ترجمات أدبية
القيوطات / ترجمة: صالح الرزوق
بقلم: كاري براون
ترجمة: د. صالح الرزوق
***
في ذلك الصيف، حينما انتهى هيكتور من مدرسته الثانوية، وبدأ بالعمل كنادل في نادي ميدوز الريفي، بدأت القيوطات تظهر في تروي. وتم التبليغ عن أبكر مرأى لها - أحيانا جماعات، وأحيانا قيوط منفرد - في المناطق الكبيرة وهو ما يسميه الناس “الريف الخلفي”، حيث كان يعيش بعض أعضاء النادي. سبق لهيكتور أن زار بعض تلك الأماكن حينما خدم سلفادور، وهو أحد أصدقاء خاله وقد أضاف هيكتور إلى طاقم أحد أراضيه حينما كان لديه زحمة عمل. كانت البيوت وراء بوابات، وإما أن تعرف رمز الدخول، أو أن يراك أحد عمال مالك الأرض بالكاميرا ويفتح لك من الداخل. ثم تقود سيارتك في ممر حلزوني وطويل، لتصل إلى البيت، الذي يبدو لعين الناظر كأنه بمائة نافذة ومدخنة. وفي العقار تجد دائما ما يقول عنه سلفادور “كماليات”. وهذا يعني أحواض السباحة، وحقول لعب البولو، وبساتين، وشواطئ خاصة، وحدائق منسقة، وملاعب تنس، ومدرجات هيليكوبتر، وأكواخ ضيافة، وحظائر، واصطبلات. بالإضافة إلى “حماقات”، ومنها زوج من الأرانب الجيرية المخضرة العملاقة التي تراها وحدها في الحقل خارج البيت، وكانت تبدو لهيكتور مثل قلعة. أو ملعقة الكرز الضخمة، المثبتة على طرف حوض السباحة. أشياء جنونية. أول يوم عمل لهيكتور بخدمة سلفادور كان في موقع يشرف على لونغ آيلاند صاوند. وهو يخت أبيض رائع كأنه من عالم الأحلام، وتراه يعوم بعيدا عن الشاطئ. والعقار يضم أيضا ملعبا للخيل ومرعى مسور وحلقة مسقوفة لامتطاء الخيل. كان هيكتور يقف في الحقول دون حراك بمعطف لماع، ورأسه للأسفل كأنه يشذب العشب. قال له سلفادور: هذه ثماني آلاف قدم مربع مخصصة للحظيرة. ”وعليك أن تنتظرها –”. وضع سلفادور يديه على كتفي هيكتور، والتف به لينظر إلى الماء البراق، والنوارس تميل مع الرياح المالحة. وأشار إليها قائلا:” والجزيرة الخاصة”. كان مرأى الجزيرة ضبابيا، وبعيدا جدا ولا يمكن ملاحظة تفاصيلها بوضوح، ولكن أمكن هيكتور أن يرى خيطا رفيعا من صخور رمادية مدببة تمتد على أحد الأطراف. وكانت مبهمة المظهر. أشعل سلفادور سيجارة وقدم العلبة لهيكتور. دخنا بهدوء لدقيقتين، وهما يحدقان بالماء. وبعد أن انتهى سيلفادور داس على عقب سيجارته وانحنى ليحمله. ووضعه في جيبه. حذا هيكتور حذوه. كان سلفادور انتقائيا فيما يتعلق بطاقمه، مع أن أكثرهم، مثل هيكتور، ممن ما يقول عنهم الناس “غير قانونيين”. لا يمكنك إلقاء النفايات في هذه الأماكن، ولا حتى عقب سيجارة. ربت سلفادور على ظهر هيكتور وقال: ”أعتقد أنه يتوجب على أحدهم امتلاكها. صحيح؟”. عدا عن صوت تلاطم الأمواج الهادئ وهو يضرب جدار البحر، سمع خشخشة الأوراق المتحركة على أغصان عالية من الأشجار، والأزيز الناعم للدبابير التي تحوم بالجوار، كان المكان كله صامتا صمت ما بعد الظهيرة. وتفهم هيكتور أن ذلك الصمت - صمت جليل ومبرمج، تتخلله الشمس، صمت الصيف الحار والذي تشعر حياله باللامبالاة والترقب الحذر - هو ميزة مكتسبة، شيء يحصل عليه المالك بالإضافة لكل شيء آخر. وهو صمت، وكما تبين، يمكنك أن تشتريه. كانت غرف الطعام في نادي ميدوز صامتة أيضا، وتسبح بضوء المساء الدافئ والرقيق. هناك ملأ هيكتور مجددا زجاجة النبيذ، وأخرج صحون الوجبة المسائية - كان يسكب من اليسار ويسحب من اليمين - ويعتني بخدمة هؤلاء الذين يعيشون بجو الرفاهية، وقد تعرف عليها، حينما كان يخدم سلفادور. وحالما وضع هيكتور شرائح اللحم وفيليه السلمون، والمحار البراق، وأطباق أصابع المثلجات بنكهة النعناع المبرد الخاصة بالنادي، وأكواب الإسبريسو الناعمة، المزركشة بقشور الليمون الحلزونية، تناهى إليه نتف من المحادثة. وبهذه الطريقة سمع عن القيوطات. وغالبا كانت الحيوانات تحتفظ بمسافة عن البشر، ولم يكن الأمر يزيد على أشكال توحي بالمخاطر. تقف أمام صف من الأشجار في الفجر أو الغسق كلما خرجت للصيد. وأحيانا، كانت الحيوانات الجريئة تقترب، وزادت وتيرة ذلك مع الإيغال بالصيف، وبلغت حدود البيوت والحظيرة، وهي تزحف بسرعة على الأرض قرب المساحات المسيجة والجياد الخائفة. وأحيانا تسمع عواءها وهمهمتها في الغابات، حينما تطبق على شيء ما، لتنتهي نهاية دموية. وسمع منهم أن أصواتها تجعل شعر قفا الرأس يقف. في ذلك الصيف قام هيكتور وطيلة ست ليال في الأسبوع بأداء الخدمة في ميدوز. وهو يستمع لهمهمات مضغ الطعام في المطعم، وأصوات قرقعة الملاعق الفضية الخافتة والتي تنم على التحضر. وألحان الموسيقا الآتية من الصالة الكبيرة، وهناك كان إلدريدج بشعره الأبيض الثلجي فوق جمجمة بنية، يعزف البيانو كل ليلة جمعة وسبت. أما راؤول، وهو نادل في النادي لثلاثين عاما، فقد أخبر هيكتور أن إلدريدج بدأ بعزف البيانو هناك مع بداية خدمة راؤول. ولا أحد يعرف كم يبلغ عمره. كان إلدريدج ينعم باستراحته جالسا على طاولة صغيرة في زاوية غرفة المؤونة وهو يتحسس بأصبعه الأوراق الرقيقة من نسخة تالفة من الإنجيل. وكان يأكل ويشرب نفس الشيء كل ليلة: كأس طويل من الحليب وشطيرة النادي، ويلف آخر ربع منها بورق منشفة الكوكتيل والتي تحمل شعار النادي وتدس في جيب التوكسيدو. ولم يكن إلدريدج ثرثارا، ولكنه يومئ من كرسي البيانو كلما مر الحضور به في طريقهم للخروج. يقولون له: ”عمت مساء إلدريدج”. فيرفع إلدريدج يدا واحدة، دون أن تفارق عيناه المفاتيح، ويلمس صدغه لمسة خفيفة بالسبابة، على سبيل تحية أو كما يعتقد هيكتور، ربما هي موافقة على الانصراف.
في إحدى الليالي مر هيكتور بالصالة الكبيرة، وهو يحمل إلى البار صينية أكواب كوكتيل نظيفة، وفاجأه إلدريدج، رافعا رأسه، ليعكف على البيانو.
قال:”لا يوجد شيء عدا ما يكفي فم الذئب”.
كان طول هيكتور يبلغ خمس أقدام وأربع بوصات، وكان منحنيا كالعصا بسبب ركوب دراجته في كل مكان. بدأ إلدريدج معزوفة صاخبة واستعراضية بالبيانو، ويداه تضربان على المفاتيح، مثل قطة تلعب مع فأر وقع بالفخ. قال وهو يعزف: ”الأفضل أن تأكل”. في المدرسة الثانوية دائما يوجد من يوجه لك التعليمات - متى تقفز حول الممشى، ومتى تذهب إلى الكافتيريا لتحصل على بورغر مقرمشة أو بيتزا، وأي صفحة تقرأها من واجباتك المنزلية. كان يأتي ويحاول أن لا ينام في الحصة بطريقة ملحوظة. ويختلس النظر من البنات، ولكنه غالبا يخجل من الكلام مع أي منهن. ولكن منذ أن تفرق زملاؤه بشكل موجات متلاطمة في شمس ربيع هذا العالم - بعضهم ذهب إلى الجامعة، آخرون التحقوا بالعمل، والبقية تشتتوا دون هدف محدد ولكن خلال ذلك، على الأقل، واجهتهم بعض الصعاب - شعر هيكتور أن عالمه بلغ بؤرة فجائية تتطلب الحذر. الآن لا يوجهه أحد، باستثناء إلدريدج، ومن الواضح، أنه كان يوجه له إشارات غريبة.
