أوركسترا
المسلسل الكوري: حب مشروع.. هل تصبح خيانة المرأة قابلة للنقاش؟!
بوصلة متابعو المسلسلات والافلام في جميع انحاء العالم تتجه يوما بعد آخر نحو كوريا الجنوبية.. فهناك صناعة سينمائية وتلفزيونية متكاملة متقدمة بدرجة جيدة وقادرة على اجتذاب المشاهدين على اختلاف اذواقهم وثقافاتهم..
وبمتابعتي لعدد من المسلسلات الكورية الاجتماعية المخصصة للفئات العمرية الاكبر من 30 سنة، لاحظت جهدا حقيقيا مبذولا في صنعها، وهي لا تقل من حيث القصة والحوار والانتاج والاخراج واداء ممثليها عن اي مسلسل عالمي يستحق المشاهدة.
وعليه سأتطرق هنا لاحد هذه المسلسلات، وهو بعنوان "حب مشروع Valid Love ".. المسلسل عرض عام 2015 وهو يتألف من 20 حلقة.
قصة المسلسل تدور حول مدّرس شاب يتم تنسيبه بشكل مؤقت الى احد مدارس البنات الثانوية ليقوم بتدريس مادة الاحياء لفترة محدود بدل مُدرّسة مجازة، وخلال فترة وجوده في المدرسة تتقرب منه احدى طالباته التي تصغره بعشر سنوات، وقد اعجبت به بسبب اسلوبه المختلف في ايصال المعلومات لطلبته ، وينجذب هو الاخر لها بعد معرفة ظروفها العائلية الصعبة وقبلها بسبب أفكارها الغربية المضحكة وخيالها الجامح.. وبينما تحاول هي استمالته نحوها يحاول هو تغيير فكرتها نحو مستقبلها بتشجيعها على التفوق في الدراسة والتفكير بالالتحاق بالكلية وتنمية موهبتها في الرسم.. لكن الظروف تاتي بغير المتوقع حيث يحصل الاستاذ على منحة دارسية في امريكا وتتعرض الطالبة لحادث سير بدلا عنه فتصاب بعدد كبير من الكسور والجروح تجعلها تفقد عامها الدراسي ويضطر هو لتركها والسفر لاكمال دراسته..
وبعد سبع سنوات يعود وقد صار باحثا في مركز للعلوم البحرية ليلتقي بها مجدا بالصدفة ليكتشف انها اكتفت بتخرجها من الثانوية واتجهت للعمل في صبغ البيوت والابنية بأجور يومية، وان مشاعرها تجاهه لم تتغير رغم عدم يقينها بامكانية اللقاء به مرة اخرى، فيقرر الزواج بها في نفس يوم لقاءهما..
وتنتقل الاحداث مباشرة الى ما بعد سبع سنوات من زواجهما، حيث اصبحت الحياة روتينية بينهما رغم استمرار حبهما ورعيتهما لبعضهما ورغم عدم انجابهما لاطفال.. لكن الزوجة التي صارت في مطلع الثلاثين من عمرها لم تكن مهتمة كثيرا بموضوع الانجاب بعد ان كرست حياتها لعملها وكذلك لرعاية اخت زوجها الشابة التي اصيب بشلل تام اثر اصابتها بمرض عارض تركها عاجزة تماما الا عن تحريك عينيها.
وهنا نكتشف ان سبب تفاني الزوجة في خدمة اخت زوجها المريضة هو شعور خفي بالذنب مصدره حماتها التي كانت ترفضها كزوجة لابنها لانها من مستواً اجتماعي وثقافي ادنى وغير مناسب للابن الحاصل على شهادة عليا وللعائلة التي تملك عقارا ومصدر دخل جيد..
وعلى عادة الشرقيين الذين يؤمنون بقدوم الخير او الشر مع اقدام الكنّات الجدد، فأن الحماة اتهمت كنّتها بأنها كانت مصدر الشر الذي دخل البيت واصاب ابنتها الشابة بالمرض والشلل بعد شهر واحد فقد من زواج الابن بها، وهكذا صارت تلقي على مسامعها بين الحين والاخر عبارات اللوم لانها اصرّت على هذا الزواج رغم معرفتها برفض الام له.
