أوركسترا

عدنان حسين أحمد: "كسب القلوب والعقول" في بلدٍ يتخبط في عزلته الأبدية

يُعتبَر فيلم "كسب القلوب والعقول" للمخرجيَن الدنماركيّين مارتن تام أندرسن ونجيب خاجة واحدًا من الأفلام الوثائقية الاستقصائية الناجحة التي تسعى إلى اكتشاف الحقيقة ولا تحاول الاصطفاف أو التحيّز لهذا الطرف أو ذاك. فعندما أُرسلت قوات دنماركية إلى بلدة "قلعة موسى" في جنوبيّ أفغانستان عام 2006م، وهي جزء من القوّات الأوروپية التابعة لحلف شمال الأطلسي "الناتو" أبلغَ الرائد الدنماركي لارس أولسليف جوهانسن القيادة البريطانية بأنّ الشرطة الأفغانية ببلدة "قلعة موسى" التابعة لولاية هلمند يعتدون جنسيًا على أطفال قاصرين، ويتاجرون بالمخدرات، ويبتزون الفلاحين ماديًا، ويهدّمون منازلهم ويتركونهم في العراء ليواجهوا مصائرهم المحتومة.
قد يتصوّر البعض أنّ هذه الاتهامات هي مجرد مزاعم لا أساس لها من الصحة ولكن الأدلّة الدامغة التي يُقدِّمها المخرجان الدنماركيان أندرسن وخاجة الذي يتحدّر من أصول أفغانية لجأ إلى الدنمارك ودرسَ في جامعاتها، وتسلّح بمعارفها الأكاديمية، وأنجز عددًا من الأفلام الوثائقية التي رشّحتهُ إلى جائزة كافلينغ المرموقة، يكشفان لنا بما لا يقبل الشك أنّ الأخوين كوكا وعيسى خان شخصين فاسدين حتى نخاع العظم، وأنّ القوى العظمى في العالم تنتقي دائمًا أسوأ الشخصيات المحلية لإدارة الأنظمة والحكومات التي يُسقطونها بأسلحتهم الجبّارة ويحوّلونها إلى مرتع للقتل والجريمة وبؤرة للأفيون والمخدرات، ومباءة للرذيلة والتحلل الأخلاقي.1265 movi
وعلى الرغم من كَثرة شخصيات هذا الفيلم المحلية والأجنبية إلّا أن التركيز سينصبُّ على الشخصيتين الأفغانيتين البارزتين والموغلتين في الفساد والجريمة وهما الشقيقان كوكا وعيسى خان، والشخصيات السياسية التي مثل عضو مجلس الشيوخ الأفغاني شير محمد أخوندزاده الذي حظي بدعم كرزاي نفسه. إضافة الشخصيات الدنماركية والبريطانية والأمريكية التي تمتلك معلومات كثيرة لا تُظهرها إلى الملأ إلى إذا دعتْ الضرورة لذلك.
ثمة صحفي ثالث يُدعى "عارف" هدّدته الشرطة الأفغانية لأنه يسعى مع زميليه لكشف الحقائق فلا غرابة إن تعذّر عليه السفر إلى ولاية هلمند واللقاء بكوكا على انفراد لأنّ السلطة ما تزال بيده. كما أنّ السواد الأعظم من الناس لا يثقون بالقوات الغربية عمومًا لأنهم تعاونوا مع الشقيقَين الفاسدَين كوكا وعيسى خان.
لا يحتاج المتلقي كثيرًا من الوقت ليفهم أنّ مدير الشرطة أو قائدها السابق في بلدة "قلعة موسى" كوكا هو رجل أميٌّ ساذج لا يستطيع أن ينطق بجملة مفيدة واحدة ورغم أنّ عينه اليسرى قد أُصيبت وأنه لا يستطيع أن يتذكر أي شيء بحسب إدعاء أخيه عيسى خان إلّا أنّ مظهره الخارجي يوحي بشيء واحد وهو البلادة التي يُعزّزها الجهل والأميّة ولكنه يعرف أشياء كثيرة تتعلّق بقتل الناس، وتهديم بيوتهم، وتشريدهم وابتزازهم، ولعله النموذج الذي يقتدي به شقيقه الأصغر ويقلّده في كل شيء. لم يفهم المتلقي من هذا اللقاء الذي أجراه المخرجان والصحفيان أندرسن وخاجة مع كوكا أكثر من أنه تعرّض 11 هجمة انتحارية بينما هناك هجمتان أو ثلاث هجمات استهدفت أطفاله. وحينما جُرح وفقد الذاكرة حلّ محله شقيقه عيسى خان وأصبح قائدًا للشرطة في "قلعة خان" وواصلَ مهمة أخيه في ابتزاز المواطنين وقتلهم وتشريدهم. لا يفوّت أندرسن الفرصة ليسأل إن كان أهالي "قلعة موسى" يعرفونه أم لا؟ فيأتيه الرد المبالغ فيه بأن الأمّهات يهددنَ أطفالهنّ الذين لا ينامون باستدعاء كوكا وعيسى خان فينامون في الحال.1266 movi
الاستعباد الجنسي للصبيان الصغار