في وقت لاحق من تلك الأمسية اشتعلت السماء خارج نافذة النادي بلون وردي مع غروب الشمس. وترنحت أضواء الشموع في داخل أنابيب زجاجية كانت على الطاولات. دار إلدريدج حول البيانو في الصالة الكبيرة، وعزف لحنا في أعقاب لحن آخر بعنف، كأنه كان يضجر حتى الموت من أي لحن يمكنه التفكير به. وفتح هيكتور ما بدا له سلسلة لامتناهية من زجاجات النبيذ. وعبر صالة الطعام كان أعضاء النادي يأكلون ويشربون، ويضيفون الزبدة على لفافات مملحة ومغلفة بفوط بيض مرصوفة في أطباق. وضع الحضور ملاعقهم الفضية بأناقة بعد نهاية الوجبة، السكين والشوكة معا، مائلة فوق الصحن. ووقفوا ليشد أحدهم على يد الآخر فوق الطاولة، وليتقبلوا القبلات، ويربتوا على الكتف. فكل شخص يعرف الآخر. وعند طاولة قرب مكان هيكتور، سقطت فوطة من حضن رجل على الأرض. وكان على هيكتور أن يأتي بغيرها. وضعها بهدوء عند كوع الرجل، وانحنى ليلتقط التي سقطت. كان الرجل، أشيب الشعر، مشدود المظهر، يتكلم مع شركائه على الطاولة وبالكاد نظر إلى أعلى. كان يقول إنه كان ينزه كلبه في الليلة السابقة، وشاهد زوجا من القيوطات المصفرة - يتسللان بين شواهد القبور في مقبرة سانت سايفورز.
انسحب هيكتور إلى المطبخ بانتظار التعليمات. كان قد وجد عملا لا يحتاج ليومه كله، وتتلخص مهمته بتشذيب المروج والتخلص من الأعشاب الغريبة في مقبرة سانت سايفورز. كانت شواهد القبور مصدوعة ومسودة بسبب مرور الزمن، ونقوشها غالبا ناقصة. تأمل هيكتوربقاياها. ميمينتو موري. كابتن. ج مارش توفي عام .1789 كانت بعض القبور لزوجة محبوبة أو ابن وحيد أو لشخص رحل بعمر مبكر. كانت الأشكال على الحجارة غير واضحة، وأكل منها الوقت والطقس. كانت السنوات تكر، والرياح والأمطار والشمس والثلوج تتكفل بإزالة آخر ما تبقى من ذكريات حياتهم. وكل ما صمد أكوام وتلال أضرحة مجهولة غمرها الصيف بالبرسيم بينما النحل يحوم حولها.
وظف عضو من النادي وينتمي للكنيسة هيكتور ليعتني بالمقبرة. دائما توجد حاجة في تروي لشاب كي يؤدي هذا العمل أو ذاك. وكان هيكتور قد نشر في ذلك الصيف شجرة سقطت على الأرض واختنقت باللبلاب السام، وكسب من عمله بثورا حمراء دامعة انتشرت على رسغيه وذراعه، بالرغم من القفازات القوية الواقية. أيضا نقل الأثاث، وطلى سورا طويلا، وبدل الزجاج المكسور لمستنبت زجاجي قديم. كلن يؤدي أي شيء بحاجة للعمل، وكانوا يدفعون له النقود السائلة، ورقة الخمسين دولارا أو المائة دولار، وهي رقيقة جدا كما لو أنها مكوية. وأقلقه أنه وهو بين الأضرحة في مقابر سانت سايفورز كان عرضة للخوف. ومع تقدم الوقت اكتشف أن المقبرة مكان هادئ لدرجة مذهلة. فالعصافير تمر فوق الرأس برشاقة، وتنتشر رائحة الأعشاب المشذبة حديثا في الهواء. والأشجار القديمة المخيمة تلقي بظلها في حرارة ما بعد الظهيرة، وبعد أن انتهى من عمله، جلس تحت الأغصان ليبرد قليلا وليأكل شطيرة أتى بها معه وليدخن سيجارة. وأمكنه سماع صوت متكاسل من حركة المرور البعيدة، ولكن غالبا كانت المقبرة، المنتشرة على السفح المجاور له، صامتة وفارغة. لم يقترب أحد منه لزيارته. والموتى هناك قد أصبحوا نسيا منسيا في ذاكرة النائحين عليهم. شعر هيكتور بالأمان هناك، وكان متواريا ومنسيا مثل المدفونين حوله. وأحيانا كان يستلقي على الأعشاب وينام قليلا. نوع مختلف من النوم، نوم حيواني دون تفكير أو قلق أو أحلام. وحينما فتح عينيه، احتاج لعدة دقائق قبل أن يتذكر مشاكله. تعلم هيكتور في المدرسة أن تروي مدينة قديمة، تأسست عام 1600 على يد المستوطنين الألمان الذين احتلوا أراض ممدودة وشاسعة على طول شواطئ كونيكتيكات المغمورة بالمد، واستولوا عليها من هنود لينابي. أمكنة بللته مع خاله ساندو. كان الغزو عنيفا. قالت السيدة كاستيلينو هاريس، وهي معلمة التاريخ في السنة الثانية عشرة، أن لينابي قبيلة من المزارعين وجامعي الأعشاب، شعب لا يسرق، ويمتلك زعماؤه موهبة البلاغة، ويصغي رجاله الكسالى لنسائهم في أمور الحرب والسلم. كررت السيدة كاستيلانو هاريس: ”استمعوا للمرأة. فكروا بذلك. والكسول لا يعني أنك تمرر وقتك طيلة الصيف دون أي نشاط. راقب كلامك. فهي تعني أيضا الالتزام بمكان واحد. تعني الاسترساء. وتعني الانتماء. ماذا تعني تلك الكلمة لك. في حياتك؟. لأي مكان أنت تنتمي؟”. راقبت الصف، واستقرت عيناها قليلا على هيكتور. صرفت نظرها عنه. كانت تعلم أنه لن يدرس في الجامعة. ولا حتى المحلية، فقد كلمته عن ذلك، وقالت له إنها تأمل أن تراه هناك ذات يوم. وهو أذكى من أن لا يحصل على درجة جامعية. وعاملته بدماثة. وكانت تتمنى له الأفضل بصدق. وربما توقعت أن اسمه غير مثبت بالسجلات. ولكنه لم يكن وحده كما يعلم. فصديقه كزافيير، كان واحدا منهم. لكن كزافيير لم يكن قلقا حيال الأمر مثل هيكتور. تساءل هيكتور إذا كان اللينابي قد عاشوا على أرض يمتلكها النادي حاليا، معتمدين على الصيد من بحر وبر المروج المقلمة، حيث توجد ملاعب التنس الخمس عشرة، وبركتا السباحة اللتان تفيضان بماء متلألئ، وأعشاب ملعب الغولف الغزيرة، مع تيار فضي يغمر الضفاف الطحلبية التي تشقه، يضاف لها الأبنية المتراكمة التي تغطيها نباتات الوستيريا، وغرف الطعام العالية السقوف في النادي بجدارياتها ولوحاتها الزيتية ولوحاتها التذكارية. من الصعب تخيل مشهد النادي العامر وهو يتحول إلى قرية لينابي. والدخان يتعالى من النار والأطفال يجرون بأقدام حافية. امتطى هيكتور دراجته ذاهبا إلى عمله مرورا بأرض الجيران المفجوعة في منطقة بورت هانا، حيث كان يسكن، وحيث تنتشر أماكن وعرة يحاصرها أصوات ضجيج السيارات كما لو أنها طلقات رصاص، ليدخل في شوارع تروي الهادئة والمخضرة والمرفهة، شعر بالبرد، وهو يفكر بأرواح شعب لينابي العملاقة والمعتزة بنفسها، والتي تخيم بأشباحها على أماكن كانت لهم في فترة سابقة. أماكن سكنوها وأحبوها وعملوا بها. وماتوا أيضا. لاحظ هيكتور أن التاريخ كله عن شعب يتلف ويدمر حياة شعب آخر. طرف يلغي غيره ليشق طريقه إلى الأمام، مدفوعا بالكراهية. كان الموضوع يتلخص بتحطيم شعب لأنه بمقدور الآخر أن يفعل ذلك. وأخيرا وهو يتابع بدراجته عائدا إلى بيته مرورا بالمقبرة في سانت سايفورز في أواخر شهر تموز مساء وقبل غروب الشمس، شاهد القيوطات بعينه. تسلق حتى ذروة التلة التي تنتهي في الأسفل بمشهد سائل ومستمر يغطيه أعشاب صفراء ويحده من الخلف الغابات. أول الأمر أخطأ واعتقد أن هذه الحيوانات خط من الدخان الذي يتطاير أمام الأشجار. كان هناك العديد منها. دهمه صدمة رعب وقلق تسربت على طول عموده الفقري وذراعيه باتجاه رقبته وبلغت فكيه. وقف على دراجته، آملا أن يشاهد القطيع ثانية. ولكنه توارى بين الأشجار.
