شهادات ومذكرات
محمود محمد علي: الحشاشين وبدايات تأسيس التنظيم الإرهابي في الفكر الإسلامي
يذاع خلال هذا الشهر الفضيل مسلسلا بعنوان" الحشاشين"، على جميع قنوات التلفاز العربي، حيث يتصدر قائمة المسلسلات المصرية في رمضان 2024، ومنها استخدام اللهجة العامية بدلاً من الفصحى على لسان الشخصيات في سرد أحداث المسلسل التاريخي؛ المسلسل تدور أحداثه بين الأتراك والفرس، وحينما قدمه الأتراك استخدموا اللغة التركية، وكذلك النسخة الأمريكية منه كانت باللغة الإنجليزية.
وليس يهمني في هذه الورقة كل الحيثيات، يقدر ما يهمني أمر تلك الفرقة الأكثر دموية في التاريخ، والتي أرعبت العالم على مدى قرنين من الزمان، حيث اتخذوا من الموت طريقا للخلود فغيروا مجرى التاريخ باغتيال أهم الشخصيات وذلك بعد أن تخفوا في دهاليز الجبال الشاهقة، وتحصنوا في قلعة آلموت الغامضة التي تناطح السحاب، وتختفي عن الأنظار تحت قيادة أخبث حشاش عرفه التاريخ، فمن هؤلاء القتلة، وكيف غيروا مجرى التاريخ، وهل حقا ارتعد منهم حكام المسلمين.
والبداية جاءت في عام 485 هـ في بلاد فارس، حيث كان الوزير نظام الملك في رحلته من نهاوند إلى بغداد، وأثناء توقفه في إحدى القرى الهادئة، خرج من هودجه نحو خيمة زوجته، ولكنه لم يدرك أن الموت يتربص به، فظهر أمامه صبي فارسي، يرتدي زي الصوفية، ومعه خصله شعر، وعرض أن يقبل منه خصلة الشعر، فمد نظام الملك يده ليلتقطها، لكنه لم يكن يعلم أنها ستكون آخر شيء يمسه، وفي لحظة غفل، وقبل أن يفكر طعنه الصبي بسكين في قلبه، ثم فر الصبي هاربا، لكنه تعثر بحبل الخيمة، فألقى القبض عليه، وتم إعدامه على الفور. أما الوزير نظام الملك فحمل إلى خيمته وما لبث قليلا حتى مات.
انتشر الخبر بين العوام كما انتشر النار في الهشيم، ومن هنا انتشر وجود جماعته منفذة للاغتيالات، ولكن سرعان ما اختفى الخبر عنهم من جديد بعد عشر أعوام من اغتيال نظام الملك شهدت بلاد الشام ضربة أخرى، لكن هذه المرة كانت أكثر تطورا، فلم تقتصر على فرد واحد، بل على ثلاثة أفراد مع الاحتفاظ بنفس الأسلوب، كان حاكم حمص الأمير جناح الدولة متوجها من القلعة إلى الجامع ليصلي صلاة الجمعة، وكان برفقته عساكر مسلحون لتأمين وبعد فروغ جناح الدولة من الصلاة تقدم إليه ثلاثة نفر من العجم، من بينهم شيخ وكان في زي الزهاد، فراحوا يدعون له ويحدثون في بعض المسائل فوعدهم بتلبية طلباتهم، ولكن في لمح البصر اقتربوا منه كفاية وانقضوا عليه بخناجرهم فقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه.
من هنا عادت تلك الجماعة والتي عُرفت بالحشاشين للأذهان مرة أخرى،لكن كانت أكثر قوة وخطرا من ذي قبل، واتضح أنها حركة شيعية منفذة لعمليات الاغتيال تحت عباءة الدين، وقائدهم "الحسن بن الصباح" القاطن بقلعة " آلموت" الذي أعلن لأتباعه أنه يمتلك مفاتيح الجنة.
فمن هم الحشاشون؟، ومن هو قائدهم الذي يمتلك مفاتيح الجنة؟ ومنهم حشاشهم المزعوم الذي وصف نفسه بالشيطان الشيعي اللعين؟
ولد الحسن الصباح في مدينة " قم " الإيرانية عام 428 هـ والتي كانت مركزا للشيعة الاثني عشرية، ثم انتقلت عائلته إلى مدينة الري مركز نشاط الطائفة الإسماعيلية الفاطمية، فانتهج طريقتها وعمره 17 عاما، فكانت تدعو إلى التطرف والمغالاة وتأويل القرآن بشكل مبتذل، وذلك لأغراض سياسية وعنصرية بعد فترة من العمل على نشر المذهب الشيعي وإفساد عقول الآخرين، خرج ابن الصباح إلى مدينة أصفهان، وأقام فيها عامين ليكمل دعوته ثم خرج منها إلى مصر عام 471 هـ وهناك سرعان ما شمله الخليفة الفاطمي " المستنصر بالله" برضا وأغدق عليه وأمره أن يدعو الناس إلى امامته فقال له الصباح، فمن هو الإمام بعدك، فأشار إلى ابنه " نزار".
