قضايا
علي حسين: في اليوم العالمي للفلسفة.. فيم يفيدنا "حب الحكمة"؟
دائما ما يثار سؤال مهم هل الفلسفة التي اطلق عليها اليونان اسم "حب الحكمة" مجال تخصصي، اما يمكن ان تتحول الى موضوعات عن السعادة والخير والعدالة ؟، ولعل هذه المقارنة شغلت الكثير من الفلاسفة ومن المهتمين بكتابة تاريخ الفلسفة ايضا.. فمنذ ان اطلق هيغل مقولته الشهيرة:" لا تحتاج الفلسفة إلى أن تشغل نفسها بالأفكار العادية "، اصر العديد من الفلاسفة الى القول ان الفلسفة مجال نظري يقتضي تخصصا متناهيا، بل ذهب مارتن هايدغر الى ابعد من ذلك معلنا أن الفلسفة ماتت مع موت الفلاسفة الكبار، وكان نيتشه آخرها كما اصر هايدغر، ويضيف هايدغر ان نيتشه اكتشف ان الفلسفة غير مجدية وخداع للنفس.. وكان هايدغر قد وجه سهامه ايضا الى الفلاسفة الذي يحاولون ان يقتعوا الجمهور ان الفلسفة يمكن ان ترتبط باليومي ولهذا نجده يسخر من ماركس ويصب جام غضبه على سارتر الذي يريد ان يحول الفلسفة الى حالة انسانية يومية.
يكتب جون غيرش في كتابه الممتع " العيش بالفلسفة " الى ان الفلسفة وهي تصنع لنفسها عالما خاصا، تحولت ايضا الى تعليم للناس عندما قرر افلاطون ان يؤسس اكاديميته، ليقدم لنا مفهوما جديدا بعنوان " التفلسف " وهو مفهوم يدل على طريقة جديدة في قيادة الحياة.. وهو ما حاول الفرنسي لوك فيري ان يقدمه من خلال كتابه تعلم الحياة " حيث ينقل لنا فكرة ارسطو من أن هدف الفلسفة هو البحث عن الحياة الجديدة التي ينبغي ان يعيشها الانسان، كان ارسطو يؤمن بان الحياة الحقة تكمن في تحقيق الانسجام مع العالم الذي يشترط ارسطو ان يكون منسجما ايضا.. هذا العالم المنسجم والعادل والجميل هو الذي شكل في نظر ارسطو ومن قبله استاذه افلاطون النموذج الحقيقي لنشر المدنية.. ورغم أن ارسطو كان تلميذا لأفلاطون، غير أن أفكارهم كانت مختلفة عن بعضها البعض، لم يكونا يرددان نفس العبارات. كان لكل واحد منهم فلسفته الخاصة، كان أفلاطون مهتما بالتفكير الفلسفي المجرد، وكان أرسطو مهتما بكل شيء حوله.
من بين الأسئلة التي فكر فيها أرسطو بشكل دائم هي: "كيف يمكن ان تصبح الفلسفة طريقة للعيش ؟". طرح سقراط وأفلاطون هذا السؤال، وكانت الحاجة للإجابة عن هذا السؤال هي جزء مما يدفع الناس إلى الفلسفة. كان لأرسطو جوابه الخاص: " ابحث عن السعادة ".. يبحث الانسان في الفلسفة عن تنمية قدراته بالتجربة والمعرفة.