في الليل كان يقود دراجته من نادي ميدوز ، مرورا بتروي نحو بورت هانا، بأبنيتها المتراكمة ومتاجرها المزدحمة التي تحمل عبارات بالأسود: لا حلويات، لا تقترب من هنا، زيبو، نارك، رموز وإشارات حانقة. مر بشرفات تكوم عليها أثاث محطم ونفايات. تابع من شارع ضيق بجوار شقته ويقود إلى حديقة صغيرة قذرة، حيث يوجد نفق مليء بحفر الماء الملوث بالنفط . يمر النفق تحت قضبان القطار وحيث تعقد صفقات الممنوعات. تلك الحديقة مكان مشؤوم. شاهد هيكتور هناك سيارات إسعاف تنتظر طيلة الليل، وأبوابها الخلفية مفتوحة، ويتمدد فيها على النقالات المتحركة مصابون تسترهم ملاءات، والشرطة يقفون بالجوار، بينما المتشردون يراقبون من الحديقة ما يحصل كأنه فيلم أو تسلية ليلية. اجتاز الحديقة بأسرع ما يمكنه.
في أمسية من شهر آب، وفي ضوء النهار، اعتدى قيوط على كلبة، وهي تيرير من سلالة يوركشير، وكانت في باحة البيت الخلفية. كانت الكلبة ملك أعضاء من النادي. أرسلت كاتارينا، مديرة في الميدوز، الزهور للعائلة. ووضعت صورة مؤطرة للكلبة على رف في قاعة المدينة. قال هيكتور: هذا أغرب بورتريه رسمي لحيوان منزل. ترك مكنسة الضغط التي يستعملها للتنظيف ووقف يتأمل الصورة. كان اسم الكلبة نيكي. وكان لها فك سفلي بارز بصف أسنان غير مستقيمة له شكل مربعات ناعمة متراصفة عليه من الأمام. وحملت ربطة بلاستيكية بشكل أقواس معقودة فوق أذنيها وعلى رأسها.
يستجم معظم أعضاء النادي في آب، ويتوجهون إلى بيتهم الآخر - بعضهم لديه ثلاث بيوت، كما أخبره راؤول - أو يذهبون بعطلة إلى عوالم مسحورة. وأحيانا يرسلون إلى النادي من أسفارهم بطاقات البريد. وقد عرضت كاتارينا هذه البطاقات على الرف أيضا. التقط هيكتور واحدة منها، وهي هالة ضخمة لمتزلج على الماء، وكان صغيرا بحجم النملة. وقد انحنى تحت الذراع العملاقة لموجة عاتية. وحينما أمال هيكتور البطاقة، تحطمت الموجة، وبالكاد تحرر المتزلج. وفكر هيكتور أنه من المستغرب إرسال بطاقات من مكان العطلة للنادي. وكانوا يرسلون البطاقات في أعياد الميلاد كذلك. قال راؤول: ليس بطاقات دينية، أو بطاقات تصور بلورات الثلج، أو عن مشاهد شتائية، ولكنها تتضمن صورهم. أولاد صغار بقمصان متماثلة وربطات عنق وأذرعهم مرتكزة على عارضة ذهبية. كل الأجيال، دزينة من الأشخاص، بسترات تزلج ملونة، يقفون بصف واحد على سفح تزلج يغطيه الثلج. وصور زفاف، عائلات بثياب رسمية أمام غروب الشمس على الشاطئ. والعروس والعريس في الوسط.
جاءت كاتارينا من الصالة الكبيرة وشاهدت هيكتور. قالت بصوتها غير السار: ”ماذا تفعل؟”.
قال هيكتور:”لا شيء”. وأعاد البطاقة إلى الرف.
كانت كاتارينا تربط شعرها الأشقر القصير بربطة شعر مخملية سوداء وتعقده للخلف. كما أنها احتفظت بأسلوب المجاملة مع عضوات النادي، وكانت تحييهن بقبلة على الوجنتين. ولاحقا سمعها هيكتور تقول عنهن إنهن عاهرات مجنونات أو بقرات غبيات. ولم يشاهد أحدا يتذبذب وزنه مثل كاتارينا، كما أن طبقة عرق تلمع على جبينها وخديها حتى في الصباحات اللطيفة. وكانت تجلس في مكتبها كل ساعات اليوم، وغالبا تكون أغطية النوافذ مغلقة، وكان هيكتور يدور حولها بعصبية لأنه يمكنها أن تكون خشنة ولئيمة أحيانا. هز راؤول رأسه باستهزاء، فقد عاصر تغيير مديرة النادي على امتداد سنوات، وقال: حالما تتعرف عليها ترحل. وهذه لم يمر عليها غير ثلاث سنوات، ولم يحصل أحد على رقم هاتفها لحينه.
قالت كاتارينا:”ألا يوجد لديك عمل تقوم به؟”.
حرر هيكتور المكنسة من القابس وأخذها بعيدا.
وجد راؤول في المطبخ ينظف أضواء الهواء الطلق من أجل طاولات الشرفة. راؤول من مواليد السلفادور، ولكنه أصبح أمريكيا منذ فترة طويلة. وتزوج من أمريكية، معلمة حضانة، اسمها سارة، والتقى معها في صالة لتعليم الرقص. فكر هيكتور: يعرف راؤول ما يفعل جيدا، فهو محترف حقيقي، ويهتم بمظهره. كان يبدو منهكا اليوم، مع جيوب داكنة طويلة ورمادية تحت عينيه، وبطنه منتفخة وراء أزار قميصه. وهذا بسبب مرض سارة. وأخبره راؤول أنها عانت في السابق من السرطان، وها هو يعاودها الآن. وفكر هيكتور أن راؤول في شبابه كان يشبه ريكي ريكاردو في الفقرات المكررة من “أنا أحب لوسي”.
وكان له كتفا وصدر رياضي كبير بالعمر، وكان يتمتختر بحركته بين الطاولات والصينية متوازنة على كتفه. ولا شك أنه مفضل بين الأعضاء. نصحه راؤول وهو يعرض عليه البطاقات المربوطة بالمطاط والتي احتفظ بها في جيبه وكتب عليها أسماء أعضاء النادي وشجرة العائلة الصغيرة: ”يجب أن تتعلم أسماءهم. فهم يحبون أن تتذكر اسماءهم وأسماء أولادهم. لا تفهمني بشكل خاطئ يا هيكتور. بعضهم شعب طيب وكرماء. ويدفعون النقود السائلة في العطل”.
رمق راؤول وجه هيكتور، ثم وضع يده في جيبه، وأخرج لفافة من علكة التام وقال: ”هاك. لا تدعها تتمكن منك”. كانت بطن هيكتور تتمزق من الألم في كثير من الأحيان.
