ترجمات أدبية
مييكو كاواكامي: الباب الذي بيننا

بقلم: مييكو كاواكامي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
تقع شقتي في مبنى خشبي قديم، بُني منذ عدد لا يعرف من السنين، مكوّن من طابق واحد فقط، يضم وحدتين منفصلتين متجاورتين، محشورتين بين بيوت متداعية لم يعد أحد يسكنها. تخيّل ثلاث أكواخ خشبية قديمة كانت ستنهار منذ زمن لولا أنها تتساند على بعضها البعض، عندها ستفهم الصورة بالكامل.
مكان معيشتي بسيط: غرفة واحدة مفروشة بحصير التاتامي، ومطبخ صغير مزود بموقد ذو شعلة واحدة، وحمام تتسرب منه المياه. لا يوجد أي مكان للتخزين.
في الخلف، المساحة المخصصة لنشر الملابس تكاد تكون محتلة بالكامل بوحدة التكييف، ويخيل إليّ أن جدار المنزل خلفي يضيق عليّ أكثر فأكثر.
عندما انتقلت إلى هنا، كانت هناك امرأة تعيش بالفعل في الوحدة المجاورة، لكن مكتب العقارات رفض إعطائي اسمها. كانت اللوحة على بابها فارغة، مصفرّة بفعل الشمس، ولم يسبق لنا أن تبادلنا أي حديث.
كانت بدينة قليلاً، بشعر طويل متشابك وغير مهندم، ودائمًا ما ترتدي الملابس نفسها. لست في موقع يسمح لي بالحكم على أحد، لكن بصراحة، لم تكن شخصًا منظمًا أو نظيفًا. لم يكن أحد يزورها أبدًا، وكلما رأيتها، كان هناك شيء في انحناءة كتفيها يخبرني بأنها إما مستسلمة للحياة، أو مرهقة، أو يائسة، أو ربما كل ذلك معًا.
كانت تعاني من عادة غريبة. كلما أغلقت بابها بالمفتاح، لم تستطع التوقف عن هز مقبض الباب مرارًا وتكرارًا، كما لو أنها غير قادرة على تصديق أنه مغلق بالفعل.
كان الصوت عنيفًا لدرجة أنه، عندما سمعته لأول مرة، ظننت أن شخصًا مرعبا جاء ليطالبها بديون مستحقة، لكنني أدركت بعدها أنه مجرد طبع لديها. في كل مرة كانت تغادر المنزل، كادت أن تقتلع الباب من مفاصله، وكان كل ذلك الشدّ العنيف يترك تصدعات واضحة في الحائط، بين بابها وبابي. ومع ذلك، لا بد أن أعترف أنني أتفهم ما كانت تشعر به.عندما كنت أصغر سنًا، مررت بفترة كنت فيها أغسل يديّ إلى حد أن الصابونة كانت تختفي بين راحتيّ.
أحيانًا كنت ألصق أذني بالجدار الفاصل بيننا.
في بعض الأيام، كنت أسمع التلفاز يعمل بصوت منخفض، لكن لم أسمع أيًا من الأصوات المعتادة الأخرى التي قد تصدر عن شخص يعيش بجواري. كانت غرفتانا صورتين متطابقتين لبعضهما البعض (أو هكذا فهمت من مكتب العقارات)، يفصل بينهما جدار رقيق، وكنت أجد نفسي أحيانًا، أثناء غسيل الصحون مثلًا، أتساءل عمّا إذا كانت تفعل الشيء نفسه في تلك اللحظة بالذات، على الجانب الآخر من الجدار، تواجهني دون أن أراها.
