آراء

آراء

نشر السيد نبيل جعفر عبد الرضا المرسومي - والذي تقول أوساط إعلامية وأكاديمية عراقية إنه يعمل مستشاراً اقتصادياً لدى رئيس مجلس الوزراء - مقالة على مواقع التواصل الاجتماعي -الحوار المتمدن، ثم تداولت مواقع مقربة من إعلام الحكومة هذه المقالة وهي بعنوان (فلاي بغداد: إنذار اقتصادي أمريكي للعراق). ويبدو أن الكاتب، وفي غمرة حماسته في الترويج للعقوبات الأميركية المتوقعة ضد العراق، فيما إذا تصدى للهيمنة وحاول استرجاع سيادته واستقلاله المنتهكين، نسيَ موضوع "فلاي بغداد" ولم يذكره بكلمة واحدة. و"فلاي بغداد" لمن لا يعرفها هي شركة للخطوط الجوية - قطاع خاص تملكها زعامة أحد أحزاب الفساد ضمن المنظومة الحاكمة هو حزب "حزب الحكمة" والتي عاقبتها وزارة الخزانة الأمريكية بإدراجها هي ومديرها التنفيذي، في لائحة العقوبات وسرعان ما نفذ البنك المركزي العراقي تلك العقوبات الأميركية وقام بتجميد حسابات الشركة في ثلاثة مصارف عراقية رئيسية، ولكن المرسومي لم يذكر شيئاً عن هذا الحدث في سطور مقالته كما أسلفنا.

يبدأ الكاتب مقالته بمعلومة أراد لها ان تكون جرس إنذار وتهديد للقارئ تقول: "يتمتع كل من رئيس الولايات المتحدة والكونغرس بسلطة إصدار عقوبات اذْ يسمح قانون السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية لعام 1977 للرئيس بفعل ذلك بسهولة كبيرة وقد دفعت واشنطن بالأمم المتحدة الى فرض عقوبات على جماعات واشخاص في 180 دولة". ثم يفصل الكاتب في أساليب فرض تلك العقوبات وهي كالآتي ذكره باختصار:

1- التجميد: مصادرة أصول الدولة الموجودة بالخارج وتجميد حسابات مؤسسات الدولة والأفراد.

2- القيود المالية: الاستبعاد من نظام التحويل المالي (سويفت) لإرسال الأموال عبر العالم.

3-الاستبعاد من مقاصة الدولار: حظر المعاملات المالية التي تنطوي على استخدام الدولارات الأمريكية.

4- منع الوصول لأسواق الديون العالمية.

ولكي يتخذ الإنذار والتهديد والوعيد الأميركي المعادي للعراق حجمه الحقيقي لا ينسى المرسومي أن يذكر احتمال "توسع العمليات العسكرية في العراق"، وربما يقصد توسع عمليات مقاومة الاحتلال ومحاولة طرد قواته بقوة المقاومة أو تلك العمليات الهادفة إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة والذي يتعرض للإبادة الجماعية والتخفيف عنه، فيقول: "وإذا ما توسعت العمليات العسكرية في العراق فمن الممكن ان يتعرض العراق للعقوبات الآتية". ثم يقدم المرسومي تشكيلة جديدة (سيكرر بعضها كالحرمان من استعمال نظام سويفت) لعقوبات أميركية ضد العراق هي كما يلي:

1- التوقف عن تسليم الدولار الى العراق اذ ان القوانين الامريكية مثل قانون معاقبة أعداء أمريكا تتيح لها عدم تسليم الدولار الى بعض الدول مما سيخفض كثيرا من سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار وقد نشهد انهيار اكبيرا للدينار يؤدي بالنتيجة الى تضخم جامح سيذكرنا بالحصار الأمريكي على العراق. وقد يتم تجميد احتياطات العراق النقدية في البنوك الامريكية وقد يمتد الامر الى استثمارات العراقي الكبيرة في سندات الخزانة الامريكية التي تبلغ نحو 34 مليار دولار.

2- الامتناع عن التعامل مع البنك المركزي العراق وهو ما يؤدي الى فقدان ثقة العالم به.

3- فرض عقوبات على المصارف العراقية وشركات التحويل المالي مما يربك الوضع الاقتصادي ويحد من تمويل التجارة الخارجية.

4- منع العراق من استخدام نظام التحويل المالي (سويفت). مكرر.

5- إيقاف برمج الإقراض والاعمار والمساعدات الفنية التي يقدمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للعراق إذ أن هاتين المنظمتين تتحكم بهما الولايات المتحدة

6- التوقف عن منح العراق الاستثناء الخاص باستيراد الغاز والكهرباء من إيران ما سيؤدي الى انهيار المنظمة الكهربائية فيه.

7- ستؤثر العقوبات الامريكية المحتملة كثيرا في قطاع النفط إذ ربما ستوقف الولايات المتحدة استيراداتها من العراق التي تصل الى 400 ألف برميل يوميا وربما ستتطور العقوبات الى فرض عقوبات أمريكية على الجهات التي تشتري النفط العراقي.

8- التأثير السلبي على البيئة الاستثمارية في العراق والمتمثل بأضعاف ثقة المستثمرين وبشكل خاص ما يتعلق بالشركات العاملة في مجال النفط الامريكية منها والأجنبية.

سنناقش أدناه هذه الشبكة من العقوبات "السِّياط" الأميركية التي تولى المرسومي الترويج لها وهزّها في وجوه الاستقلاليين والوطنيين العراقيين. وأقول إنه تولى الترويج لها ليس من باب الاتهام المرسل، فلو كان يتحدث كخبير اقتصادي قريب من الخط الوطني، أو في الحد الأدنى كخبير مستقل محايد لا يعني له استقلال العراق شيئاً، لطرح هذه العقوبات بحيادية وناقشها بموضوعية، وطرح العوامل التي تقلل من تأثيرها على الاقتصاد العراقي، أو في الأقل لذكر تجارب الشعوب التي وقفت في وجه هذه العقوبات وقاومتها وانتصرت عليها أو حدَّت من تأثيرها كما سنفعل بعد قليل.

1- ولنبدأ من التجربتين اللتين ذكرهما المرسومي في معرض التلويح بالعقوبات الأميركية للعراق لا في سياق مقاومتها بل في سياق التيئيس والترهيب حين كتب وكأني به يحذر العراقيين (وقد تم استخدام هذه العقوبة من قَبل ضد إيران وروسيا بعد حربها ضد أوكرانيا). والحال فإن روسيا - يا حضرة المستشار - في طريقها بعد أن عوقبت بكل هذه العقوبات وفي مقدمتها قطع اقتصادها عن نظام (سويفت) ضمن حصار محكم أشمل، لأن يتربع اقتصادها في غضون أربع سنوات في المرتبة الرابعة عالميا بعد أن يتفوق على الاقتصاد الياباني، وبعد أن تقدم فعلا سنة 2022 على الاقتصاد الألماني.

وتذكر تقارير اقتصادية أجنبية "أن روسيا تقدمت على أوروبا بأكملها من حيث مؤشر القوة الشرائية، مع مواصلة جهود الارتقاء بنصيب الفرد من الدخل القومي".

وإذا كانت هذه المقارنة بين الاقتصادات العالمية القائمة على ما يسمى تعادل القوة الشرائية (PPP) غير مفهومة للقارئ، فيمكن، لتبسيط المعنى، الإشارة إلى ما أورده الرئيس الروسي بوتين عن نمو الناتج القومي الروسي بنسبة (3,5%) ونمو الأجور الحقيقية نسبة (7.7) بالمئة في ظروف الحصار الشامل الذي فرضته أمريكا ومن ورائها أوربا، في حين أن نمو ألمانيا هو حوالي صفر.

أما بخصوص ما ذكره الكاتب بقوله "وقد يمتد الأمر الى استثمارات العراق الكبيرة في سندات الخزانة الامريكية التي تبلغ نحو 34 مليار دولار"؛ فالواقع أن غالبية الدول التي لها أرصدة من سندات الخزانة الأميركية في حالة تراجع وسحب لأموالها بما في ذلك الدول الحليفة لأميركا كالسعودية. فقد تخلصت هذه الأخيرة من ثلاثة مليارات دولار في العام الماضي من سنداتها. والعراق نفسه، وبعد هبة شراء كبيرة خلال حكومة الكاظمي وما قبلها، تخلص من 400 مليون دولار من سنداته. ويمكن للعراق أن يتخلص من المزيد منها بالتدريج، إضافة إلى أن أموال السندات - في حالة العراق - تعتبر أموال شبه ميتة وهي أشبه بـ "الخاوة" تأخذها واشنطن من العراق مقابل حماية نظام الحكم فيه. وعموما يمكن الوصول إلى حلول عملية وعلمية لهذه المشكلة. ثم إنَّ إقدام واشنطن على تجميد أو مصادرة 34 مليار دولار عراقية ستهز ثقة العالم كله بالاقتصاد الأميركي وستسارع الدول الأخرى والتي تملك سندات بأكثر من تريليون (مليون مليون) دولار كاليابان وأكثر من 800 مليار كالصين و330 مليار كبلجيكا إلى بيع سنداتها والتوقف تماما عن شراء المزيد منها وهذه كارثة حقيقية للاقتصاد الأميركي الدولاري.

إضافة إلى ما سبق، تقول تقارير اقتصادية مستقلة "إنَّ الصين ليست الدولة الوحيدة التي باعت ديون الولايات المتحدة. فباعتبارهما أكبر حائزين للديون الأمريكية في العالم، فقد خفضت اليابان والصين حيازاتهما من السندات بمقدار 224.5 مليار دولار و173.2 مليار دولار على التوالي في عام 2022. وباعت فرنسا والمملكة العربية السعودية وبعض الدول الأخرى كميات كبيرة من سندات الخزانة الأمريكية العام الماضي، بينما باعت بلجيكا ولوكسمبورغ وإيرلندا - جزءا من سنداتها - في شهر شباط/ تقرير لصحيفة تشاينا ديلي بالإنكليزية".

ولا أعتقد أن الأميركيين حمقى إلى الدرجة التي يدمرون فيها اقتصادهم الهش بإجراءات عقابية من هذا القبيل ضد العراق أو غيره!

2- التجميد: مصادرة أصول الدولة الموجودة بالخارج. وكنت قد توقفت عند هذه العقوبة في الفقرة السابقة. فهذه العقوبة، لم تتجرأ أميركا على اتخاذها حتى ضد روسيا، وماتزال تهدد باتخاذها ولكنها مترددة لأنها لو فعلت ذلك وصادرت أموال روسيا التي تفوق ثلاثمائة مليار دولار فدول العالم كلها ستفقد الثقة بالاقتصاد الأميركي والعملة الأميركية وسينهار الدولار نفسه قبل غيره من العملات.

 3- فرض عقوبات على المصارف العراقية وشركات التحويل المالي مما يربك الوضع الاقتصادي. الوضع الاقتصادي العراقي هي في أسوأ حالات الارتباك ومثلما قاوم الفوضى والارباك في الماضي فسيقاوم القادم وخصوصا إذا وضعت خطة مقاومة وطنية شاملة على المستوى الاقتصادي الوطني وتم تفعيل نقاط قوة هذا الاقتصاد فالعراق ليس جمهورية موز فقيرة أو دولة تعيش على المساعدات الأجنبية أو على واردات السياحة إلى جانب قناة مرور دولية. وأعتقد أن خطة مالية مصرفية وطنية ممكنة التنفيذ وبعناصر قوة معقولة جدا.

4- إن منع العراق من استخدام نظام التحويل المالي (سويفت)، سيؤثر فعلا، ولفترة محدودة، ريثما يتم تفعيل بدائل قائمة فعلا ومتمثلة بالنظام الصيني البديل (سيبس) أو الروسي البديل (إس بي إف إس)، وحتى إيران ابتكرت نظاماً محلياً خاصاً بها هو (سيبام) وربطته بالنظامين الروسي والصيني. إذن، فبعبع نظام سويفت لم يعد مخيفاً جداً وخاصة لدولة غنية بالاحتياطات الهيدروكاربونية من نفط وغاز كالعراق!

5- أما (إيقاف برمج الإقراض والاعمار والمساعدات الفنية التي يقدمها صندوق النقد الدوي والبنك الدولي للعراق) فهو جائزة رائعة للعراق لأنه سيتخلص أخيرا من التبعية لأخطر جهازين اقتصاديين غربيين.

6- وبخصوص عقوبة "التوقف عن منح العراق الاستثناء الخاص باستيراد الغاز والكهرباء من إيران"، التي يذكرها المرسومي فإيران نفسها في طريقها للخروج من العقوبات الأميركية، وبالتالي فلم تعد هناك حاجة إلى هذه الاستثناءات المهينة للكرامة الوطنية العراقية والتي دأبت حكومات المحاصصة الطائفية التابعة على طلبها من واشنطن.

7- أما تأثير (العقوبات الامريكية المحتملة كثيرا في قطاع النفط اذ ربما ستوقف الولايات المتحدة استيراداتها من العراق التي تصل الى 400 ألف برميل يوميا) فالعراق يصدر ما بين ثلاثة وأربعة ملايين برميل يوميا، ولن تحدث كارثة إذا نقصت هذه الكمية أقل من نصف مليون برميل وخصوصا في ظروف استقرار سعر البرميل النفطي عند حدود معقولة حول ثمانين دولار صعودا ونزولا! وفي المناسبة هل يعلم المرسومي أن الولايات المتحدة، ورغم كل صخب العقوبات التي فرضتها على النفط الروسي، ما تزال تستورد سرا هذا النفط كما قال مسؤول روسي قبل فترة؟ تقرير صحافي 13.01.2024.

8- أما قول المرسومي أن العقوبات الأميركية سيكون لها (التأثير السلبي على البيئة الاستثمارية في العراق والمتمثل بأضعاف ثقة المستثمرين) فهو قول نافل ولا أهمية له، فالاستثمارات الأجنبية في العراق وطوال عشرين عاماً من عمر النظام لم تتقدم خطوة واحدة وهي تعيش فوضاها الخاصة وليس من المنتظر أن تنتظم هذه الفوضى وليس من المفيد "تهديد الدب بهراوة لم تصنع بعد"!

إن السيد الخبير نبيل المرسومي وبعض أمثاله يتوعدوننا بفتح أبواب الجحيم أمامنا إن نحن تمادينا في "استفزاز" السيد المحتل، ويبينون الهشاشة الكاملة لوضعنا المالي والاقتصادي وتحكم أمريكا المطلق به؛ نقول شكرا لكم إيها الخبراء وقد وضحتم المخاطر، ولكن طوال هذه السنوات وأنتم تعلمون بها وتراقبونها، أما كان الأجدر بكم أن ترسموا من خلال خبرتكم سياسات اقتصادية ومالية سليمة وتقترحون طرق الخروج من هذا المأزق وعدم ارتهان عائداتنا في الفيدرالي الأمريكي والتنبيه على ضرورة التقليص المستمر لحيازات سندات الخزانة الأمريكية، وغيرها من تنويع طرق دفع مبيعاتنا من النفط وإمكانية تبني سلة من العملات؛  والتنبيه وبإلحاح على الحكومة التي أنتم مستشارون لها وبيان استحالة بناء البلد والتحكم بقراره الاقتصادي والسياسي بدون التخلص من هذا النير الاحتلالي والهيمني بدلا دور تثبيط الهمم الذي تقومون به، كي تأكدوا صدق منطلقاتكم؟

ونختم هذه الوقفة بطرح السؤال التالي: هل أن إخراج القوات الأمريكية من العراق كبداية لاستعادة استقلاله وسيادته الوطنية يستلزم أن تعاقبه واشنطن بالضرورة وبكل يقين بمثل هذه العقوبات؟ أليس فرض مثل هذه العقوبات سيعني أن أمريكا ستخسر ثقلها السياسي في العراق وتقدمه بطبق من ذهب إلى معسكر خصومها، إيران والصين وروسيا؟ ثم ما الفائدة التي ستجنيها واشنطن من توحيد الامتداد الجغرافي لخصومها ومن دون أي عائق من البحر المتوسط إلى الخليج العربي والبحر الأحمر وبحر قزوين، وأين سيصبح وضع دولة الاحتلال الصهيوني ضمن هذا الطوق الهائل، والتي أصبحت تشكل عبئا على من زرعها بعد أن كانت قلعة متقدمة. وبالأمس كشفت مجلة "فورن بوليسي" عن قرار تناقشه الإدارة بالانسحاب النهائي من سوريا والعراق. ألا يعني هذا الانسحاب إعادة ترتيب أوراق أمريكا في المنطقة باتجاه أقل تورطاً وأقل استفزازاً للتركيز على الساحة الأهم أي المحيطين الهادي والهندي؟

والسؤال الآخر الذي يطرح هنا، ترى لو استجابت أية حركة وطنية تحررية جادة لمثل هذه التهويلات والتهديدات بفرض العقوبات الاستعمارية ففي أي عالم عبودي كنا سنعيش الآن؟

ترى، ألا يساعد فرض مثل هذه العقوبات الغاشمة غير المبررة على التعجيل بكنس نظام المحاصصة وكل مؤسساته ووضع قدمي العراق على المسار الصحيح لحركة التاريخ بعد هذه السنين العجاف المدمرة؟ أليس هذا هو ما يثير ذعر ورعب أحزاب وزعامات المنظومة الطائفية العرقية الحاكمة ومن يشتغلون في خدمتها اليوم؟!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

....................

**رابط يحيل إلى مقالة نبيل جعفر عبد الرضا المرسومي:

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=818221

نص بيار بيستلوتي

ترجمة: رمضان بن رمضان

***

الديمقراطية في أصلها الاغريقي تعني"سلطة الشعب". وفي كلمتي "ديمقراطية" و"شعبوية"توجد لفظة الشعب le peuple ا المستمدة من الإغريقية ثم من اللاتينية. فالشعبوية هي أيضا، تطالب بسلطة الشعب. الديمقراطية والشعبوية كلمتان من المفروض أنهما مترادفتان لاشتراكهما في الأصل الايتيمولوجي ألا أن الأمر غير ذلك، فالشعبوية هي بالاحرى شكل كاريكاتوري إن لم نقل انحراف الديمقراطية كما عبر عن ذلك مارسال غوشيه، Marcel Gauchet حين كتب: " الشعبوية هي شكل الديمقراطية فائدة تحاول أن توهمنا بطريقة خادعة بوحدة الشعب الطيب الذي تخلص من طفيلياته والذي تدافع عنه سلطة جيدة"(1) تزدهر الشعبوية في الاراضي البور الديمقراطية منهكة. فالحاجة إلى الامن والرغبة في سلطة حامية تبدو اليوم لها الاولوية على أشواق الحرية فازاء التهديدات الارهابية والمخاوف المتوهمة في معظمها من هجرة كثيفة تزيح ثقافتنا. ففي فرنسا بلد الحريات أجري بحث استقصاءي أنجزه معهد ابسوس Ipsos لفاىءدة جريدة لوموند نشر في 7 نوفمبر 2016. كشف أن فرنسيا على خمسة مستعد لاختيار نظام تسلطي بدلا من نمط ديمقراطي حالي وخلال الانتخابات التشريعية الأخيرة كان الامتناع عن التصويت هو الغالب فمن هو في عالمنا الغربي القديم مازال مستعدا للموت في سبيل الحرية؟ كثيرون يفضلون الانزواء بكل أمان في فقاعتهم، يحتمون خلف شاذتهم حيث يصبحون فراىءس للتجار الطامعين الذين يتلاعبون بهم. إنهم يشبهون السجناء المصفدين داخل كهف أفلاطون بصدد التأمل في لعبة الظل المبرمجة منها قبل عراءسيين مهرة (2)

* إن مسألة شراء هذا النوع أو ذاك من آخر صيحة في مجال التكنولوجيا تحجب العقول إلى درجة أنها تنسيها خطورة الحرية التي تشع في الهواء النقي خارج الكهف. باختصار يمكننا أن نتحدث عن " ترهل الديمقراطية" (Dominique Reynie) أو على " ديمقراطية في حالة تبخر").

* Gilles Finchelstein ثمرة مرة لحالة عميقة من فقدان السحر un désenchantement. لقد انصرفت ديمقراطيتنا الليبرالية إلى مواجهة ذئاب الليبرالية الجديدة، عبدة الثور الذهبي. من يتحكم ؟ الدولة أم المال العابر للدول ومتعدد القوميات؟. إن الشعبوية تنتعش من الاحساس بالاستلاب وبالعجز ولا يمكن مواجهتها بنجاعة إلا إذا اعدنا المعنى المكتمل لفكرة " الديمقراطية الليبرالية والتمثيلية". سنحلل الاعمدة الاربعة للشعبوية وهي: إطلاقية مفهوم الشعب، الهوية المقصية، اختفاء السلط المضادة والانزياح العاطفي

1- عبقرية الشعوب؟

* بالنسبة إلى الشعبويين يمثل الشعب هوية واحدة، إنهم يمتدحون " فكر الأمة" أو " عبقرية الشعب". الفولكسجات volksgeist ا الالماني ذاىع الصيت هذا النص لفيذت Fichteيعود إلى بداية القرنالتاسع عشر يوضح جيدا هذا المفهوم:" بالنسبة إلى قدماء الجرمان، تتمثل الحرية في أن تبقى ألمانيا (....) إنها لهم وللغتهم ولجريقتهم في التفكير، نحن مدينون لكل ماضينا القومي طالما بقيت في عروقنا قطرة من دمائهم ولهم الفضل في ما سنؤول إليه في المستقبل" (3) نحن نعرف الاستغلال الفاحش لمثل هذا التصور من قبل النازيين ورغم ذلك لا ينبغي حينىءذ الخلط بين الشعبوية والنازية التي هي انحراف متطرف وإجرامي.

