ترجمات أدبية
بابلو راموس: لأن السماء زرقاء
بقلم: بابلو راموس
ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم
***
تقول، وظهرها لي، ورأسها في حوض المطبخ، بينما تنتهي من شطف شعرها:
- هذه هي الحال.دون أن تدرك، مرت الأيام.
تلف منشفة حول رأسها كعمامة، تستدير، تأخذ كوب المتة من على الطاولة وترتشف عبر الماصة حتى يصدر الصوت الذي ينبهها بأنها بحاجة إلى إعادة تعبئته. تفعل ذلك وتعطيني إياه. أحاول تجنب لمس يدها، لتجنب كسر السحر الذي لولاه ربما لم أتمكن من الوصول إلى منزلها.
تقول:
- يا للحرج، أمسكت بي وأنا أغسل شعري، أحياناً أرى تلك الفتاة من سانتياج و ديل إستيرو. هل تتذكرها؟ كانت تواعد التوركو. أتساءل ماذا حدث للتوركو. "
تجلس. أفترض أنه بينما تتحدث عن أمور غير مهمة، تبحث عن ذلك الطفل الذي كنت عليه قبل خمس عشرة سنة. بالتأكيد تعتقد أن شيئاً ما يجب أن يبقى: علامة، بعض بقايا الضوء الخفي من مكان ما. أو ربما تحاول تجميع نفسها، لاستيعاب صدمة زيارتي. أجلس وأنا ما زلت لا أعرف كيف وصلت إلى هنا. كيف أنه في هذا المساء ركبت القطار، وقطعت الشوارع من المحطة إلى منزلها ومعي علبة من الفطائر، طرقت الباب –بعد كل هذه السنوات– وقلت لها أنني جئت لأشرب بعض المتة.
كانت ترتدي فستاناً واسعا مزيناً بالزهور. كان خط العنق مبللاً والمقدمة مغلقة تماماً بالأزرار. كانت متوترة. جالسة على الجانب الآخر من الطاولة، لم تتوقف عن الكلام لحظة، والآن تميل إلى الأمام وتبحث عن فطيرة في العلبة المفتوحة. أستطيع أن أرى شكل ثدييها لأن الضوء القادم من النافذة يجعل فستانها شفافاً. أفكر: كان يمكن أن تكون أمي وأتذكر أنه في وقت ما تمنيت لو كانت أمي، بل وأخبرتها بذلك.
- الأم تيريزا .
أقول. لكنها لا تسمع، أو تتظاهر بعدم السمع.
تقول:
- انظر ما زلت مجنونًا، أليس كذلك؟
ثم تسألني ما الذي دفعني للمجيء، وأين كنت. تريد أن تعرف ماذا حدث لحياة الفتى الذي كان يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا ويعتقد أن العاهرة كانت نوعًا من آلهة الأولمب.
تقول:
- الوقت يطير، كنت تريد أن تكون موسيقياً أو طبيباً. لا تبدو كأي منهما. كنت تريد أن تكون مغنيًا أيضًا. كم كنت تجعلني أضحك، هل تذكر؟ كانت لديك ردود مضحكة.
أقول:
- تزوجت. ثم انفصلت، دي ابن اسمه أليخاندرو .
الآن تعطيني إبريق الماء الساخن لأعبئه. أسكب بعض المتة على جانب ورقة الفطائر وأضبط الماصة. في صمت، أراقبها وهي تفرك رأسها بالمنشفة. تهز شعرها الأشقر من جانب إلى آخر، ثم تمشطه بيدها، وأصابعها متفرقة لتشكل مشطاً. تقوم تيريزا بهذه الأشياء بحماس شديد، كما لو أن الحركات المفاجئة ستساعدها على التفكير بشكل أفضل، وتساعدها على استيعاب السؤال الذي يشمل كل الأسئلة الأخرى التي لا بد أنها تدور في رأسها. تتوقف. تتنهد بشيء من التعب وتقف . تقول:
- لا بد أنك بحاجة إلى امرأة.
أفكر في المغادرة. لست متأكدًا لماذا أتيت، لا أعرف لماذا جئت، ولكن بالتأكيد ليس لإهانة نفسي أو إهانتها هي. فجأة أشعر بالخوف، أشعر بالحزن.أقول:
- سأذهب إلى الجنوب؛ من أجل عمل حقيقي، كما تعلمين.
