنظمة النقل، كما بات يتطور بوتيرة سريعة ملفتة للنظر ليمتلك القدرة على تغيير عاداتنا اليومية ونظرتنا للواقع الاجتماعي مع عدم قدرتنا على مقاومته. لذلك يجب علينا أن نجعله حليفاً لنا لتحقيق أقصى استفادة منه في مستقبلنا من خلال الاستعداد لاكتساب المهارات اللازمة لمعرفة كيفية استخدامه والعمل معه بأمان. لكن السؤال المفصلي الذي يطرح نفسه علينا ما هو مصطلح الذكاء الاصطناعي؟ وما هي مميزاته؟ وكيف سيؤثر على مستقبل حياتنا الاجتماعية؟

1- مفهوم الذكاء الاصطناعي: ظهر مصطلح الذكاء الاصطناعي (Artificial intelligence) إلى الساحة الأكاديمية في منتصف خمسينيات القرن المنصرم، وبالتحديد في عام 1950، عندما قام العالم آلان ماتيسون تورينج· بتقديم اختبار تورينج الذي يقوم بتقييم الذكاء لجهاز الحاسب (الكمبيوتر)، ويقوم بتصنيفه ذكياً في حال قدرته على محاكاة العقل البشري. إلا أن مصطلح الذكاء الاصطناعي بدأ رسمياً كنظام علمي في عام 1956 في كلية دارتموث في هانوفر بالولايات المتحدة الأمريكية، خلال انعقاد مدرسة صيفية نظمها أربعة باحثين أمريكيين: جون مكارثي، مارفن مينسكي، ناثانييل روتشستر وكلود شانون. ومنذ ذلك الحين، نجح مصطلح  " الذكاء الاصطناعي " - الذي من المحتمل أن يكون قد اخترع في البداية لإثارة انتباه الجمهور - بما أنه أصبح شائعاً لدرجة أن لا أحد يجهله اليوم، وأن هذا الفرع من المعلوماتية أخذ في الانتشار أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وبما أن التقنيات التي انبثقت عنه ساهمت بقدر كبير في تغيير العالم على مدى الستين سنة الماضية.

يُعرف الذكاء الاصطناعي: بأنه مفهوم يصف التعلم الآلي، والتفكير المنطقي، والتفكير، والذكاء، والإبداع الذي كان من المفترض أن يكون فريداً بالنسبة للبشر، ولكن يتم الآن إعادة تصميمه ونشره بواسطة التكنولوجيا (الصناعة). كما يشير مصطلح الذكاء الاصطناعي في الآلات على قدرة هذه الآلات على التعلم من خلال التجارب التي تقوم بها. فضلاً عن ذلك، يمكن لهذه الآلات أن تقوم بمحاكاة الذكاء البشري الطبيعي. وذلك من خلال التطور والتقدم في تنفيذ المهام المتشابهة لأكثر من مرة.

بعبارات أبسط، يشير مصطلح الذكاء الاصطناعي (AI) إلى الأنظمة أو الأجهزة التي تحاكي الذكاء البشري لأداء المهام والتي يمكنها أن تحسن من نفسها استناداً إلى المعلومات التي تجمعها.

وهذا يعني أن مصطلح الذكاء الاصطناعي يتعلق بالقدرة الفائقة على تحليل البيانات أكثر من تعلقه بشكل معين أو وظيفة معينة. وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يقدم صوراً عن الروبوتات العالية الأداء الشبيهة بالإنسان التي تسيطر على العالم، فإنه لا يهدف إلى أن يحل محل البشر. إنه يهدف إلى تعزيز القدرات والمساهمات البشرية بشكل كبير. مما يجعله أصلاً ذا قيمة كبيرة من أصول الأعمال. كما أن الغرض الأساسي من تحفيز الذكاء الاصطناعي أو الذكاء السلوكي هو تمكين أجهزة الكمبيوتر من أداء المهام، مثل تقرير وحل المشكلات وفهم المعلومات البشرية في أي لغة وترجمتها.

2- مجالات استخدام الذكاء الاصطناعي:

وفي هذا السياق نستعرض المجالات التالية:

أ- القطاع الصناعي: ففي قطاع التصنيع، تعمل الروبوتات الآلية ذات الذكاء الاصطناعي مع الأشخاص لأداء مهام مختلفة، مثل التجميع، وفحص المعدات للتأكد من أن الجهاز يعمل بشكل جيد، حيث تتيح إضافة الذكاء الاصطناعي إلى الروبوتات التعاونية نشرها بشكل أسرع ومراقبة مساحات العمل الخاصة بهم لتغير الظروف والتكيف معها، وفيما يتعلق بالروبوتات الصناعية بشكل عام يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين دقة الروبوت وموثوقيته، بالإضافة إلى تمكين أشكال أكثر تقدماً من التنقل. ولعل الأهم من ذلك كله أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يلعب دوراً رئيسياً في تقليل جهود البرمجة والهندسة المطلوبة لإنشاء وتنفيذ الأتمتة الصناعية.

تتنوع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الصناعة من أبسطها إلى أعقدها خاصةً في ظل ما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة··، حيث يكون للذكاء الاصطناعي والحاسوب دوراً كبيراً في تطور الصناعات المختلفة. على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي كان موجوداً باعتباره تخصصاً أكاديمياً وعلمياً منذ عقد الخمسينيات في القرن العشرين - كما ذكرنا سابقاً -، إلا أن تقنية الذكاء الاصطناعي اكتسبت الكثير من الزخم في السنوات القليلة الماضية.