لسنوات وانا اقرا الفلسفة مثل الهواة وليس على طريقة المتخصصين، كنت اعاني في احيان كثيرة من صعوبة الإنسجام مع بعض الكتابات التي ينشرها مختصون في الشأن الفلسفي، كأنهم يريدون ان يقولوا ان الفلسفة انها تقول اشياء لا يفهمها الناس، ويهتم بامرها النخبة فقط.. لكني وانا اقرا سيرة سقراط او افلاطون او ارسطو ومعهم سارتر وبرتراند رسل وكيركجارد وعشرات غيرهم وجدت ان الوصول الى الناس كان هدفا اساسيا لفلسفتهم، ويذهب الكثير منهم الى ان الفلسفة أقدر من غيرها من أنظمة المعرفة على تكوين هذا الوعي، وتأكيد اهمية الحياة وطريقة عيشنا ويمكن للفلاسفة من خلال من تخصصاتهم في فلسفة القيم والأخلاق والميتافيزيقا وتاريخ الفلسفة ونظرية المعرفة والأنثروبولوجيا الفلسفية والتفكير المستقبلي في فحص وتحليل ونقد العديد من أمراض العصر التي كادت أن تصبح أمراضًا مُزمِنة، كالعنف وتغييب العدالة الاجتماعية والشعارات والتهالك على اللذات والتطرف العنصري والقومي والطائفي والديني، وانتشار مشاعر اليأس والإحباط واللامبالاة، وهي امور يقول دو بوتون لا يمكن ان يُشيح المتفلسِف ببصره واهتمامه عنها، بينما هي تصدمه كلما خرج الى الشارع أو جلس امام التلفزيون، مشكلات الجائعين، وركام التخلف والاستبداد والعجز واليأس والحرمان الذي ما فتئ ينهال على رءوس التفقراء منذ مئات السنين. يصر الفرنسي ميشيل أونفري، الى أن مهمة الفلسفة هي النظر بعين فاحصة إلى الأزمات العالمية الحالية.
في أواسط القرن العشرين أصبح برتراند رسل الممثل الحقيقي لكلمة "فيلسوف". لقد بدا لرسل دور الفيلسوف مناسباً، بشعره الأبيض وملامحه الجادّة الصلبة، والغليون الذي لم يفارقه. كان اول من قدم محاضرة اذاعية عن الفلسفة عام 1949، واصبح كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية" الأكثر مبيعاً في العالم، بدأ حياته بكتاب "الديمقراطية الاجتماعية" وانتهى بجرائم الحرب على فيتنام، وفي عمر التسعين تحمل السجن بسبب دعوته للاحتجاج ضد الحروب. كان يدعي انه مقاد بـ: "مشاعر ثلاثة بسيطة، لكنها قوية غامرة: التوق الى الحب، البحث عن المعرفة، والشفقة التي لاتطاق لمعاناة الانسان"، افضت كتاباته الواسعة بشكل كبير الى ان يكون اول فيلسوف تقرأ كتبه مثلما تقرأ الروايات ودواوين الشعر، وينزل الفلسفة من عرشها ايجعلها تتجول في الاسواق العامة.
يستهد ميشيل اونفري بعبارة مونتاني:" اذا فشلت في الامساك بالحياة، سوف تتملص منك على اية حال. فلا بد ان تتبعها "، ويلاحظ أن الفلسفة يمكنها ان تقدم لنا نصائح لمحاربة الخوف والقلق والامراض، لكنه يرى أن الفلسفة لا يمكن ان تحقق التاثير المطلوب من دون الاستفادة من العلوم الانسانية الاخرى، مثل علم الاجتماع والتحليل النفسي وعلم الاقتصاد:" الفيلسوف يفكر وفق الأدوات المعرفية المتوفرة لديه، وإلا فإنه سيفكر خارج الواقع ". واليوم نجد الكثير من الفلاسفة الجدد في فرنسا وبريطانيا وامريكا وباقي بلدان اوربا يسعون الى جعل الفلسفة تُعلم الانسان معنى العظمة الانسانية، وكيف نتعلم ان نفهمها، وكيف نحفز رغباتنا تجاهها.. قبل اكثر من الفين عام آمن الرواقيون بان سعادة الانسان تكمن في تعلمه كيف يكون مستقلا:" الشرط الوحيد لسعادة الانسان هو في ان يقود حياة فاضلة تقوم على المعرفة ". يكتب دو بوتون الى ان الفلسفة طريقة مهمة لعيش الحياة، ولهذا يحاول ان يجيب على اسئلة ما هي الفلسفة ؟ وهل الاهتمام بها مضيعة للوقت، من خلال كتب تسعى لخلق جسرًا من التواصل الحميمي بين القارئ وبين كتب الفلاسفة الكبار.
