أوركسترا
عدنان حسين أحمد: الفاتحون مرّوا من هنا.. وبذرة الوعي المعارض

قبل الخوض في تفاصيل الفيلم الثاني الذي أنجزه المخرج هادي ماهود قبل 45 سنة بعنوان "الفاتحون مرّوا من هنا" سنة 1980 لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض الأشرطة الأولية المُصوّرة قبل المونتاج Rushes قد تعرّض للتلف في أجهزة التحميض في الإذاعة والتلفزيون، وبعضها الآخر تفاداه المخرج وأهمله لأسباب سياسية مقيتة لأن الشخص المتحدث فيه هو داوود القيسي الذي كان نقيبًا للفنانين العراقيين آنذاك وكان يُلقب بـ "شادي البعث" لأن إنشادهُ كان مُقتصرًا على حزب البعث وقائده "المنصور" صدام حسين. كما أنّ اللقاء برمته كان ثناءً وتمجيدًا لـ "بطل التحرير القومي" فأسقطَ تلك المقابلة من حسابه وعزّز بهذا الإجراء نزعته المعارضة للنظام ولحزبه الواحد الذي نسيَ الوطن وتماهى في شخصية القائد المُستبد الذي قضى على المعارضين البعثيين من حزبه قبل أن يلتفت إلى معارضة الأحزاب العراقية الأخرى بفسيفسائها القومي والديمقراطي والليبرالي واليساري والديني بينما كان مخرجون آخرون يمعنون في الترويج والدعاية الرخيصة لما يسمى بفكر القائد وتوجهاته القومية التي لا تخرج عن إطار الأوهام والأحلام المريضة التي لم يجد حتى الجزء الناتئ منها طريقه إلى التطبيق. كانت الجامعات والمعاهد العراقية، وخاصة المُقتصرة على البعثيين، ترسل أساتذتها وبعض طلابها، كما هو الحال في معاهد، وأكاديميات الفنون الجميلة، وكليات الإعلام في العراق، إلى جبهات القتال كنوع من "المُعايشة" يتعرّفون من خلالها على حياة الضباط والجنود العراقيين في السواتر الأمامية وجبهات القتال الممتدة من جبال كرده مند إلى مدينة الفاو. وقد وقع الاختيار على الطالب هادي ماهود، والمصور هادي حسن عمران، ومدرّس مادة السيناريو الأستاذ سلمان داوود، والطالب المصري سمير جودة، والسائق "ماضي". وكان الهدف من هذه المعايشة الميدانية هو التطبيل للحرب، وتمجيد القائد، واستدعاء "صور من المعركة" إلى شاشة التلفاز الوحيدة في البلد قبل أن يظهر تلفزيون "الشباب" ويفاقم أزمة التمجيد للقائد ونجله في آنٍ معًا.
التواطؤ البريطاني في احتلال المحمّرة
نمت بذرة الوعي المُعارض في ذهن المخرج هادي ماهود وتفتقت عن مواقف جديرة بالاحترام تُسجّل لمصلحته الشخصية كفنّان وإنسان في آنٍ معًا؛ فقد اتخذ قرارًا بأن لا ينهمك في برنامج "صور من المعركة" أسوة ببعض المخرجين والمصوّرين الذين قدِموا إلى جبهات القتال، واستشهد البعض منهم، وجُرح البعض الآخر أو فُقد في أتون المعارك التي تندلع هنا وهناك من دون سابق إنذار. لقد عقد العزم على أن ينجز فيلمًا وثائقيًا بعد أن برقت الفكرة في ذهنه وتمحورت على رصد مدينة المحمّرة وتاريخها العربي العريق، وانطلق من تصوير بيت الشيخ خزعل الكعبي، أمير المحمرة الذي أسَرتْهُ القوات الإيرانية في عملية مُدبرة ومدروسة عام 1925م، وبتواطؤ بريطاني لا غُبار عليه، واحتلوا مدينة المحمرة العربية المستقلة وأخضعوها إلى سيطرة الدولة الفارسية الغاشمة في زمن الشاه رضا بهلوي.
