أوركسترا

عدنان حسين أحمد: تحية للبيشمركة..

تحية للبيشمركة..

المُضحّين بالغالي والنفيس من أجل حرية كوردستان

***

يقترن اسم المخرج الكوردي حسن علي بالأفلام الدرامية والكوميدية والرومانسية لكنه يفاجئنا هذه المرة بفيلم أكشن يحمل عنوان "خلف السَحاب: تحية للبيشمركة" كتب قصته الممثل أحمد رامبو وجسّد دور البطولة فيه مناصفة مع الفنان شمم الحسن. وقد أتقنَ الاثنان دورَيهما وتألقا فيه بطريقة لافتة للانتباه، خاصة وأنّ هذا النوع السينمائي نادر في السينما العراقية إلّا باستثناءات محدودة.

تدور قصة هذا الفيلم حول صحفية أجنبية دخلت للحدود العراقية بطريقة غير شرعية حيث أوصلها أحد "العملاء"  إلى مقر قيادة المتمردين في شمال العراق. المطلوب القبض على هذه الصحفية حيّة تُرزق مهما كلّف الثمن لأنها تريد تصوير مواقع البيشمركة بطريقة تسيء فيها إلى سمعة البلد وسيادته في الخارج مُتذرعة برصد المظالم التي يتعرّض لها الشعب الكوردي من قتل وحصار وتشريد على أيدي أزلام النظام الدكتاتوري السابق. يجب أن تُقرأ هذه الثيمة من وجة نظر الكورد أيضًا لكي تكتمل الصورة، فالدليل الذي أوصل الصحفية الأجنبية ليس "عميلًا" وإنما هو شخص وطني يعمل لمصلحة شعبه، وأنّ قادة البيشمركة يرومون عرض مظالم شعبهم في أجهزة الإعلام الأوروبية لكسب التعاطف الغربي، ولهذا السبب فإنهم يسعون لإيصال هذه الصحفية إلى الحدود التركية عبر أراضي كوردستان الوعرة التي تغطّيها الثلوج في فصل الشتاء قارس البرودة.

يبدأ الفيلم بغارة شنّتها حضيرة البيشمركة على موقع القوات الخاصة التي تمركزت من مقر صغير لأحد الفصائل الكوردية وخطفت منه أسيرًا يُدعى عبدالله وقررت إخلاء سبيله لأنه شخص مسكين لا حول له جيء به إلى هذا المكان من دون إرادته وعلى الرغم من اتفاق غالبية أفراد المجموعة على إخلاء سبيله إلّا أن "شيرا" هو الشخص الوحيد الذي يريد قتله وتمزيقه إربًا إربا بحجة أن الجيش العراقي قد دمّر بيوت الناس وقتل الأطفال والنساء. ومع ذلك يحررونه من أسْره وسوف يعود لاحقًا إلى وحدته العسكرية المكلفة بالقبض على الصحفية الأجنبية للحيلولة دون نشر الفيديوهات التي تصوّر عذابات الشعب الكوردي واللقاءات مع قادة وأعضاء البيشمركة الذين يقاتلون من أجل الحرية والاستقلال والعيش الكريم في ربوع كوردستان.

ينقسم الفيلم الذي تبلغ مدته 104 دقائق إلى سبع مواجهات رئيسة بين البيشمركة وقوات النظام التي تبحث عن حضيرة معادية تتألف من سبعة أشخاص ينضوون تحت إمرة كاكه شين وهم درويش وجوامير وشيرا وكارزان والطبيب إضافة إلى الصحفية الأجنبية إيزابيل التي جسّدت دورها الفنانة الألمانية "ليوني زومر".807 luni zomar

قصة عاطفية تكسر إيقاع المواجهات العسكرية

 تَناقش كاكه شين مع أحد المسؤولين الكورد على الطريق الآمن الذي يجب أن يسلكه مع أفراد حضيرته لكي ينجحوا في إيصال إيزابيل إلى الحدود التركية على أن يذهبوا بـاتجاه "ماماند"، ويمرّوا من تحت جبل "قنديل" ويعبروا  "روسته هالغرد" ويتفادوا المرور بـ "حصاروت" المغطى بالثلوج في هذا الفصل من السنة ثم يواصلوا طريقهم إلى "ميتين" ومن هناك يذهبوا باتجاه جبال "آشيتا" حتى يصلوا إلى الحدود التركية. نجح أحمد رامبو في كسر إيقاع هذا الفيلم الحربي بقصة عاطفية جميلة بين كارزان ونازدار التي أهداها قلادة قبل مشاركته في مهمة إيصال الصحفية الأجنبية إلى الحدود التركية وظلت نازدار تتواصل مع أمه وتسألها عن عودة الحمامات الزواجل التي اصطحبها كارزان في رحلته المحفوفة بالمخاطر. كما طعّم الكاتب فيلمه بقصة قديمة جدًا مفادها أنّ إنسان النيادرتال الأول قد عاش في كهوف هذه الجبال حيث وجدت بعثة أمريكية سبعة هياكل عظمية تعود إلى 65000 سنة مضت وهي موجودة الآن في متحف واشنطن. وقد تشكّى الراوية بأنه لا أحد يسمح لهم بأن يعيشوا بحرية وسلام على أرضهم.