في لحظات شعرت فيها بأن الحياة كانت تنهار فوق رأسي، كان يخطر لي أن أقرب شخص لي هو امرأة لا أعرف حتى اسمها. في طريقي إلى المنزل من عملي الجزئي، كنت أرفع بصري عن الطريق الرمادي الميت الممتد بلا نهاية، وأرى بابينا المتهالكين، يغمرهما وهج الشمس الغاربة وكأنهما يشتعلان بالنار، فأفكر كيف كنا مثل توأمين، نكبر معًا، وحيدين، جنبًا إلى جنب. وعندما ينهار أحد البابين تحت وطأة الزمن، كيف سيصمد الآخر؟"
كان هناك شيء في هذه المشاعر يلحّ عليّ كي أبوح به. كنت أتخيل نفسي أطرق بابها، لكنني كنت خائفًا من ألا أتمكن من التعبير عن نفسي كما ينبغي. تمنيت لو أنني أستطيع التواصل بمجرد الطرق، أن أخبرها: كيف أن الحياة لم تسر يومًا كما أردت. كيف أنني لم أتمكن أبدًا من القيام بالأشياء بشكل صحيح. كيف أنني لم أستطع إنقاذ الشخص الذي كان يعني لي كل شيء. وكيف أنني، قبل كل شيء، مثقل بكل هذه المشاعر التي تتدفق بداخلي. يا ليتني استطعت أن أوصل لها ذلك.
في الربيع، يهبط الليل قبل أن تغدو الدنيا زرقاء إلى حد لا يُحتمل. في ذلك اليوم، بعد أن تركت وظيفتي الجزئية، كنت غارقة في أفكار عن عمري، وعن الوظيفة التالية التي سأجدها، وعن المال الذي أحتاج لجمعه قبل أن أموت، وعندما وصلت إلى المنزل، رأيت المرأة واقفة عند البابين. بما أنها لم تكن تهز مقبض الباب، فقد خمنت أنها قد وصلت لتوها. كنت أعيش هناك منذ أربع سنوات في ذلك الوقت، لكن هذا كان أقرب مكان التقينا فيه، دون وجود جدار بيننا. عندها، التقطت أنفي رائحة أوحت لي بأنها لم تستحم منذ فترة. شعرت بالارتباك، فأومأت برأسي تحية. وفعلت المرأة الشيء نفسه. وفي الثانيتين اللتين التقينا فيهما، لاحظت أن الجلد حول عينيها كان داكنًا ورطبًا. متى بدأ المطر بالهطول؟ تساءلت، مشوشًا تمامًا. لكنني عندما نظرت إلى السماء. لم يكن هناك مطر. لقد كانت تبكي.
كان شعرها الدهني ملتصقًا بجبهتها المتجعدة، وكان في ملامحها المرتخية شعور دفين بالحزن والقلق، مشهد التصق بذاكرتي للأبد. تدافعت الكلمات في رأسي، لكنني لم أستطع نطق أي شيء، ولم أتمكن حتى من تشكيل جملة واحدة . شعرت بثقل رهيب في صدري، لكنني لم أستطع البقاء—كما لو أن شخصًا كان يدفعني بعيدًا. بأصابع مرتجفة، عبثت بمفاتيحي، ونجحت أخيرًا في فتح بابي، ودخلت إلى الداخل. لعدة ثوانٍ، راقبتها من خلال فتحة الباب، لكنني لم أتمكن من معرفة إن كانت لا تزال واقفة هناك أم لا.
بعد ذلك، لم تكن هناك أي فرصة للاسترخاء. ومع استمرار الليل، ضغطت بأذني على الجدار مرات ومرات. لكن لم أسمع شيئًا، لم أشعر بأي أثر من الجهة الأخرى. شربت القليل من الماء، تمددت على الفراش، شغّلت التلفاز وأطفأته مرارًا، محاولًا إلهاء نفسي عبثًا، لكن القلق كان يتصاعد داخلي، يزداد قوة، ينهشني. مرة أخرى، ألصقت أذني بالجدار. لا شيء. لماذا لم أقل لها أي شيء؟ لقد كانت تبكي. كان يمكنني على الأقل أن أقدم لها واحدة من كعكات اللحم التي اشتريتها. لكنها كانت تبكي. ثم اجتاحت رأسي فكرة سوداوية: ماذا لو كنت آخر شخص رآها؟ تذكرت أمي، آخر مرة رأيتها فيها، ووجدت أصابعي تلامس حلقي. لكن، الناس لا يختفون هكذا... يستغرق الأمر وقتًا طويلًا، طويلًا جدًا، قبل أن تختفي كل الأجزاء منهم التي حملتها داخلك. ومع ذلك، كلما تلاشت تلك الأجزاء، تمددت أجزاء أخرى منك، حتى تختفي كل الأشياء التي كنت تملكها من قبل.
