قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: الحب والموت في مرايا الوجود
قراءة رمزية ونفسية في شعر العشق الكوني للشاعر وسيم الروسان
يظلّ الشعر، منذ فجر الوعي الإنساني، أداةً لاكتناه ما لا يمكن قوله، ومرآةً تنعكس عليها الأسئلة الكبرى التي تربك الوجدان والعقل معاً. ومن بين هذه الأسئلة، يبرز سؤال الحب والموت بوصفه جوهر التجربة الإنسانية وذروة تناقضها: فهل الحب انبثاق للحياة أم طريق إلى الفناء؟ وهل الموت نقيض الحب أم استمراره في صورة أخرى؟
في القصيدة موضوع الدراسة، نواجه نصاً يحتشد بالتوهج الوجداني والرمزية الكونية، حيث يمتزج الجسد بالروح، والعاطفة بالتأمل، والذات بالعالم. الشاعر هنا لا يكتب غزلاً تقليدياً، بل يؤسس ميتافيزيقا للعشق، تجعل من الحب معادلاً للوجود، ومن الفقد معادلًا للحقيقة.
وسأحاول في هذه القراءة أن أستعين بمناهج التحليل الرمزي والمنهج الأسلوبي والتحليل النفسي (اليونغي) والتأويل الهيرمينوطيقي لفهم البنية العميقة للنص من حيث الدلالة، والصورة، والمجاز، والإيقاع، والرمز، والبنية النفسية المتخفية خلف اللغة.
أولاً: جدلية الحب والموت – الوجود في انفتاحه وتناقضه
يفتتح الشاعر نصه بسؤالٍ وجوديٍّ لافت:
«أفي الموت حب كما في الحب موت؟!»
سؤال يختزل الفلسفة كلها في جدليتها الأبدية بين الكينونة والعدم. فالحب، كما يرى هيغل، ليس سوى “تلاشي الذات في الآخر”، أي موت رمزي يهب للحياة معناها الأسمى. أما الشاعر وسيم روسان فيجعل من الحب والموت توأمين متعانقين، إذ يكتشف أن كلاهما يقود إلى التجاوز، إلى عبور الذات نحو مطلقها.
إنه يتساءل، فيقول:
«في كل درب وجدت الموت، ففي أي موت سأجد الحب؟!»
وهنا يتحول الموت إلى رمزٍ للتحول لا للفناء، كما في فلسفة نيتشه الذي يرى أن كل موت هو شرطٌ لحياة أعمق. الحب عند الشاعر الروسان ليس لذّة ولا عاطفة، بل قدر كونيّ، موتٌ من نوعٍ آخر يفضي إلى الولادة.
ثانياً: الحبيبة بوصفها رمزًا كونيًّا – الأنثى كمرآة الوجود
في المقاطع التالية، تتجلى الأنثى بوصفها صورةً كونية لا مجرد كائن بشري. فهي ضوء، وبحر، وسماء، ومطر، وياسمين، وموسيقى. يقول الشاعر وسيم الروسان:
«لياسمين شفتيك رائحة الجنة، لتمور نهديك مذاق الأبدية»
هذه اللغة الغنية بالمجاز الحسيّ تجعل من الأنثى تجلّيًا للخصب الكوني، وهو ما يشبه تصوّر يونغ لـ “الأنيمـا” — أي الصورة الأنثوية الكامنة في لاوعي الرجل، التي تمثل بوابة الخلاص الروحي.
وهنا لا نرى حبًّا بشريًا فحسب، بل طقسًا مقدسًا للاتحاد بين الأضداد: بين البحر والعطش، بين النور والعتمة، بين الجسد والروح. الأنثى في النص ليست موضوعًا للرغبة بل وسيطٌ بين العالمين، بين المرئي والمتعالي، تمامًا كما في التجربة الصوفية عند ابن عربي الذي رأى في الأنثى مظهراً للحقيقة الإلهية.
ثالثاً: الرمز والإيقاع – الشعر كحركة تأملية للروح
من الناحية الأسلوبية، يتحرك النص بإيقاعٍ متدرجٍ بين الهمس والانفجار، بين الإقرار والدهشة. الجمل الشعرية قصيرة لكنها تنفتح على دلالات واسعة، تحاكي ما يسميه باشلار “إيقاع الحلم المائي”.
الصور الشعرية تنبثق من عناصر الطبيعة: البحر، المطر، النهر، الغزالة، المرآة، النور. وهذه العناصر تُعاد صياغتها كرموزٍ للذات الإنسانية وهي تبحث عن مركزها.
فعندما يقول الشاعر الروسان:
«هل القصيدة مرآة النهر الوحيدة؟!»
يضعنا أمام تساؤل ميتاشعري عميق، فالشعر ذاته يتحول إلى مرآة للمرآة، أي تأمل الوعي في ذاته، فيحاكي البنية التأويلية (الهيرمينوطيقية) التي لا تنتهي: المعنى يولّد معنى، والقصيدة تعكس ما لا يمكن القبض عليه.