هناك أكثر من ضحية للاستعباد الجنسي لكن اختيار المُخرجين وقع على اثنين منهما؛ الأول رجل تجاوز مرحلة الشباب، والثاني صبي صغير يتحدث والده بالنيابة عنه، وهما نموذجان لعشرات أو مئات الضحايا الذين تعرّضوا للاعتداءات الجنسية لكن غالبيتهم يلزمون الصمت خشية من القتل أو التعذيب أو الطرد من منازلهم وقد وافق الرجل الأول بعد أن تلثّم وامتنع عن ذكر اسمه ومكان سكنه وروى محنته بإطلالتين قال فيهما أشياء مروّعة وربما لا يصدّق كثيرون أنها تقع في بلد مثل أفغانستان. فعندما كان في التاسعة أو العاشرة من عمره ويعمل في مزرعة للخشخاش التقطه كوكا وحشرهُ في سيارته بعد أن قيّد يديه خلف ظهره وأخبره بأنّ هناك سبعة أو ثمانية أشخاص سيمارسون معه الجنس، وحينما رفض أشبعوه ضربًا وركلًا فلم يبقَ أمامه من خيار سوى الرضوخ والاستسلام خشية من القتل حيث تناوب عليه الواحد بعد الآخر في الصباح والظهيرة والمساء، وحينما كان يتململ أو يصرخ من شدّة الألم كانوا يعطونه الأذن الصمّاء. واستمر على هذا المنوال لمدة سبعة أيام كان فيها بحاجة ماسة إلى طبيب يصف له دواء ناجعًا، وحينما أخلوا سبيله اشتكى إلى كوكا من حجم الظلم الذي وقع عليه فأخبره هذا الأخير بكلام صاعق مفاده: "أنتَ تقول سبعة أو ثمانية أشخاص فعلوا بك ذلك.. اذهب وإلّا سآتي بكل الجنود الموجودين هنا ليفعلوا بكَ الشيء ذاته"! لكن ضبّاط التحالف قبضوا على كوكا وزجّوه السجن لمدة ستة أشهر إلى أن جاء شير محمد أخوندزاده، وهو شخص سياسي متنفِّذ، فأخرجه من السجن.
يشكّل الشقيقان كوكا وعيسى خان مُرادفًا للظلم والطغيان وقد ارتكبا الكثير من الفظائع ولم ينجُ منهما إلّا القلائل من سعداء الحظ. وحينما يذهب أي منهما إلى أية منطقة في "قلعة موسى" أو القرى المحيطة بها كان الصبيان والشباب يختبئون في الآبار لكي يتفادوا اعتداءاتهم المتواصلة. فلقد قتلوا أخ المُغتصَب بطريقة بشعة حيث أجلسوه على لغم وفجّروه من مسافة آمنة، كما قتلوا ابن شقيقه. وعذبوا أناسًا آخرين بطرق لا تقل بشاعة عن سابقاتها حيث ألقوا أحد الفلاحين من السطح ثلاث مرات حتى تكسرت أطرافه الأربعة. وحينما احترقت نقطة التفتيش التابعة لهم طلبوا من الشخص المُغتصَب أن يدخل الغرفة المشتعلة وينقذ بعض أفراد الشرطة فدخل واحترقت ملابسه بعد أن سحب اثنين إلى الخارج، وقد أرتنا كاميرا المخرجَين الحروق الشديدة التي أصابت ساقيّ هذا الشخص المُضطهَد.
لا فرق بين الأخوين فكلاهما يهدد الفلاحين إن زرعوا الخشخاش أو أية غلة أخرى كالحنطة أو الذرة أو أي نوع آخرَ من الحبوب ولكن الخشخاش لا يحتاج إلى ماء كثير لأنه يتحمل الحرارة والجفاف كما أنّ مردوداته المادية عالية جدًا لذلك يغامر الفلاحون بزراعته لكن يتوجب عليهم الاتفاق مع الشقيقين اللذين يأخذان، في الأعم الأغلب، نِسبًا عالية من الأرباح التي تدرّها هذه المحاصيل المحرّمة. أمّا زراعة الحنطة والشعير والذرة فتقتضي دفع ضرائب عالية لا يقوى عليها غالبية الفلاحين الأفغان.1540 x 862 - 4
سياسيون كبار يبتزون أمراء الحروب
يأخذ الفساد أشكالًا متعددة، فإذا كان الشقيقان الأميّان يبتزان الفلاحين ويعيشان على عرقهم وكدّهم اليومي فإن المسؤولين السياسيين من هم برتبة نائب أو سيناتور يبتزّون أمراء الحروب وتجّارها الصغار على شاكلة كوكا وعيسى خان المبثوثين في طول البلاد وعرضها، فشير محمد أخوندزادة الذي عُيّن حاكمًا لولاية هلمند من قِبل كرزاي نفسه لأنه صديقه فقط وعليه أن يوفِّر له كل أشكال الحماية السياسية والأمنية والقانونية. وحينما يتهمهُ المخرج بأنّ القوات البريطانية عثرت على تسعة أطنان من الأفيون في منزله فلا غرابة أن يفقد أعصابه ويكّذب الخبر ويعتذر عن إكمال المقابلة بحجة أنه مريض وقد تناول أدوية تتعلّق بالصحة الذهنية، ووصف يوم المقابلة بأنه أصعب يوم في حياته الشخصية، وأعرب في الوقت ذاته بأنه لا يريد مقابلة هذا المخرج ثانية لأنه كان سببًا في استفزازه وتدهور حالته النفسية.
