أوركسترا
عدنان حسين أحمد: "المجهول".. عاشق البحار والمتيّم بالسفن الشراعية

ضمن فعّاليات الدورة الثانية لمهرجان بغداد السينمائي الذي انعقد للمدة من 15 ولغاية 21 / 9 / 2025 اشترك في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة 23 فيلمًا قصيرًا خضعت لمشاهدة وتقييم لجنة تحكيم الفيلم الروائي القصير برئاسة الناقد السينمائي علاء المفرجي وعضوية الفنانة داليا البحير والناقدة السينمائية التونسية وحيدة دريدي الذين ارتأوا أن يمنحوا ثلاث جوائز تقديرية أخرى حيث ذهبت الجائزة التقديرية الأولى، لفيلم "شكراً لأنك تحلم معنا" إخراج ليلى عباس من فلسطين، كما ذهبت الجائزة التقديرية الثانية لفيلم "دعاء العشاء" إخراج محمد كمال من السودان، بينما أُسندت الجائزة التقديرية الثالثة لفيلم "كان نفسي" لأسامة القزاز من مصر، وشهادة تقديرية أخرى كانت موجود ضمن سياق الجوائز الأساسية لفيلم "الموعد" إخراج سفيان بن يوسف من الجزائر، وجائزة التحكيم الخاصة لفيلم "عَ الحافة" إخراج سحر العشي من تونس، وجائزة أفضل فيلم روائي قصير "سحر" لكحيل خالد من العراق. وعلى الرغم من أهمية هذه الجوائز الستة إلّا أن ذلك لا يعني أن بقية الأفلام الـ 17 لا قيمة لها فالعديد منها يتوفر على خصائص ولمسات فنية لا يمكن نكرانها أو غض الطرف عنها وفيلم "المجهول" للمخرج العُماني هو أحد هذه الأفلام القيّمة التي تستحق التأمل والمراجعة النقدية الحاذقة.
ثُريا النص السردي
إذا كان العنوان هو "ثُريا النص السردي" وعتبته التي تُفضي إلى القصة السينمائية فإن الفيلم الروائي القصير الذي يحمل أكثر من عنوان، الأول رئيسي تتمحور عليه الأحداث وهو (المجهول) والثاني فرعي أو مؤازر وهو (سر اختفاء موسى) للمخرج العُماني محمد الكندي فإننا بالضرورة نقف أمام فيلم روائي يتكئ على الخرافة المحلية أو الأسطورة التي تجترحها الذاكرة الشعبية التي لا تعوّل على المنطق أو العلم كثيرًا فلا غرابة أن تذهب في الاتجاه المعاكس الذي يعتمد على الأوهام والتصورات المُتَخيلة التي لا تُعززها الأدلة والبراهين العلمية المُقنعة. يؤكد المخرج في ملخّص الفيلم بأنّ (المجهول) دراما تاريخية تدور أحداثها في سبعينات القرن الماضي وأنه قصته المحورية جذّابة آسرة ومليئة بالإثارة والترّقب ويسعى بطلها وراء الحرية والمغامرة وعلى الرغم من أنّ أحداثها تدور في قرية عُمانية صغيرة إلّا أنها تنفتح زمانيًا على سبعينات القرن الماضي، ومكانيًا لتغطي قرىً أخرى وبساتين غنّاء، وأماكن جبلية وعرة، وبحر شاسع يمتد على مدّ البصر.
ينقسم الفيلم مبدئيًا إلى ثلاثة أقسام وهي كالآتي: ثلاثون يومًا منذ اختفاء موسى، وثلاثون يومًا قبل اختفاء موسى، والحاضر. وما يوحّد هذه الأقسام هي القصة السردية التي تتعلق باختفاء موسى والعثور عليه، والنقاش الحاد الذي يدور بينه وبين والده المتشبث بالأرض والمزرعة التي يرعاها، ورغبة موسى في ركوب البحر لأنه متعلق بالسفن والمراكب الشراعية ورغبته في اكتشاف العالم وإقراره بعدم حُبه للزراعة مثل والده وجده وأسلافه الذين تعلّقوا بالأرض وكرسوا كلّ حياتهم لها.
يعتمد الفيلم في بنائه السردي على شخصيات ثنائية أو ثلاثية في أبعد الأحوال حيث نرى ناصر وموسى اللذين يستمران في حضورهما الفعّال منذ مطلع الفيلم حتى نهايته، وشخصيتيّ المزارع الأول والثاني اللذين يتجاذبان أطراف الحديث عن الإمساك بالجن، وشخصيتيّ الرجل الأول والرجل الثاني اللذين سيتفادان المرور بقرية موسى التي تحوّل فيها الرجل الذي مرّ فيها إلى حمار! وهناك شخصيات أُخر تندمج في أحاديث جماعية مثل إمام المسجد أو عائلتيّ ناصر وموسى وما سواها من الشخصيات التي تنهمك في أحاديث جانبية تمنح النص السردي والبصري في آنٍ معًا نكهة خاصة ومتعة يشعر بها المتلقّي العضوي الذي يندمج مع القصة السينمائية ويتفاعل معها ويُصبح جزءًا من نسيجها السردي.