وقبل اكثر من الفين وثلثمائة عام اخبرنا ابيقور إن: "الفلسفة التي لا تشفي الآلام البشرية هي محض هباء، فالفلسفة التي لا تُبرئ الروح من معاناتها، لا تختلف عن طبّ لا يداوي مريضاً ولا يشفي عليلاً". اعتقد أبيقور أن القضية الأساسية للفلسفة تتمثل في القضاء على كل الاعتقادات الخاطئة، فكان يظن أن الخوف اللاعقلاني من أهمّ العقبات في طريق السعادة، وأن العلاج لهذا الخوف، هو أن يفهم الإنسان الطبيعة، فغاية الفلسفة تكمن في مساعدة الناس على بلوغ السعادة، وأن أول أبواب السعادة هو سلام النفس، وهذا ما يسمّيه أبيقور "الطمأنينة"، وحتى نحصل على هذه الطمأنينة وهذا السلام ينبغي أن نملك فكرة سليمة عن الطبيعة التي نعيش في ظلها، وعن القوانين التي تحكم هذه الطبيعة ولهذا يريد أبيقور من الإنسان أن يتمكن من تأسيس قانون يمكنه من هزم الخوف من الآلهة والموت، من خلال نظرية تقول "لا شيء يأتي من لا شيء، ولا شيء يضيع في اللاشيء"، والإنسان سعيد لأنّه لا يخشى فقداً، لا يهاب نهاية العالم ولا الموت ولا الآلهة. ولكي يثبت الأبيقوريّون أن لحظة واحدة من السعادة تكفي لمنح الإنسان لذة لا متناهية، فقد دأبوا على أن يقولوا لأنفسهم كلّ يوم: " لقد أخذت كل ما أمكنني توقّعه من اللذة"،
في السنوات الأخيرة زاد الإقبال على قراءة أعمال الفلاسفة الرواقيين في أوساط العاملين وخبراء التكنولوجيا، كإحدى ضرورات التثقيف الشخصي.. فقد تمكنت الفلسفة الرواقية من ان تثبت أن العوامل الداخلية النفسية، هي الأساس لعيش حياة سعيدة. ونجدهم يركزون على أهمية التحلي بالسمات الشخصية المناسبة التي تساعدنا في الوصول إلى الحالة النفسية المثالية. فليس من المهم ما يملكه المرء ولا ما يواجهه في العالم الخارجي، بل كل ما يهمّ هو الحفاظ على السلام النفسي. وهذا هو لبّ الفلسفة الرواقية.
كانت الفلسفة في العقود الماضية تُعدّ مجالاً معرفياً معقداً لا يقصده إلّا المتخصصون، فلماذا خرجت في السنوات الأخيرة من الفضاء الأكاديمي الخاص والمحدود إلى الفضاء العام الرحب ولاقت رواجاً بين القراء؟
في كتابه "المقالات" يقدم لنا مونتاني فلسفة غايتها إشاعة السلام والطمأنينة، فالحياة خير إذا جُرّدت من كل ضروب الاصطناع التي يفرضها الإنسان: "إذ أن من الكمال المطلق أن يعرف الإنسان كيف يستمتع بكيانه استمتاعاً نزيهاً عن الوسائل التي تُحقّق هذا الاستمتاع النزيه"، ولهذا نجد أن دعوة مونتاني لممارسة "فن الحياة"، والتي تنحصر في الرجوع إلى الطبيعة، ولهذا ينبغي التماس الحقيقة في الشعور بالنفس، لا في الأفكار البعيدة عنا، ولا في ما هو غريب عنا ومن شأنه أن يفسدنا، والناس ملاقون في نفوسهم ذاتها كل ما يحتاجون إليه من أجل الحياة. إن حياتنا في داخل ذواتنا، ومن ذواتنا ينبغي أن نستمد المعارف الضرورية للوصول بها إلى الخير، وكل ما عدا ذلك فهو غريب عنا. ولهذا يجد مونتاني أن هدف التعليم أو التربية كما جاءت عند جان جاك روسو، ينحصر أولاً في تكوين الحكم الصائب على الأشياء، أي تكوين عقل يتّجه إلى الحقيقة وضمير يتجه إلى الخير:"ينبغي للكتب والمحادثات والرحلات والدراسات وضروب اللعب أن تتجه كلها إلى هذا الاتجاه؛ تكوين عقل يتّجه إلى الحقيقة، وتجبُ علينا رياضة الجسم والعقل في آن واحد". أن تكون للإنسان قيمة أولية، وأن يكون هو غايتنا الرئيسة، وأن يكون لدينا شغف بالعمل لخير الإنسانية، فتلك هي خلاصة أفكار مونتاني، والتي لخّصها بعبارة شهيرة: "من منّا يعيش حياته كما ينبغي علينا أن نعيشها، وليس أن نعيش وحسب؟".
