ترجمات أدبية

ريجينا بورتر: لقد رحل الأغنياء

(عندما تنظر إليّ، ترى نفسك. وعندما أنظر إليك، أرى الآخرين )

بقلم: ريجينا بورتر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان هناك فتات خبز على طريقة "هانسل وجريتل" تروي حكاية العلاقات التي فقدها ثيو على الطريق. نساء ورجال دافئوا جزءًا منه يفضل أن ينساه. دوناتيلا، تاجرة التحف المكسيكية الجميلة التي سافرت مع ثيو من باتون روج إلى نيو أورلينز في رحلة لعرض التحف، لقد تم التخلي عنها أثناء قيلولتها بعد الظهر في فندق كولومز. خلال ساعة السعادة في الليلة السابقة، كانت قد أخذت رشفة من مشروب "بيليني" الخاص بثيو وقالت:

- انظر، نحن تقريباً نفس اللون .

أجاب ثيو:

- لا، لسنا كذلك.

- نعم، نحن كذلك.

لمست دوناتيلا وجهه بخفة بأصابعها البرونزية المثقلة بثلاث خواتم. كانت شمس لويزيانا حارقة، ولكن حتى في ولاية أيوا، خلال أيام نهاية العام الدراسي في مايو، كان ثيو دائمًا يحمل لونًا داكنًا يتنافس مع عدد قليل من الطلاب السود. وقد عانى كثيرًا بسبب ذلك.

قال:

- ربما تحرقك الحرارة هنا ، في نيويورك، يعاني الجميع من نقص فيتامين د.

كانت دوناتيلا ذات قوام ممتلئ، وتتناول طعامها بحذر حتى لا تتحول منحنياتها إلى بدانة مقلقة. كانت تفضل الفساتين ذات الألوان الزاهية والملمس المميز الذي كان يفعل شيئًا رائعًا لبشرتها، بريق طبيعي يومي، ليس كالتعرق. لاحقًا، سيدفع الناس مقابل زجاجات رش من التونك لتحقيق نوع البريق الذي تمتلكه دوناتيلا (وثيو). كيف كانا يتناولان بسرور كالحيوانات غير المهذبة جراد البحر الغارق في التوابل الكاجونية الحارة، ثم يصلان إلى مناديل مبللة بالليمون لإزالة رائحة جراد البحر من أيديهما. كانت الرائحة تبقى وتمنحهما العذر الذي لم يكونا بحاجة إليه ليمصا أصابع بعضهما البعض، الإبهام، والسبابة، وراحة اليد الداخلية محاولين لعق الرائحة بعيدًا لكنهما يفركانها على جسديهما في الليل.

عندما سألته دوناتيلا فجاة، "هل تؤمن بالحياة الماضية؟" لقد أعطت ثيو العذر الذي يحتاجه للنظر إلى السقف في السرير ذي الأعمدة الأربعة والتوجه إلى الداخل. ربما كانت الحياة التي كانا يعيشانها في تلك اللحظة حياة سابقة بالنسبة لثيو.

قال:

- من الصعب بما فيه الكفاية العيش في الوقت الحاضر. لا يعرف معظم الناس كيفية القيام بذلك. في بعض الأحيان أعتقد أن اللحظة الحالية هي الأفضل.

وافقته دوناتيلا، ووضعت رأسها على صدره.

- هذا يبدو صحيحًا جدًا.

استمعت إلى دقات قلبه.

يا إلهي، بالتأكيد فعلت. بالتأكيد حدث ذلك. لكن ثيو بالكاد كان يعرفها. كان إحساس الراحة البسيط والمشاعر الدافئة يخيفه بشدة. راقب ثيو دوناتيلا وهي نائمة لأكثر من ساعة، ثم ترك رسالة قصيرة على المنضدة الزنك. كتب فى الرسالة: "دوناتيلا، الأمر ليس متعلقًا بكِ. إنه أنا."

دفع ثيو الفاتورة في مكتب الاستقبال وهو يغادر الفندق. لم يكن هناك أي أمل في نجاح علاقة عبر ساحلين. كانت دوناتيلا تعيش في لوس أنجلوس، مع الحرائق ونقص المياه. والطرق السريعة ذات الستة ممرات والحياة البرية التي يمكن أن تحولها من ناقمة على العصر الجديد إلى مهووسة به ، وعلى الرغم من تطورها، فقد تماهت بقوة مع كونها مكسيكية، حيث كانت تستعمل الإنجليزية والإسبانية أثناء المحادثة بسرعة قياسية، متوقعة منه أن يواكبها ويتأقلم مع لغتها. كان يفضل العبارات الإنجليزية البسيطة والجمل التقريرية.

