قراءة في كتاب
عبد السلام فاروق: التفتيش في قلب المتنبي.. قراءة في كتاب عمرو منير دهب

لا يزال المتنبي، بعد أكثر من ألف عام، يشكل لغزاً أدبياً لا ينفك يثير الجدل. فهل كان عبقرياً متعالياً على عصره، أم كان نتاجاً لظروف تاريخية بالغة التعقيد؟ هذا السؤال يطرحه الناقد عمرو منير دهب في كتابه "التفتيش في قلب المتنبي" (منشورات الاختلاف، الجزائر)، لكنه لا يكتفي بالإجابة عنه بطريقة أكاديمية جافة، ينقب في أعماق الشخصية بجرأة المؤرخ والنفاذية النقدية.
السلطة والشعر
يظهر عمرو منير دهب كيف أن المتنبي، رغم كل ما نعرفه عن غروره، كان في الحقيقة رهين نظام ثقافي لا يرحم. ففي العصر العباسي، لم يكن الشاعر حراً إلا بقدر ما يسمح له الحاكم. والمتنبي، الذي رفع نفسه إلى مصاف الملوك بكلماته، أدرك مبكراً أن الشعر يمكن أن يكون سلاحاً ذا حدين: وسيلة للبقاء، أو سببا للموت.
لكن منير دهب لا يقع في فخ القراءة الرومانسية التي تصور المتنبي كبطل مظلوم. بل يظهره كشخصية براجماتية، تعرف كيف تلعب بورقة المديح عندما تحتاج، وتطلق سهام الهجاء عندما تستدعي الضرورة. فالمتنبي لم يكن ضحية ساذجة لنظام الحكم، بل كان لاعباً ماهراً في لعبة كان يعرف أنها قد تقتله يوماً.
هل كان المتنبي "منافقاً عبقرياً"؟
يطرح الكتاب سؤالاً مزعجاً: ألم يكن المتنبي، في بعض الأحيان، منافقاً؟ ألم يمدح سيف الدولة ثم هجاه؟ ألم يتقرب من كافور الإخشيدي ثم انقلب عليه؟ دهب لا يتجنب هذه الأسئلة، بل يواجهها بصراحة الباحث الذي يعرف أن العبقرية لا تعني القداسة.
لكن المفارقة التي يكشفها الكتاب هي أن هذا "النفاق" كان جزءاً من صدقه! فالمتنبي لم يكن يكذب عندما يمدح، بل كان يبالغ في إعجابه حتى يصل إلى حد الهوس. وعندما يهجو، فإنه لا يكبح جماح كراهيته. فهو شاعر لا يعرف التوسط، وهذا ما جعله عظيماً، وهذا أيضاً ما قتله.
لماذا يعود المتنبي اليوم؟
في عصرنا هذا، حيث السلطة والثقافة في صراع دائم، يعود المتنبي ليس كشخصية تاريخية فحسب، بل كرمز لمعضلة المثقف العربي: كيف يكتب بحرية في عالم لا يعترف إلا بلسان السلطة أو المال؟
كتاب عمرو منير دهب، بهذا المعنى، ليس عن الماضي، بل عن الحاضر. فهو يذكرنا بأن المعارك الأدبية القديمة ما زالت مستمرة، وإن تغيرت الأسماء والأشكال. فاليوم، كما في عصر المتنبي، يقتل الشعراء ليس بالخناجر، بل بالتجاهل أو التشويه أو الشراء.
ما يميز عمل عمرو منير دهب هو دمجه الذكي بين التحليل التاريخي والنفسي والجمالي، دون أن يطغى أحدها على الآخر. فهو لا يقع في فخ القراءة السوسيولوجية الجافة، ولا ينجرف نحو التأويلات الذاتية المفرطة. كتابه أشبه بـ "مختبر نصي" تفحص فيه قصائد المتنبي تحت مجهر متعدد الأبعاد: البعد السياسي: كيف تعامل المتنبي مع سلطات عصره كـ"لاعب" لا كـ"ضحية".
جرأة الناقد
لم يخش منير دهب أن يطرح أسئلة مزعجة: هل كان المتنبي منافقاً؟ هل كان غروره استراتيجية للبقاء؟ هل يمكن فصل شعره عن سيرته الشخصية؟ هذه الأسئلة لا تنبع من رغبة في النيل من المتنبي، بل من إيمان الناقد بأن العظمة الحقيقية لا تفهم إلا بفحص تناقضاتها.
هذا الكتاب يعتبر إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية، فلغته تجمع بين العمق الأكاديمي والسلاسة الأدبية، ما يجعله في متناول القارئ المتخصص والعادي. كما أنه يقدم المتنبي كـظاهرة ثقافية حية يمكن قراءتها بلغة العصر، علاوة علي ذلك يعتبر محاولة لإعادة تأهيل للمتنبي كرمز لكل مثقف عربي يواجه سلطات زمانه.
إذا كان المتنبي قد قال: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي"، فإن عمرو منير دهب هو الذي جعلنا ننظر إلى المتنبي بعين جديدة، عين لا تكتفي بالإعجاب، بل تعمل الفكر في الأسئلة التي يخفيها النص. كتابه ليس مجرد إضافة، بل إثبات أن النقد الجاد يمكن أن يكون فنّاً قائماً بذاته.
بعد قراءة هذا الكتاب، لن تقرأ المتنبي كما كنت تقرأه من قبل. وهذا هو أعظم نجاح للناقد: أن يغير نظرتك إلى ما كنت تظنه مألوفاً. تحية لعمرو منير دهب الذي أعاد للمتنبي إنسانيته، وللنقد الأدبي روحه المغامرة!
يختم دهب كتابه بإشارة ذكية إلى أن المتنبي، رغم مصرعه الغادر، انتصر في النهاية. فقاتله لم يبقَ منه إلا اسم في هامش التاريخ، بينما بقي المتنبي شاعراً لكل العصور.
لكن الكتاب يتركنا مع سؤال أخير: هل نقرأ المتنبي اليوم لأنه عظيم، أم لأنه يعكس مأساتنا؟ ربما الإجابة هي أن العظمة الحقيقية تكمن في أن يكون الشاعر مرآةً لعصره... وقلباً ينبض في صدر الزمن.
***
د. عبد السلام فاروق