* هل للشعوب روح؟ ربما، ولكن ليست متراصةmonolothique وخصوصاً أنها لا تلغي روحا أخرى. في التنظيرات الشعبوية يميل الفرد إلى تعريف نفسه في علاقة ب"الكل القومي" le tout nationlا الذي ينتمي إليه. قبل أن تكون بيار أو جاك أو جان أنت فرد واحد وحرألماني، فرنسيأو بولوني. الآخر هو أيضا محدد وموصوف انطلاقا من " كل إثني" un tout ethniqueأ أو ديني. وفي كثير من الأحيان يوصم بصفة ادق بأنه عربي أو يهودي أو مسلم. فتبعية الفرد لكل ما تنمحي فيه خصوصيته هي مندد بها بشدة من قبل الفيلسوف إيمانويل لو فيناس Emmanuel Levinas في رسالته الراىءعة: الكلية واللامتناهي Totalité et Infini حيث يسعى لفهم جذور " الرعب النازي" في عالم في عالم تسيطر عليه الكلية La Totalité. مثلما هو الحال عند الشعبويين. الشخص لا يوجد إلا في علاقة بمجموعة س) الفرد) لا يصبح له معنى إلا من خلال (س) (الكل) بحيث توجد كيانات أخرى فريدة (س،، س،،،....) والتى تتحدد بالعلاقة مع (س) مثال على ذلك: بيار فرنسي وأيضاً ماري ومارك هم أيضاً فرنسيون وكأن وحدة ذاتي أنا (الطابع الوحيد) ليست إلا ب" اسم" (س). كأن خصوصيتي – التي تميزني عن غيري - لم تمنح لي إلا على أن لها الأسبقية طبقا لخلفية مشتركة ومحددة سلفا. فالفرد ليس له من معنى بنفسه. فالمعنى يكتسبه من علاقته بالكل le Tout الذي يسبقه ويحتويه (س): الفردية (الشخص) لا توجد إذن بما هي en tant que tel يستتبع ذلك أن الوجوه تختفي " الكائن المفكر يبدو أنه يحظى بنظرة تتصوره كمندمج في كل intégré dans un tout ا. " يكتب لوفيناس Levinas. في الحقيقة إنه لا يندمج إلا عندما يموت، الحياة تترك له راحة أو تأجيلا والذي هو تحديدا داخليته son intériorité " (4) نفهم حينىءذ أن " عالم الكلية" le monde de la totalité يحضر الأرضية للكليانية سواء عند اليسار أو عند اليمين. هذه المقاربة المرفوضة من قبل لوفيناس Levinas. تقع على النقيض تماماً من الرؤية اليهودية والمسيحية للشخص والتي هي أيضاً الأساس الذي بنيت عليه الأنوارLes Lumières. (روسو، فولتير، كانط،...) والتي تولدت منها الديمقراطية. قبل أن تكون عضوا في أمة أو شعب، الكائن البشري شخص فريد خلق " على صورة الاله وعلى شبه به " (سفر التكوبن، 1, 26). العبقرية الخاصة بالإنسان متأتية مباشرة من الاله الأعلى وهي تسبق عبقرية الشعب والتي، إضافة إلى ذلك، لا توجد من دون عبقرية الأفراد التي تكونها وثم تتالف فيما ببنها لتبني حضارة. الكنيسة كانت دوما تؤكد على أسبقية الفرد والذي له قيمة في ذاته، كما يردد ذلك البابا فرنسوا: "الصالح العام يفترض احترام الذات الإنسانبة، كما هي، بحفوقها الأساسية وغير القابلة للتصرف والمرتبة لتطورها الشامل" (5). بالنسبة إلى إبمانويل كانط الذات إلإنسانبة ينبغي" النظر إليها دوما على أنها غاية في حد ذاتها وليست مجرد وسيلة" (6). أما بالنسبة إلى إيمانويل مونيي Emmanuel Mounier فإنه يلخص فلسفته الشخصانية la philosophie personnaliste. في هذه الصياغة:" الفرد هو المطلق إزاء كل حقيقة مادية"(7). الديمقراطية قائمة على هذا المطلق المتصل بالإنسان وعلى احترام حريته. نحن إزاء تصورين سياسيين متقابلين: الشعبوية والديمقراطية الليبرالية. ااأولى تدافع على مقاربة تصميمية organiciste للمجتمع مشبهة إياه بجسم كبير تكون فيه الخلايا خاضعة للسلطة المركزية كما يقول عالم السياسة جان ايف كانو Jean Yves Camus : " الأمة لم تعد قمؤسسة على عقد un contrat ولكن على قانون الطبيعة وعلى جماعة الإرث والمصير اللتين لا مهرب منهما" (8). ااديمقراطيات الليبرالية تتأسس على العكس من ذلك على مفهوم العقد بين ذوات مستقلة كما نراه عند روسو أو كانط. ٱنها منظمات des associations. لكاىءنات مستقلة. فيما يتمثل هذا العقد الاجتماعي؟ إنه يعني أن أتخلى عن " حريتي المجنونة " التي لها نزوع لتطأ حرية الاخر ولكن أيضا تكون مهددة بمن هو أقوى مني لنكون على تخوم " تعايش الحريات " المحمي من الدولة. إن دور الدولة هو ضمان الحد الأقصى من الحرية للجميع. فحريتي تنتهي حيث تبدأ حرية الاخر. ها نحن إذن على نقيض الليبرالية الجديدة حيث القوي يسحق الضعيف وحيث الدولة محمولة على أن لا تتدخل إلا في الحد الأدنى. وهي النقيض أيضاً للشعبوية حيث الرجل القوي، الأب الصغير الشعب يريد أن يفرض على الجميع هذه الأديولوجيا للسعادة أو تلك باسم الإرادة الشعبية المنحوتة في رخام التقاليد التي يزعم أنه يجسدها. إن مثال الديمقراطية الأصيلة ومنوالها يجد نفسه وقد وصف برؤية رائعة عهد الغايات Règne des fins عند كانط، إنها جماعة إنسانية تتالف فيما بينها في ظل نظام من القوانين المنبثقة من العقل المحض القاىءم على استقلالية الإرادة المتحررة من عبودية الانفعالات. إنه مثال بعيد منال التحقق ولكنه يظل على الأقل البراديغم لكل ديمقراطية كما يوضح جان لوك نانسي Jean-Luc Nancy : " الديمقراطية، هي فكرة الإنسان الذي يعتبر نفسه مستقلا تماما "(9).

2- هوية الإقصاء:

تلعب الشعبوية لعبة السلحفاة فتنطوي على نفسها داخل قوقعتها وهي أيضاً تلعب لعبة القنفذ حين يغضب بشدة ويظهر شوكه متصديا للمخاطر الخارجية. هذه التهديدات مشار إليها بالبنان: العولمة والهجرة المتولدة عنها. إنهما تضعان معا ما بلغناه من رفاهية (الإغراق في الأجور le dumping salarial (ونمط عيشنا – حيث تضعف تقاليدنا - في خطر. إن المسألة الهوياتية تتجه اليوم لتهيمن على كل شيء بما في ذلك الطابع الإقتصادي في علاقة خاصة بالهجمات الإرهابية. إزاء ذلك يرغب الشعبويون في إعادة تأكيد الهوية الوطنية أو الدينية للدفاع عن قيمنا ضد كل ما يعتبرونه اجتياحا مدمرا يؤدي إلى خسارة فادحة لثوابتنا وأيضاً إلى" الإستبدال الكبير" لثقافتنا من قبل الإسلام، بفضل الديمغرافيا المتسارعة للجاليات المهاجرة. لأجل ذلك تكون الدعوة للعودة إلى جذورنا إلى" سويسرا الحقة" إلى" فرنسا الأصيلة" ذات العرق الأبيض وصاحبة الدين المسيحي. لنبرز حينىءذ تفوق الحضارة الأوروببة القادمة من القدس ومن أثينا، مهد الديمقراطية. المشكلة هنا ليست طبعا التجذر في القيم المسيحية أو الإنسانية والتي من الواجب إعادة اكتشافها بل الخطر هو في إعادة التأكبد على تلك القيم ضد قيم أخرى داعية إلى صدام الثقافات والهويات إن لم نقل حربا بين الحضارات، من أجل الترويج لتقليد وحيد يكون هو الوحيد المقبول ويصبح هو قانون المواطنة الوحيد. هذا ااموقف القنفوذي أليس هو تنكر للمسيحية وانحراف عن النزعة الإنسانية للانوار؟ فالثقافة لا تختزل في ثقافة واحدة une monoculture والتجذر لا يستبعد بأي حال من الأحوال الأنفتاح مثلما تجسده صورة الشجرة: كلما كانت جذورها عميقة في تربتها انفتحت على نطاق واسع في الاتجاهات الأربعة ونحو السماء، فالانفتاح إذن يكون بقدر التجذر وثقافة تنغلق على نفسها محكومة بالتلاشي كشجرة تصاب بالضمو. الأسوء من ذلك: هوية تنغلق وتضع نفسها في مواجهة الآخر يمكن أن تصبح قاتلة، في استعادة لعنوان كتاب مشهور لأمين معلوف، زميلي في إعدادية جمهور بلبنان: " يكفي أن يطرح كل فرد بعض الأسىءلة ليكتشف أنه معقد، فريد من نوعه ولا يمكن استبداله، إذا ألححت إلى هذا الحد فذالك بسبب هذه العادة المنتشرة إلى حد كبير وضررها قوي فمن خلالها ومن أجل التأكبد على هويته، ينبغي أن يقول ببساطة:(أنا عربي)، (أنا فرنسي), (أنا أسود),(أنا مسلم) أو (أنا يهودي). " (10). لقد شهدت بنفسي صعود " الهويات القاتلة" في لبنان والتي أفضت إلى حرب مروعة. الانغلاق داخل انتماء ما يصبح مصدر عنف، نشاهده في المشاجرات التي تحصل ما بين الفرق الرياضية. باختصار، قبل أن تكون سويسرا، فرنسيا أو محبا لهذا الفريق أو ذاك أنت فرد مميز، أنت مكون من هويات متعددة، ولكن أيضاً أنت كاىءن بشري ذو عقل، مواطن كوني مرتبط بكل إخوانك وأخواتك في الإنسانية.

تسعى الشعبوية إلى شد وثاقنا إلى انتماء واحد، وهي بهذا إنما تقع أيضاً في تضاد مع المسيحية التي ترفض كل هوية منغلقة وكل قومية متعصبة كما كتب القديس بول عن ذلك بطريقة رائعة:" لا يوجد يهودي أو إغريقي، لا عبد ولا حر، لانكم جميعا واحد في يسوع ". ( Gal,3,28)

3- الإنسان، الشعب: اضمحلال السلطات المضادة

مخكل ديمقراطية جديرة بهذا الإسم تتضمن سلطات مضادة. في القرن التاسع عشر كان توكفيل Tocqueville قد حذر مما سماه " استبداد الأغلبية " La tyrannie de la غmajorité المنبثقة من رأي عام متلاعب به. في ظل نظام ديمقراطي حقيقي السلطة لا ينبغي أن تكون مركزة في أيدي شخص واحد أو عند هيىءة وحيدة. وإن ادعت أنها منبعثة من" الشعب الأصيل ". من ذلك الفكرة التي صاغها لوك Locke (16329-1704) ثم بعد ذلك مونتسكيو Montesquieu (1689-1755. والمتمثلة في الفصل بين السلط للتصدي إلى كل التجاوزات. نفرق حينىءذ بين السلطة التشريعية التي تصادق على القوانين وتقترحها، السلطة التنفيذية التي تحكم والسلطة القضاىءية الممارسة من قبل القضاة. ونضيف إليها اليوم سلطة الإعلام القاىءم على الصحافة والذي من المفروض أنه يقدم نظرة نقدية لعمل الدولة. يعمد الشعبويون، من أجل تدعيم سلطتهم، إلى إفقاد السلطات المضادة مصداقيتها، ولاسيما القضاء والإعلام من أجل إضعافها. إن مبدأ التفريق بين السلطات مهدد. فحالة دونالد ترمب حالة نموذجية: فعلى امتداد حملته الانتخابية وأيضا بعد تسلمه الرىءاسة، لم ينفك عن التهجم على الإعلام وعلى القضاة وأيضاً على المشرعين، كلهم وبدرجات متفاوتة فاسدون! لكن ولحسن الحظ، السلطات المضادة في الولايات المتحدة الأمريكية مازالت موجودة وصامدة، فعلى سبيل المثال، قضاة عاديون نجحوا في إحباط المراسيم الأولى السيد ترمب والمتعلقة بالهجرة. ينبغي الإشارة إلى أن هذه التجاوزات الشعبوية تلوث الآن أغلب الأحزاب، فعلى سبيل المثال في فرنسا قضيتا فيون Fillon وفرانFerrand كلاهما متهم باستغلال موقعه السياسي للإثراء وتكشفان في وضح النهار محاولة انتهاك النظام القضاىءي للاعتماد على تصويت الشعب الشجاع:" الإعلام والقضاة، يريدون خسارتنا والناخبون هم وحدهم من سيحسمون الأمر. " ولكن هل الشعب داىءما على حق ولاسيما هل هو مؤهل لفهم المساىءل القضاىءية ؟ في هذه اللعبة الشعبوية الصغيرة خسر فيون Fillon فلم ينتخب في حين أن فران Ferrand أعيد انتخابه في داىءرته وذلك بركوبه موجة إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron الذي ربح الرهان وخرج منتصرا. أليس ذلك شكلا من أشكال الظلم ؟ نحن، من جديد، إزاء مفهومين ديمقراطيين حيث يكون الثاني شكلا كاريكاتوريا للأول: الديمقراطية الليبرالية أو البرلمانية من ناحية والشعبوية التي تطالب بديمقراطية مباشرة كالتي كانت في العصور القديمة والتي تتحول إلى ديماغوجيا سلطوية. في القديم، وعلى سبيل المثال، الشعب في أثينا كان قليل العدد ولم يكن منشغلا بأعمال متعددة كالتي تشغلنا اليوم، كان لهم متسعا من الوقت يسمح لهم بالإجتماع في الساحة العامة وباختيار قوانينهم وبانتخاب من يحكمهم مباشرة. فعلى هذه الصورة الأسطورية والمثالية يستند بعض الشعبويين، إلا أن الملايين من المواطنين، اليوم، منشغلون جدا لا يجدون الكثير من الوقت للاهتمام بصفة مباشرة بالشؤون العامة، حيث تقتضي الضرورة تفويض السلطة الشعبية إلى مؤسسات تمثيلية كالبرلمانات. منظرو الليبرالية فهموا ذلك جيدا منذ القرن التاسع عشر. و قد أكد ذلك الفيلسوف فلوران قيران François Guenard :" المفكرون الليبراليون يستبدلون النموذج هالقديم للديمقراطية المباشرة بالحكم التمثيلي: المواطنون يركزون على شؤونهم الخاصة ويقبلون بتفويض سلطتهم إلى ممثلين عنهم ينتخبونهم" (13). في غياب مبدأ التفويض سيكون هناك توجه نحو اعتبار الشعب كتلة واحدة في حاجة إلى" ترشيد" ثم إلى استفتاىءهم، يتم ذلك، في كثير من الأحيان، تحت تأثير الشعارات المبسطة.

4 – الانحراف العاطفي: كبش الفداء ونظريات المؤامرة

يستدعي الشعبويون باستمرار، العواطف أكثر من العقل ومفاهيمه الكونية. فبالنسبة إلى الشعبويين يتحدد الكائن البشري، قبل كل شيء، كمجموعة من الرغبات التي ينبغي استغلالها بطريقة أفضل للوصول إلى السلطة. فالمواطنون مدعوون إلى التصويت بحدسهم كرجل واحد. هذه العبارة الأخيرة معبرة لأن الفرد يصهر في نفس المجموعة المندمجة تحت وطأة انفعال ما أو عاطفة ما مثل الغضب على الغرباء أو الحماس لزعيم ما. إنه يتجرد من إنسانيته حين يكف عن التفكير، وينخرط دون تحفظ في تطبيق التعليمات. كيف يتصرف الشعبويون لتمتين اللحمة بين جنودهم/ أتباعهم ؟ إنهم يعينون كبش فداء نزولا عند رغبة الشعب ثم يستثيرون غراىءزنا السيئة كالغيرة، الأنانية أو الكراهية ليوجهوها ضده. كبش الفداء هذا يتخذ وجه المهاجر أو المسلم المصنف إسلاميا أو النظام المالي الدولي، مجهول الهوية والذي يترك الشعب ينزف. إن الذات الإنسانية تختزل في دور الخروف داخل القطيع حيث توجد بعض الخرفان السوداء المدانة من قبل الراعي والذي يشعل كراهية بقية القطيع ضدها. فمن الواضح أن الصورة ستظل كاريكاتورية، صورة الخرفان السوداء التي يجب طردها ظهرت في ملصق لأهم حزب في سويسرا، إنه حزب الوحدة الديمقراطية للوسط (Union Démocratique du Centre) البعض الآخر يتحدث عن مؤامرة مدبرة من قبل وسائل الإعلام، " رجال بروكسل", المسلمين أو اليهود. ففرنسوا فيون نفسه تحدث على " غرفة سوداء" بصدد العمل ضده وضد مناصريه. يجعل الشعبوي من نفسه ومن أتباعه ضحايا لتحشيدهم حوله وذلك من خلال توليد الشعور بالثورة في أنفسهم، يضاف إلى ذلك أن هذه المؤامرة تنسج خيوطها دوما ضد" البلد الحقيقي" مثل فرنسا العميقة المتجذرة في تقاليدها العلمانية.

في الختام، الشعبوية هي الإسم اللاتيني الذي يحيل على الديماغوجيا أكثر من إحالته على الديمقراطية. هي نداء لشعب مثالي/ متخيل وهي ثقافة الزعيم وهي استجداء للعواطف الرخيصة. كل ذلك يبعدنا عن الديمقراطية أشواطا. الشعبوية هي تشويه وانحراف عن الديمقراطية ولمفهوم الذات الإنسانية.

***

......................

الهوامش:

[1] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 9.

[2] Voir notre ouvrage Imagine-toi dans la caverne de Platon, Paris, Payot, 2015.

[3] Fichte: Discours à la nation allemande, 8ediscours, 1807-1808.

[4] Emmanuel Levinas, Totalité et Infini, Martinus Nijhoff, La Haye, 1972, p. 26.

[5] Pape François, Laudato Si, 156

[6] Emmanuel Kant, Fondements de la métaphysique des mœurs, trad. V. Delbos, Paris, Delagrave, 1979, p. 150.

[7] Emmanuel Mounier, L’engagement de la foi, Paris, Seuil, Livre de Vie, 1968, p. 34.

[8] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 19.

[10] Amin Maalouf, Les identités meurtrières, Paris, le Livre de Poche, 2001, p. 28.

[11] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 19.

[12] Ibidem, p. 54.

[13] Ibidem, p. 46.

* المصدر:

revue-sources. cath. ch

* العنوان الأصلي:

Le populisme est- il démocratique? Par Pierre Pistoletti

قرار محكمة العدل الدولية يومه الجمعة 26 يناير بشأن الحرب على غزة والذي ينص على " إلزام إسرائيل اتخاذ كل التدابير لمنع التحريض لارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة... وأنه على إسرائيل اتخاذ جميع الإجراءات المنصوص عليها لمنع الإبادة الجماعية في القطاع... وأمرت إسرائيل بتقديم تقرير إلى المحكمة في غضون شهر واحد... كما دعتها إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية اللازمة على قطاع غزة".

هذا القرار لم يكن مرضياً تماماً للفلسطينيين ولمن كان يتوقع من المحكمة أن تصدر قراراً بوقف الحرب. وفي واقع الأمر ومنذ تقديم جنوب إفريقيا طلباً لمحكمة العدل الدولية في 29 ديسمبر 2023، لم نكن نتوقع أن يصدر عن المحكمة قراراً غير ما صدر وذلك لثلاثة أسباب:

1- محكمة العدل جزء من منظومة الأمم المتحدة:

بالرغم من الدور القانوني وخصوصية تركيبة المحكمة بعيدا عن الولاءات السياسية فإن المحكمة جزء من الأمم المتحدة التي تتحكم فيها واشنطن والغرب منذ تأسيسها عام 1945 ولا يمكن تصور أن يترك الغرب ثغرة في منظومة الأمم المتحدة لتنفِذ من خلالها الشعوب المستضعفة وخصوم الغرب، ومنذ تأسيس الأمم المتحدة لم يتم إصدار أي قرار أممي سواء من مجلس الأمن أو الجمعية العامة أو محكمة العدل أو أي من المنظمات الدولية الأخرى، كما لم تنجح الأمم المتحدة في حل أي نزاع دولي سواء في الصراعات الدولية الحالية أو عبر التاريخ. وهناك سوابق في قرارات وآراء استشارية لمحكمة العدل الدولية لم يسمح لها بالوصول لنهاية تدين الغرب أو إسرائيل ومنها الرأي الاستشاري للمحكمة بشأن جدار الفصل العنصري لعام 2004.