مرة أو مرتين أثناء ممارسة الجنس مع صديقته التي أصبحت الآن زوجته، دارلا، نطق باسم دوناتيلا. كان ممتنًا لأن كلا الاسمين يبدأان بحرفي الدال والألف، ولحسن الحظ أن الطبيعة الغريزية للجنس جعلت دارلا لا تلاحظ.

***

كان ويد، طيارا يعيش في أوستن ويعمل لدى شركة ساوثويست. التقى به ثيو خلال توقف في مطار أوهير بشيكاغو. لاحظا بعضهما في طابور للحصول على فشار جاريت ميكس، واشترى كل منهما دلوًا بسعة عشر أونصات. ثم جلسا جنبًا إلى جنب لتلقي جلسة تدليك للظهر لمدة عشر دقائق في إحدى محطات التدليك بالمطار، حيث تبادلا الأحاديث الصغيرة بينما كانت امرأتان لم ينظرا إليهما مطلقًا تدلكان ظهريهما. لم يكن ثيو يعتقد أن الأشخاص ذوي الشعر الأحمر جذابون إلى هذه الدرجة، وكان ويد هو الرجل الوحيد ذي الشعر الأحمر الذي جعله يعيد التفكير فيما كان يعتبره حقيقة. عندما افترقا، تبادلا أرقام الهواتف، وفي الأسابيع التي تلت ذلك، ظهرت خطة لثيو لاصطحاب وايد في بوسطن والقيادة معًا إلى منتزه أكاديا الوطني في ولاية مين. أقاما في نزل على جزيرة ماونت ديزرت، حيث سأله موظف الاستقبال، "هل أنتما شقيقان؟" وقال وايد، الذي خرج قبل عامين، "أكثر".

كان ويد من هواة مراقبة الطيور وعلم ثيو أصواتها المختلفة: "تويتشتي-ويتشتي-ويتش" للعصفور الأصفر الشائع؛ "ززززز" لعصفور الحنجرة السوداء الخضراء؛ و"تشر، تشر، تشر" لطائر الفرن. أصوات الطيور التي غناها ثيو فيما بعد لزوجته الشابة، والتي أعادت إنتاجها بدقة على آلة الباسون. في صباح أحد الأيام، بعد مراقبة النسور الصلعاء وهي تهبط من السماء لتصيد فريستها بمخالبها، ، وجد ثيو وويد بحيرة للاستمتاع بالسباحة والجنس. ودون علمهما، كانت البحيرة مليئة بالعلقات.

قال وايد، وهو يلتقط العلق من ظهر ثيو:

- أحب طقس الساحل الشرقي ، ليس لدينا مواسم حقيقية في أوستن .

- هذا يعني أنه سيتعين عليك العودة لزيارة أطول.

عانق وايد ثيو بقوة:

- ربما لن أغادر أبدًا .

- ألا تحب أوستن؟

قال وايد :

- أوستن رائعة، لقد حافظت على الكثير من الصداقات بعد طلاقي. في بعض الأحيان أفضل ما يمكنك فعله هو الحفاظ عليها. وتقليص خسائرك .

غطس ثيو في البحيرة للسباحة الأخيرة.

قال وايد، وهو ينظر إلى ساعته مع مرور الوقت:

- هي ، ألا تشعر بالبرد هناك؟

خرج ثيو من البحيرة وهو يرتعش، وعندما مد ويد يده للتحقق من وجود العلق، دفع ثيو يده بعيدًا.

- أستطيع التعامل مع مصاصي الدماء بنفسي.

لم يكن ويد أحمق. كانت الرحلة من منتزه أكاديا الوطني إلى مطار بوسطن كالمشي حافي القدمين عبر سيبيريا. كانت هناك قشعريرة وصقيع ومشروب فرابوك سينو موكا منسكب على مقعد الراكب بينما كان وايد يودع ثيو. شعر ثيو بالارتياح لعدم وجود موقف سيارات على جانب الطريق للمغادرين.

قال ثيو:

- هل أفسدت هذه السيارة المستأجرة عمدًا؟

فأخرج وايد ورقة نقدية بقيمة مائة دولار وقال

- حقًا .

- لم أفعل .

