قضايا

غالب المسعودي: اساطير الحجر التاريخية وصخرة سيزيف

في الأساطير تُعتبر الاحجار رموزًا قوية وتحمل معاني متعددة، تتراوح بين القوة والثبات إلى التحول والتغيير، حيث يمكن أن يتحول الأشخاص إلى حجارة كعقوبة أو كوسيلة للنجاة، تُعتبر بعض الاحجار تمثيلًا للأحداث التاريخية، حيث تُخلد ذكرى الأبطال أو الآلهة، بعض الحجارة تُعتبر مقدسة، مثل الحجارة التي تُستخدم في المعابد لتكريم الآلهة. تتناول اسطورة سيزيف عقوبته بسبب تحديه للآلهة، حيث قام بالخداع والاحتيال، حتى أنه استطاع الاحتفاظ بحياته لفترة أطول من المعتاد، سيزيف كان ملكا يستهزئ بالآلهة، مما أغضب زيوس كما قام بخداع هاديس (إله الموت) مرتين، مما أدى إلى انتهاك قوانين الموت، عوقب سيزيف بأن يُجبر على دفع حجر ثقيل إلى قمة جبل وعندما يصل إلى القمة يتدحرج الحجر إلى الأسفل مما يجعله يبدأ من جديد، وهي عقوبة تمثل العمل العبثي واللا جدوى لم يكن سيزيف مواطنا عاديا يدفع حجرا الحجر الى قمة الجبل بل كان ملكا في كورنثة، مواطنا عاديا كجزء من تجربة الإنسانية وكيف تمنح الالهة البشر حرية البحث عن معنى، بالتالي تعكس أهمية الإرادة الحرة في خلق المعنى، يُعتبر عذاب سيزيف رمزًا للصراع الإنساني في حياة مليئة بالتحديات، تُشجع الآلهة البشر (الملوك)على خوض تجاربهم الخاصة، مما يعكس فكرة أن المعنى يُكتسب من خلال التكليف، بالتالي إذا كانت الآلهة لا تعرف المعنى، فإن ذلك يُعزز من فكرة العبثية، حيث يجب على البشر (ملوكا )مواجهة الفوضى والبحث عن قيمة في معاناتهم، ويُمكن أن يُعتبر عبء سيزيف دعوة للتأمل في طبيعة الحياة والوجود، مما يفتح المجال لفهم أعمق للمعنى الشخصي، بذلك يمكن ان تبرز أهمية التجربة البشرية في مواجهة التحديات والسعي نحو الفهم.

اسطورة سيزيف في الادب والفلسفة

تُستخدم أسطورة سيزيف في الأدب والفلسفة بطرق متعددة، حيث تعكس موضوعات عميقة تتعلق بالوجود والمعنى. في أعمال ألبير كامو، تُعتبر أسطورة سيزيف رمزًا للعبثية. يرى كامو أن الحياة قد تكون بلا معنى، لكن الإنسان يجب أن يقبل هذا العبث ويستمر في الكفاح، في الأدب تعكس قصص عديدة صراعات الشخصيات التي تشبه معاناة سيزيف تُعتبرها الأساطير تعبيرًا عن التحدي للسلطة والتقييد، حيث يرمز سيزيف إلى الشخص الذي يرفض الخضوع للآلهة، ويمثل الحجر الذي يدفعه رمز العبء والجهد المستمر، ويعكس المعاناة البشرية والسعي نحو الأهداف رغم العقبات، ترمز قمة الجبل (قمة...!) بكونها الهدف الذي يسعى الإنسان للوصول إليه، وتعكس الصعوبات والتحديات التي تواجهه، تُشير هذه الفكرة إلى عدم وجود معنى حقيقي في الحياة لان الصخرة قد تتدحرج الى واد اخر وتستدعي سيزيفا اخر ليرفعها مجددا بعقوبة أو تكليف، حيث يصبح الجهد المتكرر بلا جدوى، مما يبرز الصراع الداخلي للإنسان حيث يعيش في حلقة مفرغة من العمل، مما يمثل الصراع مع الزمن والوجود، يرتبط الخداع الذي مارسه سيزيف مع الالهة، بنزعة الإنسان للتمرد على القدر مما يجعلها موضوعًا غنيًا في التفكير الفلسفي.

حدود الإرادة الحرة

الإرادة الحرة في تحقيق المعنى، وفي سياق هيمنة الآلهة تظل خاضعة لسلطتها، مما يحد من قدرة الفرد على اتخاذ قرارات حقيقية، إن السعي لتحقيق معنى قد يبدو عديم الجدوى، مما يُقلل من فعالية الإرادة الحرة في خلق قيمة ما تعتمد الإرادة الحرة على التجارب الفردية، لكن هذه التجارب قد تكون محكومة بالظروف والتحديات التي تفرضها الآلهة، يُمكن أن يؤدي الصراع بين الإرادة الحرة والقيود المفروضة إلى تناقض داخلي، حيث يشعر الفرد بالتوتر بين الرغبة في الحرية والواقع الذي يعيشه، تعيق الظروف الحياتية الصعبة والقيود المفروضة من قبل الآلهة قدرة الفرد على تحقيق معناه الخاص هذا يُعزز من شعور الفرد بالعزلة، مما يُضعف من إيمانه بإرادته الحرة ويمكن أن يؤدي إلى عدم الجدوى في تحقيق معنى، الواقع الذي تفرضه الآلهة قد يقود إلى اليأس، مما يُحد من فعالية الإرادة الحرة، هنا تظهر حدود الإرادة الحرة وكيف يمكن أن تتداخل مع هيمنة الآلهة، مما يجعل تحقيق المعنى تحديًا معقدًا.

