قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: قراءة في المجموعة القصصية "حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه"
لجمال الهنداوي.. الملحوظ الوقائعي يؤول إلى الهواجس الفاعلة
توطئة: تتجاذب النصوص القصصية وتتسامى في مجموعة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) للقاص الصديق جمال الهنداوي، فتتعالق وتعدد ملحوظات الوقائع ضمن تنصيصات محولة من الماهية النصية إلى حواريات وفضاءات هواجسية تتمازج في جملة الخطاب الواقعي وتتكاثف في أهم مكونات دلالات الوظائف والأبعاد الجمالية التفاعلية. وينهض مثال هذا التفاعل النصي بين أقاصيص المجموعة ضمن حدود خارجية تتداخل من خلالها آليات القص المحكي توصيفا أسلوبيا في التنوع ولذة الإمتزاج والتداخل في عينات تتوسل مستويات متجلية من وحدات الزمن والمكان واللغة الواصفة لآفاق فضاءات محدثة وقصية تفرضها تحصيلات نمو الدلالات التواصلية في مجالات صفاتية وذاتية من شجن الوقائع في النص والنصوص.
ــ حدود تداخل النصوص وسياقية وحدة المعنى المتبلور
تنفتح قصص مجموعة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) على خطابات من النوع الذي يجيز وحدة المحتوى في تقلب المظاهر الصوغية نحو محكي وجهة النظر وذاتية السارد وحضور المؤلف ضمن خلفية التفاعل والتنوع بين مكونات الحكاية وحضور الخطاب في أشد لحظات بروز الملامح الإنتاجية في مشخصات النصوص.
1ــ رائحة العطر وقرائن الظروف الفردية:
تعتمد قصة (العطر) على خطاب رصد التفصيلات الشكلية إذ تنفتح الصور والمظاهر المقطعية على حكاية مشفوعة بمقتربات دلالية في الأجزاء والواصلات والتصريحات والإيحاء والتلميح: (ككل صباح، وضع علبته الكارتونية التي تحوي قناني صغيرة جدا من العطر على الطاولة، وأخذ يرصها بشكل يتيح للزبائن قراءة الملصقات التي تشير إلى أسماء العلامات الشهيرة ــ أراد جاره أن يشاكسه أكثر استدار لردوده اللاذعة ــ: تمنيت فقط أن أعرف ما الذي يفعله أبو فراس ليحتل كل هذه المكانة في قلبك ص16) إن القارئ لقصة (العطر) لربما يعاين تراجع مستوى الفكرة رغم جمالية المنظور البنائي للحكاية. فالقاص هنداوي وضع صيغة الخطاب ضمن دوال تجربة عابرة لا تستحق منه ضمها لتكون تجربة قصة قصيرة متكاملة، ناهيك عن حجم ومقدار الطابع المحلي الواقعي في النص ما راح يجعل النص وكأنه مسرح للأعراس. أي إن الحبكة القصصية لدى موضوعة القصة بدت وكأنها تختلق ذلك المصير الذي يواجه أبا خضير بالكثير من حالات الرؤية اللامؤثرة. فالقصة القصيرة لا تتطلب كل هذه الأهمية في انتقاء المصائر بقدر ما تتطلب الشروع بتأثيث النص بأكمل المحفزات الحقيقية في نجاح المشروع القصصي.