تجد الفلسفة اليوم نفسها في مواجهة مشكلة التعايش السلمي بين البشر في العالم كله. وكيف يمكن للفيلسوف أن يسهم في السؤال المطروح دوما عن معنى ان ننصت للآخر ونُكون معه حورا، وان نصبح قادرين على السماع لبعضنا البعض، وان تكون الفلسفة فنا للعيش، وان لا نسعى الى الفصبل بين الفيلسوف وفلسفته.
في كتابه الممتع الفلسفة انواعها ومشكلاتها – ترجمه الى العربية فؤاد زكريا – يكتب هنتر ميد: "اذا ققال احدهم ان الفلسفة عبارات لا معنى لها، وإنها في حقيقتها لغو، لكان ذلك أسوأ من مجرد إثارة أعصاب "
هل يمكن ان نحلم بكتابات فلسفية يقرأها الانسان العادي مثلما يقرا الرواية او الشعر او المقال السياسي.. ولكن اليست الفلسفة تذكرنا دوما بانه من المسموح لنا دائما ان نحلم، وهذا هو الحلم الذي يرافقني كلما كتبت مقالا فلسفيا في هذه الزاوية او تجرأت وحشرت نفسي مع اصحاب المؤلفات التي تتحدث عن الفلسفة، وكنت في كل مرة اطمح ان اقدم كتب تستهوي قراء هذا النوع من المعرفة الممتعة والصعبة والمعقدة في أحيان كثيرة، ولكن إذا تسنّى لما اكتبه ان يوضع على رف كتب الفلسفة، فهل سيجد له قراء في سوق الكتب الذي يطرح كل يوم مئات العناوين الجديدة والجذابة، والتي ربما تفوق عناوين كتبي متعة وفائدة واهمية، في كل ما اقدمه احاول ان اجمع تجاربي في القراءة بكتب هي اشبه بالتجارب أولنسميها خبرات القراءة، وبسبب اهتمامي بالفلسفة افكر كثيرا في جدوى مدرسة الحكمة ودورها في حياة الناس، وكيف يمكن لها ان تؤثر بالانسان البسيط فتوسع آفاق وعيه، وتدله على معرفة المعايير التي يبني عليها أحكامه والقيم التي يجب أن يتمسك بها، وتساعده على تكوين رؤية للعالم والحياة تساهم في دفع المجتمع نحو التطور واعلاء شأن فكر الفكر التنويري، وترسيخ قيم الحرية والخير والتسامح والعدل،، ولهذا لازلت اؤمن ان الكتب قادرة على زرع الأمل في نفوس الناس من اجل عالم أفضل وأجمل. قد تكون ازمتنا الثقافية هي في عدم الوعي باهمية الفلسفة في مدارسنا وجامعاتنا، قد يبدو هذا القول مكرر، لكنني لا زلت اصر على أن حل ازمتنا مع التخلف والطائفية يكمن في الالتفات الى الفلسفة والاعلاء شأنها، وفي البحث عن قارئ يتجدد كل يوم، ففي جميع الازمنة وجميع المجتمعات كان كتب الفلسفة هي التي يحدد القوانين الاخلاقية التي تسير عليها المجتمعات.
***
علي حسين – رئيس جريدة المدى البغدادية