تقطع تيريزا قطعة الورق التي شكلت فيها قطعة صغيرة من العشب الرطب هالة خضراء، وتلف العشب، وتذهب به إلى سلة القمامة التي بجانب الحوض وترميه. لا أعرف إن كانت تصدقني. ربما أعرف أنها لا تصدقني.
- مرحبًا، حدثني عن طفلك. قلت أن اسمه أليخاندرو؟ قل لي: هل يشبهك؟
أقول:
- إنه يشبه والدته.
صمتت ولا بد أن يكون لصمتها علاقة بنبرة صوتي الهادئة، بالكلمات العادية التي نطقتها للتو. ربما لاحظت بالفعل أنني أحتقر نفسي، طريقتي البائسة في التفكير، وفي التعامل مع العالم؛ لأنني أفتقد إلى الثقة، دائماً أشك في الآخرين وأعتقد أنهم يخفون نوايا سرية لا يجرؤون على الكشف عنها.
تقول تيريزا:
- كنت جميلًا، كما تعلم،أعني الطريقة التي كنت عليها، الشخص الذي كنت عليه، الأشياء التي قلتها.
تقترب مني من الخلف، تضع ذراعيها حول رقبتي وتداعب صدري. تتكئ على ظهري، تضغط جسدها على جسدي. أبقى جالساً. أشعر بها تبتعد وأستدير في الكرسي. إنها تفتح فستانها. ليس بسرعة، ولكن أيضًا ليس ببطء شديد لدرجة تترك مجالاً للشك. إنها على وشك فك الزر الأخير وأخشى أن هذا الفعل وحده سيحزن العالم إلى الأبد. لا أقول شيئاً ويجب أن تسيء تفسير صمتي. تتحرك يديها إلى خصرها، وبانفتاح فستانها، تتيح لي رؤية ثدييها العاريين، وسروالها الداخلي الأسود الضيق، وساقيها الجميلتين. ها هي تيريزا، ها هي الآن، واقفة بجانبي، تعرض نفسها، مجرد شبح في الظلام.
أقول:
- تيريزا !
لا أرغب في التحديق في جسدها، وأنظر إلى عينيها حيث تشرق الشمس، من خلف الجدار في الساحة الخالية على الجانب الآخر، تصبغ المطبخ بلون برتقالي مصطنع، وتضيء شعرها المبلل الذي تفوح منه رائحة شامبو برائحة التفاح، ووجهها البولندي، اليهودي، وابتسامتها الوحشية تحت ملامح أنفها الدقيقة. أبقى ثابتًا، وذراعاي متدليتان بجانبي. أخيراً تبتعد بنظرها.
تستدير وهي تغلق فستانها:
–هل تتذكر الأسطوانة التي أهديتني إياها؟ هل تتذكر أم لا؟
تقول وهي توليني ظهرها:
- مازالت أحتفظ بها، في ظرف. كان ذلك عندما بدأت بتعلم الإنجليزية. كنت مستمرًا في ترجمة الأغاني. أحيانًا أرغب في أن أتذكر. إنه كالشوكة، هذا الشعور بعدم القدرة على التذكر.
تدخل إلى الغرفة وأعلم أنها تجمع قواها لكي تستطيع النظر في وجهي عندما تعود. لا أستطيع أن أنكر براعتها في ذلك. الآن تخرج، ومعها ظرف بداخله الأسطوانة، ونظرتها ثابتة في الهواء. تقول:
– كانت تتحدث عن شخص يبكي على شيء تافه .
تضيف مؤكدة:
- أتذكر ذلك: شخص يبكي على شيء تافه جدًا
أقول:
– لأن السماء زرقاء تجعلني أبكي.
- نعم، بالضبط. يا لها من راحة أن أتذكر أخيراً، أليس كذلك؟ لأن السماء زرقاء، تجعلني أبكي، يا له من شخص غريب. يا لها من حماقة كبيرة.
(تمت)
***
.....................
الكاتب: بابلو راموس/ PABLO RAMOS: كاتب، وشاعر، وموسيقي من أفيلانيدا، مقاطعة بوينس آيرس. حصلت مجموعته القصصية "عندما يمر الأسوأ" على جائزة الصندوق الوطني للفنون لعام 2003 (الأرجنتين) وجائزة كازا دي لاس أمريكاس لعام 2004 (كوبا). كما نشر مجموعة من القصائد (ما مضى قد مضى) والعديد من الروايات.