ومنذ تلك اللحظة دان ابن الصباح بالولاء لنزار ابن المستنصر، حتى جاء الحدث العظم التي تفرعت منه كل الأحداث التالية، وهو وفاة "المستنصر بالله"، فانقسم الإسماعيليون إلى جماعتين متنافستين هم: النزارية والمستعلية، نجح الوزير الفاطمي القوي " بدر الدين الجمالي" صاحب السلطة المطلقة والفعلية حين ذاك في تنصيب ابنه الأصغر ولقبه بالمستعلي بالله، حارما بذلك نزار الأبن الأكبر وولي العهد من حقه الشرعي في ولاية ابيه، ومنذ ذلك الوقت أخذ ابن الصباح يدعو لنزار أكبر أولاد المستنصر.
فبدأ ابن الصباح بالدعوة لإمامة نزار وتوجهت دعوته إلى يزد وكرمان وطبرستان ودمغ وولايات أخرى من إيران فتمرس في الدعوة، واكتسب أنصارا كُثر، ومن الملاحظ اختياره مدنا شيعية معادية لأهل السنة أو قابلة لانتشار المذهب الشيعي فيها، فلكلما كان أهل المنطقة معادين لحكام السنة كان الأمر أيسر بالتلاعب بعقولهم وتجنيدهم واستمر على ذلك لمدة ثلاث سنوات حتى أصبح خطرا داهما على وجود السلاجقة في فارس، فصدر قرار باعتقال الحسن الصياح واتباعه وتقفى أثرهم.
هنا خطرت له فكره ستغير مجرى التاريخ، إذ فكر الصباح في الحصول على حصن منيع يحميه وأنصاره، ويكون مركزا لوضع الخطط الخبيئة، تمهيدا لعملية القتل، فاتجهت عيناه نحو الشمال، حيث هضبت الديلم، وقد كان لاختياره هذا سببان: الأول: إن غالبية سكان الديلم شيعة فهم أكثر الناس استعدادا لاعتناق " الإسماعلية النزارية".
علاوة على كراهيتهم الشديدة لأهل السنة وحكامهم، والثاني، تمثل في استراتيجية السيطرة على أكبر عدد من القلاع الحصينة في المنطقة الجغرافية المحيطة بالعراق مركز الخلافة الإسلامية السنية، فمن هذه القلاع ما أخذوه بالحيلة بواسطة دعاتهم، ومنها ما أخذوه بقوة سلاح ميلشياتهم بعد ارتكاب مجاز وتصفيات دموية ضد كل من عارضهم.
هنا وجد "الحسن الصباح" ضالته في حصن منيع يحميه من مطاردات السلاجقة ويستطيع تحويله إلى قاعدة مستقرة وآمنه لنشر المذهب الشيعي تمثل ذلك الموقع في قلعة آلموت المنيعة التي تقع على صخرة عالية في منطقة وعرة وسط الجبال وارتفاعها يزيد عن 6000 متر، حيث بُنيت القلعة بطريقة شديدة الإحكام، فليس لها إلا طريق واحد للوصول إليها ويصعب على الغراة اقتحام هذه الطريق الوعرة، لكن لم يعرف بدقة من بنى تلك القلعة، إلا أنه يقال أنها بنيت بواسطة أحد ملوك الديلم القدماء، وأُطلق عليها اسم " الوه اموت"، ومعناه " عش النسر".
وهنا قرر ابن الصباح بعد دراسة متأنية للاستيلاء عليها، وكانت مملوكة لشرف شاه الجعفري، فاستخدم ابن الصباح أسلوبه الخبيث لجذب المزيد من الأنصار والتأثير في صاحب القلعة، واستمال أهلها بفضل قدرته على الإقناع وإظهاره للزهد والتقوى، ففي يوم دخل ابن الصباح إلى القلعة، وأعطى للعلوى ثمنها وطلب منه الخروج، لكنه رفض، حينها أمر ابن الصباح رجاله بإخراجه بالقوة، ومن هنا عُرف الحسن بن الصباح بشيخ الجبل، وبذلك أصبحت قلعة آلموت معقلا تاريخيا للحشاشين، ومن ستدار الخطط حول الشخصية التالية في قائمة الاغتيالات.