2- صيغة الدعوى التي تقدمت بها جنوب افريقيا:

طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة الإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل حماية الفلسطينيين في غزة "من أي ضرر جسيم إضافي وغير قابل للإصلاح" بموجب الاتفاقية ولضمان "امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم المشاركة في الإبادة الجماعية، ومنعها والمعاقبة عليها".

كما تشير الدعوى إلى أن سلوك إسرائيل - "من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها" - يشكل انتهاكا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

وذكرت الدعوى أيضا أن إسرائيل، "ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 على وجه الخصوص، فشلت في منع الإبادة الجماعية وفشلت في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية". كما أشارت إلى أن إسرائيل "تورطت، وتتورط، وتخاطر بالتورط في المزيد من أعمال الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة".

فالطلب كان دعوى ضد إسرائيل بشأن انتهاكات مزعومة من جانب الأخيرة، لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة.

وبالتالي كان طلب جنوب افريقيا مركزاً على ما يجري في قطاع غزة وما يرتكبه الاحتلال من جرائم وابادة جماعية ولا يتطرق للأبعاد السياسية للصراع ولم يتضمن الطلب رأياً أو قراراً سياسياً حتى لم يتضمن الطلب قراراً من المحكمة بوقف الحرب.

3- التباس طرفي الصراع أو الدعوى:

المحكمة نظرت في حرب بين دولة (إسرائيل) التي هي عضو في الأمم المتحدة وحركة حماس التي ليست دولة ولا حكومة معترف بها ولا حركة تحرر وطني في نظر كثير من الدول وأعضاء المحكمة، ولو نظرت المحكمة في الحرب أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل عام أو كانت (دولة فلسطين) طرفاً مباشراً في الحرب وفي الدعوى المقدمة لكان قرار المحكمة مغاير.

مع أن الرئاسة الفلسطينية رحبت بالقرار كما هو الحال بالنسبة لجنوب افريقيا ودول أخرى لأنه لا يمكنهم إلا الترحيب على أمل أن يتم البناء عليه لاحقاً ولأن مجرد تداول مجريات الحرب وجرائم إسرائيل في منبر دولي يفضح إسرائيل ويرد على أكاذيبها بشأن ما يجري في غزة، فإن الكيان الصهيوني وبالرغم من ادانته للقرار واتهامه للمحكمة وقرارها بمعاداة السامية، إلا أنها فهمت القرار كترخيص لها بمواصلة الحرب ما دام لم يطلب منها وقف الحرب، كما أنها رأت في مهلة الشهر فرصة لمواصلة الحرب وتهيئة ردودها على ما طُلب منها.

وتستموتستمر الحرب وجرائم العدو ويستمر تقاعس المنتظم الدولي ومؤسساته إلا بما يجودون به من مساعدات إنسانية يسمح الجلاد بمرورها للضحية، وتبقى الأمور على حالها إلى أن يستكمل كيان العدو مخططاته أو تحدث معجزة في الأمتين العربية والإسلامية مع إدراكنا أن لا معجزات في السياسة.

***

د. ابراهيم أبراش

تمخض أخيراً "الجملُ" فولد أرنباً وهو أكبر من "الفأر" المدرج في أصل المثل بقليل.. لأن النتيجة ليست صفراً بل أقل من التعادل أو يزيد! هكذا يراه كثيرون خلافاً لمن يؤمنون بنظرية "الجانب الممتلئ من الكاس".

فأنصار الحق الفلسطيني في العالم، والذين يطالبون بإيقاف حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال ضد قطاع غزة يريدون ما يتناسب وهذا المخاض الذي هز المحكمة واستشعر العالم الحر بارتداداته وتعاظمت الآمال للقصاص من دولة مارقة ك"إسرائيل".

لأن جهود مؤازري الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" في محكمة الجنايات الدولية ب"(لاهاي) بتهمة ممارسة حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني في غزة صدرت منقوصة إلى درجة أن القرار بدا وكأنه متواطئ- نسبياً- مع الجناة الإسرائيليين.

ومن شأن ذلك -في نظرهم- أن يرفعَ عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي عيونَ الرقابةِ من خلال التملص من تبعاتها، كما حدث في (لاهاي) وفق من يقدره مناوئو "إسرائيل" ومؤيدو حقوق الإنسان في العالم كأنها خسارة فادحة أو حتى أقل من التعادل.

ففي حساباتهم يُعَدُّ هذا القرار الذي عجز عن الدعوة لإيقاف الحرب؛ تمكيناً غير مباشر لجرائم الاحتلال، كون الحربُ إذا ما شَبَّتْ نيرانُها، لا تُضْمَنُ مساراتُها في أتون المواجهات؛ لأنها ستخضع لمن يقفُ وراءَها. فما بالك ومشعلها في غزة احتلالٌ إسرائيليٌّ غاشم!.

لذا فجيش الاحتلال سيتوغل أكثر في الدم الفلسطيني دون رادع لأنه سيكون خاضعاً لسيطر العقيدة الصهيونية التي تتضمن في جوهرها سياسة التطهير العرقي بحق الفلسطينيين، ويُعْتَبَرُ احتلالُه لأرض الضحيةِ حقاً دينياً مكتسباً، كونها في عرفه أرضاً للميعاد، فيما تخضع العلاقة بين الطرفين لمعايير تلمودية تقضي بالتنافر ما بين الشعب "الذي اختاره الله" متمثلاً باليهود، و"الجويم" المتمثل بالفلسطينيين.

مع أن صمود المقاومة في غزة أثبت استحالة هذا الوجود القهري القائم على مبدأ الاحتلال والتطهير العرقي، وسوف يفشل في مساعيه الشيطانية كما فشل نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا صاحبة الدعوى التي اعتبرت "القرار منصفاً" وهو أقصى ما تستطيع العدالة تحقيقه ما دام الخصم يتمثل ب"إسرائيل" التي تعتبرها الولايات المتحدة إحدى ولاياتها الأثيرة.

اليوم الجمعة وفي الساعة الثالثة بعد الظهر، صدر قرار محكمة الجنايات الدولية النهائي بعدم وقف الحرب ولكن مع اتخاذ الإجراءات اللازمة بعدم ممارسة ما يقع في دائرة الشبهات بارتكاب افعال تتوافق وجرائم الإبادة الجماعية.

فهل يندرج في سياق ذلك قصف المستشفيات والأماكن التي يلوذ إليها اللاجئون والسماح بوصول المواد الإغاثية إلى أهل غزة دون تعريضها للقصف.

القرار رغم كونه منقوصاً وفق مراقبين، ولا يحقق إيقافاً ملزماً لحرب الإبادة على غزة؛ الإ أن جنوب افريقيا أعتبرته قرارأً أصاب معظم أهدافه لذا فهو في نظرها يشكل انتصاراً للعدالة ضد أخر كيان في العالم يمارس التطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن حقوقه المشروعة.

وتتذرع صاحبة الدعوى في أن قرار محكمة الجنايات احتوى على إجراءات تمنع "إسرائل" من التحريض على الإبادة الجماعية.. والالتزام بكل ما يتجنب القتل والاعتداء والتدمير بحق سكان غزة.

لكنه لم يتضمن المطالبة بوقف الحرب التي يصر نتنياهو على المضي قدماً فيها رغم الخيبة التي يُمَنّى بها والفشل الذريع في تحقيق اهدافه.

محكمة العدل صوتت على قرارها بتأييد 16 صوتاً ضد صوت واحد.. وقد وافق إيضاً 15 صوتاً ضد اثنين على قرار يلزم الطرف الإسرائيلي المُدَّعَى عليه في التعهد بعدم إتلاف الأدلة في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضدها.. ولا أدري كيف تَأْتَمِنُ المحكمةُ خصماً مراوغاً اعتادَ صيدَ المواقفِ وقلبَ الحقائقِ دون رادع.

وقد تضمن طلب جنوب أفريقيا في سياق الدعوى المرفوعة ضد "إسرائيل"، فرض إجراءات طارئة ضدها، بسبب ارتكابها جرائم إبادة جماعية بسبب حربها على قطاع غزة.

وفي الملف الذي يتكون من 84 صفحة، تقول جنوب إفريقيا إن “قتل "إسرائيل" للفلسطينيين في غزة، والتسبب في أذى نفسي وجسدي جسيم لهم، وتهيئة ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسدياً، يُعّدُّ إبادةً جماعيةً لهم”.

وتقول الدعوى إن "إسرائيل" تتقاعس عن توفير الغذاء والماء والدواء والوقود والمساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة خلال الحرب التي تشنها عليهم، وتشير أيضا إلى حملة القصف المستمرة التي دمرت جزءا كبيراً من القطاع، وأجبرت حوالي 1.9 مليون فلسطيني على النزوح، وأسفرت عن استشهاد أكثر من 25 ألف شخص، وفقاً لمسؤولي قطاع الصحة في غزة.

وتطلب الدعوى من محكمة العدل الدولية، فرض تدابير طوارئ لوقف الانتهاكات التي تواجه "إسرائيل" اتهامات بارتكابها. مع أن المتوقع أكثر من ذلك كما أسلفنا آنفاً.

وهذا إقرار ضمني بجرائم الاحتلال يمكن توظيفه إعلامياً لصالح المقاومة وإن بدا في الشكل أقل وضوحاً، إذْ لا بد من التركيز على الجزء الممتلئ من الكأس كما تراه صاحبة الدعوى.. وبالتالي تَصَيُّدْ جرائم الاحتلال وإدراجها بما يتناسب وقرائن التطهير العرقي وفق تعريف محكمة الجنايات في المادة السادسة (أ،ب) من مقدمة المبادئ.

وياتي ذلك بغية تعميق جوهر القرار وتوضيع معالم الإدانة للاحتلال وجرائمه، التي يدركها حتى الطفل في القماط.

وأخيراً يسدل الستار على محاكمةٍ جرائم الاحتلال الإسرائيلي في لاهاي ضِدَّ عدوِّ إسرائيليٍّ أثبت من خلال قرار المحكمة الذي يراه كثيرون منقوصاً ولم يحقق أهم غايات الدعوى المتمثلة بإقاف الحرب؛ بأنه يُحْكِمُ قَبْضَتُهُ على مواقفِ الدولِ الغربيةِ وعلى رأسِها أمريكا التي تكيل بمكيالين.

وفي المحصلة فالضمير العالمي يقرُّ بجرائم الاحتلال، والشعوب تناصر الحق الفلسطيني، والمقاومة تحقق انتصاراتها في الميدان، والشعب الفلسطيني يقبض على الجمر ويرفض مؤامرة التهجير.

بقي على الدول التي شاركت في الدعوى ضد الاحتلال أن تتخذ مواقف جريئة بشأن العلاقات مع "إسرائيل" أسوة بجنوب أفريقيا التي تسير على نهج رئيس "المؤتمر الأفريقي" التاريخي الراحل نلسون مانديلا الذي أورث بلاده هذا التأييد المطلق للقضية الفلسطينية الذي ظل يدعمها مبدئياً حتى وافته المنية عام 2013 .

فيما دُشِّنَ له تمثالٌ في رام الله بالضفة الغربية عام 2016 تكريماً لمواقفه الخالدة إزاء القضية الفلسطينية التي مات وهو يوصي الأفارقة عليها.

***

بقلم: بكر السباتين

26 يناير 2024

 

مصر في الذكرى الثالثة عشرة للثورات العربية، وفي ظل الأوضاع الراهنة في دول الربيع العربي،، ما هي نتائج هذه الثورات...؟!

تعلمنا من التاريخ لكل ثورة لها أسبابها ونتائجها، المهم نتائج الثورات العربية علي المواطن، لقد خلقت وصنعت سيكولوجية اجتماعية جديدة، أُطلق عليها علماء الاجتماع\" بالمواطن المستقر \"أو المواطن العاقل من خلال مسلسل طويل من المطاردة والرعب والخوف والنهب، المواطن المستقر، في الحقيقة المتبلد والمستسلم والعاجز عن أن يقول لا، لم يعد يحتج على الظلم ولا يريد العدالة بل كل ما يريده الغفران عن ذنوب هذه الحقبة التاريخية الوهمية،، وهي أفضل طريقة للسيطرة على شعب بجعله يشعر بالإثم عن ذنوب وأخطاء التاريخ لكي يحصل على الغفران لا على العدالة،،، ولا يحتاج الحرية بل النجاة مثل أي طريدة هاربة من القتل.،، والمواطن المستقر المتكيف مع الاستبداد العام والفردي هو مريض لأنه يعمل ويفكر ويحلم ويتكلم بشخصية طارئة عليه عكس حقيقته، ويخرب ذاته على مراحل من خلال معاناة صامتة طويلة، والمواطن\" المستقر \"، يقول، (المفكر الفرنسي إتيان بواسيه) في كتابه {العبودية الطوعية} عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتواءم مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه المواطن المستقر...!! إن الذين اغتصبوا السلطة في دول الربيع العربي بقوة السلاح يتصرفون الآن كأنهم في بلاد قاموا بغزوها...،، فالذين ولدوا وترعرعوا في عصور أنظمة سلطوية وفي أحضان الطغيان، يرضعون الطغيان طبيعيًّا ، عندما يتداخل الطغيان العام والتسلط الفردي مع تقاليد وقيم وقواعد وقوانين، تصبح ممارسته من الأخلاق والآداب والطاعة وحسن السلوك والتمرد عليه  نوعًا من الجريمة أو الانحراف أو العدوان... إلخ. لقد شابت الرؤية كل الفاعلين في الميادين في ترك الميادين، في الصراع على السلطة، إلى عملية تحويل شعوبهم إلى طريدة ومسخه في رعب الموت، وهاجس النجاة، وجعله يركض النهار والليل لكي يتخلص من حقول الألغام، وحقول السياسة، والفخاخ، والعبوات الناسفة، والسيارات المفخخة، والانتحاريين، والبلطجية والتلوث ونقص الخدمات والماء الصالح للشرب، والهواء الصالح للتنفس،،، والمنزل الصالح للسكن، والسيارة الصالحة للنقل، حتى يتصور أن مجده الكبير ونصره العظيم هو النجاة من موت يومي وشيك.،، هذه العملية ليست عفوية أبدا، بل هو مخطط لتحويل الشعوب إلى ذئب وحشره في خانة الحاجات والغرائز والوصول به إلى حالة اليأس التام، ودفنه داخل جلده وتخفيض أحلامه. هو الأسلوب الوحشي مع شعوب عربية أخرى من التخريب البطيء،،، التدرج في الدمار والتفسخ الهادئ، لان الانهيار السريع يبقي على قيم أخلاقية في إدارة الأزمات وليس حلها، نقل المعارك من مكان إلى آخر، لكي يصل الفرد والشعب درجة الإنهاك التام واليأس العاجز، وعندها يبدأ تنفيذ الجريمة الأكبر وهي توزيع الأرض على قبائل وأعراق ومذاهب، وتوزيع الثروة، كل ذلك حدث ويحدث في (اليمن وسوريا والعراق وليبيا).

لقد تم ضرب البنية التحتية من محطات كهرباء بعد سقوط كل نظام وإعادة المواطن العربي إلى مرحلة الكهوف من أجل بناء هوية جديدة من البياض العقلي كما تقول الباحثة (نعومي كلاين) في كتابها المرجعي:\" عقيدة الصدمة: رأسمالية الكوارث \"الغرض من قطع الهواتف مع الظلام والقصف هو حشر الشعب في وضع الرعب البدائي الأول حيث تنعدم المعرفة تمامًا بالمحيط،

وتنشط الهواجس والخيال، وفي هذه الحالة، تقول الباحثة، يتم إفراغ الإنسان من هويته الأصلية تحت الرعب حالة البياض التام ثم فرض هوية جديدة بالقوة، إن هذا المخطط الإجرامي لم ينجح كُليًّا في بعض الدول،، نحن أمام شعوب من دول الربيع العربي المواطن هارب ومطارد وملاحق ومشغول بفكرة النجاة والإنقاذ والطعام والنوم الآمن وليس العادل. الانشغال بفكرة النجاة كل يوم يعني إلغاء العقل والنظام والأمل والمستقبل، والأخطر من كل هذا المخطط هو وقت إملاء الشروط على الشعوب المنهكة وحشر الناس بين خيارات أحلاها أكثرها مرارة، ورفع راية اليأس والتسليم بالأمر الواقع. والصمت وتسليم السلطة والثروة والفرح بالنجاة وقضاء الوقت في التفكير في الأشياء الخاطئة بدل تجاوزها... أو خلق الأزمات لكي يضيع في دوامة البحث عن الحاجات الضرورية للإبقائه علي قيد الحياة. لا خيار آخر أمام اليائس غير الاستسلام وهو الهدف المركزي، لأن العالق في دوامة ومتاهة وخوف طويل لا يرى البندقية في يده أو السيجارة بين أصابعه، أو الحقيقة المشعة أمامه عندما يداهم.

الرعب يلغي الحرية والعدالة، واليأس يلغي طاقة المقاومة وتتحقق الهزيمة النفسية والغريق يبحث عن منقذ بصرف النظر عن أخلاق المنقذ،، لأن الفكرة للإنقاذ فحسب. تحت الرعب يتم إلغاء الإنسان بكلام أدق، وجعله يفرح بين وقت وآخر لأنه فلت ونجا من هذا الانفجار ليس إلا النجاة،، وهي لا تختلف عن تفاصيل حيوان هرب من مطاردة قاتلة، بعدها سيتم توزيع الأدوار بصورة مختلفة عن السابق لأن سيكولوجيا المواطن المستقر ليست الوطن والحرية والعدالة بل المرعى والأمن والطعام. شعوب دول الربيع مثل الطريدة اليائسة لن تحتج على الظلم بل تخاف الموت، سعيدة بالنجاة لا بالحرية!.

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري في الجغرافيا السياسية

 

إن لغة العصر هي القوة والاستكبار الذي حاولت الاطراف المعنية طمس حقيقتها من خلال التلاعب بالذاكرة والتاريخ الجماعي. غير ان الاعلام الرقمي كشف الستار عن حقيقة هذا العالم المتكاذب في اخلاقه وقيمه واهدافه التنويرية والكشوفات العلمية الذي يخفي خلفها كل اشكال الهيمنة والسيطرة والتزوير التاريخي. نحن هنا لسنا بصدد ادانة الغرب بقدر ادانة انفسنا الذي لا يقل تاريخنا سوءا عن الاستعلاء الغربي والمركزية الغربية. إن اخفاقات العرب والمسلمين لا تقل شأنا في حروبهم على السلطة وتقاسم النفوذ ونشر الخلافة القومية والدينية باسم الاسلام والعرب وهذا ما عبرت عنه المعارضة في ما عرفت انذاك بموجة الربيع العربي وانتشار الحركات المتطرفة وتكفير الاخرين على اعتبارهم من جماعة الكفار كما يفعل اليوم نتنياهو عبر توصيف العرب بالحيوانات البشرية وكل التوصيفات الدونية الاخرى. ولا ننسى تجربة وسيطرة الخلفاء الراشدين والفترة الاموية والفاطمية في مصر اضافة الى مرحلة العروبة والقومية العربية التي كان احدى اسباب فشلها اعلاء قيمة الاسلام على باقي الثقافات والهويات المتواجدة في المنطقة. فنزعة الامبراطورية تقاسمتها جميع الامم والشعوب. لكن، ما يهمني ان اشير اليه في هذه المقالة الاختلافات والتباينات التاريخية والثقافية بين الحضارتان العربية الاسلامية والغربية.

لا شك، أن ما قام به الطرفان مدان انسانيا واخلاقيا لان مسألة القتل والعنف هي مسألة يمكن تجاوزها في المفاوضات والحلول الديبلوماسية والسياسية لكن، الاشكالية في الصراع الفلسطيني –الاسرائيلي، هو ان صبر المفاوضات والتنازلات قد نفذ بفعل عدم الاعتراف الطرف الاسرائيلي بالشراكة الفلسطينية وهذا بطبيعة الحال مشروع قديم جديد يعاد احيائه في المنطقة وفق مخططات جديدة اكثر استحكاما وتدميرا من زي قبل.

إن مأساة القرن اليوم هي في انك فقدت ثقتك بامكانية تحقيق العدالة وأن من يمسك بها غير قادر على تطبيقها لانه مدان بفضائح جفري ابستين التي ظهرت لتهدد جميع من يعترض على مشيئة اسرائيل ومقرراتها وهذا واضح في طريقة تعامل نتنياهو مع الرئيس الامريكي جو بايدن والاوامر التي يتلقفها يوميا بشأن مطالبته بتكثيف الدعم العسكري ومشاركة الولايات المتحدة في حرب اوسع في المنطقة وهذا تفسره طبيعة الصراع اليوم في البحر الاحمر وعمليات القرصنة والتصعيد المتبادل بين اسرائيل والحوثيين وتعريض الملاحة الدولية للخطر ونقل الصراع بشكل اوسع الى اربيل وباكستان في محاولة لاستنزاف ايران في عمقها الجغرافي وتبادل الرسائبل الاقليمية  ردا على حادثة كرمان الاخيرة في ايران.