2ــ التمثيل والتخييل والمحاكاة في الحب والحمص:
في الواقع إن فعل القراءة لقصة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) وعلى ما أظن إنها أجمل قصص المجموعة على ما يبدو عليه أمرها في الفكرة والموضوعة وكيفية توظيف العناصر السردية بمجمل ألوان الإثارة والحنكة والشجن في مكونات الوقائع النصية: (وحدها عربة الحمص المسلوق، تقف صامتة على الرصيف عند زاوية باب كلية الآداب، في ظل الشمس الخجول والهواء المشبع بأصوات العصافير ورائحة الندى. / ص27) القاص هنداوي كان دقيقا في رسم الحدود الفاصلة بين الإحساس بالأشياء ومنطقة الأفعال والوقائع السردية، لذا وجدنا بطل القصة يشق لذاته ذلك النوع من التقادم بتضاعيف مظاهر حسية فاعلة جعلت من معيار الحب نقطة الانطلاق نحو الملامح الشخصانية المركزة والتي غدا عندها الماضي كصورة توشك على الذوبان والزوال. إن قصة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) ما هي إلا جملة تفصيلات في مستوى الوعي النفسي ومشاعر الإحباط وكل القدرة القدرة على مواصلة الحياة بأعلى علامات الصورة البطولية الآسرة إما قصة (بجاه أبي الجوادين) وقصة (دليفري) وقصة (خيوط القلب) فهن من القصص التي أخذت لذاتها من اليومي الواقعي مجالا سايكولوجيا يكشف عن أزمة الشخوص والشخصية كما وتتكرر في كل قصة من هذه القصص الصورة التحفيزية من مجموعة مشاعر وأحاسيس تصب في ذات المدلول الواحد من الحوادث والتفصيلات القاهرة. أما الحال في قصة (على باب ردهة الطوارئ) فلربما يواجهنا ذلك النوع الانسيابي الذي تكالبت عليه الظروف القاهرة من كل جانب وجهة مما دفعته الأقدار ليكون لصا عند بوابة ردهة الطوارئ: (رحمك الله يا أبو كمال كأنك قد زرعتني في هذا المكان ورحلت، همسها لنفسه وهو يتذكر هذا الحديث عندما كان بنظر بعين الصقر إلى مدخل الحالات الطارئة في مستشفى ـ الشفاء ـ بعد سنوات من هذا الحديث. / ص91) على هذا النحو واجهتنا قصص مجموعة (جمال الهنداوي) وكأنها جملة معالم ومكونات حياة حقيقية تؤطرها حركة الزمان الذي ستجري فيه الأحداث، وتتبين مسافة منظورها المتماهي بين البطل والسارد، هذا التماهي الذي أنتج مجموعة من التصورات والرؤية السردية المخصوصة.
ـ تلقائية السرد وبؤرة الفاعلية المكانية
تشكل تمفصلات (البؤرة المكانية) عاملا موصولا في أفضية إنتاج حساسية القص، بيد أن القابلية التلقائية في إجرائية الموصوف السردي، أخذت تتلاءم مع تجليات البؤرة المكانية ما غدا يشكل دورا بالغ الأهمية في فضاءات قصة (دليفري) وقصة (خيوط القلب) وقصة (على باب ردهة الطوارئ) خلوصا نحو ممكنات كيفية خاصة في دوافع الحياة التلقائية في تجربة سرد الأبنية القصصية لدى تجربة القاص: (بطبعه، لم يكن عجولا، ولا يسرف في استباق طريدته. ص92 / نظرت أم مهدي إلى أصابعها المتورمة، وإلى الماكنة التي مازالت صامتة في الزاوية. / ص87) لاشك أن التوليد السردي في مساق الوحدات بدا شروعا في حيز الطبيعة التلقائية التي لا يتكلفها القاص افتعالا، بل هي ممارسة من شأنها تشخيص نوايا الأحوال المشهدية بكافة كوامنها اللحظوية المعاشة الأكثر إيغالا في الأشكال النفسية الداخلة والظاهرة. وبطريقة ما تجرجرنا أجواء موضوعة قصة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) إلى ذات الوضعية من المشاهدة التي أختص بها المكان انطلاقا من حالات تفاعلية بين (بؤرة المكان = تلقائية السرد) بما يجعلنا نستحضر تلك الوحدات من عينات النص: (لم يكن يعرف الكثير عن شارع المتنبي، سوى ما سمعه من أحد الزبائن يوما عن إن الشارع هو ــ جنة القراء ــ الذين لا يملكون ثمن الكتب.. حين وصل إلى البيت، وضع الكتاب تحت وسادته، كمن يخبأ شيئا ثمينا. واكتشف أن هناك خيطا ما يربطه بالكلمات. ص34. ص35).
ــ تعليق القراءة:
على هذا النحو واجهتنا قصص مجموعة (حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه) كأنها حالات ترابطية من ذات الموضوعة والخطاب.. النصوص تتدفق ضمن مناطق دلالية تسمو بالسرد التلقائي والبؤرة المكانية التي تلتصق بذلك الواقع المأزوم من اللحظة والزمن والمكان والمصير.. ببساطة إنها نصوص (الملحوظة الوقائعية) التي راحت تؤول نحو هواجس شخوصية فاعلة ومنفعلة. وفي الختام نقول إن تجربة الصديق الأستاذ جمال الهنداوي في نصوصه موضع بحثنا رغم بعض المؤشرات المحلية المفرطة في موضوعتها، ناهيك عن اللغة السردية التي تتطلب من القاص عدة تجاوزات لما يشغلها من التركيبات العابرة، فهي رغم وجود هذا وذاك تحتفظ لذاتها دلالات ذات سمات إنسانية قاهرة، بالإضافة إلى وجود ذلك المسار الجميل في المؤثرات السردية المواكبة للغة المكان والزمان وروح القص.
***
حيدر عبد الرضا