ب- القطاع الصحي: ما زالت عمليات الرعاية الصحية، سواء كانت مستشفى أو عيادة فردية، سلسلة معقدة ومتعددة الأوجه من العمليات. من العمليات الداخلية مثل الموارد البشرية للتعامل مع مطالبات التأمين لأخذ بيانات المريض من موفري الخدمات الآخرين، دائماً ما تتدفق البيانات للداخل والخارج لعمليات الرعاية الصحية. منذ عقود مضت كان هناك الكثير من الصفحات الورقية والمكالمات الهاتفية. وفي الأوقات الأخيرة، اندمجت في رسائل البريد الإلكتروني والملفات، وفي السنوات القليلة الماضية، دفع الكثير من صناعة الرعاية الصحية نحو قواعد البيانات السحابية والتطبيقات المخصصة.

كما أدى استخدام الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في الرعاية الصحية إلى إنشاء عدد من ميزات إدارة البيانات. ومن خلال تطبيق هذه الأدوات على البيانات في الوقت الفعلي، يمكن إنشاء التقارير والقياسات الخاصة باستخدام الموارد تلقائياً، مما يوفر الكثير من وقت العمليات ووقت التفاعل. كما أن النمذجة التنبؤية* على كلا النطاقين الجزئي والكلي تضمن أيضاً توازناً أفضل في استخدام الموارد، فضلاً عن تحديد الحالات والمواسم عندما تحتاج المؤسسات إلى زيادة حجمها ومواردها. ومع النمذجة التنبؤية المستندة إلى البيانات، يمكن للمؤسسات التخطيط للمستقبل، وضمان حصول مجتمعاتها على رعاية أفضل.

ج- القطاع التعليمي: يعتبر الذكاء الاصطناعي من أهم التكنولوجيات الناشئة التي لها تأثير كبير على المنظومة التعليمية، حيث أعطى التعليم إمكانات هائلة للصالح الاجتماعي وتحقيق أهداف التنمية المستدامة ويتطلب ذلك إجراءات في السياسة على مستوى النظام وكيفية وضع السياسات لدعم التعليم المعزز بتقنيات الذكاء الاصطناعي. تتيح الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي إمكانية الوصول إلى التعلم لجميع الطلاب في أي وقت وفي أي مكان. ليتعلم كل طالب وفقاً لسرعته الخاصة، ويسهل الوصول على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع على الطلاب استكشاف ما يناسبهم دون انتظار معلم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للطلاب من جميع أنحاء العالم الوصول إلى تعليم عالي الجودة بواسطة الانترنت دون تكبد نفقات السفر والمعيشة. يعد التعليم على المستوى الوطني جزءاً مهماً من تنفيذ الذكاء الاصطناعي.

ويعد تعليم الذكاء الاصطناعي أمراً ضرورياً لتحويل المعرفة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي من المعامل إلى السوق وعامة الناس. يلامس الذكاء الاصطناعي جميع القطاعات في وقت واحد. يجب أن يكون تعليم الذكاء الاصطناعي متاحاً على الصعيد المجتمعي.

ومن عيوب عمل الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم أنه يلغي استخدام الذكاء الاصطناعي الحاجة إلى التدريس وجهاً لوجه، حيث يمكن للمتعلمين اكتساب المعرفة بشكل مستقل عن الزمان والمكان. نتيجة هذا التعلم المستقل هي أن يكتسب التلاميذ المعرفة من المنزل وبالتالي يتم فقد الاتصالات الشخصية والمدرسية، وهو ما يؤدي إلى إهمال الاتصالات والعلاقات الاجتماعية والعزلة وبالتالي غياب الشعور الجمعي والتضامن في أوساط المجتمع على المدى البعيد مما يفقد الإنسان إنسانيته باعتباره كائناً اجتماعياً.

د- القطاع الإعلامي: وفي مجال وسائل الإعلام نجد أن بعض الصحف تستفيد من الخبرات الفنية وستستمر في الاستفادة منها. فعلى سبيل المثال، تستخدم Bloomberg تقنية Cyborg لتحليل القصص المالية الصعبة بسرعة. تستخدم وكالة أسوشيتد برس المهارات اللغوية آلياً لتجميع 3700 تقرير إيرادات سنوية - ما يقرب من أربعة أضعاف ما كان عليه مؤخراً. وفي حال أردنا أن نتعمق أكثر في عالم المهام والتطبيقات التي يمكن أن يقدمها الذكاء الاصطناعي في الإعلام سنجد الكثير والكثير منها. ومن أبرز تلك التطبيقات:

- إمكانية التعلم الآلي: يمكن للآلات التي تحتوي على تقنية الذكاء الاصطناعي أن تتعلم بشكل تلقائي وسريع. مما يسمح لها بأن تقوم بتنفيذ المهام المختلفة بشكل أسرع وأسهل مرة بعد مرة.

- الوصول إلى أماكن يصعب الوصول إليها: بفضل ميزات هذه التقنية الرائعة، يمكن للإعلاميين أن يقوموا بزيارة أماكن لا يمكنهم أن يقوموا بزيارتها بأنفسهم. على سبيل المثال، يمكن للأجهزة الذكية أن تمكنك من زيارة الأماكن الخطيرة وميادين الحروب لتغطية الأخبار هناك بسهولة.

- إمكانية توليد ومعالجة اللغة الطبيعية (الحية): بفضل التطورات الكبيرة التي شهدها حقل الذكاء الاصطناعي في الآليات، يمكن لهذه الآليات أن تقوم بتوليد نصوص مشابهة بشكل كبير للنصوص التي نقوم نحن كبشر بكتابتها. فضلاً عن ذلك، يمكن لهذه الآليات أيضاً أن تقوم بقراءة وفهم المحتوى المكتوب من قبل البشر بسهولة.

- القدرة على التلخيص التلقائي: باستخدام هذه الميزة، يمكن للآليات التي تحتوي على قدرات الذكاء الاصطناعي أن تقوم بتلخيص الأفكار المفتاحية المهمة من بين مجموعة كبيرة من المعلومات والبيانات بسهولة.