رابعاً: البعد النفسي – من العشق إلى الوعي
من المنظور النفسي، يتبدى النص كتعبيرٍ عن رحلة الانصهار بالآخر. فالحب هنا وسيلة للمعرفة، والمرأة تصبح رمزاً للذات العليا التي يبحث عنها الشاعر في أعماقه.
تعبيراته مثل:
«كنتِ أنت فكنتُ أنا»
تكشف ما يسميه كارل غوستاف يونغ بـ “الاندماج بالأنيما”، أي اتحاد الأنا بالظل الأنثوي في محاولة لبلوغ التكامل النفسي.
لكن هذا الاتحاد لا يخلو من الألم، لأن الشاعر يدرك أن الحب – كالموت – لا يمنح الخلاص إلا عبر الاحتراق الداخلي. لذا فإن النص كله يبدو مثل عملية تطهير نفسي، كما في التصور الفرويدي للحب كـ "استبدالٍ للغريزة العدوانية بطاقة الجمال".
خامساً: بين الحضور والغياب – الشعر كمسكن للروح.
ينتهي النص بلحظة انكشافٍ شديدة الحساسية، يقول:
«فأي بحر سيخبر عينيك أن تخففا عني وطأة الزمن؟!»
إنه سؤال الوعي بالزمن، بالهشاشة، وباستحالة الإمساك باللحظة. هنا يتحول الحب إلى ذاكرةٍ جمالية للوجود، وإلى مقاومة صامتة للفناء.
فالقصيدة ليست غزلاً، بل تأملٌ في معنى أن تكون عاشقًا — أي أن تحمل عبء الوعي والحنين معًا. في هذا المعنى، تلتقي القصيدة بروح ريلكه الذي كتب: «الحب هو العمل الأخير لمن يريد أن يصير إنسانًا».
خاتمة:
في هذا النص البديع، ينجح الشاعر في تحويل التجربة العاطفية إلى رحلة أنطولوجية نحو الذات والعالم. الحب والموت، الحضور والغياب، الجسد والروح — كلها أضدادٌ تذوب في لغةٍ منسوجة على خيوط الضوء والماء.
إنها قصيدة تكتب الإنسان من جديد: كائناً يُحبّ لأنه يموت، ويموت لأنه يعي معنى الحب.
لغة النص، بصورها الغنية وتوترها الإيقاعي ومجازها الكوني، تجعل منه مرآةً لجوهر الشعر نفسه: بحثًا لا ينتهي عن الحقيقة في وجه الجمال، وعن الخلاص في وجه الفناء.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
......................
أفي الموت حب كما في الحب موت؟!
في كل درب وجدت الموت
ففي أي موت سأجد الحب؟!
في أي ريح سأجد المطر؟!
للنهر مسار ثابت، فكيف حاد النهر في
عن صواب البحر؟!
2-
ماذا أقول عن وجهك ذي الصباحات الملائكية؟!
ماذا أقول عن ابتسامتك التي تسافر في روحي مثل طائر؟!
لياسمين شفتيك رائحة الجنة.
لتمور نهديك مذاق الأبدية.
وحيث تكونين يكون البحر بقلبه المجنح وعينيه الزرقاوين!
3-
ما سر هذا الضوء الذي تحفره شفتاك
في خاصرة الأقحوان؟!
ما عدد الشجيرات التي تغرسها عيناك
في بساتين روحي؟!
هل أبالغ إذا قلت
إن البحر نقطة في بحر أنوثتك؟!
شعرك مرآة سماء حالمة.
وجهك يعكس الطمأنينة
مثل مساء أليف.
اسمك يتدفق عذوبة في شرايين الموسيقى.
نظراتك تنهمر فرحا" مثل عيد من مطر.
و ابتسامتك أميرة تحتفي بها الأشجار
يغني لها الحجر.
و كنت أنت فكنت أنا،
و كانت سماء فكان بحر!
4-
قلبي يستحق جمالك
فهل جمالك يستحق جنوني؟!
و هل تعرفين بأن جنوني يبتكر المطر؟!
قبليني إذا" لأنطق العالم بكلمة واحدة: أحبك.
عندما تحبينني يصير قلبك مفتاحا" لقلبي.
و عندما احبك يصير قلبي مفتاحا" لهذا الكون!
5-
عندما نظرت إلى عينيك أول مرة
رأيت طفلتين جميلتين كأنما ينبض فيهما المسيح!
و عندما قبلني نعاس الحديقة نظرت إلى عينيك
مرة" أخرى فرأيت البحر كله محمولا" في سمكتين بنيتين
و عرفت بأني لا أعيش النظرة ذاتها مرتين!
و قلت في نفسي:
فيك من ليلى ما يجعلني أخاف على الذئب منك!!
فأي بحر سيخبر عينيك أن تخففا عني وطأة الزمن؟!
و ماذا سأفعل غدا" حين يصير وجهك الجذر الوحيد لقلبي؟!
6-
هل القصيدة مرآة النهر الوحيدة؟!
كيف لمرآة أن تعرف كيف تفكر المرآة؟!
و لماذا تعطي الغزالة تفاحها للذئب،
و تعصر ليمونها في فم النهر؟!
***
وسيم الروسان







