قراءات نقدية
نجلاء نصير: وجع الفقد في مرآة الوطن قراءة في رواية "يمامة بغداد"
للروائي شلال عنوز
تُعد رواية "يمامة بغداد" للروائي شلال عنوز عملاً أدبياً كثيفاً يغوص في أعماق النفس البشرية المتألمة، متخذاً من حكاية امرأة عراقية مرآة يعكس عليها جراح وطن مثخن بالحروب والفقد. عبر بنية سردية متقنة ولغة شعرية، ينسج الكاتب حكاية عن الوفاء والذاكرة والأمل الذي يولد من رحم المأساة.
1. عتبات النص: مفاتيح الدخول إلى العالم الروائي
تعتبر العتبات النصية (Paratext) المدخل الأول الذي يهيئ القارئ ويمنحه مفاتيح تأويلية أولية.
أ. العنوان والغلاف
يحمل العنوان "يمامة بغداد" رمزية مزدوجة ومكثفة. فاليمامة هي رمز للسلام والحب والوفاء، وهي في الوقت ذاته تجسيد مباشر للشخصية الرئيسية "حنان" التي ظلت وفية لذكرى زوجها الراحل. وبإضافة العنوان إلى "بغداد"، يتجاوز الكاتب الخاص إلى العام؛ فـ "حنان" لم تعد مجرد امرأة، بل أصبحت هي بغداد نفسها: جميلة، جريحة، وفية لذاكرتها، وباحثة عن السلام المفقود.
أما تصميم الغلاف فيعزز هذه الرؤية. نرى وجه امرأة بملامح حزينة وشاردة، تمتزج ألوانه الداكنة مع خلفية مضطربة، بينما تحوم يمامة بيضاء قرب وجهها، وكأنها جزء من روحها أو حلمها. هذا التصميم يشي بالموضوعات الأساسية: الحزن، الذاكرة، والروح التي تتوق إلى التحليق والحرية رغم واقعها المؤلم. الملخص على ظهر الغلاف يؤكد هذه الفكرة، واصفاً إدمان البطلة على زيارة قبر زوجها "ضحية حرب الخليج الثانية".
2 - تحليل البنية السردية
تتميز الرواية ببنية سردية مركبة تعتمد على تقنية "التأطير" (Framing) والتقابل بين الأزمنة.
أ. الحبكة والبناء السردي
تبدأ الرواية من النهاية؛ من مشهد جنازة "حنان" ودفنها بجوار زوجها ثائر. هذه البداية الصادمة تضع القارئ أمام حقيقة الموت، ثم تعود به الرواية إلى الوراء عبر فصل بعنوان "ما روته اليمامة..."، لتبدأ الحكاية الحقيقية كفلاش باك طويل يروي قصة حياتها منذ بدء حرب الخليج الثالثة (غزو العراق 2003).
الحبكة الرئيسية تدور حول "حنان"، الأرملة الوفية التي تجد طفلاً ضائعاً "طاهر" في خضم فوضى الحرب وتقرر تبنيه. يتشابك معها خطان ثانويان رئيسيان:
1. الخط الرومانسي المستعاد: عبر ذكريات حبها وزواجها من "ثائر" في ثمانينيات القرن الماضي.
2. الخط الاجتماعي: كشف سر "الحاج أحمد"، والد زوجها، وزواجه الثاني السري الذي نتج عنه الابن "سيف".
هذا التداخل بين الخطوط يخلق بنية غنية، تقارن بين الماضي المسالم نسبياً والحاضر المدمر، وبين قصص الفقد وقصص الكشف والمصالحة.
ب. الشخصيات ورمزيتها
الشخصيات في الرواية ليست مجرد أدوات لتحريك الأحداث، بل هي حوامل رمزية لأفكار ومراحل تاريخية.
- حنان (اليمامة): هي محور الرواية ورمزها الأكبر. إنها تجسيد للذاكرة العراقية الحية التي ترفض نسيان ماضيها الجميل (ثائر)، لكنها في الوقت نفسه تمتلك قلباً قادراً على احتضان المستقبل (طاهر). وفاءها ليس مجرد عاطفة شخصية، بل هو وفاء لقيم زمن مضى.