- تنقيب البيانات واستخراجها وتدقيقها: بفضل التقنيات الحديثة، يمكن للأجهزة المدعمة بميزة الذكاء الاصطناعي أن تقوم بالتنقيب عن المعلومات والبيانات واستخراجها بسرعة كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه الآلات أن تقوم بتدقيق مراجع هذه المعلومات وتدقيقها لغوياً ونحوياً أيضاً.

تعتبر تقنية الذكاء الاصطناعي كغيرها من التقنيات الأخرى سلاحاً ذو حدين. فعلى الرغم من الإيجابيات الكثيرة والتسهيلات الكبيرة التي يمكن أن تقدمها هذه التقنية في مجال الإعلام، لا يمكننا أن نقول بأنها تعتبر تقنية مثالية وخالية من الأخطاء. ولكن الأمر الأكيد هو أن تقنية الذكاء الاصطناعي وعملية استخدامها في مجال الإعلام لا تزال في مرحلة تطور مستمر. ونحن نطمح إلى مستقبل نتمكن في الآليات الذكية من مساعدة البشر في هذا المجال لفتح آفاق ورؤى.

وأخيراً وليس آخراً، نجد أن الذكاء الاصطناعي يعمل في خدمة الزبائن على تغيير طريقة عملنا بشكل أساسي في العديد من الصناعات المختلفة. حيث شكلت خدمة العملاء جزءاً من هذه القطاعات لسنوات عديدة، حيث كانت في البيع بالتجزئة أو التمويل أو التصنيع أو القانون. يعتقد الخبراء أنه في السنوات القادمة، قد نصل إلى نقطة سيكون من المستحيل فيها التمييز بين العامل البشري وعامل الذكاء الاصطناعي. وقد أصبحت الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي مثل CommBox معياراً لإدارة مركز الاتصال حيث تتطلع الشركات إلى تبسيط العمليات. إنها تتيح للبشر أن يتم دعمهم بالتكنولوجيا بطريقة فعالة من حيث التكلفة تعزز أفضل تجربة ممكنة للعملاء. أدى الاستثمار المتزايد من شركات التكنولوجيا الكبرى مثل Google و Microsoft و Facebook في هذا المجال إلى تسريع ثورة خدمة العملاء.

كما أظهرت التطبيقات المبكرة للذكاء الاصطناعي في خدمة العملاء قدرتها على تقليل التكاليف، وتحسين الاحتفاظ بالموظفين وولائهم، وزيادة الإيرادات وزيادة رضا العملاء. بالنظر إلى كل هذه الفوائد المذهلة، يبدو أن الاعتماد الكامل للتكنولوجيا على مستوى الصناعة أمر لا مفر منه تقريباً. ويجب أن نعترف ونقر أن قطاع خدمة العملاء يمر بفترة تغيير متسارع نحو الأفضل بفضل الذكاء الاصطناعي.

هـ - قطاع التجارة الإلكترونية: نجد أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية علاقة وثيقة جداً، لأن مجال التجارة الإلكترونية أصبح اليوم ينمو بسرعة قياسية يوماً بعد يوم وتزايدت تحدياته مع تطور البرمجيات والمواقع الإلكترونية وتعدد التقنيات المتداخلة في عمليات البيع والشراء أونلاين والدفع الإلكتروني، وذلك من خلال التنبؤ بسلوك المستخدم ليمنحك ملف شامل عن السلوك الشرائي للعميل ليقدم لك توقعات على أسس علمية، للمنتجات التي يهتم بها العميل بناءً على الاطلاع على تاريخه الشرائي السابق وتاريخ تصفحه وأكثر ما يبحث عنه بفضل ملفات تعريف الارتباط كوكيز cookies من أجل تطبيق إعادة الاستهداف.

بالإضافة إلى ميزة جمع وتحليل البيانات تلقائياً حيث تعتبر من أهم النقاط في العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية هي الاستفادة في التسويق الإلكتروني من خلال إتاحة جمع بيانات عملائك المُحتملين وجمهورك المستهدف، لبناء حملات إعلانية ناجحة لاحقاً، فتطبيقات الحملات الإعلانية سواء على فيس بوك أو إنستغرام أو جوجل تتعلم من الحملات الإعلانية السابقة وتحاول سد الثغرات والأخطاء التي حصلت وتدارك النقائص وتغيير استراتيجية الحملة وفهم أفضل للجمهور المستهدف وتحديث البيانات تلقائياً.

3- آثار ومخاطر استخدام الذكاء الاصطناعي على مستقبل البشرية: صحيح أن للذكاء الاصطناعي فوائد جمّة وأهمية بالغة في الحياة البشرية لا يمكن لنا إنكارها، فهو يساهم في تحسين وتطوير المجالات الحياتية كافة وذلك من خلال تطوير الأنظمة الحاسوبية، لتعمل بكفاءة فائقة تشبه كفاءة الإنسان الخبير، وفي المحافظة على الخبرات البشرية المتراكمة بنقلها إلى الآلات الذكية، كما يؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً في كثير من الميادين الحساسة مثل: المساعدة في تشخيص الأمراض ووصف الأدوية، والاستشارات القانونية والمهنية، والتعليم التفاعلي، والمجالات الأمنية والعسكرية، بالإضافة إلى المجالات الحياتية الأخرى التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً أساسياً فيها، ناهيك عن تخفف الآلات الذكية عن الإنسان الكثير من المخاطر والضغوطات النفسية، وتجعله يركز على أشياء أكثر أهمية وأكثر إنسانية، وذلك بتوظيف الآلات للقيام بالأعمال الشاقة والخطرة، والمشاركة في عمليات الإنقاذ في أثناء الكوارث الطبيعية، كما وسيكون لهذه الآلات دور فعال في الميادين التي تتضمن تفاصيل كثيرة تتسم بالتعقيد، والتي تحتاج الى تركيز عقلي متعب وحضور ذهني متواصل وقرارات حساسة وسريعة لا تحتمل التأخير أو الخطأ. وفي ميدان البحوث العلمية قد يكون الذكاء الاصطناعي أكثر قدرة على إجراء تلك البحوث، حيث يسهل الوصول إلى مزيد من الاكتشافات، وبالتالي يعد عاملاً مهماً في زيادة تسارع النمو والتطور في الميادين العلمية كافة. لكن هذا الأمر لا يعفي الذكاء الاصطناعي من وجود مجموعة من المخاطر بالغة الخطورة على مستقبل السلوك الإنساني جراء الاستخدام المتزايد لمفرزاته في شتى مجالات الحياة.

