أوركسترا
محمد سهيل احمد: (ام الهند) الفيلم الذي أبكى الملايين!

حقائق تاريخية وفنية غفل عنها المشاهدون
كنت ومنذ صغري عاشقا للسينما. وكانت اغلب الأفلام المعروضة من صنف رعاة البقر. بيد ان شاشة سينما الوطني الصيفي وبالضبط في احد ايام عام 1958 كسرت ذلك التقليد بعرض فيلم هندي ملون سيخلد في الذاكرة الا وهو فيلم (أم الهند). وقد عرض الفيلم بعد ايام في سينما الوطني الشتوي بحكم ان مالك الدارين كان واحدا: المرحوم مجيد سلومي. ولصغر سني ومحدودية مداركي فقد صدمتني خاتمة الفيلم وخلفت في جوارحي أثارا سايكولوجية غير قابلة للتلاشي.
كيف انبثقت فكرة اخراج الفيلم ؟
كتب قصة الفيلم (بابوبهي، أ مهتا) اما السيناريو فأعده كل من (وجاهت ميرزا و س علي رضا) ومن اخراج (محبوب خان)، وتمثل الحافز الرئيس لإخراج (ام الهند) في رغبة كاتب النص والمخرج في إعادة الاعتبار للمرأة الهندية والتي تعرضت للانتقاص والتجريح عبر الكتاب الذي الفته الكاتبة الامريكية كاترين مايو الصادر في عام 1927 والذي حمل عنوان (ام الهند) والذي اختاره المخرج ليكون بمثابة الرد البليغ على النظرة الاستعلائية للكاتبة تجاه الهند وهي النظرة النابعة من الفكر العقائدي الامريكي ذي الطابع الكولونيالي ــ الامبريالي.لقد نظرت الكاتبة مايو الى الآمة الهندية على انها غير كفء لفكرة الاستقلال عن الامبراطورية البريطانية مشيرة الى سوء المعاملة التي كانت المرأة الهندية تعاني منها والى هند المنبوذين والممنوع لمسهم بسبب القذارة والأوبئة وتقديس الحيوان والحضور الهزيل لرجالها من ساسة البلاد. كما ان الكاتبة سلطت الضوء على الجنس حيث الذكور هم لبّ معضلة الغريزة التي تهوي بالذكور الى وهاد الاغتصاب والعادة السرية والشذوذ الجنسي واستباحة المحارم والأمراض التناسلية التي كانت تعد بمثابة طعنات نجلاء لمفاهيم الأمومة هناك. وقد استقبل الكتاب بقدر عال من السخط في عموم الولايات الهندية بل ان الزعيم الهندي مهاتما غاندي انتقد الكتاب بشدة. فقامت الجماهير ــ خلال مسيرات احتجاجية ــ بحرق الكتاب واضرام النار في صور المؤلفة. اذن فقد كان الفيلم المنجز في عام 1957 بمثابة تحدٍ لوجهات النظر التي طرحها الكتاب، والذي تمخض عن انجاز تلك الملحمة التي عدت بمثابة الخطوة الاولى في عوالم (بوليوود). وقد اكد الفيلم على الروح الهندية النقية والكامنة في جوانح المرأة قبل الرجل.
هذا هو الجانب الرئيس في اشكالية العنوان ــ على الصعيد التاريخي ــ اما على الصعيد اللغوي فالترجمة التي كانت هدف العنوان هي (امنا الهند Mother India) بيد ان العنوان الأخير سيكون تقريرا مباشرا لاسيما وان أحداث الفيلم اشارت الى الايماءات البلاغية لأحداث الفيلم المستضئ بالفكر الهندوسي. ولقد آثر المخرج نفس عنوان الكتاب الامريكي ليكون بمثابة الرد البليغ على كاترين مايو. وحين عرض المخرج فكرة الفيلم، ترددت اللجان الرقابية هناك في كون الاصدار سيشكل خطورة على الصالح العام الهندي لكن محبوب خان ارسل صفحتين ضمتا خلاصة احداث الفيلم مرفقا به بعض التوضيحات التي حدت به للتفكير في انحاز فيلم ملمحا الى الكتاب ومؤكدا بأن الفيلم يحمل طابع التحدي لمضمون الكتاب وما ورد فيه من اساءات.. وهكذا حصلت الموافقة.