وهنا نستعرض أسطورة غريبة ارتبطت بالقلعة، وتناقلت الأجيال، فيقال أن القلعة بها حدائق وجداول من لبن وعسل وحسناوات هن أجمل ما يكون أعدها ابن الصباح ليوهم أتباعه أنها الجنة، وأن مفتاحها معه، وذلك باستخدام حيلة ذكية لجعلهم يصدقونه، فكان يخدره عن طريق شراب من الحشيش، ثم يأمر بإدخالهم إلى الجنة، فيمكث بها عدة أيام قبل أن يأمر ابن الصباح بتقديرهم من جديد، وإخراجهم منها، ثم يكون شرط العودة إليها هو تنفيذ عمليات الاغتيال،وذلك في حال نجاح العملية، أما إذا ما فشلت وقتل، فتحمله الملائكة إلى جنة آلموت.
بيد أن كثير من الكتاب والباحثين أنكروا ذلك بسبب شدة برود المنطقة، وتساقط الجليد طوال نصف العام، فالرأي الراجح عند أغلب المؤرخين أن ابن الصباح نصب نفسه نائبا للإمام المعصوم نزار، ولا يمكن لأحد أن يعرف الدين، إلا من الإمام المعصوم أو نائبه، فقدسوه الحشاشون ودانوا له بالطاعة العمياء.
اختلفت الآراء حول سبب تلقيب الفرقة بـ" الحشاشين"، فقيل لأنها كانت تختفي وسط الحشائش لاغتيال معارضيها، وقيل لشربها الحشيش قبل عمليات الاغتيال، حتى لا تتراجع عنها وسط تأثير هذه المادة المخدرة، واشتهرت تلك الفرقة بالدموية الشديد ة والجرأة، فقد ارتكبوا تحت ستار الدين، وعرفوا بمهارتهم الغير متوقعة في الاجهاز والقتل ومنها صارت assasain (اساسن) بالإنجليزية وتدل على الاغتيال، ويقال أيضا أنهم عُرفوا بحسسان،نسبة إلى شيخ الجبل الحسن بن الصباح، وأيضا عساس وهي مشتقة من عساسون، وهي مشتقة العسس الذين يقضون الليالي في قلاعهم وحصونها لحراستها، وكذلك عرفوا بالملاح بالملاحدة الذين لا يؤمنون بالله.
وما سنذكره الآن يكشف حجم الرعب الذي أثارته هذه الفرقة على مدى قرتين من الزمان، فجاء في تقرير إلى الإمبراطور الألماني " بارباروسا " سنة 580 ه الوصف التالي:" له سيد يلقى أشد الرعب في قولب كل الأمراء العرب القريبين والبعيدين على السواء، وكذلك يخشاه كل الحكام المسيحيين المجاورين له لأن من عادتهم أن يقتلوه بطريقة تثير الدهشة".
لقد كان يتم تدريب الحشاشين على وسائل الهجوم على وسائل الهجوم، واستخدام الخناجر والقدرة على التخفي وتقمص الشخصيات، وبعد مرحلة تكوينهم وإعداد شخصيتهم الإرهابية، كان ابن الصباح يشرح لهم خطة العملية التي سيقدمون عليها، وكانت هذه الخطة تهدف إلى اغتيال شخصية ما في مكان عام، ويمر من الناس لإثارة الرعب فيهم، مثل الجامع في يوم الجمعة كعملية اغتيال لجناح الدولة أو موكبا عظيما وسط الحرس والجنود،مثل اغتيال نظام الملك، وعلى مقربة من الهدف،وكانوا يتخفون تارة في ملابس النساء، وتارة في ملابس الجنود، لكن في الأغلب، كانوا يتخفون بزي متصوفة، أو دراويش، حتى لا يتوقع منهم الحرس أي شر أو أذية، ووصل بهم الأمر في بعض الأحيان إلى أن القاتل كان يواظب على حضور دروس عالم الدين إذا استهدفه كضحية، فيظهر نبوغا وحبا في التعلم، ويتبعه حتى ينال ثقته، ثم يجهز عليه.
وكانت الشخصيات المستهدفة تتربع على قمة المجتمع السياسي والعسكري والعلمي، فقد تمكن الحشاشون من اغتيال الخليفة العباسي " المسترشد بالله"، ومن بعده الخليفة " الراشد"، كما اغتالوا الخليفة الفاطمي " الحاكم بأمر الله"،الذي دخل في صراع في حرب عقدية وإعلامية ضد الحشاشين، وألف كتابا بعنوان " الهداية الآمرية في إبطال الدعوى النزارية "، فهاجم الحشاشين، ودافع عن إمامة أبيه " المستعلي"، فما كان من الحشاشين، إلا أن قرروا اغتياله، فتربصوا له حين دخوله لجزيرة الروضة، وأجهزوا عليه ؛ ولم يكن الحاكم بأمر الله الأخير، فقد تعددت قائمته الاغتيالات، والتي كان من بينها ملك بيت المقدس الثالث عشر " كونراد اوف مونتفيري".