ربما من يراقب المشهدية من بعيد تتضح له الصورة بشكل ادق واوضح، أن الصراع بريء من شبهة المعيار الاخلاقي والانساني والوطني، بل إنها حرب مصالح ونفوذ وامبراطوريات تاريخية تحاول استرجاع حقها المغتصب تاريخياً غير أن السؤال الكبير اليوم، العرب ماذا هم فاعلون من اجل استرجاع كبريائهم المغتصب والمستباح؟ وهل يكفي موسم الرياض للتأكيد وتفعيل رسالة التي مفادها نحن بخير طالما نحن مطبعون وبالرعاية الصينية؟

فقط تخيل ذلك لبضع ثوان، إذا لم تلتزم ايران بتعهداتها، واستمرت تل ابيب باستفزاز ايران في عمقها الجغرافي او، عبر جماعات ارهابية مثل البلوش وغيرهم بهدف استنزافها واحتوائها امنيا وسياسي؟ وماذا سوف يحصل ان لم ينجح مشروع اكسبو 2030 وبخاصة أن الغرب لن يسمح باستقرار هذه المنطقة والتجارب التاريخية خير دليل على عدم التزام بريطانيا اتجاه شريف حسين ووعدها له بشأن الدولة العربية والتصدي للاحتلال العثماني انذاك وسياسة التتريك فضلا الى خلفيات مؤامرة سايكس بيكو وغيرها من الوعود التي قدمتها اسرائيل لمصر بعد اتفاقية كامب دايفد. ماذا تحقق من ذلك، اين مصر اليوم من عمقها الاستراتيجي في القرن الافريقي؟ أين السودان اليوم بعد التطبيع مع اسرائيل والربيع السوداني؟ أين لبنان بعد ثورة 17 تشرين؟ اين سوريا بعد حرب دامت اكثر من 11 عاما؟

واقعياً، نحن شاهدون على العصر وحقيقة أنه منذ 7 أكتوبر (ولعقود قبل ذلك التاريخ)، لم يشهد حلفاء تل أبيب الغربيون والمستعربون، ما فعلته إسرائيل بالشعب الفلسطيني فحسب، بل زودوها أيضًا بالمعدات العسكرية والقنابل. والذخائر والتغطية الدبلوماسية، والمبررات التاريخية والاخلاقية في المقابل قدمت وسائل الإعلام الأمريكية مبررات أيديولوجية لذبح الفلسطينيين والإبادة الجماعية لهم عبر توصيف اسرائيل بالضحية واعادة استئناف الهولوكوست اليهودي وتوظيفه اعلاميا لتبرير جرائم الحرب والتلاعب بالذاكرة الجماعية وتزوير السردية المعرفية للتاريخ.

لماذا دائما يتم التعاطف مع الابادة اليهودية اكثر من الابادات الاخرى التي لا تقل سوءا مثل رواندا، و ابادة الايغور والارمن والاكراد والهنود الحمر والموريكسيين والاوكران والمسلمين السنة في دارفور والبوسنة ولا ننسى امريكا اللاتينية اي المكسيك البيرو وافريقيا الجنوبية وبنغلادش والعراق ونيجريا وو..

 ومع وجود البلطجة العسكرية التي تمارسها الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا وكندا خلف إسرائيل بالكامل، فإننا نحن شعوب العالم العاجزة، مثل الفلسطينيين، لا نهتم. وهذا ليس مجرد واقع سياسي؛ كما أنها وثيقة الصلة بالعالم الخيالي الأخلاقي والفلسفي للانوار والنهضة والتي تطلق على نفسها اسم العالم الحر والديمقراطي، والانساني وحقوق الانسان هم الحلقة الاكثر تعرضا للتداعيات والأثار ما بعد حرب غزة بفعل التغيرات الديمغرافية وانظمة الحكم الجديدة. فهل الغرب اليوم قادر على الابداع وابتكار خداع جديد يوهم بها العالم بحجة نشر العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان.

فبعض المستشرقون أو فلاسفة الغرب اليوم، امثال إيمانويل كانط، وجورج فيلهلم، وفريدريش وهيغل، واستمراراً مع إيمانويل ليفيناس وسلافوي جيجيك، التي تحاكي شذوذات، وأشياء معروفة كلف المستشرقون بفك رموزها. وعلى هذا فإن مقتل عشرات الآلاف منا على يد إسرائيل، أو الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، لا يثير أدنى توقف في أذهان الفلاسفة الأوروبيين لاننا باعتقادهم، مجرد تجارب بشرية الهدف منها، تحقيق التفوق والتمركز الغربي والهيمنة على كافة مصادر الثروات والمعرفة في العالم من اجل تأبيد الاستكبار الغربي واستعلاء العرق الابيض وتسيده على باقي الشعوب، وهذه مشكلة ينبغي معالجتها عقائديا اكثر منه سياسيا لان عدم استقرار منطقة الشرق الاوسط بشكل خاص هو بفعل هذا الصراع الديني –القبلي –العرقي الذي يجد مصوغاته وفق نصوص دينية تبرر اعماله وافكاره العنصرية.

 وإذا كان العالَم يطرحُ أسئلة مماثلة حول فيلسوف ألماني كبير آخر، وهو مارتن هايدجر، في ضوء انتماءاته الخبيثة إلى النازية. في رأيي، يجب علينا الآن أن نطرح مثل هذه الأسئلة حول صهيونية هابرماس العنيفة والعواقب المهمة على ما يمكن أن نفكر به في مشروعه الفلسفي بأكمله؟

إذ لم يكن لدى هابرماس ذرة من المساحة في مخيلته الأخلاقية لأشخاص مثل الفلسطينيين، فهل لدينا أي سبب لاعتبار مشروعه الفلسفي بأكمله مرتبطًا بأي شكل من الأشكال ببقية البشرية - بما يتجاوز جمهوره الأوروبي القبلي المباشر؟

 وفي رسالة مفتوحة إلى هابرماس، قال عالم الاجتماع الإيراني البارز آصف بيات إنه "يناقض أفكاره" عندما يتعلق الأمر بالوضع في غزة. مع كامل احترامي يقول: " أرجو أن أختلف، أعتقد أن تجاهل هابرماس لحياة الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع صهيونيته. وهو ينسجم تماماً مع النظرة العالمية التي ترى أن غير الأوروبيين ليسوا بشراً بالكامل، أو أنهم "حيوانات بشرية"، كما أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت علناً..

إن هذا التجاهل المطلق للفلسطينيين متجذر بعمق في الخيال الفلسفي الألماني والأوروبي. والحكمة السائدة هي أن الألمان، وبسبب ذنب المحرقة، طوروا التزاماً قوياً تجاه إسرائيل وهذه فاجعة القرن لجهة كيفية تحسين مسار هذا الاستكبار في حين لم يجري مصالحة ذاتية والاعتراف بجريمته والاعتذار عنها وهذا ينطبق ايضا على واقع فرنسا مع الجزائر ومستعمراتها في افريقيا، فجميع الامم تعتذر وتتصافح الا النزعة الاوروبية لا تزال تكابر وترفض الاعتذار.

 ولكن بالنسبة لبقية العالم، كما يتضح الآن من الوثيقة الرائعة التي قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، هناك اتساق تام بين ما فعلته ألمانيا خلال حقبتها النازية وما تفعله الآن خلال حقبتها الصهيونية.

 أعتقد أن موقف هابرماس يتماشى مع سياسة الدولة الألمانية المتمثلة في المشاركة في المذبحة الصهيونية للفلسطينيين. وهو يتماشى أيضًا مع ما يُنظر إليه على أنه "اليسار الألماني"، مع كراهيته العنصرية وكراهية الإسلام والأجانب للعرب والمسلمين، ودعمهم الشامل لأعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية..

 ويتعين علينا أن نغفر إذا تصورنا أن ما تعانيه ألمانيا اليوم لم يكن ذنب المحرقة، بل الحنين إلى الإبادة الجماعية، كما انغمست بشكل غير مباشر في المذابح التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين على مدى القرن الماضي (وليس فقط في المائة يوم الماضية).

وهذا الانحطاط الأخلاقي ليس مجرد زلة سياسية أو نقطة أيديولوجية عمياء. فهو مكتوب بعمق في مخيلتهم الفلسفية، التي ظلت قبلية بشكل لا يمكن علاجه.

وهنا، يجب أن نلخص عبارة الشاعر المارتينيكي المجيد إيمي سيزار: "نعم، سيكون من المفيد أن ندرس سريريًا، بالتفصيل، الخطوات التي اتخذها هتلر والهتلرية وأن نكشف للبرجوازية المسيحية المتميزة جدًا والإنسانية جدًا القرن العشرين، دون أن يدرك ذلك، ما يعتري هتلر بداخله، وما يسكنه، وأن هتلر هو شيطانه، وأنه إذا انتقده، فهو غير متسق، وهذا، في جوهره، ما لا يمكنه أن يغفره هتلر، ليس الجريمة في حد ذاتها، أي جريمة ضد الإنسان، وليس إذلال الإنسان في حد ذاته، بل الجريمة في حق الرجل الأبيض، وإذلال الرجل الأبيض، وحقيقة أنه طبق على أوروبا الإجراءات الاستعمارية التي حتى ذلك الحين كانت مخصصة حصريًا لـ الشعوب العربية والهندية والإفريقية لذلك من الصعب تقديم اعتذار.

بالختام، فلسطين هي اليوم امتداد للفظائع الاستعمارية التي يستشهد بها سيزار في هذا المقطع. ويبدو أن هابرماس يجهل أن تأييده لذبح الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع ما فعله أسلافه في ناميبيا خلال الإبادة الجماعية هيريرو وناماكوا في افريقيا، معتقدين أن العالم لا يراهم على حقيقتهم.

في النهاية، من وجهة نظري، لم يقل هابرماس أو يفعل أي شيء مفاجئ أو متناقض؛ بل على العكس تماما. لقد كان متسقًا تمامًا مع القبلية غير القابلة للشفاء في نسقه الفلسفي، والتي اتخذت بشكل خاطئ موقفًا عالميًا.

 لقد تحرر العالم الآن من هذا الشعور الزائف بالعالمية وبدأ يبحث عن كينونته وكرامته وفق خطاب مقاوم وسردية جديدة يخاطب بها المستعمر بلغة اليوم. إن الفلاسفة مثل في واي موديمبي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو والتر ميجنولو أو إنريكي دوسيل في الأرجنتين، أو كوجين كاراتاني في اليابان لديهم مطالبات أكثر شرعية بكثير بالعالمية من أي وقت مضى لدى هابرماس وأمثاله.

 في رأيي، يمثل الإفلاس الأخلاقي لتصريح هابرماس بشأن فلسطين نقطة تحول في العلاقة الاستعمارية بين الفلسفة الأوروبية وبقية العالم. لقد استيقظ العالم من سبات الفلسفة العرقية الأوروبية الزائفة. واليوم، نحن مدينون بهذا التحرير للمعاناة العالمية لشعوب مثل الفلسطينيين، التي أدت بطولاتهم وتضحياتهم التاريخية الطويلة إلى تفكيك الهمجية السافرة التي كانت تقوم عليها الحضارة الغربية.

***

كتابة: أورنيلا سكر

صحافية لبنانية متخصصة في العلاقات الدولية والدراسات الاستشراقية

 

بعيدا عن لغة المناكفات المستمرة بين مكونات الطبقة السياسية وخصوصاً جماعة حماس ومحور المقاومة من جهة ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية من جهة أخرى وهي حالة لم تتوقف بالرغم من الحرب التي تستهدف الكل الفلسطيني، فإن مقاتلي حركة حماس وفصائل المقاومة عملوا ما يستطيعون وأبلوا في المواجهات المباشرة مع جيش العدو بلاءً حسناً، ويعطيهم العافية بالرغم مما لحق بغزة والوطن من ضحايا يزيدون عن مائة ألف ما بين شهيد ومفقود وجريح، والدمار الذي طال كل مناحي الحياة.  

ومنظمة التحرير والسلطة بذلوا جهوداً دبلوماسية وسياسية في فضح العدوان وتحريض العالم على الكيان الصهيوني ومحاولة تجنيب الضفة ما تعرض له قطاع غزة، وفي تحركاهم كانوا يتجنبون المس بخطوط حُمر إن تجاوزتها ستفقدهم وجودهم، كما أنهم غير مقتنعين بجدوى الحرب في غزة ومتخوفين من نتائج الحرب أي كانت هذه النتائج بل ومتخوفين بأن تنتهي الحرب بتسوية ما بين حماس وإسرائيل.

 وما يسمى محور المقاومة بقيادة طهران ناوش وهاوش انطلاقاً من جبهات بعيدة عن إيران التي كانت تحرك هذه الجبهات بالريموت كنترول، ولا يمكن انتظار مزيد من التصعيد من أطراف هذا المحور لأن حساباتهم الوطنية الداخلية أهم من غزة ومن كل القضية الفلسطينية.

 ومصر وقطر عملوا ما يستطيعون في الهامش المسموح لهم بالتحرك فيه كوسطاء، ولم ينجحوا في وقف العدوان حتى على مستوى هدنة إنسانية، وشكرا على جهودهم.

والأمم المتحدة ومنظماتها بما فيها محكمة العدل الدولية لم يستطيعوا تغير الواقع القائم أو إجبار إسرائيل على تنفيذ أي قرار دولي حتى دورهم الإنساني مشكوك بنجاعته .

كما انكشف مستور جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومحدودية تأثير التحركات الشعبية العربية والدولية بالرغم من أهميتها.

كما سقطت مبكراً كل المراهنات على خلافات إسرائيلية داخلية يمكنها اسقاط نتنياهو ووقف الحرب، حيث تُجمِع كل القوى السياسية في دولة الكيان على استمرار الحرب حتى بدون نتنياهو.

كما لا تنتابنا أي أوهام بتحرك صيني أو روسي أو من أي صديق أو حليف أجنبي لوقف الحرب على غزة ومساندة الشعب الفلسطيني حتى على مستوى التحرك السياسي حيث كل التحركات في هذا المجال تأتي من واشنطن والغرب.

فعلى ماذا يعول الشعب الفلسطيني وماذا ينتظر؟ وهل مطلوب من الشعب أن يستمر في تلقى الضربات وتقديم الضحايا ويتعرض للدمار في غزة والضفة تحت وهم أنه يدافع عن القدس والمسجد الأقصى وأن الحرب التي يخوضها تأتي في سياق الدفاع عن الأمتين العربية والإسلامية !!ولماذا مطلوب من الفلسطينيين أن يدافعوا عن الأمتين وليس العكس؟.

هل سيستمر الشعب الفلسطيني في انتظار مبادرات الآخرين وما يخطط له نتنياهو؟ ولماذا لا يستعيد الفلسطينيون زمام المبادرة ويطرحوا رؤية وطنية وموقف وطني يعبر عن الكل الفلسطيني في كل ما يجري بدلاً من أن تنتظر حماس انهيار السلطة في الضفة وتنتظر السلطة انهيار حماس في غزة؟

ولماذا لا توجد تحركات شعبية فاعلة تأخذ زمام المبادرة بدلاً من انتظار تحرك من طبقتين سياسيتين مأزومتين في الضفة وغزة؟ وأين هو المجتمع المدني الفلسطيني الذي طالما تشدق رواده بدورهم المجتمعي والسياسي والحقوقي في الدفاع عن الشعب؟.

***

د. ابراهيم ابراش

 

في ايار/ مايو 1983، بعد نحو عام من اندلاع حرب لبنان، وبعد مقتل نحو 500 جندي فيها، قررت مجموعة من المواطنين تأسيس حركة "آباء ضد الصمت". والتقى ممثلوها بوزير الدفاع آنذاك، موشيه ارنتس، الذي أوضح لهم أنه يعارض بشدة انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان.

لم يقنع آرنس الآباء الذين واصلوا نضالهم حتى يونيو/حزيران 1985، ولم تقرر الحركة حلها إلا عندما انسحب الجيش الإسرائيلي من معظم أنحاء لبنان، لأنها اعتقدت أنها بذلك حققت أهدافها. ولم يكن هناك شيء أبعد من ذلك واستمرت الحرب، وقُتل جنود، وبلغت ذروتها بكارثة المروحية في فبراير/شباط 1997، والتي قُتل فيها 73 جندياً.

وبعد ثلاثة أشهر، تأسست حركة "الأمهات الأربع". النشاط العلني للأمهات والآباء الذين طالبوا بالانسحاب من لبنان لم يمر بهدوء. وقال قائد لواء جولاني العقيد شموئيل زكاي للجنود: "اتركوا كل الأوغاد الذين يتحدثون ضد البقاء في لبنان، اتركوا الخرق الأربعة، نحن جنود جولاني". وقُتل بعد ذلك بعامين بعبوة جانبية، حيث ادعى أن الحركات التي تؤيد الانسحاب الأحادي الجانب تعرض الجنود للخطر، لأنها تشجع السكان المحليين وحزب الله على حد سواء على العمل ضد الجيش الإسرائيلي. وستمر 13 سنة أخرى، والمئات المزيد من القتلى قبل أن تقرر الحكومة الانسحاب.

ومن المهم جداً أن نتذكر الخطاب العام المرير الذي دار في إسرائيل خلال حرب لبنان الأولى، لأن تصريحات مماثلة تُسمع اليوم ضد أفراد عائلات المختطفين الـ 136، الذين يطالبون بإعادة أحبائهم إلى ديارهم. كما بدأت التحركات العسكرية تبدو وكأنها تكرار لتلك الحرب. مرة أخرى يتم الحديث عن "حزام أمني"، هذه المرة بين إسرائيل وغزة، عن الاستيلاء على محور فيلادلفيا، ومرة أخرى يدوس مطلب "النصر الشامل" كل علامة استفهام وكل تشكك، بدعوى أنها لا تزيد إلا زيادة. وهو الثمن الذي تطالب به حماس مقابل إطلاق سراح المختطفين.

وسبق أن اتُهم أهالي المختطفين بـ "تزويد حماس بالأسلحة"، وأنه "ليس من حقهم الانتقاص من الحكومة التي تعمل ليل نهار لقيادة الحرب وتؤدي إلى عودة المختطفين"، كما تقول تالي غوتليب. تقول الكلمات. من المتوقع أن يصبحوا خلال فترة قصيرة أعداء للشعب، "أسمالاً" تمنع الجيش الإسرائيلي من الانتصار، أو على الأقل استكمال حملته الانتقامية في غزة. إنهم بالفعل يسيرون على الطريق الآمن الذي سينقلهم من غزة. من حالة "هدف حرب" إلى حالة الهجوم المعنوي الذي يقتل بسببه المزيد من الجنود.

أمس ، وبعد الحادث المروع الذي قُتل فيه 21 جندياً، قفز عدد جنود الجيش الإسرائيلي الذين قتلوا منذ بداية "المناورة البرية" إلى 219، وإلى 556 منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. في حرب لبنان الأولى، التي استمرت من عام 1982 إلى عام 1982، في عام 2000 قُتل 1216 جندياً، كما ورد أنه على مدار 107 أيام، قُتل 44% من إجمالي عدد الجنود الذين قتلوا في الحرب التي استمرت 18 عاماً في غزة وإسرائيل، وهي أرقام مثيرة للقلق وتنتظر رداً مدنياً مناسباً، مثل ما حدث في عام 2000. التي اندلعت خلال حرب لبنان.

لكنها تتردد. لأن إسرائيل انغلقت سريعاً، من دون فحص وتدقيق، من منطلق الثقة الكاملة بالقيادة التي قادتها إلى الكارثة في 7 تشرين الأول/أكتوبر، بمفهوم جديد، ذلك الذي يضمن لها القضاء على حماس، والأمن للمستوطنات المحيطة بها. إطلاق سراح المختطفين. نفس إسرائيل التي "خيبت أملها" في تشرين الأول (أكتوبر)، دخلت الآن في حالة سبات، وفي يدها مشروع قانون أمني مشكوك فيه. علمتنا حرب لبنان الثانية أنه لا يجوز للحركة الاحتجاجية أن تنتظر حتى تتوقف النار. لقد استوعب أهالي المختطفين هذا الدرس جيداً. والآن حان الوقت لكي يطرح أهالي الجنود أسئلة محددة ويصرون على الحصول على أجوبة حقيقية.

***

ياسر حسين احمد -  كاتب وباحث سياسي

 

برزت مؤخرا بعض الأفكار وغيرها التي تصب في تفكيك هذا المرفق العمومي وتحويل جزء من اختصاصاته إلى جهات أخرى بالرغم من الطابع التقني الذي يطبع هذا الاقتطاع، فإنه يحول جزءا من ذاكرة الوطن نحو المجهول ويبعث على القلق ويثير أكثر من علامة استفهام في بلد لا زال يشق طريقه نحو النماء والحداثة والانتقال الديمقراطي، وهي بالفعل مؤشرات لا يمكن تحقيقها عمليا على أرض الواقع إلا بجدلية الثقافي والديمقراطي بحيث لا يمكن لأي أحد أن يجادل  في أن عملية الانتقال الديمقراطي وتصالح المؤسسات الرسمية إلا بولوج عوالم التعبير الحر وشفافية التدبير ومصداقية الخطاب وتعدد الاختيارات، ولا شك أن المجتمعات الموجودة في مصاف التقدم والنماء سلكت منهج الانتقال في شروط تاريخية ومقدمات موضوعية واضحة كان للشق الثقافي الفاعل الرئيسي في ردم فجوات التخلف والانتقال نحو الانبعاث، فالثقافي هو التعبير عن كيان ووجدان الأمة وحاجاتها الذاتية وأنماط عيشها وأسلوب التواصل  والتلاقح والتجانس بين متناقضاتها الداخلية والتفاعل مع محيطها الخارجي دون إلغاء أو تعسف.