- ثائر (الماضي المفقود): زوجها الذي استشهد في حرب الخليج الثانية. اسمه الذي يعني "الثائر" يحمل مفارقة، فهو لم يكن ثائراً بل ضحية. يمثل "ثائر" الحلم العراقي الذي اغتالته الحروب؛ زمن الشباب والحب والثقافة الذي وُئِد قبل أن يكتمل.
- طاهر (المستقبل مجهول النسب): الطفل الذي وجدته حنان. اسمه الذي يعني "النقي" رمزي بامتياز. هو جيل المستقبل العراقي؛ جيل ولد في خضم الفوضى، مجهول الأصل (لا يعرف أهله)، لكنه يحمل براءة الأمل. تبني حنان له هو قرار رمزي باحتضان هذا المستقبل ورعايته رغم ماضيه الغامض.
- سامر (الحاضر الانتهازي): المشرف التربوي الذي يلاحقها. يمثل الواقع الانتهازي والمبتذل الذي يحاول فرض نفسه على الذاكرة النبيلة. علاقته الزوجية الفاشلة وكذبه يقفان على النقيض التام من صورة "ثائر" المثالية.
- الحاج أحمد وعائلته: يمثلون المجتمع التقليدي الذي يحمل أسراره الخاصة ويجد في النهاية طريقة للمصالحة والتعايش، مما يعطي بصيص أمل في إمكانية لم شمل المجتمع العراقي رغم انقساماته.
ج. الزمان والمكان ودلالاتهما
الزمان: يتأرجح السرد بين زمنين رئيسيين:
الثمانينيات: زمن الحب والجامعة، وهو يمثل الماضي النقي والحالم قبل أن تدمره الحروب المتعاقبة.
ما بعد 2003: زمن الاحتلال والفوضى ونقاط التفتيش. إنه الحاضر الجريح الذي تعيش فيه الشخصيات. هذا التقابل الزمني يخلق حالة من الحنين (النوستالجيا) ويكشف حجم المأساة التي حلت بالعراق
المكان: للمكان في الرواية أبعاد رمزية عميقة:
بغداد: هي ليست مجرد مسرح للأحداث، بل هي كيان حي يتألم. شوارعها (اليرموك، المنصور، البياع) تحمل ندوب الحرب، وتعاني من الاختناق والحزن.
المقبرة (وادي السلام): مكان محوري يبدأ منه السرد وينتهي إليه. إنها رمز للذاكرة والموت، لكنها أيضاً مكان للمعجزات؛ فبعد خروجها من المقبرة تجد "طاهر". إنها العتبة التي تفصل بين عالم الأموات وعالم الأحياء، وبين الماضي والمستقبل.
البيت: منزل حنان هو مزار للذكرى، تحتفظ فيه بكل ما يخص ثائر. لكن بدخول "طاهر" إليه، يتحول من متحف للماضي إلى حاضنة للمستقبل.
الرمز والتناص - بناء المعنى الخفي
لا تكتفي الرواية بسرد الأحداث، بل تغوص في أعماق الرمز لتكثيف دلالاتها، وتتناص مع الذاكرة الثقافية والتاريخية للعراق.
- الرمزية المحورية:
اليمامة: هي الرمز المهيمن الذي يجسد "حنان" وبغداد في آن واحد. إنها رمز السلام المفقود، الحب الأبدي، والوفاء لذاكرة لا تموت. تحليق اليمامة في نهاية الرواية هو فعل تحرر روحي يتجاوز الموت الجسدي، ويرمز إلى بقاء الحب والذاكرة أنقى من دمار الحرب.
الطفل طاهر: يمثل المستقبل العراقي البريء والمجهول النسب. العثور عليه قرب المقبرة وفي خضم انفجار هو إشارة رمزية إلى أن الأمل يولد من رحم الموت والفوضى. تبنيه من قبل "حنان" هو فعل رمزي لاحتضان الأمة لمستقبلها، حتى وإن كان غامضًا، ومنحه هوية ورعاية.
الرجل الغامض ذو الزي العربي: يظهر في المقبرة كشخصية نبوئية، يتنبأ لحنان بقدوم زائرين سيغيران حياتها. يمثل هذا الرجل القدر أو الحكمة الشعبية المتوارثة، التي تظهر في لحظات اليأس لتقدم بصيصًا من الأمل والإشارة إلى أن الحياة، رغم كل شيء، مستمرة.