تمرد سيزيف

يبدو أن رمي الحجر قد يحرر سيزيف من العقوبة المستمرة، لكنه في الوقت نفسه يعني أيضًا التخلي عن الصراع الذي يحدد وجوده، قد يُعتبر هذا الفعل أيضا تحديًا للآلهة، مما يجعله عرضة لعقوبات جديدة، إذا رمى سيزيف الحجر، قد يفقد المعنى المرتبط بالجهد المستمر والسعي، مما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان يمكن العثور على معنى في الحياة بدون صراع، حيث أن التخلي عن الصراع قد يعني الاستسلام للفوضى، مما يتناقض مع فكرة الوجود التي تدعو إلى إيجاد قيمة في النضال، لكن يظهر هذا القرار قوة الإرادة الحرة، في الوقت نفسه والتوتر بين الرغبة في التحرر والالتزام بالمسؤولية، قد يؤدي التمرد إلى نتائج غير متوقعة، حيث أن الأفعال تحمل عواقبها، وبالتالي، فإن اتخاذ قرار بالخروج عن وصايا الالهة يؤدي إلى تحديات جديدة بشكل عام، إذا رمى سيزيف الحجر، قد يبدو أنه حقق تحررًا مؤقتًا، لكنه أيضًا يواجه تداعيات جديدة تعيد تشكيل وجوده وتجربته.

تحدي السلطة

يُظهر رمي الحجر تحديًا لسلطة الإلهة، مما يُعتبر انتصارًا رمزيًا على قيود القدر، قد يشعر سيزيف بالتحرر من عبء العقوبة، مما يمنحه شعورًا بالتحكم في مصيره، رغم شعوره بالانتصار يبقى هذا الفعل عبثيًا، لأن تبعات التمرد تؤدي إلى عقوبات جديدة أو صراعات أخرى، حيث إن الحياة مليئة بالتحديات المستمرة، مما يعيد سيزيف إلى دوامة المعاناة، قدرة الفرد على مقاومة الضغوط الخارجية حتى مع هذا الانتصار، تعكس الفكرة الوجود بأن المعنى يُكتسب من خلال الجهد المستمر، بذلك يُمكن اعتبار رمي الحجر انتصارًا رمزيًا، لكنه يظل مؤقتًا ويعكس التوتر بين الحرية والعقوبة.

التماهي الفلسفي

التماهي الفلسفي يتحدى الفهم التقليدي للحياة والمعاناة، مما يمثل تمردًا على الأفكار السائدة، يمكن للإنسان أن يخلق معنى خاصًا لنضاله، حيث يتحول العمل المتكرر إلى تجربة ذات قيمة، يُعتبر التماهي الفلسفي وسيلة لتحرير العقل من القيود المفروضة من قبل المجتمع أو الالهة، مما يعزز من الإرادة الحرة، يتجلى التماهي في الصراع من أجل فهم الهوية الفردية والعثور على المعنى الشخصي في مواجهة العبثية من خلال التأمل في الذات، يعتبر التماهي الفلسفي كوسيلة للتفاعل مع فكرة العبثية، حيث يُظهر كيف يمكن للفرد أن يجد قيمة في النضال رغم عدم جدواه، يُعتبر التماهي الفلسفي نوعًا من التمرد الذي يُساعد الأفراد في خلق معنى في حياتهم من خلال فهم تجاربهم، رغم أن التماهي يساعد في خلق معنى، إلا أنه يظل محاصرًا بفكرة العبثية، حيث يمكن أن يؤدي إلى شعور بعدم الجدوى. مما يجعله كالحجر رمزًا للثقل الذي نحمله جميعًا في حياتنا.

الالهة والسلطة المطلقة

تمثل الآلهة سلطة مطلقة، حيث لا يمكن للإنسان الإفلات من عقوباتهم، مما يعكس فكرة الهيمنة والتحكم، تمرد سيزيف على الآلهة يظهر رغبته في مقاومة هذه الهيمنة، مما يعكس الصراع بين الإنسان والسلطة، تعكس عقوبة سيزيف عبثية السلطة لأنها لا تضمن معنى أو قيمة، تحدي سيزيف للآلهة يعكس الصراع بين القوانين الإلهية والرغبة الإنسانية في الحرية، مما يبرز التوتر بين السلطة والفرد، العقوبة تُظهر كيف يمكن للسلطة أن تفرض قيودًا على الأفراد، وتُبرر المعاناة الناتجة عن هذه الهيمنة، مما يعكس الصراع المستمر بين الفرد والقيود المفروضة عليه، يمثل تمرد سيزيف على الآلهة تعبيرًا عن الإرادة الحرة، حيث يختار مواجهة العقوبة بدلًا من الاستسلام، الحرية تمنح سيزيف الفرصة للبحث عن معنى في معاناته، مما يُظهر كيف يمكن للفرد أن يجد قيمة في النضال رغم القيود، حرية سيزيف وصراعه الداخلي بين الرغبة في الهروب من العقوبة وبين التزامه بمواجهة التحديات تُعتبر حرية ووسيلة للتمرد على المعنى المفقود، حيث يجد سيزيف القوة في اختياراته، يُظهر سيزيف أن الحرية تكمن في القدرة على اتخاذ القرارات، حتى في ظل هيمنة الآلهة، مما يُعزز من قوة الفرد بذلك، تلعب الحرية دورًا محوريًا في هذا السياق . في أسطورة سيزيف، يمكن اعتبار أن الوعي قد انتصر على سلطة الآلهة على عدة مستويات وان سيزيف أدرك معاناته وقبل بها، مما يمنحه وعيًا وجوديا يحمل كل المعنى.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

في المثقف اليوم