بصمة التقنيات الهندية
وقبل الغوص في تفاصيل القصة والسيناريو والحوار الذي كتبه المخرج المنفِّذ شايلش ميندون ويوسف البو سعيدي لا بدّ أن نشير إلى معطيات هذا الفيلم الجمالية من بينها التصوير والمونتاج، فقد لعب أبهي مانيو دانج دورًا مهمًا كمدير تصوير وقدّم لنا صورًا ومَشاهد لا يمكن أن تغادر ذاكرة المتلقّي مثل حاملي المشاعل الذين يجوبون المزارع والغابات الكثيفة الأشجار ليلًا أو مَشهد أشجار النخيل التي صوّرت من الأعلى وغيرها من اللقطات الجميلة الساحرة على مدار الفيلم الذي بلغت مدته 20 دقيقة وهذا الأمر ينسحب على الموسيقى التصويرية لـ (ديب سي) ومونتاج شايلش ميندون.
حينما يختفي موسى يجري البحث عنه أول الأمر بواسطة ثلاث مجموعات لا تفضي إلى شيء محدد ثم يذهبوا إلى مسجد الحارة حيث يدعوهم الإمام إلى التعاون والتكاتف والبحث عن موسى في قرية الشيخ بلال بثلاث مجموعات أيضًا مع التركيز على البيوت القديمة فلربما هدّه التعب وسيطر عليه الخوف ونام في أحد المنازل المهجورة، أمّا المجموعة الثانية فتبحث في الحارات المجاورة لقرية موسى بينما تقصد المجموعة الثالثة والأخيرة القرى الجبلية وما تنطوي عليه من أودية وسهول إضافة إلى البحث في ساحل البحر.
المكوث في دائرة الخُرافة
لم تعثر مجموعات العائلة أو المسجد على موسى ولكي يُبقينا المخرج وكاتب السيناريو في دائرة الخرافة التي تنسجها الذاكرة الشعبية يقدّم لنا حكاية المُزارعَين اللذَين يَنصبَ جُل حديثهما عن الجن الذي مسكهُ أحدهما كما تُصور له مخيلته الكاذبة فهو أضعف من أن يمسك حشرة. لم تكن صورة الجني غريبة على مُخيلة الأطفال، فالجن عمومًا لهم قرون طويلة، وعيون حمراء مثل الجمر المتقد، ولهم قامات طويلة مثل أشجار النخيل. وأنّ الأمهات غالبًا ما يتحدثنَ عن إمكانية تحوّل الجن إلى أي شكل كأن يكون معزى أو حيوان آخر. لا يمكن للجميع أن يفكروا بطريقة واحدة فثمة رجل كبير يعزو التفكير بالجن إلى مشكلات صحية أو عقلية وهو لا يقتنع بطروحاتهم الساذجة عن مرض شخص يُدعى (شيخان) الذي تدهورت حالته الصحية بعد العلاج وصار يختفي عن بيته ويذهب إلى قرية ثانية. بينما ذهب البعض الآخر إلى أن (شيخان) قد أصبح ساحرًا وبدأ يتكلم مع الحيوانات والجن الأمر الذي يضعنا أمام شخصيات فنتازية عجيبة وغريبة حتى أن الحيوانات والطيور صارت تتصرف تصرفات غريبة وتُطلق أصواتًا عالية تلفت الانتباه.
أحلام اليَقَظة
يكشف القسم الثاني المعنون (ثلاثون يومًا قبل اختفاء موسى) عن رغبة موسى وولعه في القوارب الشراعية التي يراقبها من ذروة جبل صخري شاهق، وقد وقع في حُب قارب شراعي كبير يحمل ثلاثين بحّارًا، وقد رآه ذات مرة يحمل العديد من الجِمال. وأعرب عن رغبته حينما يشبّ عن الطوق أن يشتري مثل هذا القارب وينفّذ مغامراته الشخصية ويعيش حياة جديدة تختلف عن حياة المزارعين في قريته وأن يكتشف العالم بنفسه. لا يشترك أقرانه في هذا الحلم لأنهم مهووسون بزراعة الأرض وجني ثمارها. يغرق موسى في أحلام كثيرة ولا يعيش الواقع إلّا لِماما ولعل لقاءه مع النوخذة هو واحد من هذه اللقاءات الحُلُمية التي تتكرر في حياته اليومية فهو يجلس ساعات طويلة على ساحل البحر منتظرًا قاربه الشراعي المفضّل ويتمنى أن يراه من الداخل لكننا نكتشف أنه محضَ حلم لا غير!
قد يكون لقاء الأب بابنه موسى هو واحد من اللقاءات النمطية التي لا تُقدّم ولا تؤخر مع أنّ مضمونها حقيقة واقعة فالآباء والأجداد هم الذين حوّلوا هذه الأرض الصحراوية القاحلة إلى بساتين خضراء، وهم الذين شقّوا (الأفلاج) في الأرض الصخرية بأيديهم وسواعدهم التي لا تعرف الكلل أو الملل من أجل الأولاد والأحفاد والأجيال القادمة. وغالبًا ما يصف الأب هذا العمل الجبّار بالإرث الذي يجب أن يحافظوا عليه فهو قصة كفاح لا بدّ لها أن تستمر.