كان في المدرسة الإعدادية حينما علم أن بطاقة الضمان الصحي التي منحها له خاله ساندير مزورة، اشتراها من سوق البراغيث. كان ساندور ينتوي حماية هيكتور، وكان بعمر عدة شهور حينما استلمه خاله في الولايات المتحدة قادما من السلفادور. وكان رهانا يائسا من أمه، التي وفرت المال لترسله برفقة جيرانهم، ومن بينهم أم حاضنة، وقد نجحت بالقيام بالرحلة واجتازت حدود المسكيك مع الولايات المتحدة. وعمليا كل من شارك ساندير العمل في مزرعة كلاود هيل في تروي، حيث يدربون جياد السباق، غير مسجلين بشكل نظامي، مثله. ولكن راؤول شرح لهيكتور أن استعمال بطاقة ضمان صحي مزورة تعتبر أيضا تزويرا للهوية. وإذا بدأت الدولة بالطلب من العمال الانضمام لنظام الفحص للتحري عن هوياتهم، سيقع هيكتور في المشاكل. وفهم هيكتور ماذا يقصد راؤول بكلمة مشاكل. سوف يرحلونه إلى بلد لم يشاهده منذ كان رضيعا، وحيث لا يعرف أحدا. أما أمه، التي تحملت المخاطرة المؤلمة حتى يصل إلى ساندير وبمرحلة مبكرة من عمره، قد اختفت نهائيا. ويفترض أنها توفيت. قال راؤول: ”اخفض رأسك فقط. لا تمسك مقود سيارة. ولا تذهب إلى نوتاريو. هناك يسلبونك نقودك. دون أن يعرفوا ماذا يفعلون. لا تقلق. القلق لا يوصلك إلى مأمن”. ومد يده ولكم ذراع هيكتور بخفة. وقال: ”أنت شاب جيد. عامل طيب يا هيكتور. لست من النوع الذي يطاردونه”.
في ذلك اليوم مر من الصالة الكبيرة مجددا. منح صورة نيكي وفكها السفلي نظرة أخرى. كان يرغب باقتناء كلب حينما كان صغيرا. ولا يزال يريد ذلك. ولكن في يوم ما. ويريده كلبا كبيرا. كلبا يحميه. ولا يفكر بكلب يجلس في حضنه مثل طفل ويسمح له بربط شريط على رأسه، كلب ينال منه قيوط ويلتهمه بسهولة في الغابة. لم يمنع هيكتور نفسه من تصور المشهد، كل العصافير في الأشجار صامتة، ومخالب القيوط على رقبة الكلب المحلاة بالجواهر الثمينة، ويثبته بالأسفل لعدة ثوان بينما هو يصارع الموت. كلا. عليه اقتناء كلب ضخم.
مر شهر آب على النادي ببطء. وفي أمسية يوم سبت، لم يحجز للطعام غير حفنة صغيرة من الأعضاء، وتم اختصار طاقم الخدمة، وبقي هيكتور وراؤول. جاء من باب صالة الطعام المفتوح صوت قرع خافت لكرات التنس. فقد كانت تجري مباراة متأخرة للاستفادة من ساعات البرودة قبل غروب الشمس. ومن خلف صوت المباراة أمكن هيكتور أن يسمع صوت قرقعة رشاشات الماء. ويوميا حين يقود دراجته من بين الأعمدة الحجرية التي تحيط بمدخل النادي ثم ينحدر في النفق البارد من تحت الأشجار التي تحد الممشى، يبدو كأنه يدخل في عالم آخر. انضم هيكتور لراؤول في المطبخ، بانتظار الأطباق. قال راؤول بهدوء: ”كنت تراقب السيد ذا الشعر المنفوش وأمه؟. تلك هي السيدة ماندلستام. سيدة راقية”.
كان راؤول دائما يغذي هيكتور بالمعلومات عن أعضاء النادي. وكان من المستحيل أن لا تراقب هذا الثنائي في تلك الليلة على وجه الخصوص. اعتنى راؤول بطاولتهما، ولكنه لم يرفع عينه عن الباب الفرنسي حيث جلسا. شعر هيكتور بالتوتر. كانت المرأة تبدو بعينه قريبة من المائة عام. كان يصعب عليه تحديد عمر الناس بعد تجاوز مرحلة معينة من العمر. كانت تربط شعرها الأبيض للخلف بعقدة صغيرة على مؤخرة رأسها. وكانت ترتدي ما بدا لهيكتور أنه ثوب استحمام، شيء مصفح بلون ذهبي. مع زوج من أحذية التنس المنفوخة. أما أنف وخدا الرجل فقد كانت محمرة. وكان له رأس غزير الشعر على نحو ملحوظ كأنه فرو ثعلب، مع خصل فضية عند الصدغين، وتسريحة طويلة ومتموجة بعناية. جلست المرأة منتصبة في كرسيها، ووجهها نحو الباب المفتوح ونسيم المساء، وهي تتطلع للخارج نحو الليل كأنها وحيدة. في الصالة الكبيرة، كان إلدريدج يعزف تنويعات على “وقت الصيف”، ببطء شديد، كما لو أنه في أي لحظة سيخلد للصمت، ويسقط، وينهار على البيانو. وبين حين وآخر تلمس المرأة فوطتها وتمسح بها شفتيها، ثم تعيدها إلى الطاولة برشاقة كما لو أنها تستعد للمغادرة. ثم يمد الرجل يده ويقبض بيده على ذراعها. في المطبخ تم وضع طبق تحت النور الدافئ. التقط راؤول فوطة وحملها. مرت كاتارينا، وهي بسروال ضيق احتفظت به في خزانة مكتبها مع حذاء بكعب عال، ولذلك كانت أطول من هيكتور وراؤول. وأعربت بصمت عن عدم رضاها. خفض راؤول صوته قائلا: ”كان السيد ذو الشعر الغزير يغذي أمه طيلة الليل”. وظهر طبق آخر أمامها تحت الإضاءة. قال راؤول: ”يريد منها أن تبيع بيتها، وأن تأوي إلى دار المسنين. ربما هو بحاجة للنقود”. رفع راؤول الطبق، ومال ليشم بامتنان البخار المعطر المتصاعد من السمك المشوي المعالج بزبدة الليمون. قال: ”بيتها مشهور في تروي. ورأيت صوره في مجلة. مات زوجها قبل فترة طويلة. وتحيط بما حصل ظروف غامضة، ربما اختطف أو شيء من هذا النوع. كان سفيرا في مكان ما. ولكن مر على ذلك فترة طويلة. غير أنها طيبة، أرستقراطية. مهذبة. لطيفة”.
دفع الطاهي أطباق هيكتور باتجاهه. وفي كل طبق شرائح لحم ضخمة. رمقها راؤول وقال:”لا يمكنني أكل اللحم الأحمر بعد الآن. أنا وسارة نتبع حمية خاصة. ولكن شريحة كتلك تفوح برائحة الجنة”.
تقدمت الأمسية ببرنامجها، وسقط على غرفة الطعام جو هادئ يدعو للنعاس. وتبخر الضوء من المصابيح الذهبية الداكنة وألقت على الحضور شبكة مضيئة خيمت على رؤوس الجميع. وطفت جزر صغيرة من أصوات قرقعة الزجاج. وبرز ظل هيكتور، كأنه خيال عملاق، ممتدا من قدميه كلما تحرك بين المناضد. وفي لحظة غروب الشمس، تحرك القليل من الناس، من بينهم جماعة صغيرة تحتفل بعيد ميلاد رجل مسن يحمل ضمادة على رأسه. جلس دون ابتسامة طيلة الأمسية، وحتى حينما أصبحت أمامه “فطيرة ألاسكا”، التي طلبتها له ابنته مقدما، قائلة إنها المفضلة لديه.
حينما طهى هيكتور بالنار مخفوق البيض والسكر مع المشروبات الروحية كما علمه راؤول، راقب الرجل حركاته دون أي تعليق. ولكنه التفت مرة ليثبت هيكتور بنظرة نفاذة وغير محتملة. حاول هيكتور أن يبتسم. كان مرأى الرجل مرعبا. قال له:”عيد ميلاد سعيد يا سيدي”. أبعد الرجل عينيه. وغطت وجهه نظرة غير مريحة، كأنه شعر بالعذاب الناجم عن ألم موضعي في بطنه أو خصيتيه.
في الطرف الآخر من الطاولة، نظرت ابنة الرجل إلى هيكتور وحركت كتفيها كأنها تقول: من يعلم ماذا يجري هناك؟.
في المطبخ كان راؤول يوضب الصواني ويرصفها بالقهوة، ثم أخرج موبايله، ومر بيده على رأسه.
قال هيكتور:” انظر. المكان عمليا فارغ. وانتهى عملنا تقريبا. يمكنك أن تذهب إلى بيتك”.
قال راؤول:”متأكد؟”.
“نعم. نعم. أنا متأكد. انصرف. سأخبر كاتارينا إذا سألتني”.
لكن كاتارينا اختفت في مكتبها منذ فترة طويلة. وأغطية نوافذ مكتبها مغلقة من الداخل، وكان الضوء يتسرب منها. جلس راؤول لاستبدال حذائه. كان شعره الرقيق رطبا من التعرق. وحينما وقف، وحذاء العمل ملفوف في كيس إمبيريوم فود، عانق هيكتور، كالعادة. وضم راؤول هيكتور لثانية إضافية قبل أن يلطم ظهره ويحرره. وشعر هيكتور دون مواربة: أمور سارة ليست على ما يرام. مرأى راؤول، وهو يعاني، كان كفيلا بقتل هيكتور أيضا. فهو غير قادر على مساعدة صاحبه، والذي أحبه بغضون عدة أسابيع.