أبعدت أذني عن الجدار، وقبضت يدي بقوة. كان نبضي يتسارع. ثم أخذت نفسًا عميقًا، محاولًة تهدئة نفسي، وعندها رأيت بابها يتشكل أمامي، هناك، على الجدار المتسخ بين غرفتينا. طرقت الباب، في المنتصف تمامًا، طرقت ببطء، مرتين. طَرق، طَرق... ثم توقفت للحظة، قبل أن أكررها، هذه المرة بقوة أكبر.لا إجابة. كما توقعت. نفس الشيء كما كان من قبل.
لذلك، سحبت الحصير حتى التصق بالجدار، وظللت أطرق طوال الليل. لم يكن لدي أدنى فكرة عمّا كنت أفعله. قلت لنفسي "يا لكِ من حمقاء . لعلها الآن، رحلت بعيدًا ولن تعود أبدًا. وحتى لو كانت لا تزال هناك، فغالبًا لم تعد قادرة على سماعي. "ومع ذلك، واصلت الطرق—طَرق، طَرق—أنتظر لحظة، ثم أكرره مرة أخرى. لا أدري كم استمر ذلك، لكنني في النهاية غرقت في النوم، وحلمت بأغرب الأحلام، أنماط وأشكال غامضة، وبينها وجدت نفسي أواصل الطرق. ثم انتظرت لحظة، وطرقت مجددًا.
لا بد أنني غرقت في نوم عميق في النهاية، لأن ضوء الصباح أيقظني. مددت ذراعي وطرقت مجددًا، كما لو كنت أواصل من حيث توقفت في الحلم. لكن بعد لحظة، سمعت شيئًا. كانت طَرقة واحدة فقط، قادمة من الجهة الأخرى. اعتدلت جالسة، رمشت بعينيّ، وضغطت بأذني على الجدار. كنت واثقة مما سمعته، متأكدة أنني سمعت طَرقة. لم أكن أعرف إن كانت تعني: "مهلًا، هذا مزعج جدًا"، أم "مهلًا، أنا أفهم"، أم "مهلًا، شكرًا لك"، أم "مهلًا، من فضلك توقفي"، أم ربما كان يحمل كل تلك المعاني معًا، أو ربما شيئًا آخر تمامًا. لكنني كنت على يقين تام بأنها ردّت عليّ بطَرقها الخاص. واثقة تمامًا.
زفرت كل الهواء من رئتي، وسحبت الغطاء فوق رأسي . لكنه كان الصباح. حان وقت الاستيقاظ. ثم تذكرت: لم يكن لديّ عمل. ومع ذلك لم أكن خائفة حقًا. ضغطت وجهي على الوسادة، وأغمضت عينيّ مرة أخرى.
(تمت)
***
............................
المؤلفة: مييكو كاواكامي / Mieko Kawakami وُلدت في 29 أغسطس 1976، كاتبة وشاعرة يابانية تنحدر من أوساكا. حازت أعمالها على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة في اليابان، حيث فازت بجائزة أكوتاغاوا في دورتها الـ138 عن روايتها القصيرة الثديان والمبايض .كما نالت جائزة تانيزاكي عام 2013 عن مجموعتها القصصية أحلام الحب، وغيرها ، وجائزة ناكاهارا تشويا للشعر المعاصر عام 2008 عن ديوانها على الحافة، طعنات وطعنات مرتدة .في عام 2019، نشرت رواية حكاية الصيف ، وهي نسخة موسعة من الثديان والمبايض، وحققت نجاحًا واسعًا، حيث تُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان Breasts and Eggs. تُرجمت أعمال كاواكَامي إلى عدة لغات وانتشرت على مستوى العالم.