في حقيقة الأمر باتت تقنيات الذكاء الاصطناعي تؤثر على حياتنا أكثر من أي وقت مضى، وربما تتدخل فيها أيضاً، ولذا يرى فريق من الخبراء أن الوقت قد حان لأن يتدخل مفكرو علم الاجتماع وعلم الأخلاق وفلاسفته لضبط هذا الأمر.

يمثل الذكاء الاصطناعي أحد أهم وأخطر إفرازات الثورة التكنولوجية المعاصرة في العصر الرقمي نتيجةً لما انبثق عنها من تطبيقات ذكية أثرت على مختلف مناحي الحياة، وأسهمت في خدمة البشرية والارتقاء بها، من خلال علم هندسة الآلات الذكية التي تقوم على إنشاء أجهزة وبرامج حاسوبية قادرة على التفكير بالطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري، والتي مكنت الذكاء الاصطناعي من تقديم نسخة إلكترونية مشابهة للإنسان ولديها القدرة على التعلم باكتساب المعلومات والقدرة على تحليل البيانات والمعلومات والقدرة على إيجاد العلاقات، وبالتالي يكون لديها القدرة على اتخاذ القرار السليم لإظهار ردود الفعل المناسبة للمواقف التي تتعرض لها الآلة الإلكترونية، واستغلالها في تحقيق المهمة التي تُكلف بها. إلا أن لهذه الطفرة النوعية في تاريخ البشرية جمعاء مجموعة من الآثار والمخاطر، أهمها ما يلي:

أ- انتهاك الخصوصية: تعتبر الخصوصية حق من حقوق الإنسان، فخرق الخصوصية للفرد والمجتمع، باستغلال قدرات الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسبب ضرراً شخصياً واجتماعياً دون وعي لحجم الكارثة التي تحيط بنا. ففي معظم الأوقات نكشف عن غير قصد عن بياناتنا الخاصة مثل العمر، والموقع، والتفضيلات وما إلى ذلك. وتقوم شركات التتبع بجمع هذه البيانات، وتحليلها ثم توظيفها لتخصيص تجربتنا عبر الإنترنت، كما يمكن لشركات التتبع بيع بياناتنا الخاصة إلى مؤسسات وكيانات أخرى دون علمنا أو موافقتنا، حيث بات من السهل جداً معرفة جميع اهتمامات وأنشطة المستخدمين من محادثاتهم أثناء الجلوس في المنزل، أو البحث عن منتج لزيارة مطعم وما شابه ذلك. وإلى جانب هذا الكشف اللا واعي عن البيانات الشخصية، هناك نوع من البيانات التي نقوم بتحميلها بأنفسنا على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يتم نقل هذه البيانات إلى أجهزة الحواسيب السحابية التي عززت بشكلٍ كبيرٍ احتمال تتبع هذه المعلومات الشخصية ومعالجتها، ثم بيعها للذي يدفع أكثر.

كما يمكن للتقنيات الجديدة، مثل بصمة الوجه التعرف على جميع الأشخاص في التجمعات الكبير، وجمع البيانات من الذكاء الاصطناعي حيث تستطيع معرفة أنشطتك اليومية وميولك النفسية والاجتماعية والسياسية من خلال تصفح مواقع الويب على الانترنت. وفي سياق متصل، تعمل الصين حالياً على تطوير نظام ائتمان اجتماعي يجبر الذكاء الاصطناعي على منح جميع المواطنين الصينيين نقاطاً بناءً على سلوكهم. قد يكون ذلك من خلال: عدم دفع القروض، أو الوقوف في أماكن غير مصرح بها، أو التدخين في أماكن لغير المدخنين، أو اللعب بصوت عالٍ في القطارات، وما إلى ذلك، أو في وسائل النقل، أو المعايير الاجتماعية.

ب- تطوير أسلحة مستقلة: تعتبر الأسلحة المستقلة أو الأسلحة الفتاكة ذاتية التشغيل، المعروفة باسم " الروبوتات القاتلة"، هي الثورة الثالثة في مجال الحروب بعد البارود والأسلحة النووية. فالتطور الذي حدث، بدايةً من الألغام الأرضية وصولاً إلى الصواريخ الموجهة عبر الأقمار الصناعية، كان مجرد مقدمة لاستقلال حقيقي لمجال الذكاء الاصطناعي، وإدماجه في عمليات القتل من خلال البحث عن أشخاص معينين، واتخاذ قرارات بالاشتباك معهم، ثم القضاء عليهم تماماً دون أدنى تدخل بشري. وهذه الأسلحة عبارة عن روبوتات عسكرية وطائرات بدون طيار (طائرات الدرون) يمكنها دراسة الأهداف وتنفيذ مهامها بشكل مستقل وفقاً لتعليمات مبرمجة مسبقاً. كما تسعى جميع الدول المتقدمة تقنياً في العالم إلى تطوير تلك الروبوتات لاستخدامها في حروبها ومنازعاتها السياسية. وتشير الدراسات المستقبلية إلى أن الحروب في السنوات القادمة لن يكون فيها الإنسان العامل الحاسم في حدوثها، بل إن استخدام الأسلحة المستقلة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أمر لا مفر منه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ماذا يحدث إذا فشل هذا السلاح في التمييز بين الهدف والرجل البريء؟