التناص:
التناص التاريخي: تتناص الرواية بشكل مباشر مع تاريخ العراق الحديث المليء بالحروب: حرب الخليج الثانية التي قتلت "ثائر"، وحصار التسعينيات، وغزو عام 2003 الذي شكل خلفية الأحداث الرئيسية. هذه الأحداث ليست مجرد خلفية، بل هي جزء من نسيج النص الذي يوضح كيف شكلت السياسة مصائر الأفراد.
التناص الأدبي والثقافي: تستدعي الرواية أغاني عراقية شهيرة مثل أغنية حميد منصور "يم داركم" وأغنية لميعة توفيق في حفل الزفاف. هذه الأغاني تعمل كـ "مثيرات للذاكرة" ((Memory Triggers، حيث تعيد البطلة (والقارئ) إلى زمن البساطة والحب، مما يعمق الشعور بالنوستالجيا والفقد.
ثانياً: الحبكة والبناء السردي - هندسة الألم والأمل
تعتمد الرواية على بنية سردية غير خطية، تتلاعب بالزمن لتعميق الأثر الدرامي.
الحبكة الدائرية والمؤطرة: تبدأ الرواية بمشهد جنازة "حنان"، وهي النهاية الفعلية لحياتها، ثم تعود في فلاش باك طويل يروي قصة السنوات الأخيرة من حياتها. هذا البناء الدائري يجعل القارئ يقرأ الأحداث وهو يعلم مصير البطلة، مما يضفي طبقة من الحزن والقدرية على السرد. كل لحظة أمل أو فرح تُقرأ من خلال عدسة النهاية المحتومة.
تشابك الخطوط السردية: تتداخل قصة حنان مع الطفل طاهر (الحاضر والمستقبل) مع ذكرياتها عن حبها لثائر (الماضي)، ومع قصة الحاج أحمد وزواجه السري (أسرار المجتمع). هذا التشابك يخلق بنية سردية معقدة تعكس تعقيدات الحياة العراقية نفسها، حيث لا يمكن فصل الخاص عن العام، والحاضر عن الماضي. كشف سر الحاج أحمد، على سبيل المثال، يوازي كشف أسرار الوطن نفسه، وينتهي بالمصالحة، مقدمًا نموذجًا مصغرًا لما يمكن أن يكون عليه التعافي المجتمعي.
النهاية: اكتمال الدائرة وتحرر الروح
تأتي نهاية رواية "يمامة بغداد" لتغلق الدائرة السردية التي بدأت بها، ولكنها تتجاوز مجرد العودة إلى مشهد الموت لتقدم رؤية روحانية عميقة للتصالح والتحرر. إنها ليست نهاية مأساوية بقدر ما هي اكتمال رمزي لرحلة الألم والوفاء.
المشهد المحوري في النهاية هو ما يراه الابن "طاهر" بعينيه: يمامة تقف على شجرة السدر التي زرعتها حنان فوق قبر زوجها، ومع اكتمال مراسم الدفن، يظهر طائر آخر ناصع البياض، فترفرف اليمامة بجناحيها وتحلق معه عالياً حتى يغيبا معاً في الفضاء1. هذا المشهد يحمل دلالات متعددة:
1. اتحاد الأرواح: اليمامة، التي هي تجسيد لروح حنان، تتحد أخيرًا مع الطائر الأبيض الذي يرمز بوضوح إلى روح ثائر. هذا اللقاء السماوي هو انتصار للحب الأبدي على الموت والفناء الجسدي. لقد ظل وفاء حنان الأرضي راسخًا، فكان جزاؤه اتحادًا روحيًا أبديًا.
2. إتمام الرسالة: لم تمت حنان إلا بعد أن أدت رسالتها على الأرض. لقد احتضنت المستقبل المتمثل في "طاهر" ومنحته هوية وحبًا وأسرة. بمجرد أن اطمأنت على استمرارية الحياة من خلاله، تحررت روحها من قيود العالم المادي لتلحق بحبها الأول.
3. شهادة المستقبل: الشخص الذي يشهد هذا الحدث الروحاني هو "طاهر"، جيل المستقبل. هذه الشهادة تمنحه (ورمزيًا تمنح جيله) إرثًا من الحب والوفاء، وتؤكد له أن هناك ما هو أسمى من الحروب والموت. إنها وصية بصرية تنتقل من جيل الذاكرة إلى جيل الأمل.