فالإيمان بمكونات المجتمع ومجالات تعدده واختلاف أنساق تفكيره وطرق تدبيره هو الذي يصيغ عملية الانتقال السلس نحو الديمقراطية، لأنها تركيب معقد لأفكار ومفاهيم مجتمعية يؤطرها الفاعل الثقافي. وفي بلد كالمغرب ظل المؤشر الديمقراطي لفظا لغويا تتناقله الألسن وتدبجه الأحزاب السياسية في مقرراتها التنظيمية وأوراقها السياسية دون أن يكون له أثر أو مس بجوانبه النضالية أو مساره التدبيري، كما تستغله المؤسسات الرسمية بمختلف تشكلاتها وتلاوينها بترويض خطابها وتسويق صورتها تاركة المجتمع يعيش في فوضى مفاهيمية غامضة حول الديمقراطية، لا سيما وأن الحلقة  الثقافية ظلت مفقودة بفعل عوامل متعددة منها ما هو سياسي وآخر نفسي.

فالمجتمع المغربي عبر حقبه التاريخية ومراحله الصعبة ظل متماسكا فكريا وعقائديا ولم تتمكن التيارات الواردة شرقا وغربا من التأثير في نسيجه الثقافي بل استطاع تذويبها وصياغتها وفق ميكانيزماته وأنساقه الفكرية وتمثلاته التعبيرية، بل عُرف عنه قدرته في تمطيط كل التناقضات وتصريفها في أشكال تنسجم وعمق هويته وخصوبة سهوله وانتصاب مرتفعات جباله وهضابه وصحاريه.

لكن المعطيات الجيوستراتيجية في بداية القرن لم تكن في صالح البلد خاصة بعد أن عجلت معركة إسلي 1844 بأن تعري كما قال المؤرخ الناصري عن ضعف البلاد عسكريا واقتصاديا ولم تكن الاتفاقيات السياسية التي تلتها إلا وجه آخر من الاختراق الكولونيالي للمغرب خاصة وأن معاهدة الجزيرة الخضراء جاءت لتكرس واقعا جديدا أملته ظروف دولية عجلت تطور الأحداث ما بين 1906 و معاهدة الحماية 1912   لتضع المغرب بكل بنياته الفكرية والسياسية أمام منعطفات وهزات قوية شكل النسق الثقافي والعمق الديني للشعب المغربي وحدة متكاملة ومتجانسة في مواجهة المد الاستعماري ومحاولاته لاختراقه أيديولوجيا فيما أصبح يعرف بالظهير البربري وبلاد السيبة والمخزن، لكن في خضم النقاش السياسي أو مشروع الإصلاح الذي تقدمت به الحركة الوطنية في مطلع الأربعينات من القرن الماضي ظلت الأرضية الثقافية ناقصة تتجاذبها أفكار وقراءات متعددة بحكم المحور الطبيعي الذي تشكلت منه نخبها السياسية (الرباط – فاس – سلا -)، ولم يكن بإمكانها في ظل القضايا الوطنية المستعجلة بلورة وصياغة خطاب فكري وسياسي مبني على مشروع ثقافي يؤمن بالتعدد والاختلاف حيث تجلت معالمه على الميدان ما بين مسار المقاومة واختيارات جيش التحرير وما أفرزته من تناقضات وصراعات في كيفية تدبير مغرب ما بعد الاستقلال كما أن المؤسسة الرسمية بحكم مشروعيتها الدينية والتاريخية ظلت تعتبر الميدان الثقافي مجالها الحيوي وامتدادها الطبيعي، لكن الصراع الأيديولوجي في مطلع الستينات والسبعينات من نفس القرن أجهض المشروع الثقافي الوطني ولم يكن قرار إحداث مرفق عمومي بالخيار الصائب في حكم التوجهات الرسمية التي حصرت مضامين تدخله وضيقت على هامش تحركه في صنوفه المتعددة (التراث الكتاب، الإبداع، التعدد، الفنون الشعبية، تأهيل الأنسجة والأنساق التعبيرية) ولم يشفع التدبير الحزبي من إنقاذ المؤسسة الرسمية (وزارة الثقافة) من طابعها التوثيقي بل أسهم في تعميق الهوة بين المشروع الوطني لتدبير الثقافة والاختيارات الحزبية الضيقة.

لذا، المطروح بعد هذا التوضيب التاريخي لمسلكيات الفعل الثقافي وأدواره الطبيعية في عملية الانتقال الديمقراطي أن نطرح وبدون عُقد تاريخية هل لنا فهم واحد للثقافة وهل الشأن الثقافي في حاجة إلى مؤسسة رسمية لاحتضانه وما الجدوى من قيامها وهي مشلولة الاختيار ومحدودة التأثير ولم تعد قادرة على أن تؤدي دورها كما جاء في التقريرين الأخيرين تقرير المجلي الاعلى للحسابات وتقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي وتهافت بعضهم لتشجيع التفاهة والميوعة وإقصاء الفاعل النقابي الجاد (النقابات الجادة) كما جاء في خطب صاحب الجلالة .والذي تحول إلى مسمى النقابات الأكثر تمثيلية لخدمة الحزبيين الحكوميين كما أن هذه المؤسسة غير قادرة على التدخل في الوقت الذي أصبح فيه جزء من ذاكرتنا يفوت ولا يعي 12 قرنا من الوجود.

ألم يآن الأوان لتفعيل المجالس الجهوية العليا للثقافة تماشيا مع تنزيل مشروع الجهوية الموسعة لتحيين وجرد ورد الاعتبار للصناعات الثقافية المحلية التي انقرضت أو في طريق الإنقراض من أجل الحفاظ على الهوية المغربية الأصيلة والأصلية والإسراع في إنقاذ جزء من ذاكرة وطن ومخططات تفكيك هويتنا وتسليعها.

***

حسن الأكحل - فاعل ثقافي

 

محمد العباسيكافة أشكال الثورات والانقلابات والاحتجاجات الشعبية والمظاهرات والاعتصامات حول العالم وعبر التاريخ، متى نراها محقة وأهدافها سامية؟  فعبر تاريخ الأمم شهدنا ثورات قامت بها جهات مختلفة ولأسباب متفاوتة وبنتائج كثير منها انتهت بسلبيات وتداعيات كارثية.  بل يمكننا في الكثير من تلك الحالات أن نشهد حجم التدخلات الخارجية سواء لدعمها أو لإجهاضها.. لنعود بعدها نبكي على الزعامات والحكومات المعزولة في ظل التداعيات الكارثية والدمار الاقتصادي والمجتمعي نتيجة الفوضى العارمة التي كثيراً ما تتبع تلك الحركات في ظل افتقار البدائل الانقلابية، بالذات العسكرية منها، لأبجديات السياسة وإدارة الدول.. بل ويشهد لنا التاريخ كيف تنقلب الأمور بعد أن كانت راسخة رغم بعض المظالم إلى حالات من الفوضى والصدامات والحروب الأهلية.

ففي الثمانينات وما قبلها وبعدها شهدت دول قارة أمريكا الجنوبية الكثير من الثورات والانقلابات الكارثية، وكانت الولايات الأمريكية تلعب لعبتها القذرة بين أضلاع هذه الدول، تارة تساند الثوار هنا وتارة تحاربهم هناك، كيفما كانت مصلحتها تستدعي، دون أدنى اهتمام بالشعوب المطحونة.. وطبعا في ظلال الحرب الباردة، كان الإتحاد السوفيتي أيضاً يلعب من خلف الكواليس في دعم هؤلاء أو ردع أولئك، لتستمر الصراعات وتنهك كافة الجوانب دون أدنى مراعاة لعذابات تلك الشعوب وخسائرها البشرية والاقتصادية.. مجرد لعبة مصالح على طاولة "الشطرنج" بين الدول الكبرى.

ناهيك عما فعلته الدول التي تدّعي اليوم نصرتها لحقوق الإنسان والديموقراطية لقرون من الزمان في القارة السوداء، من أقصى شمالها حتى أخمص جنوبها، من استعباد للبشر ونهب للخيرات ومجازر تقشعر لها الأبدان.. وكذلك فعلت بريطانيا العظمى واسبانيا وفرنسا وغيرها في كافة أرجاء الكرة الأرضية حيث أدت سياساتها الاستعمارية للقضاء على شعوب وحضارات بأكملها بدءاً من القارتين الأمريكيتين حتى أستراليا، والمئات من الجزر المنتشرة حول العالم.. وحتى اليابانيين كان لهم تاريخ مظلم في السيطرة على كثير من دول شرق آسيا والتحكم بشعوبها وممارسة أقسى أشكال التفرقة العنصرية والاستعباد والاستغلال.. ولن ننسى أفعال الأمة الروسية في السيطرة التامة بالحديد والنار ضد أغلب الأمم المحيطة بها ضمن ما أصبحت فيما بعد تُعرف بالاتحاد السوفيتي.

فهل يمكننا القول بأن الحركات المناهضة لتلك القوى الاستعمارية كانت خاطئة وقادتها من الوطنيين كانوا خونة فقط لأنهم رفضوا الخنوع والخضوع وتقبل الذل والظلم الواقع عليهم؟   وهل كان قادة الثورات المناهضة للشخوص الديكتاتورية المنصوبة على رؤوسهم من قِبل بعض الدول الكبرى لتسيير مصالحهم مخطئين في اشعال الحركات الشعبية ضد زعمائهم المفروضين عليهم بدعم من القوى الخارجية؟   يبدو لنا جلياً بأنه من منطلق المبدأ العام بأن مثل تلك الثورات كانت محقة في أهدافها.. فالخيانة صفة تنطبق بكل جلاء على تلك الزعامات "المطايا" ممن قد نصبتهم دول وقوى خارجية رغماً عن رغبة الشعوب لتكون خناجر في خاصرة الأوطان.. بل مثل أولئك الزعماء هم وحدهم ومن خلفهم أعضاء حكوماتهم الخانعة يمثلون قمة هرم الخيانة والعمالة وهما صفتان متلازمتان في المدلول السياسي.. وإلى يومنا هذا لم تتخلص الكثير من أمم العالم من هكذا رموز، سواء على مستوى الحكام أو المسئولين المؤتمنين على شعوب بأكملها.. بينما تنزلق الشعوب من قاع إلى قاع.

فمن ليس له عهد ولا امان فهو بطبيعة الحال خائن، وكل من لم يرع عهدهُ فهو خائن.. فالخائن هو من يضر بمصالح وطنه وشعبه وأهله من أجل مال أو نزوة أو سلطة أو مصلحة شخصية أو لإرضاء أطراف أخرى أجنبية على حساب وطنه.  الخيانة لها آثار مدمرة على كافة المستويات، على الفرد ومن ثم على المجتمع.. وهنا أقول المجتمع، فحين تأتي الخيانة من شخص ذو موقع ومسؤولية فالشخص المبدع بالكذب والكثير الغموض والذي يلعب على حبال المجاملات بشكل كبير والذي يبالغ في المدح في غير محله فهذا شخص يحمل صفات الخائن بكل جدارة.. فالخائن هو شخص تتعارض مجمل أفعاله مع القيم السوية وبالتالي يكون أثر ممارساته مدمراً ويتسبب بالضرر لكافة أصحاب الحقوق المستحقة.

لكن، متى تكون الثورات والاحتجاجات عادلة؟ فمثلاً ما تشهده السودان هذه الأيام بالذات، بعد أن قامت الحركات الوطنية بثورتها البيضاء ضد ديكتاتورية حكم "عمر البشير" وتخلصت بعد سنوات من الضياع والعزلة الدولية، بل وفقدت نصفها الجنوبي لتنقسم السودان إلى دولتين، وتكاد بسبب ذلك العهد الغابر أن تنفصل عنها غربها المتمثلة في إقليم دارفور، وشرقها المتأزم المتمثل في تحركات قبائل "البجا"، لتتحول من دولة غنية بالخيرات إلى أربع دول مأزومة بالويلات وتنحرها الصراعات.. وها قد عادت الممارسات للواجهة من جديد لتواجه شفير الهاوية بحركات احتجاجية شاهدة على الانقسامات بشأن إدارة المرحلة الانتقالية، حيث تنظم أطراف متناحرة تظاهرات واعتصامات في خضم أزمة سياسية تشهدها السودان بعد محاولة انقلابية، في وقت لا يزال يعاني فيه السودانيون من تضخم يقترب من الـ400 في المئة.

تشير كافة الأصابع نحو جماعة الإخوان في السودان بعد عزلهم في نخر البلاد عبر حصار العاصمة الخرطوم عبر الولايات الطرفية وذات التأثير الكبير ومن ثم جر البلاد إلى دوامة العنف والوصول إلى مخططهم الفوضوي بعد ضربات متلاحقة لقياداتهم.. وجاءت الاحتجاجات بعد أيام من تلقي الإخوان ضربات موجعة من "لجنة التفكيك" التي صادرت أملاك رموز بارزين واقتحمت فساد الأمن الشعبي، الجهاز السري للحركة الإخوانية السياسية، وطردت المئات من منسوبي الجماعة الإرهابية من مؤسسات الدولة.. ففي 17 سبتمبر الماضي، أعلن سودانيون موالون لـ"محمد الأمين ترك"، زعيم قبائل "البجا"؛ وهي إحدى أكبر المكونات السكانية في شرق السودان؛ إغلاق الميناء الرئيسي للبلاد ووضعوا متاريس و"حواجز" في العديد من المدن والنقاط الواقعة على الطريق الرئيسي الذي تمر به صادرات وواردات البلاد، وكذلك إغلاق خطّي تصدير واستيراد النفط.. وتتصدر مطالب المحتجين لعودة الحياة إلى طبيعتها حل لجنة تفكيك تنظيم الإخوان وهو ما يدعم فرضية تورط فلول الإخوان في تحريك عجلة التصعيد بالمنطقة تحقيقاً لمصالحهم التنظيمية، وخشية أن يقعوا تحت مقصلة اللجنة التي تحظى بدعم شعبي كبير.. كما يطالبون بحل الحكومة الحالية وتشكيل مجلس عسكري جديد يدير البلاد لفترة انتقالية أخرى تعقبها انتخابات، وكذلك إلغاء مسار شرق السودان باتفاقية جوبا.

الوضع في السودان يبدو كأحدث حلقة من حلقات تداعيات الربيع العربي الذي عصف في العشر سنوات الماضية باليمن وسوريا وليبيا ومصر وتونس.. ربما تمكنت جمهورية مصر من الخروج من عنق الزجاجة ولعقت جراحها وتحظى اليوم ببعض الاستقرار.. وربما تفادت تونس أسوأ التوقعات ولم تزل تحاول لملمة الأوضاع.. لكن الصراعات والانقسامات لم تزل تعصف باليمن وسوريا وليبيا ولبنان بلا هوادة.. ومن جانب آخر، لم يزل العراق يعاني من سيطرة الميليشيات المدعومة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي هي الأخرى خاضت تجربة الانقلاب قبل أربعة عقود ضد حكم الشاه لتقع فريسة لحكم الملالي والسيطرة التامة لعقول لم تزل تؤمن بتصدير الثورات وتفكيك العالم العربي.

وتنقل لنا المحطات الإخبارية صور الاحتجاجات بالصوت والصورة، ونسمع بين ثناياها أصوات المحتجين الذين يرددون مصطلح "السلمية" وينددون بقمع قوات الأمن لهم، بينما هم يلجئون إلى ممارسات أبعد ما تكون عن السلمية.. فالمحتجون يقومون بسد الطرقات وحرق الإطارات ورمي الحجارة وحرق المركبات وتدمير المحلات التجارية وتخريب المقار الحكومية والشرطية.. ورغم كل أفعالهم التخريبية يتوقعون من الأجهزة الأمنية أن تبقى صامتة ولا تتحرك تجاههم بأي شكل من أشكال التدخل للسيطرة على الأوضاع.. ربما تكون المطالب أحياناً محقة ومنصفة، غير أن أغلب تلك الممارسات تشوبها الكثير من التهور والعنف والغوغائية، ويقع بسببها ضحايا من كافة الأطراف، بل ويطال الضرر أهالي المناطق المشتعلة ممن لا ناقة لهم ولا جمل في تلك الأحداث.. بل وربما تحتاج بعض الحركات الاحتجاجية لأن تكون صاخبة بشكل ما حتى تستدعى لفت انتباه وشغف المحطات الإخبارية لتنال مرادها من الضغط على الحكومات بسبب الأضرار الاقتصادية لتتحول تلك الممارسات إلى صورة من صور الابتزاز بالذات حين تتحرك الجماعات الحقوقية الأجنبية "المشبوهة" في تدويل تلك التحركات وبالتالي تضغط هي الأخرى على حكوماتها لممارسة ضغوط دولية تقف مع المحتجين تحت مسميات واهية.. بينما نرى في كثير من الأحيان أن تلك الدول المنادية بحقوق حرية التعبير لا تتهاون مع المحتجين "المخربين" في بلدانها!!

 

بقلم: د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

 

محمد المحسنلم لا نستجيب للمتغيرات العالمية وتنخرط في التاريخ، ليس بغرض الاستسلام لتراكماته ودراميته البسيطة، لكن لاعادة بلورته وصياغته والفعل فيه! لم ندرك بعد أن الإعلام سلاح متعدد الاغراض ولعل من أخطرها: الاختراق والهيمنة، وهذا ما يستخدمه الغرب ضدنا بدهاء متفاديا الحروب وإراقة دماء جنوده؟! أليس وطننا سوقا للاستهلاك: تجريبا وتخريبا، انطلاقا من إشباعنا بالمواد الاعلامية الهابطة مرورا بسياسة التمييع والتهميش! أليس بامكاننا الارتقاء بالخطاب الاعلامي العربي الى مرتبة التحديات التي يمليها ـ الراهن الاعلامي الكوني طالما ان لأثر يائنا المال والنفط وبريق الذهب، ولمثقفينا الكفاءة الفكرية والأدبية ما يؤهلنا ـ للتموقع ـ في الألفية الثالثة بإرادة فذة وعقول مستنيرة!

إن الحديث عن دور وسائل الاعلام ووظائفها في الوطن العربي لا يزال يريق الحبر الكثير لا سيما وأننا نمر بمرحلة متخمة بالتحديات، حيث يحتدم الصراع بين العرب في ـ الجنوب ـ وبين الغرب ـ في شمال العالم الصناعي المتقدّم بما من شأنه أن يدعونا الى ضرورة تأكيد الذات وإثبات الهوية عبر المحافظة على الأصالة وإنتاج الصورة الحقيقية والفاعلة لحضارتنا ففي ضوء الرؤية العالمية الجديدة للإعلام والتي حوّلته الى مكسب مادي يخضع لقواعد اقتصاد السوق تجد وسائل الاعلام نفسها مدعوة الى مزيد التحرر من قيود السيطرة والبيروقراطية كي يزداد دورها الإيجابي في خدمة الأهداف الوطنية والقومية والإنسانية وحتى تواكب وتعايش قضايا الشعوب واحتياجاتها بصورة أعمق وأقوى. ولعل من خلال طرحنا للتساؤلات التالية نستسيغ مدى أهمية وسائل الاعلام في تفعيل الواقع العربي الراهن محليا واقليميا ودوليا، ومدى قدرتها على مواكبة الراهن الاعلامي الكوني:

ـ الى أي حد يمكن تخصيص قسط من الموارد المتاحة للدولة قصد استثماره في بناء ودعم النظام الاعلامي ؟

ـ ما هو مدى الحرية التي يمكن تقريرها لوسائل الاعلام أو ما هي حدود الرقابة على هذه الوسائل ؟

ـ هل للقطاع العام كما للقطاع الخاص دور فعال في التنمية الاقتصادية لوسائل الإعلام ؟

ـ ما هو مدى التماثل والتوافق المطلوب ؟

-وما هو مدى التغاير والتنوع المسموح به ؟

إن طرح هذه الأسئلة قطريا وعربيا أمر مؤكد، فالإعلام وفي عالم ما فتئت تزداد فيه الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية حيث يختل التوازن في تبادل الأنباء والأفكار فيما بينها، يحتاج الى أن يرتفع الى المستوى الاقليمي لمواجهة التسلط المفزع لوسائل الاتصال في الدول المتقدمة، مما يستوجب رؤية مغايرة لما عليه نظامنا الاعلامي اليوم، إذ لا بد من ايجاد معادلة حتى ولئن كانت عسيرة بين إتاحة المجال لاختلاف الآراء وتنوعها وإتاحة تلقي أفكار الثقافات المتعددة وتداولها، وبين ضرورة المحافظة على القيم الأصيلة للشعب وذاتيته القومية، فالتجربة أثبتت أن التناقضات سافرة، بين ما تمنحه دساتير معظم البلدان العربية من حريات: حرية التعبير وحرية الصحافة، وبين ما يشهده الواقع من ممارسات للتضييق على الصحافة وللحد من مقدار الحرية التي تتنفس من خلالها، وظلّت تبعا لذلك الشكوك تحوم حول إمكانية أداء الإعلام العربي لوظيفته المطلوبة وهي إشاعة الحرية والديمقراطية في الحياة العربية. إن الحاجة تدعو الى ترابط المواطنين وتجانس أفكارهم حول الأهداف الوطنية المطروحة، والإعلام له دور بالغ الأهمية في تشكيل الذاتية الوطنية وتقوية وحدتها والتصاقها حول أمهات القضايا، مثل الموقف الاعلامي من الصراع العربي ـ الاسرائيلي في كل أقطار الوطن العربي، كما أن له دورا فعالا في صياغة العلاقات بين الأقطار، فتوتر الأوضاع بين الدول العربية مردّه سوء استخدام وسائل الإعلام، وكذا ـ ايغال ـ بعض المؤسسات الاعلامية العربية في ـ النرجسية وجنون العظمة ـ الى درجة تجعلها تلفق التهم، تسوق الأوهام والأراجيف و ـ تسيء ـ بالتالي ـ دون وعي منها ـ لدولة عربية تصاغ قراراتها السياسية وتنجز مشاريعها التنموية تحت شعاع الشمس ـ وذلك تحت شعار ـ مخاتل ـ: الرأي والرأي الآخر!