في ولاية كونيتيكت، وجد ثيو مغسلة سيارات. وبينما كان يشاهد فقاعات الصابون السائل تملأ السيارة المستأجرة، سمع نفسه يقول: "كفى رحلات برية مع الغرباء".

***

كانت فيكتوريا، مدرسّة إنجليزية كلغة ثانية من ترينيداد تحمل شهادة في العلوم السياسية من السوربون. كانت تحافظ على شعرها مصففا على طريقة كونداليزا رايس وتذهب مباشرة إلى الحمام لتصفيفه بعد ممارسة الجنس. أحب ثيو الحركات التي كانت تقوم بها فيكتوريا عندما كان يمد يده لملامسة شعرها، وهو ما كان يعرف أنه محظور تمامًا. كان الجزء المحظور يملأه بالفضول. في أحد أيام الأحد أثناء ركوب حافلة صغيرة إلى ساغ هاربور لحضور تجمع مع الأصدقاء، أصبحت فيكتوريا حالمة بأيامها الخوالي في السوربون. نظر ثيو من مجلة "Architectural Digest" التي كان يقرأها. كانت فيكتوريا قد تخرجت في أعلى مراتب صفها. كان ثيو طالبًا بمعدل B في أفضل حالاته. أغلق مجلته ومرر أصابعه عبر شعر فيكتوريا كما لو كان يحرث حقلاً من الملفوف.

- توقف! ماذا تفعل بحق الجحيم؟

صرخت فيكتوريا، وهي تربت على شعرها بينما كان ثيو يسرع في تمرير أصابعه عبر شعرها من زاوية مختلفة.

- أبحث عن المعرفة والطمأنينة .

حضرت فيكتوريا التجمع وحدها. بينما كان ثيو يتجول في متحف صيد الحيتان في شارع مايِن في ساغ هاربور، كان ينتظر حافلة صغيرة للعودة إلى مانهاتن.

***

كان كريس بيم أكبر بخمس عشرة سنة، ولديه شارب جعله يبدو وكأنه بلا شفة عليا. دخل إلى متجر "ABC Carpet & Home" في إحدى الأمسيات واختار أربع كراسي مطبخ حديثة. كان يحتاجها لحفلة في حديقة في تشيلسي في نفس المساء. قال كريس بيم، وهو يقدم لثيو إكرامية كبيرة: "إنها تجمع للرجال،" وطلب منه التأكد من توصيل الكراسي في نفس اليوم وفي الوقت المحدد دون أي خدش أو عيب. كان منزله يقع عبر الشارع من حديقة، في مبنى مكون من ثلاثة طوابق في شارع ستة عشر. لم يبقَ ثيو طويلاً، بل انتقل من غرفة إلى أخرى وهو يمرر يديه على الأثاث، غير مبالٍ بالنُدُل الذين كانوا يرتدون سراويل وقمصان سوداء وجوارب سوداء، وغير مهتم بالمقبلات والكوكتيلات. غير مهتم بالمقبلات والكوكتيلات. كان بيم يراقب ثيو وهو يتلذذ بمنزله.

- يعتقد أصدقائي أنك لص.

قال ثيو :

- لا، لكنني الآن أشعر بحسد شديد تجاه المنزل.

- سأذهب إلى معرض سيارات في نهاية هذا الأسبوع في بنسلفانيا. مع توقف في فيلادلفيا. مسقط رأسي. هل تود الانضمام؟

هز ثيو رأسه:

- لا أجيد الرحلات. مع الأولاد أو البنات.

كان ثيو لا يزال يشارك شقة مع زملاء سكنه الذين كانوا يذهبون إلى حفلات بأسلوب الأولاد الجامعيين بعد خمس سنوات من تخرجهم من جامعة نيويورك. كان مصمماً على استئجار مكان رخيص حتى يتمكن من شراء منزله الخاص. بخلاف تناول الإفطار في مطعم "فيسيلكا"، لم يكن لديه الكثير من القواسم المشتركة مع زملائه في السكن. لكن مع عدم وجود شيء آخر يفعله في عطلة نهاية الأسبوع تلك، قبل دعوة كريس بيم.

ما تلا ذلك كان رحلات نهاية أسبوع منتظمة—كان كريس بيم يبيع سيارات قديمة في جميع أنحاء نيو إنجلاند ومنطقة الثلاث ولايات. خلال عرض للسيارات القديمة في هيرشي، بنسلفانيا، لاحظ كريس بيم ثيو وهو معجب بسيارة إلدورادو ذات اللون الأزرق المائي. اشترى السيارة على الفور وسلم ثيو المفاتيح.