ج- فقدان الوظائف البشرية: مع نمو وتيرة استخدام الذكاء الاصطناعي في كافة المجالات، سيتولى بالتأكيد العمل الذي يقوم به العمال والموظفين. ووفقاً لتقرير صادر عن معهد ماكينزي العالمي، من المحتمل أن تفقد قطاعات العمل 800 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2030. ومرد ذلك إلى أن الروبوتات لا تحتاج إلى دفع الرواتب أو التأمين الصحي والاجتماعي، لذلك سيحصد أباطرة الذكاء الاصطناعي في العالم كل الأموال، مما يوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

هـ - إرهاب الذكاء الاصطناعي (أسلحة ذاتية، وجريمة سيبرانية، وتحويل المعلومات إلى أسلحة): ينحصر في احتمالات التسبب في أضرار غير متعمدة للمدنيين، حيث يمكن للطائرات بدون طيار المستخدمة في الهجمات المميتة والمركبات المستقلة إطلاق القنابل أو الطلقات التي يمكنها اكتشاف الحركة دون تدخل بشري. وتُعد طائرة التشغيل الذاتي (بدون طيار)، أحد الأسلحة ذاتية التشغيل التي بُرمِجت للطيران إلى منطقة معينة للبحث عن أهداف محددة، ومن ثم تدميرها باستخدام رأس حربي شديد الانفجار عن طريق خاصية تسمى أطلق وانس Fire & Forget، حيث يمكن لسرب من الطائرات المسيرة بحجم الطيور البحث عن شخص معين وقتله، بإطلاق كمية صغيرة من الديناميت نحو جمجمته، ولأن هذه الطائرات صغيرة جداً، وتتمتع بخفة وذكاء، فلا يمكن القبض عليها أو إيقافها أو تدميرها بسهولة. كما أن المشكلة الأعمق التي نواجهها اليوم هي قدرة الهواة المتمرسين على صناعة هذه الطائرات بسهولة، وبتكلفة أقل من ألف دولار، وذلك لأن جميع أجزاء الطائرة أصبحت الآن متاحة للشراء عبر الإنترنت، وباتت التقنيات ذات المصادر المفتوحة متاحة للتحميل. كانت تلك نتيجة غير مقصودة بعد أن أصبح استخدام الذكاء الاصطناعي وصناعة الروبوتات أسهل وأرخص. تخيل معنا أن يصبح لدينا قاتل سياسي تكلفته أقل ألف دولار بالمتوسط. ما نتحدث عنه ليس خطراً مستبعداً قد يحدث في المستقبل، وإنما هو في حقيقة الأمر خطر واضح يهددنا استقرارنا في الوقت الحالي.

و- احتمالية تحليل البيانات بشكل خاطئ: كما نعلم أن للذكاء الاصطناعي دوراً مهماً في تحليل البيانات، ويعود الفضل في ذلك إلى تعلّم الأجهزة الإلكترونية إلى بعض برامج التدريب التي طُورت لكي تُعلم تلك الأجهزة كيف تكتشف نمطاً معيناً وسط مجموعة ضخمة من البيانات. لكن عندما يتعلم الجهاز إنجاز تلك المهمة، فإنه يوضع قيد العمل لتحليل مزيد من البيانات الجديدة التي لم يعمل عليها قبل ذلك. وعندما يعطينا الكمبيوتر إجابة معينة، فلن نكون قادرين في العادة على معرفة كيفية وصوله إلى تلك الإجابة أو الاستنتاج على وجه التحديد. وهنا تظهر بعض المشكلات الجلية. إذ تقاس جودة أي جهاز أو نظام الكتروني بجودة البيانات التي تقدم له ليتعلم منها. لكن هناك تجربة مختلفة يمكن أن نتعلم منها درساً مهماً. فقد كان هناك نظام إلكتروني في أحد المستشفيات يعمل بشكل آلي بهدف تحديد المرضى المصابين بمرض الالتهاب الرئوي ليعرف مَنْ منهم في حالة خطيرة قد تؤدي إلى الوفاة، حتى يتم إدخاله إلى المستشفى بصورة عاجلة. لكن ذلك النظام الآلي جاء بنتيجة مختلفة تماماً، إذ صنف المصابين بمرض الربو على أنهم أقل عرضة للموت، ولا يحتاجون لتلقي العلاج بصورة عاجلة في المستشفى. ويرجع السبب في ذلك إلى أنه في المواقف العادية، ينقل المصابون بمرض الالتهاب الرئوي ويُعرف من التاريخ المرضي أنهم يعانون أيضاً من الربو مباشرةً إلى قسم العناية المركزة. وبذلك يحصلون على العلاج الذي يقلل بشكل كبير من مخاطر الوفاة. لكن الجهاز استنتج من ذلك أن المصابين بالربو ويعانون في نفس الوقت من الالتهاب الرئوي هم أشخاص أقل عرضة للموت.

وبما أن أجهزة الذكاء الاصطناعي تُصمم لتقييم أمور كثيرة في حياتنا، بداية من تصنيفك الائتماني، إلى جدارتك لشغل وظيفة ما، وحتى احتمالات عودة بعض المجرمين لارتكاب جرائم معينة، فإن مخاطر وقوع هذه الأجهزة في خطأ في بعض الأحيان ودون علمنا بذلك، يزيد الوضع سوءاً. ونظراً لأن الكثير من المعطيات التي نغذي بها أنظمة الذكاء الاصطناعي ليست كاملة أو شاملة، لا ينبغي علينا أن نتوقع منها إجابات أو استنتاجات مثالية في جميع الأوقات.