ان عجزنا على اقتحام قنوات الاعلام العالمي التي ـ تصهينت ـ لا يبرّر تقصيرنا في الاهتمام بذاكرتنا والتأسيس لهويتنا ودعم ثقافتنا والتنبيه لمخاطر المد الاعلامي المعولم الذي يهدف الى تخريب القيم الأصيلة للمجتمع وتهميش سلوكيات الأطفال وأخلاقيات الشباب بسبب ما يعرضه من برامج تهدف الى خدمة الغرب وتكريس صورته في عيوننا وهي التي نستوردها من أوروبا وأمريكا لدرجة ثبت معها أن تلك البرامج أكثر تدميرا من أي عامل مؤذ آخر ولعل في قولة ـ غسان كنفاني ـ خير دلالة لما نروم الاشارة إليه: إن الفن الذي ينظر إليه بعض الشباب الآن تحت أي شعار كان لا يقل خطورة عن السلاح الرديء…

ومن هنا يجوز القول إن الإعلام العربي بوسعه أن يرتفع الى مستوى مسؤوليته، إذا ما استخدم على نحو رشيد في تكريس رسالته لخدمة الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والإنمائية وهو بالتالي قادر على أداء مسؤولياته في مختلف المجالات وأن يكون أفضل أداة لتحقيق الديمقراطية وأبلغ لسان في التعبير عنها، بدلا من نشر الأكاذيب وانصاف الحقائق… ومن ثم المزايدة على ـ بلد عربي ـ ينحت دربه الحضاري بإرادة سياسية فذة، وتفاؤل خلاّق، ويؤسس بالتالي للارتقاء بحقوق مواطنيه ـ فكرا وممارسة ـ الى منصة الاحترام الدولي.

 

محمد المحسن - كاتب صحفي تونسي 

 

 

سليم مطريتوجب اولا التوضيح والتأكيد على اننا لا نتكلم عن (الدولة العباسية والسلالة العباسية)، بل عن دور العراق والعراقييـن في تلك الحقبة في صنع الحضارة، في بغداد والكوفة والبصرة والموصل. تماما كما نتكلم عن الابداع العراقي في زمن البعثيين، فلا نخلط البعث مع الكتاب والشعراء والمغنين والرسامين في تلك الحقبة، امثال: الجواهري والتكرلي وفاضل عواد والعطار.. الخ. كذلك مثلا عند الحديث عن السعوديين كشعب، وليس كعائلة حاكمة. وهذا ينطبق على كل تاريخ البشرية: هنالك الدولة الحاكمة، وهنالك الشعب بثقافته وهويته.

يلاحظ في السنوات الاخيرة سيادة الاهتمام بالمرحلة الحضارية النهرينية (السومرية ـ الاكدية) وهذا امر جيد. ولكن المشكلة ان هذا يتم من خلال التغييب شبه الكامل للمرحلة العباسية التي تعتبر أزهى واقرب حقبة حضارية في تاريخنا، وقد دامت خمسة قرون من نهضة ابداعية حضارية، احيا خلالها العراقيون ميراث اسلافهم في (سومر وبابل ونينوى)، لكن في معاقل حضارية جديدة: (بغداد والكوفة والبصرة والموصل).

علما بأن الجزء الاعظم من هويتنا الحالية: تراثنا ومذاهبنا ولهجاتنا وعاداتنا وطراز بيوتنا ومعالمنا وحتى اكلاتنا وثيابنا، مرتبطة بهذه الحقبة، ومع ذلك نصر بعناد على تجاهلها؟!

طبعا هنالك اسباب عديدة لديمومة هذا التجاهل منذ سنوات طويلة، منها:

1ـ بما ان هذه الحقبة الحضارية العراقية مرتبطة بالاسلام، فتم ربطها بسذاجة وسطحية باجتياح جماعات الاسلام السياسي والتعصب والتطرف والعنف في وقتنا الحالي. وهذا خلط خبيث بين الدولة العباسية الحاكمة(بمحاسنها وعيوبها مثل كل دولة) والعراق كشعب وحواضر ابداعية عظمى.

2ـ اما السبب الاهم والاخطر فيتمثل بـ(الفيتو) الذي يفرضه الاسلاميون الشيعة والسنّة ضد هذه الحقبة الحضارية. فالشيعة اختصروا القرون الحضارية العظيمة فقط بمقاتل العلويين والبكائيات واللطميات؟؟! رغم ان الشخصيات الشيعية قد ساهمت بدرجة كبيرة بصنع هذه الحضارة، بل ان كبار مبدعي هذه الحضارة هم من الشيعة، ثم ان التشيع فقها ومذهبا ومدارسا ومراجعا نشأ بفضل المثقفين العراقيين في تلك الحقبة. فهل من المعقول احتساب كل هذا على (العباسيين)؟؟!!

اما الـ(السنّة السلفية) فأنهم يرفضون كل شيء حضاري وابداعي فني وادبي وفلسفي، لانه يشجع على المروق ويسيء الى طهارة ونقاء الاسلام وميراث السلف الصالح؟؟!!

3ـ هنالك ايضا (القوى الحداثية الداخلية) المدعومة غربيا، التي تصر على استمرار ضعفنا وتناحرنا من خلال قطعنا عن تراثنا الحضاري الاقرب والحي، وربطنا فقط بـ(تاريخ نهريني) بعيد وبعيد رغم عظمته، الا انه لا يمس مباشرة حياتنا الروحية وهويتنا الحالية.

إذن كي لا يُفسر كلامنا بغير معناه، نختصر القول:

ـ نعم ثم نعم، لنعتز ولنثقف بتاريخنا النهريني، وانا من بين اوائل من طالب بذلك.

ـ ولكن ايضا ثم ايضا ثم ايضا، لنعتز ونثقف بتاريخنا العباسي وحضارتنا العراقية التي رغم صبغتها العربية الاسلامية الا انها كانت مرحلة حضارة وطنية بامتياز، ليس فقط لانها نشات وازدهرت في حواضر العراق: (بغداد والكوفة والبصرة والموصل)، بل ايضا لأن جميع اهل العراق قد شاركوا فيها وانتموا اليها: سريان مسيحيون، ويهود وصابئة وحتى الارمن، بالاضافة الى العرب والاكراد والتركمان..

ملاحظة: هنالك العشرات من مجموعات الفيسبوك المتخصصة بتاريخ العراق النهريني.. ولكن ليست هنالك مجموعة واحدة عن هذه الحقبة الحضارية العراقية العباسية!؟

صحيح هنالك مجموعات عن الحقبة العربية الاسىلامية، لكنها جميعها لا تتحدث الا عن الحروب والغزوات ومحاربة الكفار.. الخ..

نحن بحاجة الى  تكوين مجموعات متخصصة بـــ: نوابغ العراق ودورهم في صنع الحضارة العربية الاسلامية. أي مجموعات متخصصة فقط بالموضوع الحضاري، وليس بالقيل والقال عن مقتل فلان وغزوة فلانة وفتوحات علان .. فقط فقط فقط النشاط الحضاري الذي يحتاج الى مئات الكتب للحديث عنه.

لمن يرغب بمعرفة جوهر حضارتنا العراقية العباسية، وقائمة باسماء مبدعينا العراقيين الكبار في هذه الحقبة العباسية، ليطالع كتابنا الحالي(تاريخ العراق)، او دراستنا في موقعنا:

الدور العظيم والمنسي للعراقيين في صنع الحضارة العربية الإسلامية

https://urlz.fr/h14t

 

سليم مطر ـ جنيف

 

  

عبده حقييشير مصطلح "دولة الرفاهية" إلى شكل من التدبير الحكومي تلعب فيه الدولة الوطنية دورًا رئيسيًا في حماية وتعزيز الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لمواطنيها. تقوم "دولة الرفاهية" على مبادئ تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروة على جميع المواطنين غير القادرين على الاستفادة من الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة وتوفير الضمان الاجتماعي، وبرامج التأمين ضد البطالة، ومساعدات الرعاية الاجتماعية للمواطنين غير القادرين على العمل، وهذه كلها أمثلة تجسد ركائز دولة الرفاهية.

تمارس معظم الدول الحديثة بعض هذه العناصر فيما ما يعتبر دولة الرفاهية. وبالتالي يتم استخدام هذا المصطلح في كثير من الأحيان بمعنى ازدرائي لوصف الحالة حيث تخلق الحكومة المعنية حوافز ليس لها معنى، مما يجعل الشخص العاطل عن العمل يستفيد من مساعدات الرعاية الاجتماعية ويكسب أكثر من الشخص الكادح . أيضا يتم أحيانًا انتقاد دولة الرفاهية باعتبارها "دولة مربية" يتم فيها تدليل المواطنين المسنين ومعاملتهم مثل الأطفال.

لقد أصبحت دولة الرفاهية هدفا للسخرية حيث في ظل هذا النظام، فإن رفاهية مواطنيها هي مسؤوليتها بالدرجة الأولى. بعض البلدان تقدم مفهوم "دولة الرفاهية" هذا على أنه يعني تقديم تعويضات مالية على البطالة وفقدان الشغل ومساعدات الرعاية الاجتماعية على المستوى الأساسي، بينما تأخذها دول أخرى إلى أبعد من ذلك بكثير من خلال الرعاية الصحية الشاملة، والدراسة الجامعية المجانية، وما إلى ذلك. وعلى الرغم من أن معظم الدول تقع ضمن طيف أنشطة "دولة الرفاهية" مع وجود عدد قليل من الرافضين لهذا المصطلح بين الدول الأكثر تقدمًا، إلا أن هناك الكثير من الخطابات المشحونة عندما يثار هذا المصطلح في الحوارات .

وعلى الرغم من أن المساواة العادلة بين المواطنين ومستوى المعيشة الذي توفره الدولة للفقراء يعود تاريخه إلى ما هو أبعد من الإمبراطورية الرومانية، فإن دول الرفاهية الحديثة والتي تجسد أفضل مثال على الصعود والانهيار التاريخي لهذا المصطلح هما دولتا بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية . حيث منذ الأربعينيات إلى السبعينيات من القرن الماضي، ترسخت دولة الرفاهية في المملكة المتحدة استنادًا إلى تقرير بيفيردج مما أدى إلى تطور في العمل الحكومي ليحل محل الخدمات التي كانت تقدمها الجمعيات الخيرية والنقابات والكنيسة في السابق . في الولايات المتحدة الأمريكية، وضع الأساس الذي قامت عليه دولة الرفاهية من خلال الكساد الكبير والثمن الباهض الذي دفعه الفقراء والعمال خلال هذه الفترة.

من جهته فقد تطور نظام دولة الرفاهية في بريطانيا على الرغم من بعض المعارضة الحماسية من قبل مارجريت تاتشر في الثمانينيات، واستمر حتى اليوم على الرغم من أنه يحتاج في كثير من الأحيان إلى إعادة الهيكلة والتعديلات لمنعه من التعثر بشكل كبير. من جانبها لم تذهب الولايات المتحدة الأمريكية أبدًا إلى حدود المملكة المتحدة، ناهيك عن دول أخرى مثل ألمانيا أو الدنمارك، وقد حقق رونالد ريغان نجاحًا أكبر بكثير من مارغاريت تاتشر في تقليص دور الحكومة. الكثير من الناس ينظرون إلى معدلات النمو الاقتصادي المختلفة للولايات المتحدة والمملكة المتحدة خلال الفترات التي ازدهرت فيها دولة الرفاهية وتعثرت للتوصل إلى استنتاجات حول ما إذا كانت جيدة أو سيئة على الأمة ككل.

إذا كان من المؤكد أن الدولة نادرًا ما تكون الوكيل الأكثر فعالية من حيث التكلفة لتقديم البرنامج، فمن المؤكد أيضًا أنها هي المؤسسة الوحيدة التي يمكن أن تعتني بجميع مواطنيها دون أن تدفع للقيام بذلك كجزء من أجندة أخرى . إن إدارة دولة الرفاهية محفوفة بالصعوبات، ولكن من الصعب أيضًا إدارة أمة تكافح فيها قطاعات كبيرة من السكان للحصول على الغذاء والتعليم والرعاية اللازمة لتحسين أوضاعهم الشخصية.

 

عبده حقي

ترجمة بتصرف

 

(انتم لديكم دبابات.. وانا لدي أغاني، ومن سوء حظكم أن الامريكان لم يخترعوا دبابة تستطيع قتل الأغاني، أنا أقوى منكم، الان الزمن بستهلك الدبابة، ويزيد الأغاني قوة).. ميكس تيودواركس المناضل الشيوعي اليوناني

أصبحت كلمتا الديمقراطية وحقوق الانسان تستخدما في الوقت الحاضر، للمزايدة والمتاجرة السياسية من قبل الامريكان والدول الغربية السائرة في فلك الامبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية، ففي الثامن من ديسمبر كانو الأول لعام 2021، نظم الرئيس الأمريكي جو بايدن (قمة من أجل الديمقراطية ) عبر لقاء منلفز، وذلك بسبب من جائحة كرونا، التي لازالت مخيم وتجول على العالم، ضم هذا اللقاء ممثلين عن مايقرب مائة دولة ومنظمات غير حكومية، وهذا المؤتمر أخذ منحى آخر هو الهجوم على جمهوريتي الصين الشعبية وروسيا الاتحادية، وكما تدعي الولايات المتحدة الأمريكية هو الكشف عن الصراع بين الديمقراطيات والانظمة الدكتاتورية والاستبدادية، حقا ان هذه القمة مدعاة للسخرية من قبل الشعوب التي تعرف جيدا عن الديمقراطية ومدى التزام الولايات المتحدة الأمريكية بحقوق الانسان، وبحق الشعوب بأختيار أنظمتها، لا أريد الخوض في التاريخ لكي أتحدث عن ما قامت به الامبريالية الأمريكية ايام سيطرتها على أصحاب الأرض فيها وأسمتهم بالهنود الحمر بعد ان قدموا المستوطنين من اوربا ليسكنوا هذه الارض المكتشفة حديثا، لقد أقاموا المجازر ضد السكان الاصلين، مستخدمين شتى الاساليب التي تمس حقوق الانسان من أجل القضاء عليهم ومنها اساليب الحرب الجرثومية لقتل الهنود الحمر، ولنرجع الى التاريخ الحديث في اواسط القرن العشرين المنصرم، لنتذكرالحرب العالمية الثانية عندما استخدموا الامريكان سلاحهم الجديد في ضرب مدينتي هيروشيما وناكازاكي بالقنبلة الذرية مما أدىالى قتل الملاين من السكان المدنين، والتي لازالت اليابان تعاني من الامراض السرطانية والامراض الوراثية وبعد ذلك شنت الحروب على كوريا بعد ان أستقلت كوريا الديمقراطية بقيادة مؤسسها كيم ال سونغ , هذه الحروب شنت من قبل المستعمر الفرنسي والامريكي واستخدمت فيها كل الأسلحة المصنعة حديثا، وكان للشعبين السوفيتي والصيني الفضل الكبيرفي مساعدة الشعوب كما جرى في الحرب ضد فيتنام في معارك تحرير فيتنام وتوحيدها بقيادة الزعيم الشيوعي هو شي منه وهزيمة الولايات المتحدة الأمريكية بجيشها وعملائها من خونة الوطن والشعب الفيتنامي، وانا التدخلات في شؤون البلدان في مناطق متعددة من العالم، على سبيل المثال اقدمت على اسقاط حكومات وطنية كما جرى في أيران مع حكومة محمد مصدق والعراق مع حكومة عبد الكريم قاسم واندنوسيا مع حكومة أحمد سوكارنوا، ومع حكومات في أمريكا الاتينية في زعزة الاستقرار وفرض الحصار والنامر بقتل القادة كما في كوبا والبرازيل ونيكاراغوا وفي تشيلي ومقتل الدكتور الليندي واليوم يعود اليسار الى السلطة بعد فوزهم في الانتخابات وانتخاب الشاب القائد الطلابي السابق غبريل بوريك، وعودة اليسار الى الكثير من البلدان الاتينية، واليوم يدعون نصرة الشعوب، من دفع السعودية الى دفع الاموال لشراء الاسلحة وارسالها الى القاعدة وكذلك ما يسمى بالمجاهدين في افغانستان لمحاربة السوفيت والذين دخلوا الى كابول يطلب من الشرعية انذاك حكومة الدكتور نجيب الله، دمرتم المجتمع الافغاني وجاء المتخلفين الطالبان الى دفة الحكم وبرعايتكم، وبالامس خرجتم بعد حرب طالت عشرون عاما، وتركتم البلد في فوضى، واما الشرق الاوسط فلعبتم اقذر الادوار بتوجبه تهم كاذبة الى العراق بحجة وجود سلاح دمار شامل وكذلك صلة النظام بالقاعدة في أفغانستان وخرجتم على العالم بهذه الاكاذيب لتدمير دولة العراق وانهاك شعبه في فوضتكم الخلاقة كما ادعت كوندليزا رايس .و بعدها خرج كولن باول ليعتذر عن أكذبوبة جئتم بها، ولاينسى شعبنا العراقي ما قام به مرتزقتكم في ما يسمى ب قوات بلاك وتر وما رتكبت من مجازر بحق العراقيين في ساحة النسور والبصرة وغيرها من مدن العراق، والان تسمى هذه المنظمة العسكرية اليوم ب اكاديمي ومؤسسها هو الأمريكي اريك برينس . امامجازر سجن ابو غريب شاهدها العالم على شاشات التلفزة وما فيها من اعمال يندى لها جبين الانسانية، وما تشكيلكم للدواعش بما يسمى ب دولة العراق والشام الاسلامية وهي صنعتكم كما صرح بذلك الرئيس السابق ترامب بأن السيدة هنري كلنتن هي من غذتها وجهزتها لتدمير سوريا والعراق . ان الدينار والخراب الذي اصاب بلدي العراق والمعانات المستمرة احد اليوم على يد الحكومات التي نصبتموها ومليشياتها تقع المسؤولية عليكم، وما تقدم لايحق السيد جو بايدن ولغيره من القيادة الأمريكية ان تدعي الديمقراطية وحقوق الانسان، أين انتم مما يقع اليوم في فلسطين المحتلة من قبل دولة الكيان العنصري الصهيوني من قتل للشعب وتهجبره وتدمير بيوتهم على ساكنيها واعتقال الاطفال والنساء، الستم من وقعتم على الحق للشعب المحتل بالمقاومة . يكفي كذبا ومتاجرتا بالديمقراطية وحقوق الانسان .

 

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

‎2021-‎12-‎22

 

عدنان ابوزيدهل يعمل جميع خريجي المعاهد والجامعات، في مجالات اختصاصهم، في الدول المتقدمة؟، وهل الحكومة هي التي تتكفّل بتعيينهم، ام انهم يكافحون، ويتنافسون بندّية من أجل الظفر بوظيفة؟.

سؤال سيكون مهما، لو رصدنا ان الخريجين في العراق يعتقدون ان خريجي دول أوربا المتقدمة والولايات المتحدة، واليابان، والصين وروسيا، يمارسون اختصاصاتهم التي درسوها ويتدفقون الى سوق العمل، لمجرد انهم حاملو شهادات.

دراسة للبنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك حول سوق العمل لخريجي الجامعات، تفيد بأن 27 بالمائة فقط من حاملي درجة البكالوريوس يعملون في وظائف "مرتبطة بشكل مباشر" بتخصصهم فيما 62 بالمائة فقط منهم لديهم وظيفة تتطلب شهاداتهم، ما يعني أن عددًا كبيرًا جدًا من الأمريكيين من ذوي التعليم المتقدم، تضيع امتيازاتهم الدراسية ومواهبهم العلمية في سوق العمل.