كان الطاهي بمزاج سيئ، واختفى بمجرد تحضير أطباق الوجبة الليلية، وترك هيكتور ليعتني بالحلوى ويقدمها لآخر طاولتين، أما الشاب الجديد، نايت، وهو صبي أبيض نحيف، ولا يبدو أنه مهتم جدا بعمله، فقد كان عليه تنظيف المطبخ.
انتهت حفلة عيد الميلاد أخيرا. وتحرك الحضور ببطء بحلقة نحو الباب الأمامي، والعجوز بوسطهم، وهو ينحني على عكاز.
نظف هيكتور الطاولات، ثم دخل الصالة الكبيرة ليلم الأكواب الفارغة وفوط الكوكتيل المهملة. كان الساقي رون بلاك معتادا على الندل الأغبياء، ونكاتهم القذرة التي تجبر راؤول على التجهم – كقولهم: ما الفرق بين زوجتك وعملك؟ بعد خمس سنوات لا يزال عملك مقرفا - وقف وراء البار، وهو يمسح بمنديل أبيض داخل كوب نبيذ. كانت الثريات مطفأة لتشجيع الحضور على الانصراف، ولكن لم يطلب من أحد مغادرة النادي. هذا يشبه الطلب من رجل أن ينصرف من بيته.
وكانت الغرفة ذات السقف المرتفع مضاءة الآن بالنور ذي الغلاف الأسود الموزع على الطاولات المتفرقة. والجداريات القديمة المتصدعة التي تعلو الجدران - وهي رسوم رجال بقمصان وسراويل بيضاء يلعبون التنس أو يرتدون خفافات وقبعات ويرفعون عصا الغولف من عشب ألماسي - يلمع بلون قاتم في الضوء الخفيف.
ثلاثة رجال - من ضمنهم شاهد السيد شعر غزير، كانوا غائصين في مقاعد جلدية في الطرف المقابل من الصالة، والشراب بأيديهم. تساءل هيكتورأين أم السيد شعر غزير. أين هي؟. واندلعت ضحكة خافتة من الحلقة. التهبت معدة هيكتور. وابتلع تجشؤا حامضا مر ببلعومه. وفي مكان ما بالخارج في الليل الذي تخيم عليه أوراق النباتات المحيطة بالنادي، نبح كلب، ثم آخر. نظر هيكتور لمكتب كاتارينا. كانت قد فتحت أغطية النوافذ وجلست وراء الكومبيوتر. ورأسها الأشقر وكتفاها المقوسان داخل إطار النافذة. وبعد دقيقة من الصمت عاود الكلاب نباحهم. نظر مجددا إلى نوافذ كاتارينا؟. لم تتحرك. كأنها جثة ميتة ولكنها تستند على المنضدة.
آخر واجب مسائي لهيكتور كان حمل النفايات إلى مكب النفايات المتواري في الخارج وراء ستار أنيق المظهر. بلغ منتصف المسافة حينما انشقت إحدى الأكياس. وانتشرت الرائحة المنفرة للمحتويات التي اندلقت في مؤخرة الصالة وعلى حذائه. ابتعد بقرف ولكن بعد فوات الأوان. ولم يعد أمامه حل غير التنظيف، وغسيل حذائه. تحرك نحو المكنسة والدلو.
لدى عودته، تراكمت النفايات ذات الرائحة - بقايا لحم حملان تآكل نصفها داخل غشاء أبيض مهترئ، وقشور المحار، وبقايا سلطة خضراء، وهيكل سمكة - على الأرض بشكل طبقة لماعة ورملية ضمن مرق بذور زهرة الخشخاش وهي من خصائص النادي. شد هيكتور حبل الضوء العلوي فأنار الممر بضوء أصفر محتقن غير معتاد. كانت الجدران متسخة، ويعلوها خطوط سود أفقية بسبب عجلات الألعاب والعربات التي تحمل المؤونة للنادي. كل أسبوع تأتي عربة خضروات وفاكهة، وعلب من المشروبات والجعة والنبيذ، ولحوم العجل، وساق الحملان، والسلمون بالعلب المجمدة. ومعها عربة مجللة بالزهور مرة في الأسبوع، وغالبا إن كان هناك تجمع من أجل زفاف أو عيد ميلاد أو جنازة. وتحمل خدمة الغسيل في النادي أغطية الطاولات والفوط المتسخة، بالمقابل يتم تسليم حزم من الأغطية البيضاء كالثلج، وتكون ملفوفة بالبلاستيك بإحكام وتفوح منها روائح المبيضات. ارتدى هيكتور القفازات المطاطية، وجلس القرفصاء، واستعمل يديه وجرافة غبار ليجرف النفايات ويحفظها في كيس فارغ، وهو يمسك أنفاسه. وبعد أن كنس الأرض، وضع المكنسة على الجدار ليتخلى عن قفازه. وهناك على منطقة جافة من الجدار ومطلية بطلاء رقيق، وفي ظل آلة الجليد، لاحظ سطرا طويلا من الكلمات. اقترب أكثر. هي أسماء، وربما تبلغ عشرين بمجموعها، وقد أضيفت بوضوح بخط مختلف. نظر هيكتور إلى المطبخ المعتم خلفه. لمعت سطوح الستانلس ستيل. وحينما سقطت مكعبات من الجليد في الكهف المبرد من آلة الجليد بقربه، قفز كأن يدا أحكمت الإطباق عليه. تأمل القائمة ثانية: بوني، راستي، كيب، تيش، دودل، باتون، موفي، سنوكس، كوركي، بينك - وبعدها بقليل بينكي - كوكي، كيتين، بوس، وأضيف لها بلون مختلف حرف Y ثم تيتس. ماذا؟. لا أحد هنا اسمه تيتس. شعر هيكتور بالقرف ينبع من هذا الجدار. سبق له أن خدم بعضهم. وفكر بالأسماء الخرقاء التي اختاروها لأنفسهم، ولا سيما الأسماء التي تدل على حيوانات. فقد قدم الخدمة لفوكسي، وكيتي، وكلتاهما امرأة. ورجل يسمي نفسه بوش Pooch < بوجي أو كلب>. تساءل: لو أنك رجل مليونير وطائش ولديك ملايين الدولارات، وحملت اسم مثل بوش… لماذا تفعل هذا بنفسك؟. الأغنياء لغز.
كان الأمر كأنهم من عرق مختلف. كلا. ليس كأنهم. هم عرق مختلف. لا يوجد وجه أسود بين الأعضاء، كما يرى هيكتور، وبينهم رجل واحد أسمر - وهو تاجر باكستاني فاحش الثراء كما قال راؤول - ولديه زوجة رائعة وثلاثة أطفال جميلين. كانوا يأتون لوجبة المساء أحيانا، فيجلس الصغار بتهذيب ويتبادلون طرائف هادئة ونقية. ولو كان لديه زوجة وأولاد، سيرغب أن يكونوا مثل الباكستانيين، الأولاد بشعرهم المفروق بأناقة وبربطات عنقهم الصغيرة حول رقابهم، والبنت بشعرها اللماع الأسود المسرح بأناقة، وبعينيها الشبيهتين بعيون حيوانات الغابة، كبيرتين وسوداوين. قال الأولاد شكرا حينما أخذ هيكتور أطباقهم بعيدا. وأضاف والدهم:”من فضلك انقل تحياتي إلى توني”.
أعجبت هيكتور عبارة: انقل تحياتي. الندل الآخرون وحراس المكان… يمكنهم أن يقولوا ما يشاؤون عن أعضاء النادي، ولكنه كون رأيه من ملاحظاته. لأساليبهم - فتح الأبواب للنساء، النظر للآخرين بعيونهم، المصافحة بقوة، التحلي بالصبر حين الاستماع باهتمام للمتكلم - تأثير إيجابي، ويدفع الآخرين للتفكير بطريقة حسنة عنك.