بهذا، تتحول النهاية من قصة موت إلى قصيدة عن السمو الروحي. الموت لم يعد نهاية، بل أصبح بوابة للاتحاد والخلود، واكتمالًا لدائرة الوفاء التي عاشتها "اليمامة" طوال حياتها.
اللغة والأسلوب
تخدم شلال عنوز لغة تتميز بشعريتها العالية ورقتها، خاصة في وصف المشاعر والذكريات. "كانت مُحلّقة في سماواته، فراشة في مدى من ورد وخضرة". هذه اللغة الشاعرية تخلق تبايناً حاداً مع قسوة الواقع الذي تصفه الرواية بلغة مباشرة وواقعية، كما في تصوير مشاهد الحرب والدمار. يعتمد السرد بشكل كبير على تيار الوعي والمونولوج الداخلي لشخصية حنان، مما يسمح للقارئ بالولوج إلى أعمق أفكارها وصراعاتها النفسية.
ومجمل القول إن رواية "يمامة بغداد" ليست مجرد سرد لحياة امرأة عراقية، بل هي مرثية عميقة لوطن جريح وشهادة أدبية على قوة الذاكرة الإنسانية في مواجهة الفناء. لقد نجح الروائي شلال عنوز في توظيف كل عناصر السرد ببراعة لخدمة رؤيته.
فمن خلال بنية سردية دائرية، جعلنا نعيش الألم ونحن على يقين من النهاية، مما كثف من وطأة القدر. وعبر شخصيات رمزية مثل حنان (اليمامة/الوطن)، وثائر (الماضي النقي)، وطاهر (المستقبل البريء)، رسم استعارة كبرى للصراع بين الذاكرة والنسيان، وبين الموت وإرادة الحياة.
لقد تحولت الأماكن، من بغداد الحالمة إلى بغداد المحتلة، ومن المقبرة كفضاء للموت إلى فضاء لولادة الأمل، إلى شواهد حية على التحولات المأساوية التي طرأت على العراق. أما اللغة الشعرية، فقد منحت النص بعدًا جماليًا رفيعًا، خالقةً تباينًا مؤثرًا بين رقة المشاعر وخشونة الواقع.
في النهاية، تقدم "يمامة بغداد" إجابة روحانية على سؤال الوجود في زمن الحرب: حتى وإن سحق الموت أجسادنا، فإن قوة الحب والوفاء قادرة على أن تجعل أرواحنا تحلق حرة، متجاوزةً حدود الزمان والمكان، تمامًا مثل تلك اليمامة التي لم يكسرها الفقد، بل منحها أجنحة لتتحد بمن أحبت في الأفق البعيد. إنها رواية عن وجع الفقد، ولكنها في جوهرها احتفاء بخلود الذاكرة.
النهاية: اكتمال الدائرة الرمزية
نهاية الرواية هي عودة إلى بدايتها: موت حنان. لكنها ليست نهاية مأساوية، بل هي نهاية تحمل طابعاًروحانياً وتصالحياً. المشهد الأخير الذي يراه ابنها طاهر، حيث تحلق يمامة (روح حنان) مع طائر آخر أبيض ناصع (روح ثائر) ويغيبان معاً في الفضاء، هو إغلاق رمزي لدائرة الألم. فبعد أن أدت حنان رسالتها في الحياة برعاية المستقبل (طاهر)، تحررت روحها لتتحد مع حبها الأبدي. إنها نهاية تؤكد أن الحب الحقيقي والوفاء يسموان على الموت والحرب.
خلاصة: رواية "يمامة بغداد" عمل فني متكامل ينجح في توظيف حكاية فردية مؤثرة لاستكشاف مأساة جماعية. من خلال شخصيات رمزية، وبنية سردية متقنة، ولغة تجمع بين الشعرية والواقعية، يقدم شلال عنوز شهادة أدبية عميقة عن صمود الروح الإنسانية في وجه أقسى الظروف، وعن وطن يناضل ليصالح ماضيه الجريح ويحتضن مستقبله الغامض.
***
***
د. نجلاء نصير