لعل أكبر كذبة متداولة، ان الدول المتقدمة تقدّم الاغراءات والعروض المغرية لأصحاب الشهادات من الأجانب، لكي تسحبهم من بلدانهم، فيما الواقع ان هؤلاء الخريجين وأصحاب الخبرات والمواهب هم الذين يهاجرون الى تلك الدول بحثا عن فرص العمل.

الذي يعيش في تلك المجتمعات، يعرف جيدا، وبعيدا عن التنظير، والتلفيقات الزائفة، ان هناك أطباء يبحثون عن فرص عمل، وان خريجي اقتصاد يعملون في مجال الرياضة، وان طلاب جامعات يعملون في المطاعم.

يشير بحث أجرته جامعات المملكة المتحدة إلى أن واحدًا من كل ثلاثة خريجين ينتهي بهم الأمر إلى "عدم التطابق" مع الوظائف التي يجدونها بعد ترك الجامعة، لهذا السبب تكثر الاعمال والوظائف الطوعية، لاكتساب المهارات وتجارب العمل، والدورات التدريبية، لكن الفرق ان العاطلين في الدول المذكورة انفا، لهم رواتب مجزية من الضمان الاجتماعي، تنتهي حال الحصول على وظيفة.

والجامعات في الغرب، لا تخرّج فقط، بل هي مشارك فعال في إيجاد الوظائف، عبر الدورات التدريبة لسد "فجوة الخبرة"، بمساعدة التمويل الحكومي لدعم تطوير المهارات، حيث يفضّل العديد من أرباب العمل توظيف الشباب الذين أمضوا أعواما في العمل.

لا تبدو ثمة علاقة بين جامعات العراق وسوق العمل، فمهمتها هي تفريخ الآلاف من الخريجين سنويا، الذين لا فرصة لهم في التوظيف غير المسار الحكومي، وفي حين ان الجامعات في العالم المتقدم تقود الصناعة والبحوث والوظائف، فان جامعات العراق لا تتجاوز دور "التفقيس" لخريجين بمستويات علمية لا تبعث على الفخر في الكثير من الحالات.

لكي نستفاد من التجارب الناجحة، ينبغي دراستها وتطبيقها، ومن ذلك ان تصنيفات التوظيف في تايمز البريطانية للتعليم العالي، والتي تقيس آفاق الخريجين لكل جامعة رئيسية حول العالم، تفيد بهيمنة جامعات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وهولندا و فرنسا وألمانيا وأستراليا والصين وكندا على المراكز الأولى في قدرتها على إقامة علاقات موثوقة مع ارباع العمل، والشركات الكبرى، ما جعلها لا تمنح الشهادة فقط، بل والوظيفة ايضا. 

 

عدنان أبوزيد

 

حسن الحضريتسعى الأنظمة السياسية إلى فرض وجودها، والتأسيس لبقائها قدر ما تستطيع؛ وفي سبيل ذلك يعمل كل نظامٍ منها في عددٍ من المحاور التي يُوليها اهتمامه، بحسب طبيعته وطبيعة الدولة التي يحكمها، والوسائل المتاحة له، والوسائل الأخرى التي يمكنه إيجادها والعمل من خلالها؛ والنظام القوي الناجح هو الذي يطوِّر منظومته من أجل العمل في ظل ما هو متاح من إمكاناتٍ ومقدَّرات، وغالبًا يُكتَب له النجاح في هذه الحال.

أما الأنظمة الضعيفة الفاشلة فإنها تحاول أن تُخفي ضعفها وفشلها، وتظهر في صورة مزيفة، لذلك يكون منهجها غير متوافقٍ أبدًا مع الإمكانات والمقدَّرات المتاحة على أرض الواقع؛ فهي لا تريد سوى فرض سيطرتها، والظهور بمظهر القوي الناجح، ومن أجل ذلك تخوض في عدد من المشروعات الوهمية أو غير ذات الجدوى، التي لا طائل من ورائها سوى إهدار المال العام، وإغراق الدولة في بحرٍ من الدُّيون الخارجية، التي تجعلها فريسة سهلة للدول الدَّائنة، إضافة إلى إرهاق الناس وإنهاكهم بضرائب كبيرة غير مناسبة وغير مبرَّرة بشيء سوى تلك الأسباب العبثية، التي تجهر بها الأنظمة الحاكمة أو تخفيها أو تدَّعي ما يبدو لها من ادِّعاءات كاذبة تستخفُّ بها الناس.

ومما تفعله بعض تلك الأنظمة الحاكمة في الدول النامية، ويدل على قصور رؤيتها الاستراتيجية؛ أنها تهدر ميزانياتٍ ضخمةً في تنفيذ مشروعات غير مدروسةٍ دراسةً علمية صحيحة، تقوم بتنفيذها في غير موضِعها الصحيح؛ مثل إحاطة المدن والقرى بعددٍ ضخمٍ من الكباري والطرق العلوية الداخلية والخارجية، التي لا جدوى لكثيرٍ منها؛ وإنما أُنشِئت لأغراضٍ سياسية محضة، وكذلك إهدار المال العام في بناء منشآت لا يستخدمها أحد سوى النظام الحاكم؛ الذي هو غنيٌّ عنها ولديه البدائل الموجودة والمتاحة، لكن النظام الحاكم حين يكون ضعيفًا أو فاشلًا؛ لا يجد شيئًا يتستَّر خلفه سوى مثل تلك المشروعات العبثية، التي يحاول أن يصنع لنفسه بها شيئًا من الهيبة، أو يضع بها حاجزًا بينه وبين الناس؛ حتى ينظروا إليه بعينِ الضعيف المستضعف إلى القوي الشجاع.

ومن ذلك أيضًا رصف الطرق في شوارع ومناطق مكتظة بالسكان، دون وضع إشارات للمرور، أو العمل على تنظيم سير السيارات والمَركبات في تلك الطرق والشوارع التي لا يفرِّق قائدو المركبات بينها وبين الطرق السريعة؛ بعد أن اعتادوا العشوائية حتى أصبحت جزءًا من نظام حياتهم غير المنظمة؛ إضافة إلى سوء تخطيط المدن الجديدة التي يتم إنشاؤها، وغير ذلك من مشروعات يتم فيها إهدار ميزانيات ضخمة من المال العام، ثم تكون نهايتها الفشل.

ولا يخفى أن بعض تلك الأنظمة السياسية الحاكمة تهدف من وراء مشروعاتها الاستراتيجية هذه؛ إلى الظهور أمام العالم بمظهر غير حقيقي، كالمتشبِّع بما لم يُعطَ، فهي تحاول تقليد الدول المتقدمة من حيث المظهر، دون أن تتوافر لديها قدرات تلك الدول؛ وتلك المشروعات التي تستنزف المال العام؛ لا تَتَناسب أبدًا مع المستوى المعيشي للسكان، وكان الأَولى لتلك الأنظمة أن تسعى إلى تنفيذ مشروعات حيويَّة يرتفع بها متوسط الدَّخل، ويتحسن مستوى المعيشة.

وفي الأغلب الأعم تكون رؤوس هذه الأنظمة الضعيفة الفاشلة؛ عسكرية الطابع، والعسكريون في الأغلب لا يصلحون للسياسة؛ والصفات القيادية لا علاقة لها أبدًا بالجانب العسكري؛ فما هو إلا جانب من جوانب كثيرة تتطلَّبها القدرات السياسية والإدارية، وقد يكون الإنسان عسكريًّا كفؤًا لكنه ضعيف إداريًّا، قاصر الرأي، وهؤلاء العسكريون الذين أثبت الواقع فشلهم السياسي؛ لم ينتبهوا إلى قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو يتشاور مع المسلمين في من يلي الأمر مِن بعده، فذكروا له سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وسعدٌ أحد العشرة المبشَّرين بالجنة، وكان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يُفَدِّيه بأبيه وأمه؛ «عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: ما سمعتُ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- جمع أبويه لأحدٍ إلا لسعد بن مالك؛ فإنِّي سمعتُه يقول يوم أُحُد: «يا سعدُ؛ ارمِ، فِداكَ أبي وأمِّي» [متفق عليه]، فلمَّا ذكروه لعمر -رضي الله عنه- قال: «ذلك يكون في مِقْنَبٍ من مَقانبكم» [«فصل المقال» لأبي عبيدٍ البكري (ص 112)]؛ والمِقنب هو جماعة الخيل والفرسان؛ أي: إنه رجُل حربٍ وقتالٍ وليس رجُل سياسة.

فالرؤية الاستراتيجية الصحيحة واجبة وضرورية في الحياة السياسية؛ حتى يستطيع الحاكم أن يؤدي دوره نحو بلده، والتوجيه الاستراتيجي موجود في القرآن الكريم؛ من ذلك قول الله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) [الأنبياء: 78- 79]؛ فقد رُوِيَ أن «الغنم نفشت في الكَرْمِ ليلًا، فلم يصبح فيه ورقة ولا عُود إلا أكلته الغنم، فاختصموا إلى داود -عليه السلام- فقضى بالغنم لأصحاب الكرم، فقال له سليمان عليه السلام: أوَغيرَ ذلك يا نبي الله؟ تُعطي لأصحاب الكرم الغنم فيصيبون من ألبانها ومنفعتها، ويعالج أصحاب الغنم الكرم، حتى إذا عاد إلى هيئته؛ دفعت إلى هؤلاء غنمهم، وإلى هؤلاء كرمهم» [انظر «تفسير مجاهد» (ص 473)]، فهذه الآية الكريمة فيها توجيه إلى التعامل الاستراتيجي الصحيح في وضع حلول ناجحة للمشكلات والمعضلات.

وقد كان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يتشاور مع أصحابه -رضي الله عنهم- في الأمور الاستراتيجية كغيرها من سائر أمور الأمَّة؛ رُوِيَ أنه «لمَّا كان غزوة تبوك؛ أصاب النَّاسَ مجاعةٌ، قالوا: يا رسول الله؛ لو أذنتَ لنا فنَحَرنا نَواضِحَنا، فأكلنا وادَّهَنَّا؛ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «افعلوا»، فجاء عمر، فقال: يا رسول الله؛ إن فعلتَ؛ قلَّ الظَّهر، ولكن ادعُهُم بِفَضلِ أزوادهم، ثم ادعُ الله لهم عليها بالبركة؛ لعلَّ الله أن يجعل في ذلك؛ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «نعم»، فدعا بنطعٍ، فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكفِّ ذُرةٍ، ويجيء الآخر بكفِّ تمرٍ، ويجيء الآخر بكِسرةٍ، حتى اجتمع على النِّطع من ذلك شيء يسيرٌ، فدعا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عليه بالبركة، ثم قال: «خُذوا في أوعِيَتِكم»، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه، فأكلوا حتى شبعوا، وفضلتْ فَضلةٌ» [أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 56 برقم 27)]، وهذا الحديث فيه المشورة الاستراتيجية التي أشار بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقَبِلَها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

إن التخطيط الصحيح يقتضي الاهتمام بالأمور التي هي أولى وأهم، ثم الأمور الأقل أهمية؛ والنظام السياسي الذي يعمل على تنفيذ مشروعات تدرُّ عائدًا ماديًّا على المواطنين، ثم يتَّجه إلى الرفاهيات والكماليات بعد ذلك؛ هو أفضل وأقوى من النظام الذي يسلب المواطنين أموالهم وقُوتَ يومهم في صورة ضرائب ونحوها، من أجل تنفيذ مشروع ترفيهي يجمِّل به المظهر الخارجي للدولة.

وكم من حاكمٍ عادلٍ أو سياسيٍّ ناجحٍ؛ وَلِيَ دولة فقيرة من المال والثروة، واستطاع أن ينهض بها إلى ويضعها في مصافِّ الدول الغنيَّة المتقدمة؛ فالفقر الحقيقي ليس فقر الثروة؛ وإنما هو الفقر الفكري والخُلُقي؛ فإذا عمل النظام الحاكم من خلال منهج فكري صحيح، وتمسَّك بأخلاق العدل والشورى؛ فلا شك أن النجاح حليفه حينئذ مهما كانت صعوبة الحال التي يمرُّ بها.

والسُّنَّة النبوية الشريفة ملأى بالتوجيهات الاستراتيجية، التي لو استمدَّت منها الأنظمة الحاكمة؛ لعبرت بشعوبها إلى طريق الرخاء والازدهار؛ ومن ذلك ما رُوِيَ «أنَّ رجلًا من الأنصار، جاء إلى النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يسأله، فقال: لكَ في بيتِكَ شيءٌ؟؛ قال: بلى؛ حِلسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقدح نشرب فيه الماء؛ قال: ائتني بهما؛ فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بيده، ثم قال: مَن يَشتري هذين؟؛ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم؛ قال: مَن يزيدُ على درهمٍ؟؛ قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين؛ فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتَرِ بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخرِ قَدومًا فأْتِني به؛ ففعل، فأخذه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فشَدَّ فيه عُودًا بيده، وقال: اذهَبْ فاحتَطِبْ، ولا أراكَ خمسةَ عَشَرَ يومًا؛ فجعل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فقال: اشترِ بِبَعضِها طعامًا، وبِبَعضِها ثوبًا» [أخرجه ابن ماجه في سننه (2/ 740 برقم 2198)].

فهذا الحديث الشريف فيه أفضل توجيه استراتيجي للتعامل مع الفقر والحاجة، ولو عملت به الأنظمة الحاكمة في الدول الفقيرة؛ لأغناها الله من فضله، واستطاعت أن تفيق من كبواتها المادية التي تسيطر على أبنائها.

 

حسن الحضري

عضو اتحاد كتاب مصر

 

 

كريم المظفربسبب التطورات السياسية والعسكرية المتوترة بين روسيا من جهة، وحلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة من جهة أخرى، فقد عقد الإجتماع السنوي لهيئة وزارة الدفاع الروسية هذه المرة بظروف استثنائية متوترة، ويشوبها القلق الكبير من أحتمال تصاعد هذه التوترات، وإمكانية الوصول بها إلى مرتبة الصدام المباشر، ولم يكن الحضور مقتصرا على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير الدفاع سيرغي شايغو، وقيادة الأركان فحسب، بل أيضا قيادة القوات المسلحة، وممثلي سلطات الدولة والمؤسسات العامة، ولأول مرة، شارك مسئولون من قيادة المناطق العسكرية، والأساطيل، والتشكيلات والوحدات العسكرية، وكذلك طلاب وطلاب التعليم العسكري العالي .

وكعادته، فقد تضمن حديث الرئيس بوتين في الاجتماع، رسائل عديدة، في المقدمة منها، هي أن موسكو لا تطلب لنفسها أي ظروف استثنائية في مجال الأمن، لكنها لن تترك تحركات الغرب العدائية ضدها بلا رد، والتشديد على إن روسيا تدعو إلى ضمان أمن متساو وغير منقسم في كل الفضاء والأوراسي، مع التذكير انه في حال استمرار النهج العدواني السافر من قبل " زملائنا " الغربيين فان روسيا سترد عليه باتخاذ إجراءات مناسبة في المجال العسكري التقني، والرد بشكل صارم على أي خطوات غير ودية ضدها، وأن من حق موسكو أن تتخذ "الخطوات الضرورية لضمان أمن روسيا وسيادتها".

الرئيس الروسي حمل الولايات المتحدة المسؤولية عن تدهور العلاقات بين موسكو وواشنطن، مشيرا إلى أن روسيا كانت في كل مرة مضطرة للرد على خطوة أمريكية غير ودية إزاءها، مذكرا أن السبب المحتمل لتمسك الولايات المتحدة بنهجها هذا هو "شعورها بالنشوة من الانتصار - أو الانتصار المزعوم - في الحرب الباردة، أو سوء تقدير الوضع والتحليل الخطأ لسيناريوهات تطوره المحتملة"، كذلك ذكر بوتين أن حشد الولايات المتحدة والناتو قوات عسكرية قرب حدود روسيا يثير قلق موسكو الشديد، والإشارة بهذا الصدد إلى نشر عناصر الدرع الصاروخية الأمريكية في رومانيا والخطط لنشر منصات "إم كا - 41" المكيفة لإطلاق صواريخ "توماهوك" في بولندا.

ولدى تطرقه إلى موضوع ضمانات الأمن التي تنتظرها روسيا من الغرب فان الرئيس بوتين أشار إلى أن روسيا بحاجة إلى "ضمانات طويلة الأمد وملزمة قانونيا"، لكنه شددت بالقول "لكننا نعرف جيدا أن حتى هذا لا نستطيع الثقة به "، لأن الولايات المتحدة تنسحب بسهولة من كل الاتفاقات الدولية التي فقدت أهميتها في نظرها، وأشار بهذا الصدد إلى انسحاب واشنطن من الاتفاق حول الدرع الصاروخية والاتفاقية حول السماء المفتوحة، لكنه ذكر أن مثل هذه الوثائق أفضل من تعهدات شفوية، مضيفا: "نحن نعلم قيمة هذه الأقوال والوعود".

لقد أظهرت الأحداث في يوغوسلافيا السابقة والعراق وسوريا أن الولايات المتحدة "تفعل ما تشاء"، لكن ما يحدث في أوكرانيا، حيث تدعم واشنطن السلطات في كييف بقوة، يختلف عن تلك الأحداث بشكل جذري، وقال بوتين "إنهم يفعلون ما يشاؤون "، لكن ما يفعلونه الآن على أراضي أوكرانيا، أو يحاولون فعله ويخططون للقيام به ليس على بعد ألف كيلومتر من حدود روسيا الوطنية، فهو يحدث على عتبة البيت الروسي، " ويجب أن يفهموا أنه لم يعد لدينا ببساطة مكان للتراجع " بحسب قول الرئيس بوتين .

الرسالة الأخرى التي حرص الرئيس الروسي إلى إيصالها إلى المشككين في النوايا الروسية، هي نفى روسيا صحة ادعاءات تصور المقترحات الروسية الموجهة إلى واشنطن والناتو بخصوص ضمان أمن روسيا على أنها "إنذار" للغرب، مع ذلك فقد ذكّر الرئيس الروسي بأن الأمريكيين، "ينشطون " على مسافة تقدر بآلاف الكيلومترات من أراضيهم الوطنية، وذلك بذرائع مختلفة، بما في ذلك بذريعة ضمان أمنهم، أما عندما يرون عائقا متمثلا بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة فهم يقولون إنه شيء عفا عليه الزمن ولم تعد له فائدة، أما إذا وجدوا أن شيئا من هذا يتماشى مع مصالحهم فسرعان ما يتحدثون عن أحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والقوانين الإنسانية الدولية، وقال بوتين "لقد سئمنا من هذا التلاعب"، وهاجم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشدة سياسات الولايات المتحدة التي تعتمد التدخل عسكريا في دول أخرى في تجاهل سافر للقانون الدولي.

وتساءل الرئيس بوتين: "من أعطى (الولايات المتحدة) الحق في توجيه ضربة لعاصمة أوروبية، مدينة بلغراد؟ لا أحد!، لقد قررت ذلك بنفسها بكل بساطة، فيما تراكض من يدورون في فلكها من خلفها وهم ينبحون بصوت خافت، وهذا كل ما في القانون الدولي!"، وكذلك تساءل "وبأي حجة دخلوا العراق؟ (تحدثوا عن) تطوير أسلحة الدمار الشامل، ودخلوا ودمروا البلاد وأوجدوا بؤرة للإرهاب الدولي ثم تبين أنهم أخطئوا، قالوا "المخابرات خذلتنا". رائع! وهذا هو كل التبرير! اتضح أنه لم يكن هناك أي أسلحة، والسؤال أيضا يف دخلوا سوريا؟ هل بموافقة مجلس الأمن الدولي؟ (كلا،) " إنهم يتصرفون على هواهم"!، وحمل بوتين الولايات المتحدة مسؤولية تدهور الوضع في أوروبا في الفترة الأخيرة، مشيرا إلى انسحاب واشنطن من مختلف المعاهدات الدولية الخاصة بالاستقرار الاستراتيجي وسعيها لتوسيع حلف الناتو.

التطورات في القضية الأوكرانية وتطوراتها وقيام الولايات المتحدة بتسليح أوكرانيا وحثها على مواجهة روسيا يخلق تهديدات خطيرة للأمن القومي الروسي، كما عبر عنها الرئيس الروسي، والسؤال اليوم الأكثر إلحاحا ماذا تفعل الولايات المتحدة الآن على الأراضي الأوكرانية ؟، الواقعة ليس على بعد آلاف الكيلومترات من الحدود الروسية، ولكن على عتبة دارها بحسب توصيف الرئيس الروسي، لذلك شدد على ضرورة "أن يفهموا أنه ليس لدينا مكان لمزيد من التراجع "، مشيرا في الوقت نفسه لا توجد أسلحة فرط صوتية لدى الولايات المتحدة حتى الآن، "لكننا نعرف متى سيمتلكونها "، هو ذا أمر لا يمكن إخفاؤه، و(يوما ما) سيسلمونها إلى أوكرانيا، هذا لا يعني أنهم سيستخدمونها غدا، لأنه يوجد لدى روسيا "تسيركون"، وليس لهم مثله بعد، لكن تحت هذا الغطاء سيسلحونهم وسيدفعون متطرفين من الدولة المجاورة باتجاه روسيا، بما في ذلك إلى شبه جزيرة القرم، على سبيل المثال، وذلك في ظل ظروف مواتية لهم، كما يبدو لهم " .