تبنى سلوكه حينما زار خاله ساندير في بيت الرعاية، وكان هناك منذ العام الماضي، ليموت ببطء بسبب السكري. كان هيكتور ينهض من كرسيه القريب من السرير دائما حينما تأتي إلى الغرفة إحدى الممرضات الكادحات. ويسأل عن حالها هذا اليوم. وفي النهاية يكسب لقاء جهوده ابتسامات ورعاية خاصة ينالها خاله. وتقول: ”يبدو سنيور ساندير وسيما اليوم، ومعك ابنك الطيب هيكتور. هل تريد يا هيكتور واحدة من المثلجات هذه؟ علبة نيابوليتان؟”. وامتدح راؤول وبعض عمال النادي القدماء بعض أعضاء النادي وأبدوا الامتنان لحسن المعاملة: نصائح قانونية حول الميراث أو حوادث سير، التزكية لأطباء بخصوص أبناء مرضى، تسديد فواتير دار الجنازة بلا ضجة، من لديه النقود يكون قادرا على مساعدة الآخرين. وبرأي هيكتور هذا هو الدور الأفضل للغنى. في مناسبات التبرعات الخيرية في الصيف المنصرم، بيع كلب صيد ذهبي بالمزاد لقاء 25 ألف دولار. انصرف اثنان من الندل بوجه متحجر إلى المطبخ، بعد الانتهاء من المزاد. وتم طرد منظف أطباق - ناري المزاج في كل الأحوال - لأنه أضر بباب خزانة في غرفة اللوازم (وكاتارينا هي التي طردته). نعم، هذا جنون، أن يبذر هؤلاء الرجال النقود التي يمتلكونها، للتأكيد أنه بمقدورهم إنفاق ألوف الدولارات على كلب. ولكن لماذا نهتم بنفقات شخص آخر، ما دامت النقود تذهب بطريق الخير؟.
فهم هيكتور أن العلاقة بين أعضاء النادي والرجال والنساء الذين يخدمهم ليس أمرا شخصيا. وهو غير مضطرب بهذا الشأن. وهو يدرك أنه لا شيء بنظرهم. وبصدق يظن أنه من الصعب أن يعجبه هؤلاء ما دام هو بالمقارنة يمتلك القليل جدا. ولكن حاول هيكتور أن لا يكره. ساندير أيضا لا يكره. ولا راؤول. الكراهية تفنيك وتتعبك كما نبهه راؤول.
قال له: ”انظر لما تجنيه يا هيكتور. ولا تتورط بالكراهية”.
حاول هيكتور أن يتذكر هذا، وكلما انتابه القنوط، حينما لا يستطيع أن يتخيل كيف أن حياته لا تتحسن، وكيف أنه لا يسعه أن يكون غير عامل طوال أيام الأسبوع ولكنه قليلا ما يجني النقود الكافية ليتكلم بالهاتف ويأكل ويشتري حذاءه حين يكون بحاجة لحذاء. وكان يكد ليدفع حصته من الإيجار وبقية اللوازم في شقة مهينة حيث يعيش في غرفة تطل على شجرة عاشبة تنتصب في الزقاق. يوما ما سيصبح مواطنا. والانتخاب الرئاسي القادم قد يغير الأوضاع. كما أخبره راؤول. وحتى ذلك الحين لن يخاطر هيكتور. ولن يسمح للكراهية أن تغلبه.
قال لراؤول: ”كنت في أمريكا كل حياتي. وأنا أمريكي حقيقي. وفعلا أحب عملي”.
رد راؤول: “أفهمك. كن نظيفا يا بني. لا ترتكب الأخطاء. شيء ما سيتحسن”.
تخلص هيكتور من أكياس النفايات في الخارج وأودعها في العلبة المخصصة. أشعل سيجارة ووقف في نسيم الليل فترة تكفي لتدخين سيجارة. كانت غرفته في شقة بورت هانا كابوسا يتخلله أبواق السيارات وأجراس الإنذار وصوت مسجلات السيارات والتلفزيونات التي تهدر. أما الميدوز مثل واحة. صامتة من الخارج باستثناء دقات خفيفة تنجم عن رشاشات الماء التي تروي أعشاب ملاعب التنس. وهذا الصوت تقريبا طنين من حشرات تحوم حول الأضواء العالية في موقف السيارات. انتظر في الخارج برهة، وهو يصغي. أحب وجوده في هذا الجو كثيرا، وما يؤلمه ويفزعه خسارته له. وضع قبضته على صدره، والألم يشع من تحت أضلاعه حتى حنجرته. وطرق بقوة على القفص الصدري حتى تجشأ. كان الهواء الفاسد يحترق بداخله.
كان لدى سلفادور سولومون عمالا يشتغلون بالسهول في كل أرجاء تروي، ولم يطلب الأوراق من أي منهم. وعلم هيكتور القيادة، وكيف يتجول بالشاحنات في الأحياء حيث يؤدي أعماله، ولكنه لم يسمح لهيكتور بقيادة عربته على الطريق. ولم يكن لدى هيكتور رخصة، وهو يعلم أن أي حادث أو حاجز شرطة يضع حدا لعمله. وكان يعتمد على دراجته ليتجول بها. وكان يحب دراجته، فقد اشتراها من بطل سباق في الأوروغواي، وحاليا يعمل في مرآب في بورت هانا. كان غونزالو ماهرا، ويعرف كيف يستفيد من بقايا الدراجات المكسورة. ومنها صنع المعجزات. وكانت دراجة هيكتور توليفة ناجحة، وخفيفة جدا وبمقدوره رفعها بأصبعه. وفي صباح الغد سينضم لجماعة سولومون في مزرعة تابعة لأرياف تروي، حيث كانوا يشيدون بركة سباحة لبيت ضيافة. مكان مذهل. هكتارات من الأبنية البيضاء المترامية فوق أرض منسقة، مع أشجار فاكهة في كل مكان. وهي رحلة بعيدة إلى موقع العمل في الغد. من المفروض أن يبدأ العمل في السابعة صباحا. وأمامه سبع وثلاثون دقيقة للعودة إلى البيت. وسيكون منهكا في الصباح.
هبط على السفوح في الليل باتجاه موقف الدراجات، وهو يربط خوذته ويتابع تقدمه. وقف قليلا على الدواسات ليندفع نحو أعلى التلة عبر طريق المدخل المائل الذي يقود إلى النادي، ولكنه فقد السيطرة حينما اضطر للتباطؤ كي تمر سيارتان، سابيربان سوداء لماعة، وفضية Z-4 . وكان الضوء الأمامي يغمره. قفز من الدراجة وبدأ يدفعها إلى الأعلى مارا من شجيرات ورد تحيط بالطريق الدائري أمام بناء النادي. ثم دهمه صوت رجل غاضب، جاء من الجانب الآخر من الشجيرات قرب الباب الأمامي للنادي. سمعه يقول: ”لم يطلب منك أحد –”. رد الرجل بشيء آخر. ولكن الصوت لم يكن مفهوما. وقف هيكتور. نظر عبر حاجز شجيرات الورد. كان هذا هو الشعر الغزير وأمه بردائها الذهبي الغريب.
وشاهد هيكتور ابنها يميل عليها. وقال لها شيئا، فالتفتت بوجهها جانبا، كأنها تتجنب أنفاسه. ولكنها لم ترد. فأعرب عن اشمئزازه بصوت ما، واستدار، وتابع بخطوات غير متزنة على طول ممشى النادي نحو الطريق.
نادته:”هاوارد. هاوارد؟”. ولكن الرجل لم يرد. ولم ينظر إلى الخلف ولا بدل اتجاهه. نظر هيكتور من بين الأغصان. اختفى الرجل بدقيقة. واحتار هيكتور. إلى أين ذهب؟. إلى إحدى الأحياء المحاذية للنادي؟.
وقفت العجوز هناك. ثم التفتت وصعدت بترنح السلالم بخفافتها البيضاء الكبيرة عائدة إلى باب النادي الأمامي. كافحت مع يد الباب، هل أغلق رون بلاك الباب خلفهما بعد انصراف الرجال؟. هل لا تزال كاتارينا في مكتبها؟. لم يلاحظ هيكتور خروجها، وهذا يعني احتمال مغادرتها قبل فترة طويلة. نظر إلى الأعلى. كان القمر بدرا، فتحة بيضاء في السماء. نظر إلى موقف السيارات. بقيت سيارة واحدة. وهي عربة صالون مرسيدس قديمة.
لم يعرف هيكتور ماذا يصنع. وقفت المرأة وظهرها للباب الأمامي. تحركت الأوراق في أعلى الأشجار بهدوء فوق الرؤوس. كان هيكتور يفكر بالله أحيانا - فكرة الرب ككل، من يعلم كل شيء عن كل شيء، مجرد لغز وطياشة لكنك مجبر عليها - والآن يشعر أن الله، مهما كان، شاهد فجيعة المرأة ويريد من هيكتور أن يدرك أن المشهد الذي يتطور الآن هو جزء من شيء شهده واستوعبه، شيء يريد أن يعالجه.