قصة الفيلم
في سنة 1957 اكتمل شق قناة في احدى القرى الهندية حيث نظر الى (رادها) بطلة الفيلم على انها الأم الكبرى في القرية حيث يطلب منها تدشين ذلك المشروع الاروائي فتشرع في تذكر ماضيها ويوم زواجها.لقد كانت نفقات زفاف الزوجين (رادها وشامو) قد سددت من قبل حماتها التي اقترضت ذلك المبلغ من المرابي (ساخيلالا). وكانت شروط ذلك القرض مرهقة وباعثة على الجدل.والأنكى ان أهل القرية وقفوا في صف ذلك المرابي مما اضطر الزوجين الى بيع ثلاثة ارباع المحصول من اجل تسديد القرض.وبينما كان شامو منهمكا بالعمل في الحقل، وقعت على ذراعيه صخرة كبيرة ليفقدهما الى الأبد ! وبسبب شعوره بالعجز وسخرية المرابي من اتكاله على مورد زوجته المالي، يقرر شامو ان يترك البيت الى عوالم الموت جوعا.في تلك الاثناء يموت ابنها الاصغر وحماتها ثم تجتاح القرية عاصفة جبارة وتتلف حصاد حقل الاسرة. فيهتبل المرابي الفرصة عارضا على رادها تسهيلات مالية لقاء بيع جسدها اليه.في بادئ الأمر أراد اهل القرية الفرار منها الا أنهم عدلوا عن ذلك بتأثير من قبل (رادها). وبعد مرور عدد من السنين يصبح الشقيقان (رامو) و(برجو) رجلين راشدين. وكانت شخصية رامو تميل الى المسكنة وعدم مخالفة أوامر الأم على العكس من (برجو) الذي لقي عنتا وشعورا غامرا بالحيف امام سطوة المرابي ليتحول الى فتى متمرد ساخط على المرابي فيتعمد التحرش بـ (روبا) ابنة المرابي ومضايقتها الى الحد الذي يمسي فيه شخصا بالغ الخطورة.وفي يوم من الأيام يقوم برجو بالسطو على بيت سيخلالا وسرقة خلخال ابنة المرابي الذي هو في الاصل ملك للأم رادها التي تضطر لابلاغ المرابي بأنها لن تدع ابنها برجو يسبب ضررا له او لأسرته. وفي يوم زفاف (روبا)، يقوم برجو مع عدد من أتباعه بالانتقام من المرابي عن طريق قتله والعودة الى الغاب غير ان (ام الهند) تطارد ابنها الى حيث مخبأه وتطلق النار عليه ليلقى مصرعه بين ذراعيها. وفي خاتمة الفيلم تظهر رادها وهي على وشك فتح بوابة السد ليتدفق الماء احمر قانيا بلون الدم نحو الحقول!
فريق العمل
ولدت فاطمة عبد الرشيد ــ التي ستعرف فيما بعد باسم نرجس ــ في الاول من حزيران 1929 بمدينة كلكتا ابان الحكم الكولونيالي البريطاني. وكان اول ظهور لها على الشاشة الفضية عام 1935 حين كانت في السادسة من العمر لتبدأ مسيرتها الفنية التي ناهزت الستين فيلما سينمائيا.من اشهر أفلامها (الحريق 1948)، (باروسات 1949)، (المتشرد 1951) لتتوج مسيرتها الفنية بالفيلم الاجتماعي الملحمي (ام الهند 1957). رحلت في الثالث من مايس 1981 عن عمر ناهز الحادي والخمسين سنة بعد معاناة طويلة من سرطان البنكرياس. نالت العديد من الجوائز المحلية والعالمية. اما سونيل دوت الذي ادى دور ابنها المتمرد (برجو) فكان من مواليد 1929 وسيصبح زوجها الحقيقي فيما بعد. وهو والد الممثل الشهير سنجاي دوت الراحل سنة 2005. واشترك في الفيلم كل من (راج كابور) الذي يعد واحدا من اعظم الممثلين الهنود وصانعي الافلام العصية على النسيان. برز في ادوار مثل (ام الهند) و(سنغام) وعشرات الافلام التي جعلته ينال ارفع الجوائز. كما اسهم في الفيلم كل من راجندرا كومار الذي ادى دور (رامو) والممثل القدير (راج كومار) الذي مثل دور الأب شامو وخانيالال الذي مثل دور المرابي الجشع وآخرون.