قال ثيو:

- لا يمكنك أن تعطي الناس أشياءً هكذا فقط ألا تعرف أنهم سيكرهونك بسبب ذلك؟

- ثيو، لا يمكنك أن تكرهني أبداً.

وكانت هذه الحقيقة، فقد كانت هذه أطول وأشد علاقة عاشها ثيو. كان ثيو قد اعتاد على أن يكون دائماً القائد، لكن كريس بيم كان هو من يقوده. بدأ ثيو في اختيار قطع الأثاث لأصدقاء كريس بيم، الذين كانوا يثنون على الإضافات التي قام بها ثيو في منزل تشيلسي وشقة جيرسي شور. ومع ذلك، كان ثيو لا يزال يقيم علاقات مع النساء من حين لآخر عندما كان كريس بيم يعمل أو يخرج مع الأصدقاء أو يرى عائلته أو لا يهتم .

ومع ذلك، كان كريس بيم في حيرة حقيقية بعد مرور عام على علاقتهما عندما دعا ثيو للانتقال للعيش معه وترك الأولاد الجامعيين لتدنى مستواهم.

قال ثيو، وقد بدأ في تعبئة القليل من الأشياء التي كانت تخصه في المنزل.

- لا .

- ما المشكلة؟

- ليس أنت، كريس. إنه أنا.

لم يكن كريس بيم ليتخلى عن الأمر بسهولة.

- هل ذلك لأنني أكبر سناً؟

ابتسم ثيو وقال :

- ذات يوم سأكون عجوزًا أيضًا.

سكب كريس بيم مشروبًا :

- ثيو، لقد ظهرت لي كالكثير من الأشياء. لكن السطحية ليست واحدة منها.

- ماذا تعني بذلك بالضبط؟

- بالنسبة لبعضنا، فإن المتعة أمر لا يطاق.

قال ثيو، وهو يتجاهل كريس بيم على هاتفه بينما كان يقف ويتحدث معه:

- أنا بشر. يمكن للإنسان أن يعتاد على أي شيء.

- خرج من منزلي أيها القذر الجاحد.

ظن ثيو أن كريس بيم سيستخدم علاقاته لطرده من عمله في ABC. انتظر أن يتم استعادة سيارة الإلدورادو، التي لم يتم نقل ملكيتها إليه بعد،وكان يعتقد أن قائمة العملاء، من المثليين والمستقيمين، التي بدأ ثيو في تكوينها بفضل كريس بيم، سوف تقل وتتلاشى ، لكنهم استمروا في الاتصال بثيو حتى بعد أن أقام في بروكلين.

في الأسبوع الذي كان من المقرر أن ينتقل فيه ثيو، جاء كريس بيم إلى شقته في إيست فيليدج في شارع الحادي عشر وشارع أ. جاء ثيو للقائه على الرصيف، مستعداً لإعادة مفاتيح السيارة.

سأل مرة أخرى:

- هل هو لأنني أكبر سناً؟

قدم ثيو مفاتيح الإلدورادو إليه:

- من الأفضل عدم اكلام …

قال كريس بيم بحدة:

- احتفظ بالسيارة اللعينة. كنت أظن أن لدينا شيئاً هنا.

قال ثيو، وهو يضع المفاتيح في جيبه:

- كريس, عندما تنظر إليّ، ترى نفسك. وعندما أنظر إليك، أرى الآخرين .

(انتهى المقتطف)

***

..........................

* مقتطف من رواية " لقد رحل الأغنياء " للكاتبة ريجينا بورتر، والتي ستنشر عن دار هوغارث، إحدى دور النشر التابعة لدار نشر بينجوين راندوم هاوس.هذا العام 2024.

المؤلفة: ريجينا بورتر/ Regina Porter روائية أمريكية وكاتبة مسرحية حائزة على جوائز ومعلمة كتابة إبداعية. تقيم حاليًا في بروكلين، نيويورك لكنها ولدت في سافانا، جورجيا. وهي خريجة برنامج الماجستير في الفنون الجميلة الشهير في ورشة عمل كتاب أيوا، ومن بين خريجيها البارزين جين سمايلي وفيليب روث. صدرت روايتها الأولى " المسافرون / The Travelers عام 2019 وقد نالت إشادة النقاد بوصفها رواية سياسية ، ويصدر لها هذا العام رواية : لقد رحل الأغنياء / The Rich People Have Gone Away التى نترجم منها هذا المقتطف القصير .

 

في نصوص اليوم