يمكن اعتبار "خلف السحاب: تحية للبيشمركة" فيلمًا حربيًا بين الجيش العراقي والبيشمركة؛ وهي قوة شبه نظامية لا تمتلك في حينه سوى الأسلحة الخفيفة والمتوسطة في أفضل الأحوال. وسوف تحدث سبع مواجهات بين الطرفين تنتهي بوصول الصحفية إلى الحدود التركية وإعدام كارزان وعبدالله، ومقتل الملازم الأول رعد في المواجهة السابعة والأخيرة ليصل الفيلم إلى هذه النهاية التراجيدية المؤلمة والمؤئرة جدًا.

في المواجهة الأولى يمسك الملازم أول رعد بكاكه شين، لكنه يتخلص منه بمساعدة أفراد حضيرته، ويُصاب درويش في جبينه وساقة اليسرى الأمر الذي يعرّضه إلى متاعب في السير والتنقّل في هذه المنطقة الجبلية الوعرة جدًا، ناهيك عن الظروف المناخية الصعبة في تلك المضارب.

الذئاب الجائعة في متاهة الثلج

يعترض شيرا في المجابهة الثانية على درويش لاختياره طريقًا صعبًا جدًا فاقَم صعوبته ظهور الذئاب الجائعة التي أوشك أحدها أن يُدهم إيزابيل لولا وجود كاكه شين بالقرب منها، كما تدحرج جوامير من منطقة مرتفعه ودفنته الثلوج المنهارة. تدور بعض الأحاديث اللطيفة بين كاكه شين وإيزابيل التي أكلت البلوط الكوردي وأصبحت بيشمركة على اعتبار أنّ من يأكل طعامًا كورديًا يصبح بيشمركة وحينما تسأله عن المعنى المحدد لكلمة بيشمركه يجيبها بأنها "تعني الشخص الذي يواجه الموت من أجل كوردستان". كما تسأله عن إمكانية حلول السلام في ربوع كوردستان في يوم ما فيجيبها بأنه يفكِّر دائمًا في اليوم الذي يحلُّ فيه السلام في كوردستان وأن يكون لهم بلد مثل كل البلدان، وأن يعيش أطفالهم بسلام. ثمة كمائن أخرى في انتظارهم فلاغرابة أن يغيّر كاكه شين موقفه أكثر مرة تبعًا لتطورات الموقف حيث تتعرض حضيرته للقصف بالهاونات ويشتبك مع الجنود في معركة ضارية يخنُق فيها أحدهم ويُغرِق الثاني في ماء النهر. تختفي إيزابيل لنكتشف بعدها بقليل أن الملازم الأول رعد قبض عليها لكن كاكه شين يفاجئه ويتصارعان صراعًا ملحميًا يُصاب فيها الملازم أول رعد إصابة عميقة في خدّه الأيسر. وفي المواجهة الرابعة يتم إيصال إيزابيل إلى الجهة الأخرى من الجبل المُطل على الأراضي التركية فتشكر كاكه شين وتصفه بالرجل العظيم الذي يضحي بكل شيء من أجل مبادئه وقيمه الوطنية.

يتراجع كارزان إلى جهة العدو بعد أن يسلّم إيزابيل الحمامة الأخيرة التي بقيت بحوزته فيُقبض عليه من قبل القوة المهاجمة. كما يطلب العميد استعمال الهاونات قبل أن يعبروا الحدود ولم يبق له من خيار سوى استعمال القوة الجوية. تُطلق إيزابيل الحمامة الأخيرة قبل أن تيمِّم وجها صوب الأراضي التركية وتصف البيشمركة بأنهم أناس يستحقون كل شيء يقاتلون من أجله.

لم يبقَ أمام الملازم أول رعد سوى أن يستجوب كارزان الذي ترك جماعته وعاد لكنه لم يعترف على أحد على الرغم من تهديد الضابط ووعيده. وفي هذه الأثناء لمح الضابط أنّ الأسير ينظر إلى عبدالله، وأنّ هذا الأخير يبادله نظرة عطف ومحبة فيعترف للضابط بأنه يعرفه لأنه كان أسيرًا عندهم وقد عاملوه بالحسنى وفي خاتمة المطاف أخلوا سبيله. يتفاقم موقف عبدالله حينما يطلب منه الضابط أن يعدم كارزان لكنه يفشل في إطلاق الرصاص عليه فيُربط معه على الجانب الآخر من جذع الشجرة ويتعرض إلى رصاص أصدقائه الجنود.808 cinema film

المواجهة الملحمية الأخيرة

أمّا المواجهة السابعة والأخيرة فتقع بين كاكه شين والملازم أول رعد فيتصارعان صراعيًا قويًا بالأيدي والسلاح الأبيض لوقت غير قصير ينتهي بأن يتناول كاكه شين حجرًا كبيرًا ويضرب به الضابط ضربة قوية على رأسه تفقدُه القدرة على الحركة ثم يُثنّي عليه بضربة ثانية تخمد فيه الروح إلى الأبد.