وقع اختيار المخرج على شخصيات عربستانية متنوعة تنتمي إلى ثلاثة أجيال من بينها الجد الذي عاصر الشيخ خزعل الكعبي، ونجله الذي أدرك حقبة الشاه الأخير، والحفيد الذي عاش أهوال الحرب التي اندلعت بين الجيشين العراقي والإيراني. كما التقى بعدد من الشخصيات العربستانية بشكل عشوائي بينهم الرجل المُسنّ، والمرأة الكبيرة، والشاب اليافع، والصبي الصغير، وقد عبّروا جميعًا عمّا يدور في أذهانهم بطريقة عفوية لا تكلّف فيها أو افتعال، وهذا ما يبحث عنه مخرج الفيلم الوثائقي الناجح الذي يسند أدوار البطولة إلى شخصيات يستدعيها من قاع المجتمع لتقول كل ما عندها دفعة واحدة من دون رتوش أو لغة مُقعّرة لا تنتمي إلى الطبقة الفقيرة التي تشكّل غالبية الشعب العربستاني. أمّا اللقاء الرئيسي فكان مع أحد مقاتلي الجيش الشعبي القادمين من بغداد وكان أكثرهم طلاقة في الحديث ومُلمًا بعض الشيء بالانتفاضات والاحتجاجات التي اندلعت في غالبية المدن العربستانية المطالبة بالتحرر والانعتاق من الهيمنة الفارسية والاحتلال الإيراني المقيت الذي استمر لمدة 55 عامًا حتى ساعة تصوير الفيلم عام 1980، أما الآن فقد بلغ الاحتلال الإيراني لعربستان قرنًا كاملًا بالتمام والكمال.
محو الشخصية العربية وطمس معالمها
ثمة "فويس أوفر" بصوت الأستاذ عبد الوهاب الدايني يتحدث فيه عن مدينة "المحمّرة" التي تضمخت أرضها بدماء الشهداء العربستانيين على مرّ العصور. وقد كان الشيخ خزعل الكعبي وأسلافه يديرون دفة العروبة لسنوات طوالًا في الخليج العربي. وقد نقلت لنا عدسات المصورَين سلمان داوود وهادي ماهود لقطات ومَشاهد جميلة لقصر الشيخ خزعل الكعبي المُطل على شط العرب من جهته الشرقية. يقول المقاتل المتحدث بلسان طليق: "أنّ عربستان أرض عربية أُحتلت من قِبل الاستعمار الفارسي سنة 1925، وقد قام العدو الفارسي بشتّى الأعمال لمحو الشخصية العربية في عربستان وإزالة الوجود العربي، وقطع العربستانيين عن الوطن العربي وتراث الأمة العربية. قام شعبنا العربي خلال سنوات الاحتلال بعدة انتفاضات منها "انتفاضة المحمرة" و "الغجرية" و "بني طرف" حتى سنة 1958م. ثم بدأ أول عمل تنظيمي لـ "جبهة تحرير عربستان" حيث شُكِّلت القيادة القومية العليا لجبهة تحرير عربستان. وساهم الشعب العربي في عربستان مساهمة فعّالة في الإطاحة بالحكم البهلوي الفاشي حيث قدّم الكثير من الشهداء في سبيله وقامت إضرابات عديدة بعربستان كان الشعب العربي يتوخى الحصول على بعض حقوقه المسلوبة ولكن ما يسمّى بالحكومة الإسلامية قامت بالعديد من المجازر واستعمال الأسلوب العنصري بصورة وحشية أكثر من الشاه حيث نُفذ حكم الإعدام بالعديد من أبناء الشعب العربستاني، وأُودع الكثير منهم في السجون ،كما هُتِكت حُرمات الكثير منهم. لا يحصل العربستانيون على فرص جيدة للعمل، فالعرب يُصنّفون كطبقة عاملة وزراعية، والمدارس قليلة جدًا، كما أنّ تفشّي الأمية واضح، وما يقارب 95% من الشعب العربستاني أميّ".