فإدراك هذه الحقيقة يمثل الخطوة الأولى في التعامل مع مثل هذه الأخطار. وكذلك ينبغي لعمليات اتخاذ القرار التي تستند إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي أن تكون أكثر تدقيقاً وأكثر حرصاً. وبما أننا نصنع منظومات الذكاء الاصطناعي لتكون نسخة أخرى منّا نحن، فمن المرجح أن تكون مثلنا تماماً، بارعة وبها بعض العيوب أيضاً.

- خلاصة القول، يشهد العالم طفرات وثورات تقنية في العديد من المجالات بمساعدة الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، لا تزال هناك حاجة إلى فهم أفضل لكيفية تطور الذكاء الاصطناعي، لأن هذه التقنيات لها تأثير عميق على الفرد والمجتمع ومخاطرها لا تقل أهمية عن فوائدها. وهذا يعني أن عملية سيطرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على كافة القطاع سيكون لها تأثير كبير على العالم بشكل لا مثيل له. لذا يجب علينا مناقشة المبادئ والمشكلات المتضاربة والحلول الحقيقية ومقدار الوضوح المطلوب في حلول الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات. كما تؤثر اختيارات الأشخاص حول حزمة البرامج على عملية اتخاذ القرار ودمجها في المنظمة ككل. لذلك، فهناك حاجة ماسة إلى فهم جيد للطريقة الصحيحة لتنفيذ هذه الإجراءات، لأنها ليست بعيدة ولكنها ستؤثر قريباً على عامة الناس.

وفي النهاية، نعتقد أن السلبيات الكارثية الناتجة عن سوء استخدام وتوظيف الذكاء الصناعي يُلقى على عاتق البشر بالمقام الأول، وبالأخص مع غياب الحامل الأخلاقي إذا تم استخدامها بطرق غير شرعية لتحقيق مكاسب مادية دنيئة، فسلب حياة الإنسان وحريته وخصوصيته هو أمر بغيض ومرفوض أخلاقياً وإنسانياً وقانونياً، مما يضع مستقبل البشرية مع الثورة الهائلة للذكاء الاصطناعي موضع تساؤل؟!

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.......................

- المراجع المعتمدة:

محرم صالح الحداد ومحمد إبراهيم محمد: الثورة الصناعية الرابعة (الذكاء الاصطناعي – التحول الرقمي) تحديات وفرص الاستحواذ على القوة الرقمية الجديدة، معهد التخطيط القومي، القاهرة، ط1، 2021.

ربحي مصطفى عليان وإيمان السامرائي: تسويق المعلومات وخدمات المعلومات، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، ط2، 2015.

مجموعة مؤلفين: الإنسان في مهب التقنية (من الإنسان إلى ما بعده)، ترجمة: محمد أسليم، فاس، ط1، 2019.

عبد الرؤوف محمد إسماعيل: تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي " وتطبيقاته في التعليم "، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 2017.

عادل عبد النور: مدخل إلى عالم الذكاء الاصطناعي، مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، الرياض (السعودية)، ط1، 2005.

أشرف شهاب: الذكاء الاصطناعي ( يهاجم الذكاء الاصطناعي!)، مجلة الأهرام، القاهرة، العدد: 213، سبتمبر 2018.

آلان بونيه: الذكاء الاصطناعي واقعه ومستقبله، ترجمة: علي صبري فرغلي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد:172، إبريل- نيسان 1993.

وفاء ضيف الله العبدالالت: أثر تنوع الموارد البشرية على الذكاء الاصطناعي، المجلة العربية للنشر العلمي، عمان، العدد: 24، الإصدار:2 – تشرين الأول 2020.

إبراهيم محمد حسن عجام: الذكاء الاصطناعي وانعكاساته على المنظمات عالية الأداء - دراسة استطلاعية في وزارة العلوم والتكنولوجيا، مجلة الإدارة والاقتصاد، العراق، السنة:41، العدد: 115، 2018.

ساعد ساعد: العلاقات العامة في عصر الذكاء الصناعي التحولات والاستخدامات، مجلة الرسالة للدراسات الإعلامية، الجزائر، المجلد:4، العدد:2، 2020.

منظمة اليونسكو: الذكاء الاصطناعي: بين الأسطورة والواقع، 3/ 2018.

https://ar.unesco.org/courier/2018-3/ldhk-lstny-byn-stwr-wlwq

د. حسام الدين فياض

آلان ماتيسون تورينج (23 حزيران/ يونيو 1912 – 7 حزيران/ يونيو 1954) كان عالم رياضيات وحاسوب وعالم منطق إنكليزي فضلاً عن كونه محلّل شفراتٍ وفيلسوف وعالم أحياء رياضي. كان تورينج مؤثراً بشكل كبير في تطوير علم الحاسوب النظري، حيث قدم صياغة رسمية لمفهومي الخوارزمية والحوسبة باستخدام آلة تورينج، والتي يمكن اعتبارها من ببين النماذج الأولى للحواسيب مثلما هي عليه اليوم. يُنظر إلى تورينج على نطاق واسع على أنه " أبو علوم الكمبيوتر النظرية والذكاء الاصطناعي ".

* الثورة الصناعية الرابعة (Industrial Revolution 4.0): تعرف بالاختصار الإنكليزي (4IR) ويقصد بها الموجة الصناعية الجديدة التي تستند علة الصناعة في طورها الرابع من حيث استخدامها للتقنية، لاسيما التكنولوجيا الحديثة في مجالات جديدة مثل الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد وانترنت الأشياء وغيرها، واستخدام هذه التكنولوجيا في الحياة اليومية. بدأت الثورة الصناعية الرابعة لأول مرة عام 2011 من قبل الحكومة الألمانية التي ذكرت المصطلح " الصناعة في طورها الرابع " ضمن خطتها، واستخدم على نطاق دولي من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2016.