بيد أن الأقدار قد شاءت أن يهلك ابن الصباح عام 518 ه في قلعة آلموت،وأُشيع عنه قتله لأبنائه، لكن المصادر نفت ذلك، فقد خلفه ابنه "بزر جميد" في قيادة الطائفة، فدعا أتباعه إلى مواصلة الدعوة حتى ظهور الإمام المستتر وفقا لمعتقدات الإسماعيلية، والجدير بالذكر الإشارة إلى أن هناك شخصيات نجحت في صد هجمات الحشاشين، وكسر شوكتهم، وعلى رأسهم السلطان الناصر " صلاح الدين الأيوبي"، الحاكم السني، وكان ذلك في عهد رئيس الحشاشين "راشد الدين سنان"، حفيد ابن الصباح، وهي شخصية لم تكن تقل خطورة عن أبائه وأجداده، حيث حاول اغتيال " صلاح الدين" مرتين، فكانت الأولى عام 570ه أثناء حصار صلاح الدين لحلب بإيعاز من وزراء الصالح بن نور الدين زنكي، فاستعان الوزراء بالحشاشين، مقابل وعود ومكافآت عدة، فنجح الحشاشون في التسلل إلى خيمة صلاح الدين، لكن تعرف عليهم " ناصح الدين " أمير أبي قبيس ودخل معهم حينها في قتال، وقتل على أيديهم، ونشب عراك بينهم وبين صلاح الدين وجنوده، حيث قتل فيه العديد من الجنود ولم يصب صلاح الدين بأي أذن. أما المحاولة الثانية لاغتيال صلاح الدين كانت أثناء حصاره لمدينة " عزاز" عام 571ه حينها تخف الحشاشون في زي جنود صلاح الدين، فتربصوا له وضربوه على رأسه، لكن بسبب خوذته الشهيرة لم يصب إلا بجروح طفيفة، ودخل معهم في قتال عنيف هو وحراسه، فقتل صلاح الدين وجنوده كل الحشاشين، وبعد هذه المحاولة عزم على سحقهم وإيادتهم قبل أن يستفحل شر الحشاشين مجددا، فهاجم صلاح الدين قلعة "مصياف" معقلهم الرئيس، فدكها وحاصرهم حصارا شديدا.
طلب سنان شيخ الجبل من حاكم حماه، وخال صلاح الدين الغفران والتفاوض، وبالفعل انتهت المفاوضات بهدنة بين صلاح الدين وسنان، ولاشك أن صلاح الدين كان موفقا في هذا الإجراء، فكان يسعى لتحييد الشيعة للتفرغ للخطر الصليبي الأكبر.
لكن ظلت فرقة الحشاشين في طليعة الحركة الإسماعيلية في ارتكاب المجازر والانتقام من خصومهم، حتى جاء هولاكو فحاصر قلعة آلموت عام 1256 م، واستمر حصارها ثمانية أشهر، وانتهى الأمر باستسلام ركن الدين خورشاه زعيم الحشاشين، واشترط عليهم هولاكو تسليم جميع قلاع الحشاشين، وقتل جميع من تجاوز عمره العاشرة، وتم بيع الباقين في أسواق الرقيق محطما موقعهم في الشرق.
بيد أنه بعد هذه المأساة حاولوا النهوض مجددا متطلعين لاستعادة نفوذهم من خلال كسب ثقة ركن الدين بيبرس حاكم مصر والشام والتعاون معه، لكنهم واجهوا قرارا قاطعا من السلطان بيبرس الذي لم يسمح ببقاء طائفة مستقلة في قلب الشام، فأمر بتحصيل الضرائب والرسوم، فلم تكن لهم القدرة على الاعتراض على هذا القرار، ومع مرور الوقت أصبح الظاهر بيبرس هو الذي يعين قادة الحشاشين بعد سقوط قلعة آلموت ، حيث تحول رئيس الحشاشين إلى مجرد ممثل لسلطة بيبرس، وبهذا الشكل وصلت الحركة إلى نهايتها الكاملة إلى أن انتهى إلى وجود تلك الحركة تماما.
***
أ. د. محمود محمد علي – كاتب مصري.
..........................
المراجع:
1- برنارد لويس: الحشاشون فرقة ثورية.
2- الحشاشين، سر الطائفة التي أرعبت العالم!! وشيخهم الصباح..