روسيا تشدد على إن توسيع البنية التحتية العسكرية للناتو في أوكرانيا خط أحمر بالنسبة لروسيا، وأنه إذا ظهرت بأوكرانيا منظومات صواريخ يمكنها الوصول إلى موسكو في بضع دقائق فإن روسيا ستضطر للرد بتهديدات مماثلة، وتشير إلى أن العلاقات بين روسيا والغرب جميعا، كانت في التسعينيات وحتى بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين صافية، فلماذا الحاجة إلى توسع الناتو قرب حدودها وتساءل الرئيس الروسي: "هل يعتقدون أننا لا نرى هذه التهديدات؟ أم يعتقدون أننا سنتفرج عليها مكتوفي الأيدي؟ لم يعد لدينا مكان للتراجع"!.

وزير الدفاع الروسي سيرغي شايغو، هو الآخر حمل الرسالة العسكرية ( للناتو ) في تقريره المقدم في الإجتماع الموسع لوزارة الدفاع بحضور الرئيس فلاديمير بوتين، وأشار إلى أنه تم وضع 21 قاذفة صواريخ باليستية عابرة للقارات "يارس" و "أفانغارد" و "سارمات" في حالة تأهب في قوات الصواريخ الإستراتيجية، لتزويد القوات النووية للطيران الاستراتيجي بحاملتي صواريخ استراتيجيتين من طراز Tu-160M، استخدم غواصة Borei-A التي تعمل بالطاقة النووية Generalissimo Suvorov في الأسطول، تزويد القوات البرية والقوات المحمولة جواً والقوات الساحلية للبحرية بأكثر من 1000 قطعة من الأسلحة المدرعة والمدفعية الحديثة، و لتزويد القوات الجوية والبحرية بـ 257 طائرة جديدة وحديثة، خمس مجموعات من نظام الصواريخ المضادة للطائرات S-400 Triumph، استخدم خمس غواصات وإحدى عشرة سفينة سطحية وثلاثة زوارق قتالية في البحرية، وتوريد نظامي صاروخ ساحلي للقوات، وكذلك الإشارة إلى القوات المسلحة نفذت كافة التدريبات القتالية المخطط لها، بما في ذلك 45 تمرينا دوليا على مختلف المستويات هذا العام، وفي سياق عمليات فحص مفاجئة للجاهزية القتالية للقوات، قامت التشكيلات والتشكيلات بإعادة تجميع صفوفها على مسافة تزيد عن 3.5 ألف كيلومتر، ونفذت مهمات تدريب وقتالية على مسافات خارج مناطق مسؤوليتها، ولأول مرة في التاريخ الحديث، تم إجراء تمرين عملياتي مع مجموعة من قوات أسطول المحيط الهادئ في منطقة البحر البعيد

وفي القوات الجوية، تم تشكيل فوج صاروخي للطيران والصواريخ المضادة للطائرات، تم تسليم 151 عينة من معدات الطيران الجديدة والحديثة، وتلقت قوات الدفاع الجوي والدفاع المضاد للصواريخ أكثر من 30 نوعًا من الأسلحة، بما في ذلك أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات S-400 Triumph و S-، 50 Vityaz، وتم تشكيل فوج طيران منفصل، مسلح بطائرة MiG-31IK بصاروخ Dagger الفرط صوتي، وتلقت البحرية ثلاث غواصات حديثة وأربع سفن سطحية وعشرة قوارب قتالية وسبعة عشر سفينة وقوارب دعم وثلاثة أنظمة صواريخ ساحلية. هذا العام، شكلت البحرية أربع وحدات عسكرية جديدة، بما في ذلك فوج هندسة المدفعية والبحرية، في حين أوشكت اختبارات الدولة لصاروخ كروز زيركون الأسرع من الصوت على البحر على الانتهاء. سيبدأ تسليم المسلسل العام المقبل.

وتتزايد القدرات القتالية وتقنيات التحكم في نظام الفضاء الموحد تم إطلاق المركبة الفضائية الخامسة كوبول، اكتمل بناء مركز القيادة الغربي الحديث لنظام الفضاء الموحد بنقله إلى التشغيل التجريبي، اكتملت اختبارات المركبة الجوية طويلة المدى غير المأهولة "Altius-RU"، بدأت عمليات تسليم أنظمة الاستطلاع والإضراب "Inokhodets" و "Forpost".

الرسائل الروسية السياسية والعسكرية تأتي هذه المرة في ظل جو الخلافات الذي يسود بين أعضاء الحلف والذين لم يتوصلوا إلى توافق حول المحادثات مع روسيا بخصوص الضمانات الأمنية التي تطالب بها روسيا وشكلها، ووفقا لصحيفة "فاينانشيال تايمز"، نقلا عن مصدر في الناتو، رضخت بلدان الناتو لضرورة التفاوض مع روسيا، حيث يريد العسكريون في دول الغرب "تجنب الرفض المباشر" لاقتراح موسكو، وبالتالي يحاولون إيجاد مجالات التوافق المتبادل وتهدئة الوضع"، ورغم أن المسئولين الغربيين يرفضون جميع مقترحات روسيا تقريبا، ويعتبرونها "مستحيلة وغير قابلة للتصديق وتتعارض مع المعاهدات المبرمة بعد نهاية الحرب الباردة"، إلا أنهم يعترفون بأن "إغلاق الباب" أمام عرض موسكو الدبلوماسي يمكن أن يفاقم الوضع.

وبحسب المصادر الغربية التي قالت لصحيفة فاينانشيال تايمز، إنه لا يوجد إجماع حول كيفية سير المفاوضات أو من سيشارك فيها، لذلك سيكون من الصعب العثور على المجالات التي يمكن فيها إجراء "مفاوضات مفصلة"، لأن الحلف يرفض أي تنازلات، يمكن أن "تؤثر على أمن أعضائه أو سيادة أوكرانيا"، في وقت تصر موسكو على تطوير الضمانات الأمنية في فترة زمنية محددة، وقدمت بهذا الصدد مقترحا شاملا بشأن الضمانات الأمنية القانونية استعدادا لجولة جديدة من الحوار حول الاستقرار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، و إذا لم يستجب الناتو والولايات المتحدة لمطلب روسيا بضمانات أمنية، فقد يؤدي ذلك إلى مرحلة جديدة من المواجهة، وردا على اتهامات الغرب، أكدت روسيا مرارا وتكرارا أنها لا تهدد أي جهة ولن تهاجم أحدا، لكنها لن تتجاهل الإجراءات التي قد تكون خطرة على مصالحها.

 

بقلم : كريم المظفر

 

 

علاء اللاميدروس تشيلي الليندي وعراق قاسم وفنزويلا تشافيز تؤكد: من يتسلح بالشعب الكادح لن يُسقطه الغرب الإمبريالي بانقلاب عسكري

* الدرس الأول: سقط حكم عبد الكريم قاسم، ذو التوجهات اليسارية الشعبوية في العراق لأسباب عديدة، ولعل أهمها هو أنه رفض تسليح الشعب، وجرَّد مليشيات المقاومة الشعبية التي شكلها الشيوعيون من سلاحها وحلَّها، ورفض تسليح حتى المجموعات الشعبية التي هرعت من المناطق القريبة على مقره في وزارة الدفاع في باب المعظم للدفاع عنه يوم الانقلاب ضده، ولهذا كله أُسقط بسهولة واقتيد أسيرا مغدورا وقُتل هو وعدد من رفاقه رميا بالرصاص في غرفة العازفين الموسيقيين في دار الإذاعة العراقية ببغداد من قبل مليشيات وعساكر اليمين القومي في  شباط 1963.

* الدرس الثاني: الرئيس الاشتراكي التشيلي سلفادور الليندي أقدم هو الآخر بعد فوزه في انتخابات 1970 وتنصيبه رئيسا، على حلِّ مليشيات الدفاع الشعبية فواجه طيران الانقلابيين عملاء المخابرات الأميركية ودباباتهم وحيدا فأجهزوا عليه وعلى تجربته الاشتراكية! عن هذه التجربة كتب الروائي الكولومبي الشهير غارسيا ماركيز الآتي (ففوز حزب الوحدة الشعبية - بزعامة الليندي - لم يحدث ذعرا مجتمعيا كما كان توقع البنتاغون الأميركي، إنما العكس هو الصحيح، إذ حازت سياسات الحكومة الجديدة ولا سيما في مجالي العلاقات الخارجية والاقتصاد رضى شعبيا كبيرا. فخلال العام الأول وحده تمّ تأميم ست وأربعين مصنعا وأكثر من نصف القطاع المصرفي، كما تمت إعادة أكثر من 24 مليون هكتار الى الفلاحين، وتمت السيطرة على التضخم وحلت مشكلة البطالة وزاد دخل الفرد بنسبة 40% تقريبا ... ونجحت في اتخاذ إجراء قانوني حاسم مكنها من اعادة السيطرة على كل مناجم النحاس التي كانت تستغلها فروع الشركتين الأميركيتين “أناكوندا” و”كنيكوط” دونما الاضطرار إلى منحهما أية تعويضات انطلاقا من حقيقة تمكن الشركتين،على مدى خمسة عشر عاما،من تحقيق أرباح خيالية).

كان الليندي يكره العنف بعمق، ولكنه كان ثوريا عنيدا أيضا - كما كتب ماركيز - فقاتل بشراسة ببندقية رشاشة أهداها له كاسترو. وكان يعلم أن الانقلاب ضده سيكون دمويا فقد سبق له وأن توقع المذبحة القادمة قال "واهم من يظن أن انقلابا عسكريا في تشيلي بوسعه أن يكون على غرار ما نراه في بقية دول أميركا اللاتينية، أي أن يقتصر على تغيير الحرس في قصر الرئاسة، وذلك لأنه اذا خرج الجيش على الشرعية في بلد كهذه فسوف تنهمر حتما حمامات الدماء على غرار ما حصل في أندونيسيا"! وفعلا فقد قُتل في تشيلي "حوالى عشرين ألف شخص، وتم تعذيب ثلاثة آلاف مسجون سياسي بصور وحشية، وتم فصل 25 ألف طالب، وتسريح أكثر من مئتي ألف عامل".

* الدرس الثالث: في فنزويلا تشافيز تأسست مليشيات شعبية في الأحياء العشوائية "الباريوزا"، فتضايق الرئيس منها، وقال له مستشاروه أنها ستستفز اليمين، وكاد يأمر بمنعها وحلِّها ولكن الانقلاب الذي قام به العسكر الموالي لواشنطن قلب كل الحسابات: فقد اعتُقِلَ الرئيس وسيطر الانقلابيون على الحكم، وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان فقد (رد أهالي الباريوز وانتفضوا دفاعاً عن تشافيز الذي انتخبوه، ونزل أبطال حرب الشوارع واصطدموا مع قوى الأمن وظهر السلاح الشعبي، ووضعت خطط لاحتلال ومحاصرة مواقع حكومية. هذه الهبة الشعبية شبه المسلحة قسمت المؤسسة العسكرية. وأقنعتها بأن البلاد متجهة صوب حرب أهلية إن لم يعد تشافيز، وهكذا عاد! ويعتقد أن تشافيز أدرك خطأه بأن أليندي سقط بعد أن حل الميليشيات الشعبية، وأن هذه القوى حماية للحركة البوليفارية، أكثر من حلقات المثقفين ومظاهرات الشباب السلمية/ حسن الخلف - رابط لمقالة في نهاية المنشور).

* والسؤال الحارق والأهم: هل سيستخلص الفائز الاشتراكي التشيلي الجديد العبرة من دروس التاريخ البعيد والقريب ويختط طريقا ثوريا حقيقيا فيتسلح بالشعب الكادح دفاعا عن انتصاره الانتخابي ويطبق مشروعه الاشتراكي ويعمقه أم أنه سيكرر أخطاء الماضي؟

حول بوريك: غابريال بوريك نفسه يصف نفسه باليساري المستقل، وكان نائبا في البرلمان عن حزب يسمى "التقارب الاجتماعي"، وكان بوريك من قادة الاحتجاجات والتظاهرات والانتفاضة الشعبية في 2019، وهو من أب كرواتي مهاجر وأم أسبانية مهاجرة ولكن الإعلام الغربي يسمي تحالفه "أقصى اليسار" لمشاركة الحزب الشيوعي التشيلي ذي الثقل الجماهيري الكبير فيه ومنظمات يسارية مختلفة وشخصيات يسارية مستقلة ونقابات فيه وأحيانا يسمونه "من اليسار الجذري"، وهو كان مترددا في ترؤس وقيادة التحالف اليساري ثم استجاب لرغبة رفاقه في الانتخابات الداخلية للتحالف "جبهة التحالف الواسعة" كما يمكن ترجمة اسمها، حيث فاز فيها على مرشح الحزب الشيوعي دانيال جادو بسبب وسطيته - وسطية بوريك -ضمن اليسار ، وقبل الشيوعيون النتيجة وترشح بوريك.

 

علاء اللامي

...........................

1-رابط يحيل إلى ترجمة مقالة "لماذا قتلوا الليندي (احداث 11 أيلول 1973)... بقلم غابرييل غارسيا ماركيز":

https://manateq.net/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%82%D8%AA%D9%84%D9%88%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D9%86%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB-11-%D8%A3%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%84-1973-%D8%A8%D9%82/

2- رابط مقالة " «ثورة الباريوز» في فنزويلا" بقلم حسن الخلف:

https://al-akhbar.com/Opinion/62727/%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D9%88%D8%B2-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%86%D8%B2%D9%88%D9%8A%D9%84

3- رابط تقرير إخباري/ تشيلي: مرشح اليسار الشاب بوريك يحقق فوزا كبيرا على منافسه اليميني المتطرف ويصبح رئيسا جديدا للبلاد... أعلنت اللجنة الانتخابية في تشيلي فوز مرشح أقصى اليسار غابريال بوريك البالغ من العمر 35 عاما فقط في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية على مرشح اليمين المتطرف خوسيه أنطونيو كاست بعد أن حصد 56% من الأصوات مقابل 44% لمنافسه:

https://www.france24.com/ar/%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D8%A7/20211220-%D8%AA%D8%B4%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D9%85%D8%B1%D8%B4%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%83-%D9%8A%D8%AD%D9%82%D9%82-%D9%81%D9%88%D8%B2%D8%A7-%D9%83%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%B1%D8%B4%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81-%D9%88%D9%8A%D8%B5%D8%A8%D8%AD-%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3%D8%A7-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A7-%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%AF

 

صلاح حزاميقال الكثير عن كون العراق واحد من اغنى بلدان العالم، وغالباً مايصدر هذا الكلام من اشخاص غير متخصصين وليست لديهم فكرة عن اوضاع باقي دول العالم.

لاحظت ان كلاماً من هذا النوع ازداد بعد العام ٢٠٠٣، عندما وصل الى الاعلام والمنابر المختلفة عدد من الاشخاص الأميين والجهلة والجياع الذين لايستطيعون المقارنة بين العراق والعالم.

الآن لنتعرف على معنى ان يكون البلد غنياً او فقيراً.

هنالك غنى بالثروات الدفينة في باطن الارض والتي قد تساوي مبالغ ضخمة، لكن ذلك لايجعل من البلد غنياً على ارض الواقع.

جمهورية الكونغو الديمقراطية، من اغنى بلد العالم بالمعادن النفيسة التي تستخدم في صنع الطائرات ومركبات الفضاء وبطاريات السيارات الكهربائية، اضافة الى مناجم الماس الكبيرة. لكن شعب الكونغو واحد من افقر الشعوب واكثرها بؤساً

حيث تسيطر عصابات ومليشيات مدعومة من دول وشركات اجنبية على اقاليم البلاد الشاسعة فيما يشبه الدول المتعددة داخل الدولة، والتي لاتستطيع عمل شيء لايقاف هذه السرقات.

اليابان ليست فيها موارد، تقريباً، لكنها دولة غنية وفي مقدمة دول العالم.

فنلندا، دولة اسكندنافية صغيرة ليس فيها سوى الاخشاب، لكنها في طليعة دول العالم في التعليم . 

سنغافورة، جزيرة صغيرة ليست لديها حتى مياه كافية للشرب ومساحتها ٥٠٠ كم مربع لكنها من ارقى الدول في كثير من المجالات.

القائمة طويلة،  التي تُثبت ان الغنى ليس امتلاك موارد طبيعية يتم بيعها وتوزيع عائداتها بما يشبه اسلوب الغنائم والأسلاب بين جيوش من الموظفين العاطلين واللصوص الفاسدين والمؤسسات الديكورية التي لاداعي لها والتي تستنزف عوائد النفط، مثل حالة العراق.

الغنى يحتاج الى وجود سلطة مخلصة مؤمنة بالتنمية والبناء وبتعليم وتدريب القوى العاملة واستثمار موارد البلد على النحو الامثل  وتثقيف الناس على اهمية العمل المنتج الشريف.

انها تحتاج الى بناء سلطة القانون وعدم حماية من يقصّر في واجباته .

الغنى، هو وجود شعب منتج وجاد يعتمد على نفسه ويحترم اصول العمل ويخلق الفائض الذي يأخذ منه اجوره.

اذا حصل ذلك وتصاعد النمو الاقتصادي بمعدلات عالية تفوق معدل نمو السكان، واذا اقترن ذلك بقدر مناسب من العدالة في توزيع ثمار التنمية، يتحسن مستوى دخل ومعيشة الافراد.

وعندما يصل مستوى الدخل الى مايغطّي الحاجات الاساسية ويبلغ مستوى تغطية سلع وخدمات الرفاه وتمكين الناس من السكن في بيوت لائقة وارسال أبنائهم الى مدارس راقية والحصول على خدمات صحية لائقة والتمتع ببنية تحتية سليمة وعصرية والعيش في بيئة نظيفة،وان يتمتع الناس بنظام للنقل والاتصالات ملائم ومريح،  واذا ساد القانون وشعر الناس بالأمان، حينذاك يقال ان البلد غني.

الغنى ليس ان يحصل ٢٧ ألف شخص على شهادات مزورة من دولة معينة، ثم يتظاهرون قاطعين الشوارع للمطالبة بتعيينهم في التعليم العالي كاساتذة ( لكي يكتمل الانهيار) !!

الغنى لايعني ان يتظاهر المئات من خريجي الهندسة قاطعين الطريق امام مصفى صغير لايتّسع لهم مطالبين بالتعيين في ذلك المصفى !!

بموجب ماتقدم، فأن العراق بلد فقير من الناحية الواقعية وبموجب حقائق الحياة المؤلمة التي يعاني منها الناس.

ان يحصل شخص على مبلغ كبير سواء من خلال الفساد والرشوة او العمل التجاري او راتب او تقاعد لايستحقه، ويعود الى بيته عديم الكهرباء وعديم الماء الصالح للشرب وبدون صرف صحي وبدون شوارع نظيفة ومعبّدة وبدون تعليم مناسب لابنائه ( كأن لايحصلون على كتب ويجلسون على الارض في المدرسة)، ويقضي ساعات في الزحام للعودة الى بيته وسط دخان خانق وضجيج قاتل وفوضى تبعث على السأم، اذا كان يعيش هكذا فهو فقير جداً حتى لو سرق كل اموال العالم.

تثقيف الناس من قبل بعض الأدعياء مثل بعض السياسيين الحمقى والخبراء المنافقين الجهلة، بثقافة الغنى المزعوم،فان ذلك يخلق لدى المجتمع وهم الغنى المجاني والرفاه الخرافي.

سوف يستمر الناس بالمطالبة والاستجداء والبحث عن نصيب من الغنيمة بدون جهد حقيقي.

وسوف يستمر بعض السياسيين بتوزيع المناصب والوظائف بالآلاف على من هب ودب لغرض كسب القواعد والانصار، دون اكتراث بمالية الدولة وحاجات التنمية.

حالياً يأتي معظم الموازنة من ايرادات النفط، وحتى الجزء الذي يأتي من مصادر غير نفطية، هو يعتمد على انفاق الدولة للموارد النفطية .

ايرادات منافذ الاستيراد سوف تتوقف معظمها عندما لاتنفق الدولة، اذ لاتوجد قوة شرائية لدى المجتمع تخلق طلباً على الاستيرادات..

كذلك، بدون دولارات النفط لايستطيع العراق استيراد شيء اصلاً، وبالتالي لاتوجد ايرادات جمركية.

كما أن الكثير من النشاطات في كل القطاعات سوف تتوقف او تصاب بالضعف بدون استيراد مستلزماتها من خلال دولارات النفط.

اين هو الغنى؟

هل هو قطاع صناعي ناجح وكفوء،وديناميكي يوفر فرص عمل وفائض اقتصادي؟

أم قطاع زراعي منتج ويستخدم الاساليب الحديثة مع شبكات ري عصرية تقتصد بالمياه وتحمي التربة من التغدّق وتحمي المخزون المائي؟

أم انه قطاع خدمات نشيط يخدم باقي القطاعات ويخلق فرص عمل؟

الآن نحتاج الى الواقعية وليس المبالغة والكذب الذي يمارسه اشخاص طارئون لامصلحة لهم في تطور العراق،

يحتاج الناس الى ادراك حقيقة الأمور دون تزوير وخداع ووعود مستحيلة التحقق.

 

د. صلاح حزام

 

 

في المثقف اليوم