لا يخفي عيسى خان تهوره واستهتاره حتى بوجود المُخرجَين إذ كان يرمي الإطلاقات الحيّة التي يمكن أن تصيب أي مزارع يعمل في الهواء الطلق. لن تستمر الأوضاع على ما هي عليه من قمع وابتزاز وتشريد للمواطنين الأفغان البسطاء حيث سيطرت طالبان مجددًا على ما فقدوه خلال عقدين من الزمن واجتاحوا المدينة وكان آخر تواجد للأمريكان وقوات التحالف في 31 آب / أغسطس 2021م حيث هُزمت الحكومة الأفغانية وبسطت طالبان سلطتها القوية على البلاد.
يلتجئ الصحفي المحلي عارف إلى الولايات المتحدة الأمريكية ويسأل من هناك عن مصير عيسى خان الذي وُجهت له العديد من الاتهامات بالقتل، والاغتصاب، والإتجار بالمخدرات، وتجريد المواطنين من ممتلكاتهم.
لم يقبل السكّان المحليون بفعل الاغتصاب كثقافة أفغانية إذ رفضوا هذا الرأي جملة وتفصيلا وألقوا الكرة في ملعب أمراء الحروب وتجارها فهم الذين يمارسون هذه الفواحش التي تهتز لها الضمائر الإنسانية النبيلة وتنبذها بشدة في السرّ والعلن. ومنْ يُدقق في ظاهرة العبودية الجنسية ودعارة الأطفال سيجد أنّ هناك ظاهرة الـ "پاشا بازي" حيث يقوم الأطفال الذكور بالرقص والحركات النسائية، ووضع الماكياج لمصلحة أصحاب النفوذ والأغنياء، وهذه العادة موجودة في أفغانستان منذ القِدم (1) كما ذهب أحد ضباط التحالف.
لا ينكر حكماء القوم بأن قسوة الحكومة الأفغانية وفظاظة شرطتها هي التي جلبت طالبان مجددًا واستقدمت القوات الأجنبية من آلاف الأميال لتنتهك سيادة هذا البلد الذي يتنقّل بين الملكية والجمهورية ليستقر في خاتمة المطاف على نظام الإمارة الإسلامية التي انحسر عنها العالم.
يتوارى عيسى خان لمدة من الزمن بعد سقوط الحكومة الأفغانية الفاسدة لكن المخرجَين أندرسن وخاجه يعثران على رقم هاتفه النقّال ويوافق على إجراء محادثة هاتفية مصورة لكنه ما إن يسمع الاتهمامات الكثيرة الموجهة إليه حتى يغلق الهاتف ويُنهي المكالمة طالبًا من المخرج ألا ينشرها على الملأ فلقد تحوّل من رئيس للشرطة إلى مزارع عادي مختبئ في "قلعة موسى" وقد أنكر جميع الاتهامات التي وُجهت إليه من قتل وتعذيب واغتصاب وسوء معاملة السكّان المدنيين الذين كان يبتزهم يوميًا. يخبرنا مخرجا الفيلم بأنّ عيسى خان قد توارى عن الأنظار، وأنّ أفغانستان قد أصبحت دولة شمولية بعد سيطرة طالبان، وأنّ المجتمع الدولي قد نبذ هذا البلد مرة أخرى وتركه يتخبط في عزلته شبه الكلية عن المجتمع الدولي.
بقي أن نقول بأنّ نجيب خاجة هو مخرج أفلام وثائقية عُرضت أفلامه على قناة الجزيرة الأنكليزية و بي بي سي وكرّس نفسه لتوثيق الصراعات في سوريا وأفغانستان والشرق الأوسط. أمّا المخرج مارتن تام أندرسن فهو صحفي ومخرج أفلام وثائقية. خدم في الجيش الدنماركي لمدة 18 عامًا ذهب خلالها إلى كوسوفو والعراق وأفغانستان. أنجز عدة أفلام من بينها "الوجه الخفي للحرب" و "هايتي - الانهيار" الذي اشترك في منتدى CPH:FORUM لسنة 2024.
***
عدنان حسين أحمد - لندن
..........................
- Boys in Afghanistan Sold Into Prostitution, Sexual Slavery", Digital Journal, Nov 20, 2007.

في المثقف اليوم