صورت مشاهد الفيلم في استوديوهات (محبوب) بمدينة بومبي وفي اماكن اخرى. وكانت ميزانية الفيلم الأعلى قياسا بميزانيات افلام تلك السنوات غير ان الفيلم حصد ارباحا خيالية.
شهد دور السينما الهندية العرض الأول للفيلم في تشرين الأول من عام 1957 ليصبح علامة فارقة في التراث السينمائي الهندي.
لقد عزز الفيام مكانة المرأة في المجتمع الهندي كمصدر قوة ضد النظرة الذكورية الدونية اضافة الى ان (محبوب خان) قد استلهم أحداث واحد من افلامه المبكرة (امرأة Aurat1943) والذي قام باخراجه في عام لصالح (أم الهند .وعلى صعيد وجهات النظر افاد المخرج من جوانب في الفلسفة الهندوسية تقدس دور المرأة في المجتمع الهندي. ومن العوامل التي أعانت الممثلين على ضخ قدر كبير من العفوية قيام نرجس وراج كومار (زوج رادها) بتنفيذ معايشات حقيقية في الحقول كالحراثة والحصاد والبذار وقطف القطن قبيل تصوير الفيلم، اضافة الى اعتماد الرقص والغناء على نماذج من الواقع المحلي لاسيما في مناطق الريف الهندي.
مرجعيات الفيلم
ثمة تماهيات بين ام الهند وافلام عالمية اخرى. فمن الواضح تأثر (ام الهند) بالسينما السوفييتية مثل فيلم (الأم 1927) الصامت وكذلك مع فيلم (خبزنا اليومي) وهو من اخراج كنغ فيدور 1934. اما الناقد الامريكي المعتمد لدى صحيفة (النيويورك تايمز) ديفد كيهر فيؤكد قائلا: " من الواضح وجود تشابهات بين فيلم (ام الهند) وفيلم (ستيلا دالاس 1934) من واقع التماهي الملحوظ في مشاهد التضحية التي تضطلع بها المرأة في كلا الفيلمين " كما ان تأثيرات فيلم (ذهب مع الريح) تبدو واضحة على بعض مشاهد فيلم (ام الهند).ولقد اعتمدت موسيقى الفيلم على لمسات من الموسيقى العالمية مزجت مع الموسيقى المحلية من اجل تجسيد الخصال الروحية التي تتمتع فيها المرأة الهندية كقيم الشرف ومقاومة النزعات العدوانية على الصعيدين الاجتماعي والغرائزي، لاسيما في المجتمعات الريفية.
جوائز وتقييمات
نال مخرج الفيلم مهبوب خان وبطلته نرجس العديد من الجوائز والتزكيات اذ فازت نرجس عام 1958 بلقب افضل ممثلة لمؤسسة (فيلمفير) لعدة مرات كما انها عدّت اول ممثلة هندية تفوز بلقب افضل ممثلة في مهرجان (كارلو فيفاري) العالمي في تشيكوسوفاكيا لعام 1958.كما نال محبوب خان عددا من التكريمات ذات الطابعين المحلي والعالمي. وهناك جوائز اخرى لكل من الكاتب السينماتوغرافي فريدون ايراني فيما خصصت جائزة المؤثرات الصوتية للفنان (كوشيك)، اضافة الى ترشح الفيلم لجائزة الاوسكار واقترابه من منصة الفوز بالجائزة الاكاديمية لولا تقدم فيلم فلليني المعنون (ليالي كابيريا) عليه. كما تمت دبلجة الفيلم الى العديد من اللغات العالمية، مما اصاب محبوب خان بالاحباط حسبما ما ذكره لسونيل دوت بعد سنين.مؤكدا تفوق (ام الهند) على الأفلام الفائزة.
ويبقى فيلم (ام الهند) خالدا في الذاكرة.
***
محمد سهيل احمد