ولكن هيكتور لا يريد أن يتورط بما يجري حاليا. هذا هو الشيء الذي لا يريد أن يتورط به. وتلك لا شك هي سيارتها في موقف السيارات كما يظن. لماذا لم تركبها وتنصرف إلى بيتها؟. وقف بمكانه لدقيقة إضافية. ولكن ما هي خياراته؟. هو لا يمكنه القيادة باتجاه طريق بوابة النادي دون أن تشاهده. ولا يمكنه تركها هناك في العراء. دفع دراجته ودار حول أشجار الورد نحو الممشى المضاء الذي يلتف تحت الشرفة.
جمدت العجوز لدى اقترابه. وحاول الاحتفاظ بصوته الودي والمهذب. قال: ”هل بمقدوري معونتك؟. أنا من عمال النادي. في غرفة الطعام؟. وبطريقي للبيت”.
ارتاح وجهها. قالت بصوت دافئ: ”طبعا. أنا أعرفك”.
نظر هيكتور إلى الطريق نحو بوابة النادي. الأضواء التي تنير الممشى في الليل متوهجة، وأخيلة تطفو من الأغصان المورقة.
قالت: ”هناك.... بعض الاضطراب. سوء تفاهم. على ما أخشى”. وقف هيكتور محتارا. وأخيرا سألها: ”هي تلك سيارتك؟ في موقف السيارات؟”.
“نعم. هي”.
قالت مجددا: ”نعم. ملكي”. وكان يبدو أنها تنظر إلى الأشجار وليس له. تعجب هيكتور. خلال ست ساعات عليه أن ينهض ويرتدي ثيابه، ويجهز الإفطار والغداء لنفسه، مهما كان المطبخ مقرفا، ثم يمتطي دراجته ويتابع إلى عمله، نقل الحجارة من أجل سلفادور، قبل العودة إلى النادي في نوبة العشاء. وكل ما حولهم في الصمت المخيم أوراق تتحرك وتخشخش، ونسمات تهب من هواء الليل البارد. مدت يدها وقالت: ”ديدو ماندلستام”.
اقترب هيكتور بدراجته منها. قال: ”هيكتور. هيكتور موراليس”. ومد يده وصافح يدها.
قالت: ”يا له من اسم جميل”. ثم منحته ابتسامة متألمة وقالت: ”أفترض أن الجميع رأونا الليلة. في العشاء. هو ابني. ولكنه أحيانا يكون غريبا عني”. ضحكت قليلا وقالت: ”هو غريب في هذا العالم. بعض الناس هكذا دون سبب. ولكن لديه مشاكله. وفي الحقيقة كان يعاني من المشاكل منذ البداية. حتى في طفولته”. ولم يعرف هيكتور ماذا يقول. أشارت نحو الطريق حيث توارى ابنها. قالت:”هو يعيش هناك. قرب النادي. في واحد من تلك المساكن. وأعتقد أنه سيشق طريقه”.
من خلال أوراق الشجيرات التي تحيط بهما، لاحظ هيكتور نقاطا مضيئة وبعيدة. أشعل عمال الأرض النار في أسفل البستان القديم، لحرق الأوراق والأجزاء المشذبة. كانت نارا خفيفة وبطيئة. وحينما تقدم ببطء لاحظ ضوئين، نارين برتقاليتين ساطعتين مثل عيون تغمز من بين الأوراق الداكنة.
قالت:”لا أقود السيارة إلا قليلا. ولا ألمس المقود في الليل. ولا أرى بشكل جيد. ولكن علي أن اذهب يا هيكتور إلى البيت. ابني هاوارد أتى بي وجئنا بسيارتي. وكنت أظن أنه سيعيدني إلى بيتي بعد العشاء. سيارته أمام بيتي الآن طبعا. ولا أعلم بماذا يفكر وماذا سيفعل حينما يستيقظ في الصباح. إذا تذكر أصلا”.
قال آملا أن يحرك الأمور إلى الأمام:”حسنا إذا. علينا استدعاء سيارة أجرة”. حملت جزدانها. كان كبيرا، قال بدهشة لنفسه: هذه حقيبة يد سوداء مهترئة. حقيبة نسائية فعلا.
قالت: ”طبعا سأدفع لك. لقاء تعبك. لو قدت سيارتي إلى البيت. ثم لقاء سيارة تعود بك إلى بيتك لاحقا طبعا. أعلم أن الوقت تأخر”.
نظر هيكتور لجزدانها ثم عاد إلى وجهها. رأى شبكة الخطوط عليه. كانت كبيرة لدرجة مفزعة. ابتعد خطوة. هذه مخاطرة. وشعر أن ابنها بشعر رأسه النسائي والغريب، يراقبهما في الظلام من بين الأشجار، بانتظار أن ترى ما يحصل. ثم انتبه أنه يشم دخانا، نارا تحترق بالجوار. وكان الكلاب حاضرين مجددا، ليس واحدا فقط، ولكن دستة أو أكثر، مختبئين في الغابة. فكر: القيوطات.
قالت:”لدي زوجان يعيشان معي. يساعدانني. ونحن نتشارك على هذه السيارة. ولا أريد أن أتركهما بدونها. أنا أعلم أنها مسافة لكنها ليست بعيدة جدا. عدة دقائق من هنا”.
لا يمكنه المخاطرة هكذا. وليس لديها فكرة. وهي لا تفهم.
فتحت حقيبتها وأخرجت محفظة نقود، وبدأت تفك السحاب. قالت وهي تبحث: ”أعتقد لدي هنا 200 دولار. ولكنني سأدفع أكثر. بسرور. ما يبدو مناسبا لك”. وكررت:” لقاء مشكلتك”.
شعر باليأس. قال:” ألا يوجد آخرون يمكن أن تتصلي بهم؟. أبناء.. آخرون؟”.
نظرة متألمة عبرت وجهها. قالت: ”هناك أخوه. ولكننا فقدناه. منذ سنوات بعيدة”.
شعر بالألم والضغط في صدره مجددا. لم يكن أمامه خيار. كما يرى. لا يمكنه أن يخبرها بحقيقة حياته.
قال: حسنا. حسنا”. وفكر: اللعنة. اللعنة.
أودع دراجته في مؤخرة السيارة وجلس على مقعد القيادة. قال:”ما عنوانك؟”. أخبرته به. حدده بهاتفه. قال صوت GPS "انطلق لوجهتك”، وجمدت السيدة ماندلستام الجالسة في مقعد الراكب الأمامي. خرج هيكتور من موقف السيارات ثم حرك القود ليصل إلى الطريق. بالرغم من القمر المشرق كان الجو معتما تحت أغصان الأشجار المعلقة. مرا من بوابات المداخل، وأضواء الغاز تلمع فوق أعمدة حجرية. واختفت المعابر في الظلام. لم يشاهدا سيارات أخرى. فالوقت متأخر. وذكر هيكتور نفسه أن الناس نيام.
وحينما ظهر ضوءان في المرآة الصغيرة وتبعته من مسافة ثابتة، خفف هيكتور سرعته. مع أنه كان يقود ضمن حدود السرعة المسموحة. كان خائفا جدا وصحح اتجاه المقود مرتين. وكل من كان وراءه سيعتقد أنه مخمور. سيندلع ضوء دوار فوق السيارة وسيوقفه شرطي ويأمره بالتوقف. وينتهي كل شيء. سينقضي. ويتم. وتصور خاله ساندور المرتمي على فراشه في مصحة سانت إليزابيث والمرعوب لعدم مجيء هيكتور…
ومض ضوء السيارة التي خلفه.
مجددا ما الخيار المتبقي أمامه؟. توقف على جانب الطريق وشعر أن الدواليب غاصت بالأعشاب. تراخت ساقاه. لوهلة سريعة متأثرا بفكرة أشخاص أقلعوا بعيدا حينما أوقفتهم الشرطة، وقفزوا من فوق الأسوار، وزحفوا في الخنادق، واختبأوا في الغابة، فكر بالهرب. أضاءت الأنوار الأمامية جدارا حجريا منخفضا كان على جانب الطريق. ووراءه ظلام. تذكر القيوطات التي رآها مرة، وطريقة تغلغلها بين الأشجار.
دون أن ينظر إليها قال:”أنا بلا رخصة سواقة. وكنت هنا منذ طفولتي. لكن أنا… بلا وثائق. غير شرعي”.
شعر بنظراتها مصوبة عليه. بعد لحظة هزت رأسها. استنكار صامت. أو عدم تصديق. ربما دهشة فقط.
التفت نحوها: ”سيسجنونني الآن”. كيف تتخيل ما سيحصل؟. الأغنياء لا يتخيلون أن الأمور تجري بطريقة لا تخدمهم. ثم شعر بالريح وصوت مرور سيارة، وضوء السائق يومض لمرة أخيرة - شكرا لانزياح هذا الكابوس أخيرا، يا صاحبي - وزاد السرعة. أسقط جبينه على يديه، وهو يقبض على المقود. وأراد أن يتقيأ.
