آراء
قاسم حسين صالح: الشاعر.. حين لا يكون منافقا
عبد الرزاق عبد الواحد مثالا
القارئ للعلاقة بين السلطة والشاعر من بدء الدولة الأموية الى الآن يجد انها تتمحور في موقفين: اما ان تغدق على الشاعر ليكون مداحّها واذاعتها واعلامها الجماهيري، واما ان تضطهده اقتصاديا ونفسيا، وان تطلب الأمر قطعت رأسه الذي فيه لسانه.
قليل من الخلفاء والسلاطين والأمراء في امتنا تصرفوا مع الشعراء والفنانين تصرفا حكيما وانسانيا و(براغماتيا) كما تصرف الملك (فيليب) مع الفنان (فيلاسكس). فقد كان هذا الفنان مشتركا في مؤامرة ضد الملك الاسباني فيليب، فاعدم المتآمرين جميعهم الا فيلاسكس فقد جعله فنان البلاط. كان قتله سهلا كالآخرين، غير ان الملك فكّر بذكاء بأن الموهبة تكون في العادة نادرة، وأنه يمكن ان يستثمرها.. وكان له ما اراد. فلقد انتج فيلاسكس لوحات فنية رائعة خلدت الملك فيليب، والأهم انها شكلّت انعطافة جديدة في تطور الفن الاسباني، على العكس تماما من موقف سلطة فرانكو التي اعدمت شاعر اسبانيا العظيم الشاب (لوركا).. فخسرت اسبانيا والانسانية موهبة وعبقرية لا تعوّض.
وعبد الرزاق لم يفعل اكثر مما فعله شاغل الدنيا (المتنبي) الذي مدح حاكما وضيعا مغتصبا للسلطة ليوليه على امارة ولو بسعة مدينة حلب. ولما لم يستجب كافور لطلبه هجاه المتنبي بافضع ما في قاموس لسان العرب من مفردات بذيئة!. ولم يفعل اكثر مما فعل شاعرنا الخالد الهائل العظيم (الجواهري) الذي كان سكرتيرا للملك فيصل الأول ومدحه بقصائد كثيرة.. ومدح ملك المغرب وملك الاردن (يبن الملوك وللملوك رسالة.. من حقها بالحق كان رسولا).. ونوري السعيد ايضا: (أبا صباح وأنت العسكري..).. واحمد حسن البكر وصدام حسين: (نعمتم صباحا قادة البعث واسلموا... ) ثم هجاهم شرّ هجاء بعد انقلاب 14رمضان 1963:
(أمين لا تغضب وان اغرقت.. عصابة بالدم شهر الصيام،
وان غدا العيد وافراحه.. مأتما في كل بيت يقام).
ومع ذلك بقي الجواهري، صاحب الروائع الخالدات (أخي جعفرا، قف بالمعرّة، دجلة الخير.. )، والساكن في قلوب العراقيين.. والتاريخ.
ثم، ألم يكن (عبد الرزاق) افضل من شعراء (كبار) يتنفسون الآن هواء الوطن الذي حرموه منه؟.
ومن من هؤلاء الشعراء نظم قصائد وجدانية غاية في الرقة والمشاعر الانسانية الراقية كالتي نظمها عبد الرزاق؟. ومن من شعراء الاسلام، والشيعة تحديدا، نظم قصائد في (الحسين) كالتي تدفقت بها عبقريته، وهو الصابئي اصلا وفصلا؟!.
انا شخصيا (وبيننا لقاءات وجلسات سمر) اكره في عبد الرزاق عبد الواحد سلوكه، وأدين مدحه للطغاة والطغيان، واساءاته لعدد من المثقفين.. غير اننا لا نختلف بشأن عبقريته، بل نكاد نضع موهبته فوق منارة لا تقل علّوا عن منارات المتنبي والمعري والجواهري.. فلماذا ضحينا بعبقرية شاعر في عصر صار فيه ميلاد شاعر معجزة؟!
لقد تساءل الكاتب يوسف ابو الفوز في مقالة طويلة بالمدى (هل ينفع العراقيين اعتذار شاعر سلطوي: كيف سيكون اعتذار عبد الرزاق عبد الواحد، وبماذا سينفعنا ؟ وما قيمته؟)
ومع ان هذا الموقف يحمّل الشاعر مسؤولية جرائم الطاغية، الا انه مشروع، شرط ان يكون مبدأ " ينطبق على جميع الشعراء الذين امتدحوا الطاغية ونظامه. فالواقع يشير الى ان عددا من الشعراء الذين امتدحوا صدام بقصائد وصفوها ب(العصماء) وكانوا يتباهون بها امام طلبتهم.. تولوا الآن مسؤوليات ثقافية وعلمية عالية (الشاعر محمد حسين الياسين الذي لا علاقة له بالبحث العلمي)، ويحتفى بهم في اتحاد الأدباء.. ما يعني ان عبد الرزاق افضل منهم لأنه لم يتلوث برذيلة النفاق.. التي اشاعها شعراء وأدباء وفق مبدأ (عفا الله عما سلف!).. ولخاصة!!
والتساؤل لحضراتكم:
من الأفضل.. اخلاقيا.. الشاعر الذي يمدح الحاكم ولا ينافق، أم الشاعر الذي يمدحه وينافق؟
وهل كان موقفا صحيحا اننا تركنا شاعرا عبقريا يموت في الغربة، و نحرمه من رغبته في ان يدفن في وطن احبه بصدق وشفافية:
(ياعراق هنيئا لمن لا يخونك، هنيئا لمن اذ تكون طعينا يكونك،
هنيئا لمن يلفظ آخر انفاسه تتلاقى عليه جفونك).
اعرف ان بين المعنيين بشؤون الثقافة من صاروا يديرون اوجههم عن من يجهر بالحقيقة امامهم، ويتقصدون في ان لا يوجهوا له الدعوة بمؤتمراتهم ومناسباتهم الثقافية!
والأشكالية..
انهما سيبقيان جبلان لا يلتقيان!.
وهم الرابحون لمتع الدنيا.. وهو الخسران!
***
د. قاسم حسين صالح