يبكي كاكه شين بكاءً حارًا على كارزان ثم نرى قبرين يضمّان ضحيّتين من الطرفين المتقاتلين وقد دُفنا إلى جوار بعضهما بعضًا في إشارة واضحة إلى أن الناس البسطاء هم الذين يدفعون الثمن دائمًا. فإذا كانت الحرب مُبررة بالنسبة إلى كارزان، رغم أنه فرّ منها في نهاية المطاف ولاقى مصيره المحتوم، فإن عبدالله قد سِيق إليها دون إرادته، وأراد أن يرد الجميل لصاحبه لكن لاقى المصير المُفجع نفسه ودُفن إلى جانب كارزان الذي ارتاح إليه وأحبّه في هذه المدة الزمنية القصيرة التي مرّت عليهما مثل لمح البصر.

يحمل هذا الفيلم الدرامي أكثر من عنوان، وهذا شيء مألوف، فالعنوان الكوردي المحلي هو "سلاو پێشمەرگه" الذي يعني "تحية للبيشمركة"، أمّا العنوان الأجنبي فهو " خلف السَحاب: تحية للبيشمركة" وقد أراد، المؤلف والمخرج معًا، أن يمنحا الفيلم صبغة واقعية لكنها جاءت تقريرية ومباشرة وخلت من الإيحاءات المجازية التي تستبطن ما وراء السطور وتلامس المعنى الغائب أو المتواري خلف الكلمات.

لا بدّ من الإشادة بدور الممثلين العراقيين الكورد الذين جسّدوا أدوارهم بطريقة مُقنعة جدًا بدءًا من أحمد رامبو الذي قاد الحضيرة الكوردية التي أوصلت الصحفية الأجنبية إلى داخل الأراضي التركية بأمان. وقد ساعدته مواصفاته الجسمانية الرياضية على تأدية دور الرجل القوي الشجاع الذي لا يهاب المخاطر ونتمنى أن نراه وهو يجسّد أدوارًا أخرى إلى جانب موهبته الواضحة في كتابة السيناريو والقصص السينمائية. وهذا الأمر ينسحب على الشخصيات الخمس التي رافقته في هذه المَهمة الصعبة التي تتطلب التضحية والجود بالنفس في كثير من الأحوال.

قوّة التمثيل وبراعته

أمّا الفنان شمم الحسن الذي تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد وشارك في العديد من المسلسلات التلفازية من بينها "بقايا حُب" و"قوت القلوب" و"هجمة مرتدة" وما سواها من الأعمال الفنية فهو ممثل متمكن من أدواته الفنية وقد أجاد دور الضابط الذي أُسند إليه وجسّده بطريقة بارعة منذ مُستهل الفيلم حتى نهايته. وهذا الأمر ينسحب على الفنان مازن محمد مصطفى الذي عرفناه في أفلام من قبيل "سرّ القوارير" و"القفّاز الأبيض" و"منحرفون" وعدد غير قليل من المسلسلات التلفازية من بينها "الدهّانة" و"بيت الطين" و"منّاوي باشا" و"رجل فوق الشبهات".

لم يكن دور الممثلة الألمانية ليوني زومر كبيرًا أو مميزًا، فهي صحفية أجنبية صوّرت بعض اللقطات والمَشاهد والفيديوهات للمقاتلين البيشمركة ورأيناها منفعلة في أكثر من موقف خشية من الوقوع في الأسر أو التعرض إلى إصابة أو مواجهة الموت في أصعب الأحوال. اشتركت ليوني في العديد من الأفلام السينمائية الألمانية من بينها "من خلال مرآة مظلمة"، و"خطأي"، و"انفصام الشخصية" ولعل أهميتها تأتي من التركيز على القضية الكوردية أو ما يعانيه المواطنون الكورد في أوروبا.

جدير ذكره أنّ حسن علي محمود من مواليد مدينة أربيل، العراق سنة 1968. عمل مخرجًا مساعدًا في أربعة أفلام، وأنتج فيلم "عبور الغبار" للمخرج شوكت أمين كوركي عام 2007. وهو أيضاً المدير الفني لقسم السينما في أربيل. بلغ رصيده خمسة أفلام سينمائية وهي على التوالي: "حيّ الفزاعات" و"شيرين" و"واحد ناقص سبعة"، و"أمريكانو" و"خلف السحاب: تحية للبيشمركة" إضافة إلى المسلسل التاريخي "أديابين".

***

عدنان حسين أحمد

في المثقف اليوم