الحياة حكاية لا تنتهي فصولها
يعتقد النوخذة الذي يجد نفسه في موسى بأنّ الحياة حكاية تشبه هذه البحر الكبير لا تنتهي فصولها وقد كتبها أسلافنا وأجدادنا وأباؤنا. فما الذي تريدهُ يا عاشق السفن والمراكب الشراعية؟ هذا سؤال جوهري يضع الشاب موسى أمام خيارين لا ثالث لهما: هل تريد أن تتبع حكاية الأولين أم تريد أن تكتب مغامرتك لوحدك وتروي قصتك للأجيال القادمة؟
ينطوي القسم الثالث والأخير على أحداث شحيحة فموسى يتجول في أرجاء السفينة من الداخل ويتأملها بدقة. أما الصبي ناصر فهو يُذكِّر صديقه موسى الذي قال له ذات مرة:"إذا تطلع في الليل وأنتَ صغير راح تكون شجاع وأنت كبير؟" ولهذا السبب فقد طاوعه وغامر في الخروج ليلًا لكنه رفض رفضًا قاطعًا فكرة الذهاب معه غدًا. تعاودنا حكاية الجن ثانية حيث ادّعى ناصر أن الجن قد مسكه من دشداشته من الخلف وأصابه بذعر شديد لكننا سنكتشف أنّ الذي مسكهُ من الخلف هي شوكة غصن الليمون لا غير. ويبدو أن السنوات العشر التي بلغها لم تزرع في نفسه الشجاعة الموجودة عند غالبية الأطفال القرويين الذين يتصرفون بقلوب جامدة لا يتسلل إليها الخوف أو الرعب من أي حدْب أو صوب.
تقديم الهُوية العُمانية
يدّعي المخرج الدؤوب محمد الكندي أنّ هذا الفيلم الروائي القصير يُقدِّم إضافة إلى القصة السردية والمتعة البصرية الهُوية العُمانية سواء من خلال القصص والحكايات التي يرويها أبطال هذا الفيلم، كما يستعرض جماليات الطبيعة العُمانية الساحرة التي تتنوع بين السهول والتلال والجبال التي تشقّها الأفلاج في عموم السلطنة، وكذلك البحر الواسع الذي يحتضنها من جانبين كبيرين. لا يمكن لمُشاهد هذا الفيلم أن يغضّ الطرف عن سحر القرى الطينية وجمالها الأخّاذ حيث تُحيطها أشجار النخيل الوارفة مثل أم رؤوم. ولو حاولنا الربط بين مضمون الفيلم وعناصره البصرية المختلفة لوجدنا استجابة كبيرة بين القصص الشعبية ومحيطها الخارجي الذي يخلق بيئة محلية صادقة لا يفرّط بها مهما كبُرت الإغراءات.
تعدد المواهب والاختصاصات
بقي أن نقول إنّ محمد الكندي هو صانع أفلام عماني مشهور، وممثل، وعضو في مجلس إدارة الجمعية العُمانية للسينما ومؤسس لها. من مواليد 3/4/1970م ولاية نزوى - سلطنة عُمان. حاصل على شهادة البكالوريوس بتخصص إنتاج وإخراج تلفزيون وسينما - من جامعة جريف - كوينزلاند في أستراليا - 2006. لعب دورًا كبيرًا في توثيق وتشكيل صناعة الأفلام في عُمان. حاز على العديد من الجوائز الدولية عن أفلام قصيرة ووثائقية. أصدر مؤخرًا كتاب "تحولات السينما العُمانية" 1970-2020 الذي يوثق تطور السينما العُمانية على مدى خمسة عقود.
تنقسم تجارب الفنان المبدع محمد الكندي إلى قسمين رئيسيين يتوزعان بين التلفزيون كمخرج وممثل وبين السينما كمخرج ومُنتج منفِّذ . يمتلك الكندي سيرة إبداعية كبيرة يصعب حصرها في هذا المجال ويمكن اختصارها بشِقّين رئيسيين وهما إنجازه لعدد من الأفلام الوثائقية نذكر منها "اكتشاف حُطام فاسكو دي غاما"، " كنوز عمان البحرية - محافظة مسندم" و "الشدود الصناعية ". أمّا في حقل الأفلام الروائية فقد أنجز الكندي عددًا من الأفلام نذكر منها "النسخة" و "الخطيئة" كمشرف فني و "أزرق ربما" كمخرج، و "المجهول" كمخرج وممثل معًا. نالت أفلامه العديد من الجوائز المحلية والعربية والدولية ويكفي أن نشير إلى أنّ فيلم"فيلم كنوز عمان البحرية"2012م قد حصد أربع جوائز مهمة بضمنها الجائزة الذهبية في المهرجان الدولي الثاني للبيئة في رومانيا والجائزة الذهبية في مهرجان الخليج للاذاعة والتلفزيون سنة 2012.
***
عدنان حسين أحمد - بغداد