لزما الهدوء. واستمرا هكذا لدقيقتين من الوقت. جالسين في الظلام. دون أن يتكلم أي منهما. ثم قالت: ”ربما ليس لدي ما يكفي من النقود لأجعل ليلتك تستحق هذا العناء”. قطبت وجهها: ”متأسفة. اغفر لي. أنا امرأة عجوز وأنانية”.
التمع البيت المبني من رخام أبيض، في ضوء القمر، من نقطة تشع كسهم ينطلق باتجاه لونغ آيلاند ساوند. أوقف السيارة على ممشى يغطيه الحصى ويقود إلى المدخل الأمامي وأطفأ المحرك. كان البيت محاطا بمروج تعلوها الشرفات، ويبدو كأنه متحف، وليس مكانا لتعيش به. جناحان. ونوافذ عالية تلمع بالظلام. وتحيطان بطرفي هيكل المبنى الأساسي. كان الباب الأمامي ضخما، يناسب حجم عمالقة. ويمكن للرجل أن يقف على أكتاف غيره، ويمر منه. قال هيكتور:”هل هذا بيتك؟”.
“هذه هدية الزفاف. من زوجي”.
خيم الهدوء عليهما، كأن البيت - الغامض والمنعزل والأنيق - ألقى سحره عليهما. وفي النهاية فتح هيكتور نافذة السيارة. سمع صوت الماء، وأمواج تتلاطم في مكان قريب. سمع نفسه يقول: ”عاش هنود لينابي هنا، قرب الماء”. ولا يعلم ما جعله يتذكرهم. ربما الإحساس بشيء انتهى ورحل.
التفتت إليه بدهشة. وقالت: ”حقا. وأشباحهم هنا”. فكر: حسنا، هذا يفسر كل شيء، مع أنها حمقاء لكنه لا يستطيع تماما أن يقلل من أهمية كلامها.
ترددت قليلا عند أسفل السلالم التي تقود إلى الباب الأمامي، ونقلت حقيبتها الكبيرة لذراعها الآخر. ولاحظ أنها تحتاج للمساعدة، فمد لها ذراعه، لتتوازن. وأدرك أنه لا يمكنها تسلق السلالم بدونه، بدون شخص ما. إنها تمتلك كل شيء متوفر في العالم، ولا تزال عاجزة الليلة. تنفست بصعوبة بعد أن وصلت النهاية. قالت: ”شكرا. حسنا. لنطلب سيارة لك”.
تلفت حوله. واستحوذ عليه الهدوء والماء الأسود والبيت المعتم. أراد أن يستعيد دراجته، ويقودها بعيدا عن هذا المكان بأسرع ما يمكنه. ولكنه تردد. قال:”ستكونين على ما يرام”. قالت: ”أنا بحال جيدة. الزوجان اللذان يعيشان معي صديقان عزيزان. نحن معا منذ فترة طويلة. ولكن لا أريد إزعاجهما بوقت متأخر من الليل”. ابتسمت وقالت: ”هما طاعنان بالسن”. ثم فتحت حقيبتها واستخرجت محفظة النقود ثانية وقالت:”أنا مدينة لك يا هيكتور. أنت لطيف جدا. وجريء جدا”. أرادت أن تمنحه كل ما في المحفظة. خمس أوراق. خمسمائة دولار. ومستعدة للمزيد. لو طلبها. المبلغ لا يعني لها شيئا. وربما يحصل منها على ألف دولار. كما يظن. ولن تمتنع. ولكن ما طلبته منه كان يقربه من نهايته. ما قيمة المخاطرة تلك؟. فجأة تذكر، متألما، كلب ال 25 ألف دولار. ولم يمكنه النظر بوجهها. لم يجد الرغبة بنقودها. لو أخذها، كل ما جرى الليلة قد يكون بلا قيمة. قال وهو ينسحب: ”يجب أن أنصرف. لا ضرورة لشيء”.
أرادت أن تحتج. ولكنه أسرع بالهبوط، وأخرج دراجته من سيارتها، وارتدى خوذته. وقفت أمام الباب المفتوح. تنظر إلى الأسفل نحوه. وراءها ممر طويل يملأه بريق أشعة القمر، والمرايا على جدرانه. قالت:” يوما ما يا هيكتور. ستروي لي قصتك”. ربما سيحل ذلك اليوم. غير متيقن من ذلك. عوضا عن ذلك بسط يده بتحية وداع. ولوح بها بشكل غريب. رفع يدها بالمثل. قالت: ”ستخبرني يا هيكتور متى أستطيع مساعدتك. والآن أنت تعرف أين تجدني”.
قال: ”نعم. حسنا. طابت ليلتك”.
تمايل على دراجته. وتلاشى العذاب المؤلم من صدره. وحل محله طاقة عنيفة تراكمت بداخله - حمقاء، جريئة، خطيرة. وعض لسانه بالخطأ وشعر بطعم الدم.
بعد دقائق في شارع تروي الرئيسي وسط الصمت الهامس والعتمة الباردة، ومضت انعكاسات خوذته الفضية على واجهة المتاجر. كانت بعد الواحدة ليلا. حصل شيء كثير، ولكن مر أقل من ساعة منذ أن أغلق الباب الخلفي للنادي. مر بجانب الطرف المرتفع من متاجر الألبسة التي تصطف على طول الزقاق. معاطف فرو، شاموا، جلد. أثواب وبذات في النوافذ ولكنها مقيدة بسلاسل من حبال برونزية مخفية منعا للسرقة. في النهار تلمع متاجر المجوهرات بألماس وذهب براق. وفي الليل تعرض الواجهات مانيكانات بمخمل أسود. مؤنثة بشكل واضح، وبلا رؤوس، والذراعان مقطوعان، وعارية من مجوهراتها المحجوزة في خزائن آمنة طيلة الليل. هبط على سفوح التلال نحو المرفأ حيث زوارق المتعة الطافية. سيستدير من هناك إلى الجنوب باتجاه زقاق أتلانتيك، ويتابع إلى بورت هانا، وللسرير الذي ينتظره منذ ساعات. الريح بوجهه وعيناه باردتان. شعر بالدموع على خديه. كانت اليخوت وقوارب السباق لا تتحرك وساكنة في الماء كأنها جحافل جيش بانتظار الإشارة للتقدم. لاحظ أول خيال - قريبا من الأرض وبنيا وفضيا وغير واضح - تباطأ عند المنعطف. كان يتحرك في الطريق الفارغ الممتد أمامه وانضم له آخر. ثم ثالث. رابع. أكثر؟. لا يمكنه أن يقرر.
شاهد العيون تنظر نحوه. تلمع بلون معتم تحت أضواء الشارع. كانت المخلوقات سريعة، ثم انتشرت. طار نحو محطة الوقود، وبائع الدواليب، وعلبة نفايات ذات رائحة مزعجة. وسمع جرس إنذار من مكان ما مجاور، وتسارع، ثم انطلق بالنفير مرتين، ثم ساد الصمت. نظر يسارا بقلق ثم يمينا. أين ذهبت؟.
قال ذات يوم سترغب ديدو ماندلستام أن تستمع لقصته. ولكن ما هي قصته؟. فهو لا يعرف شيئا عمن أتى به إلى العالم، فقط خاله، الذي وصل إلى أمريكا بصباه، وذكريات خاله عن طفولته وأخته الصغيرة التي خاطرت في أحد الأيام بإرسال طفلها إليه. جعله ذلك يرثي ويحب أمه التي لا يتذكرها. قال له ساندير إنه جاء من منطقة زلازل كثيرة وعنف لا يرحم. وقال ساندير هناك طرق متعددة يمكن لشعبهم المرور منها نحو المستقبل. هل هرب اليوم من القيوطات أم أنه رافقها؟. هل يمكنه أن يحدد ماذا جرى؟. بمقدوره ذلك. حينها كان قلبه الذي يقرع بعنف قد أصبح بنظره متضخما وأكبر من حجم صدره. بقي له القليل من الوقت ليرتاح ولكن الآن هو سيد الليلة. وتابع القيادة بسرعة كأنه يطير.
***
.......................
* كاري براون Carrie Brown كاتبة أمريكية، عملت لسنوات طويلة مع جامعة فرجينيا، ثم بالتدريس في جامعة هولينز. من أهم أعمالها الروائية: أخت مراقب النجوم، آخر سلسلة اليوم الأول. ومن كتبها القصصية مجموعة: بيت في جزيرة بيللي، وغيرها.