* النمذجة التنبؤية: هي عملية استخدام النتائج المعروفة لإنشاء ومعالجة والتحقق من صحة نموذج يمكن استخدامه للتنبؤ بالنتائج المستقبلية. إنها أداة تستخدم في التحليلات التنبؤية، وهي تقنية لاستخراج البيانات تحاول الإجابة على السؤال " ما الذي يمكن أن يحدث في المستقبل " ؟

ما نتعلمه من التحليل النفسي

نتعلم من التحليل النفسي الكثير من مداخل النفس وما يدور بين ثناياها، هي فينا ولكن لا ندركها، تُعرض في حياتنا اليومية، ولا نعرفها، ولا نعرف قصدها، والانكى من ذلك تواجهنا كل يوم بشتى المظاهر في تعاملنا، كل يوم تداهمنا بفكرة نحاول قمعها بإرادتنا، ننجح أحيانًا ونحن بكامل وعينا، وأحيانًا نفشل فَتكبتْ  ولكنها لا تغادرنا تعود كسلوك يومي محور في أحيان كثيرة، نتضايق منها نحاول التحايل عليها لكنها تؤرقنا ليس في الوعي فحسب، بل في المنام، تقض المضجع ليلًا، يكون الحلم هو الملطف لتلك الأجواء العاصفه، وكما يقول سيجموند فرويد الحلم حارس النوم، يبحث معنا عن السبب في كل تلك التآوهات المحبوسة بإرادتنا ولكننا ذهبنا بها بعيدًا إلى تلك القارة المجهولة غير المكتشفة، وهي قارة النفس وما أحتوت من دهاليز وغارات وجبال وسهول ووديان، نتساءل في الكثير من الأحيان هل هذه الفكرة، أو هذه الأخيولة هي حقًا تحقيق مقنع عن رغبة مكبوتة؟؟!! ويكثر التساؤل الخفي، يستحي البعض منا عن نوايا عمقه، وحقيقته، هل هي رغبات متوحشة، "أمنيات" فظيعة، هل النفس بهذا الإغواء غدرت بالعقل، وذهب الدماغ إلى خزنها في عالم اللاشعور" اللاوعي" خجلًا من الذات لكي لا تنشطر بين القبول والرفض؟ هناك أسئلة لا إجابات لها!!

أنها أفكار تدور في مخيلتنا، ربما تضايقنا وتخنقنا في حالة الوعي، ونهرب من مواجهتها ولا ندري إلى أين ذهبت، وأين غاصت في أعماقنا ونكاد ننساها، ولكنها تعود إلينا حتمًا.. حتمًا بشكل آخر محور لا كما خزنت، أو كما رغبنا رغم أننا لا ندري ما هي أساسًا، لكن لاوعينا يعرف تماما ما هي؟ وما كنهها؟ وماذا تريد .. أنها أمنيات ليست مقبولة حتمًا، ليست مني وليست من الآخرين، ذهبت ونحتت في مكان ما  في نفوسنا نحت حجري، لا.. ربما توقظنا فجأة، أو خاطرة ونحن نقود سيارة "تَعنُ" على حين غفلة، بكلمات ونحن في حالة سعيدة من يومنا المشمس الجميل، أو نحن نسوق في سيارة وتأتي على بالنا أغنية ربما دثرت في ذاكرتنا ونكتشف أن لها دلالة عن تلك الأفكار المخزونة، أو نستقل الباص، أو القطار فتظهر على حين غرة بلا سابق إنذار أو مقدمات للتهيئة لشيء ما سيكون، أو ربما  ونحن في عمق النوم كادت أن تكون رسوم متداخله في أعماقنا، وصور مشوهة لأشخاص متداخلين مع بعضهم البعض، حقًا أنه تركيب مزعج وقلق، يقتحمنا ويجعل الآرق هو السائد في داخلنا، ويحدثنا سيجموند فرويد عن ظواهر نفسية عديدة ومنها فقدان الأشياء، وكذلك في حالة الوعي قوله أن الدوافع البعيدة العميقة التي تستتر وراء النزعة إلى التخلص من الأشياء بفقدها لا يمكن حصرها وتعدادها بسهولة، ونقول متفقين مع فرويد أن أفكارنا في حالة اليقظة والوعي وهي تضايقنا لن تزول حينما نهرب من مواجهتها، أو قمعها، أو التغافل عنها وأغفالها، لابد أنها تعود إلينا حتمًا، لأن كل شيء فينا يخضع للحتمية النفسية، وبما أنه تَكونَ " وخلق" كفكرة، أو خاطرة، لابد من أنها تَعنُ وتعود، مهما هربنا منها، حتى وإن واجهناها، يا الله أنها تدور في داخلنا وأزاء ذلك يقول سيجموند فرويد في كتابه محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي أن الحياة النفسية ميدان حرب وساحة صراع يقوم فيها الكفاح بين نزعات متعارضة، وقوله وإذا شئتم أن نعبر عن هذا بعبارة ديناميكية، قلنا إنها تتألف من متناقضات وأزواج من الأضداد، فقيام شاهد على وجود نزعة معينة لا يتنافى بأية حال مع وجود نزعة مضادة لها، فثمة مجال لكل واحدة منهما.

نتعلم من التحليل النفسي ما يضيفه لنا "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي ومجدد فكر سيجموند فرويد في رؤيته حينما يربط "الخيالي" بمجالات مقيدة مختصة بالوعي والوعي الذاتي، وهو النظام الأكثر ارتباطًا بما يحس به الناس في واقعهم اليومي الروتيني، حيث يتخيل أحدٌ أشخاصًا آخرين ما هي صفاتهم، أو من يكونون، يعني من ثم ما "يتخيله" هو عن نفسه عما هي صفاته أو من يكون هو، ذلك عند التواصل والتفاعل، ويندرج من ضمن هذا النظام الزوايا المتُخيلة التي من خلالها ينظر إلى الآخرين وما يتصل بذلك كما ذكره "أدريان جونستون" (في)  لاكان فلسفته الكاملة المنشورة في موسوعة ستانفورد الفلسفية.