الفقراء ملح الفيلم وعُصارته
ليس بالضرورة أن يكون هذا المتحدث مُلمًا بالانتفضات والاحتجاجات العربستانية ضد الاحتلال الفارسي ولكن من يطلّع على التاريخ الحديث لعربستان سيكتشف من دون لأيْ أنّ هناك أكثر من 12 انتفاضة وقعت بين عاميّ 1925 و 2005 تبدأ بثورة "الغلمان" وتمرّ بـ "حركة الشيخ خزعل" ولا تنتهي بـ "انتفاضة نيسان". وكان بودي لو أنّ المخرج هادي ماهود قد توقف قليلًا عند اغتيال الشيخ خزعل في السجون الإيرانية بطهران، وكذلك الإشارة إلى حادثة اعتقال رؤساء القبائل العربستانية في "انتفاضة بني طرف" عام 1936م التي أشار إليها المتحدث حيث قامت سلطات الاحتلال في مدينة "الخفاجية" بدفن 16 شيخًا عربيًا وهم أحياء في محاولة يائسة لبثّ الخوف والفزع في قلوب الأحوازيين. أمّا اللقاء مع عامة الناس فهو"ملح الفيلم وعُصارته" لأنهم يختصرون محنتهم في ظل الاحتلال الإيراني من دون كلمات منقمّقة وتزويق لفظي. فالشاب الأول يقول بأنه لا يذهب إلى المدرسة لأنه يشتغل بالميناء ويُعيل أفراد أسرته، والرجل الكبير سنًا يقول بأنه عاطل عن العمل ولكنه يدبّر شؤون العائلة التي تتألف من عشرة أفراد "من هنا وهناك"، وثمة امرأة كبيرة تتهم الإيرانيين بأنهم يجدون فرص عمل لأبنائهم ولا يعيرون بالًا للمواطنين العرب. ويختم أحد الصبيان حديثه بالقول بأنه لا يذهب إلى المدرسة لأنه يتعرّض إلى التنمّر والضرب كلما تكلم باللغة العربية بينما يريدهم المحتل الإيراني أن يتحدثوا باللغة الفارسية.
لم يحتَج المخرج كثيرًا لإظهار الوضع المزري الذي يعاني منه العربستانيون في المحمرة فاللقطات الأساسية والمَشاهد الكبيرة كانت تفضح الأحياء الفقيرة التي تبدو أقرب إلى العشوائيات منها إلى السكن المتحضر ومع ذلك فقد وصلت صور "القائد الضرورة" وشعارات الحزب إلى تلك الجدران المتداعية، بل رأينا لافتة مخطوطة تشير إلى "مكتب بريد قادسية صدام في المحمّرة" التي يتحرك في قسمها الشمالي جنود من الجيش العراقي الذين يفصلهم نهر "الكارون" عن القسم الجنوبي الذي تتواجد فيه القوات الإيرانية التي تشتبك مع الوحدات العراقية بين أوانٍ وآخر. كما نسمع أنشودة "لوحة نصر" التي أدتها الفنانة المصرية سعاد محمد مع كورس الأطفال العراقيين وهم يردّدون مقطع "طلعت الشمّيسة، على وجه عيشة، عيشة عراقية، بنت القادسية، صاح الجيش بالميدان، أطلب منك يارحمن، تنصر لي الغالي صدّام".
ينتهي الفيلم ببعض المشاهد المفتوحة التي تصور حركة المواطنين العربستانيين الذين لم يغادروا مدينة المحمرة رغم الاشتباكات الدائرين بين القوات العراقية والقوات الإيرانية. لم يستغنِ هادي ماهود في حينه عن الحوار المطوّل الذي أجراه مع داوود القيسي فقط للأسباب التي ذكرناها سلفًا ولكن تلف الـ Rushes في أجهزة تحميض الإذاعة والتلفزيون هو الذي دفعه أيضًا لعدم تضمين اللقاءات التي أجراها مع "أعضاء جبهة تحرير عربستان فهو للاستدلال على وجود حركة تحررية يخوضها عرب المدينة" تقاوم الاستعمار الإيراني وتقارعه بضراوة على الرغم من فارق العُدة والعديد بين الطرفين المتحاربَين.
***
عدنان حسين أحمد