يعلمنا التحليل النفسي أيضًا أن اللاشعور "اللاوعي" هو محك أساس في الحياة النفسية للأسوياء، أو غير الأسوياء وهو ما عبر عنه "جاك لاكان" تحت مسمى " Nemo " ويعني به الذات خارج الذات تلك التي ترسم بناء الحلم بجله فهي خارج الأنا أنها في الذات ولكنها ليست بالذات وليست من الذات هي اللاشعور "اللاوعي" كما أوردته نيفين زيور، والقول الحق أن الأهمية الأساسية لجاك لاكان تكمن في أنه أتجه بالتحليل النفسي إلى وجهته الأساسية حيث اللغة والحاجة إلى علم شمولي ينظر إلى الإنسان في إطار من اللغويات والترميز وحقل الرموز عبر سلسلة الدلالات المكونة له، وقول "لاكان" الدال هو الذي يحدد دور الذات ووظيفتها ومكانها بالنسبة للآخرين وقد وضع أهمية هذا الدال في بنية الإنسان كما أورده في مقاله الشهير "الرسالة المسروقة".

يعلمنا التحليل النفسي بثورة فرويد حينما فجر قنبلة دوت في عالم الوجود الإنساني ليس في خارجه" أعني خارج النفس"  بل في داخله " داخل النفس" وسميت آنذاك بسريالية النفس البشرية،" عالم اللاشعور – اللاوعي"  في عالم غريب ليس عالمنا في الواقع المعاش، أنه عالم مشوه، لا يُدرك، ولا يترك، فإن أُدرك تم تفكيك خباياه بفنيات تخصص بها التحليل النفسي وهي التداعي الحر- الطليق، وإن تُرك عبث وحطم حياة الإنسان من داخلها، يبدو أنه بشع، ويقول "بيير داكو" لايبدو أن ثمة شيئًا يطابق الواقع أكثر من هذا، حيث ملأ الخوف نفوس الناس، بعد أن كشف كنه الإنسان ووجده محيط مترامي الأطراف، مجهول، زاخر بالمغاور اللاشعورية "اللاواعية"..  يعلمنا التحليل النفسي أن صراعات طفولتنا وصدماته الانفعالية تستمر في وجودها خفية، مستترة إلى البلوغ، ويرى فرويد أن الإنسان الذي كان يعتقد بأنه يقهر نفسه ويسيطر عليها ويهتدي في الطريق الذي رسمه له الأخ الكبير أصبح فريسة لوعيه، لأن هذا اللاوعي " اللاشعور" يحدد أكثر أفعاله، وتصرفاته، لا بل يقض مضجعه في الوعي وفي حياته اليومية.

يعلمنا التحليل النفسي مدخل ظل مستورًا محرمًا عبر التاريخ منذ الأزل، فتح لنا أبواب المحارم الخفية والمستورة حيث لا يتحدث الناس عنها إلا بصوت خفيض، وفي الظلمة أكثر مما هو في العلن، هو عالم الجنسية الخفي وَحولهُ  إلى عالم العلم والمعرفة، عالم الواقع العلمي، وضعه على سطح التشريح للنفس البشرية فكشف بحر ذي مياه وسخه، متلاطم الامواج،  ويضيف "داكو" إن المهانة التي أصابت غرور البشرية هي شبيهة بتلك التي أصابته عندما تناهى إلى مسمعهم بأن الأرض ليست مركز الكون. ويجادل التحليل النفسي هذا العالم الخفي من الرغبات في النفس البشرية وهي رغبات متناقضة هي قبول ممن يشابهه في الجنس ويدعوه للممارسه  بفعل جنسي، وهي لا تقل عن فكرة البهيمية  وإن كانت البهيمية هي ممارسة الفعل الجنسي مع بعض الحيوانات، لكنها تتفق في التفسير النفسي فهي مرتبطة أحيانًا بالوسواس، أو مقترنة بانحرافات جنسية أخرى كالسادية والمازوخية كما يراها "بيير داكو". وهناك الكثير مما نعيشه وربما نعاني منه،  نعترف بوجوده فينا،  منها وساوسنا، أو مخاوفنا، أو نوبات الاكتئاب النفسية أو حالات الوهن التي تسببها لنا أفكارنا لشدتها وقوتها وتأثيرها في داخلنا، والكثير الكثير من الحالات النفسية "العصابية" ندركها ونعاني منها ونبحث عمن يساعدنا في التخلص منها بطريقة جذرية، وإقتلاعها من اللاشعور"اللاوعي" الذي ترسخت بين شعابه وربما على سطحه، لم تنغرس بالعمق فيكون التحليل النفسي هو العلاج لها.

وللتحليل النفسي مداخل نفسية لا يدركها الإنسان عدة وهي تثبيت بعض المواقف في الطفولة، تترك أثرًا  في البلوغ أو الرشد ونتساءل دائمًا كيف يحدث تثبيت المواقف الطفلية المؤلمة،  أو غير السارة، وكيف نعود إليها ونحو بالغين؟ هي أسئلة نفسية عميقة، ومعرفتها يمكن الاستدلال له حينما يستطيع الفرد أن يمسك بواحد من العمليات النفسية غير المنظورة ولكن وجودها يفرض نفسه وهو اللاشعور "اللاوعي" وسنحاول في المرات القادمة أن ندخل في هذه العوالم الخفية في النفس البشرية  والتي تتميز بلغة خاصة.   

***

د. اسعد الامارة

 

في المثقف اليوم