وبلغ تفاني الزوجة في رعاية اخت زوجها المريضة درجة رفض مساعي الزوج لنقل اخته الى مركز متخصص لرعايتها ومتابعة حالتها التي تصبح خطرة في بعض الاحيان..
لكن حدثا آخر غير متوقع يقع ليقلب حياة الزوجة من جديد، حين يجمعها العمل بشاب يفتتح ورشة نجارة في نفس الحي الذي تسكن فيه.. يجتذب الشاب المنعزل والمنطوي على نفسه اهتمام الزوجة، ربما بسبب اقتناعها بفكرة البذل غير المشروط التي يفرضها الزواج على المرأة في عموم الشرق، فتتصور ان الشاب الذي يعيش وحده ويأكل لوحدة ويعمل لوحدة هو الاحوج لرعايتها ومشاعرها فتقع في حبه ويبادلها هو ذات المشاعر..
لكن مشاعرها الجديدة التي سحبتها مرار نحو النجّار الشاب وجعلتها تنسى حتى اهتمامها بأخت زوجها، لا تتمكن من التعمية تماما على عقلها الذي ظل رافضا لفكرة خيانة زوجها الذي مازالت تكن له مشاعر الاعجاب والحب العميق، فتقرر استدراك نفسها والتراجع قبل ان يكتشف الزوج مشاعرها هذه، فتذهب الى النجّار مرة اخيرة لتخبره عزمها قطع علاقتها به..لكن الاوان في تلك اللحظة كان قد فات بالنسبة للزوج الذي شهد دخول زوجته الى ورشة النجار من اعلى بناية مجاورة..
حيث انه بدأ بمراقبتها قبل ايام من قرارها هذا، بعد ان تلقى صورا ورسائل عبر الهاتف من مجهول تنبهه الى خيانة زوجته وتحرّضه على كشفها وتطليقها، لكنه -ولسخرية الاقدار- لم يتمكن من ضبطها مع النجار الا في اليوم الذي تقرر هي التراجع وقطع العلاقة معه.!
وقبل ان استرسل في بقية الاحداث لابد من الاشارة الى ان المسلسل ومنذ بدايته انما يسرد على لسان " الزوج" ومن وجهة نظره، وهي نقطة مدهشة تحسب لكاتب النص سنتكتشف اهميتها وعبقريتها لاحقاً.
فبعد ان يتأكد الزوج من خيانة زوجته يدور في رأسه السيناريو المتوقع مع هذا المواقف ، فيتخيل نفسه وقد هجم على ورشة النجار ليحطم ويدمر كل ما في طريقه نحو زوجته، لكنه في الواقع يعجز عن فعل ذلك وينتظر خروجها ليذهب الى النجار ويقوم بضربه.. وفي طريق عودته الى البيت يفكر ان تأكده من خيانة زوجته لم يكن قعر الهاوية التي سقط فيها منذ ان وصلته الصور والرسائل من ذلك المجهول بل هو بداية السقوط في الهاوية !!
وحين عودته الى البيت نشهد واحدا من اقوى مشاهد المسلسل واكثرها تأثيرا، حين يفتح الزوج باب الحمام على زوجته التي كانت تفرش اسنانها بينما عيناه تقدح شررا من شدة الغضب، وحين تسأله عما به يكتفي بالقاء هاتفه اليها لترى صورتها مع النجار وحين تخرسها المفاجئة يقوم بصفعها بقوة تلقيها على الارض ليدخل بعدها في نوبة صراخ وتحطيم هستيرية تنقل للمشاهد ذلك الشعور الرهيب الذي يمر به الازواج والزوجات حال اكتشافهم لخيانة شركائهم، حيث يختلط الغضب بالحزن بالرفض والتمرد على هذا الفعل الذي لم يعد بالامكان ارجاع الزمن الى الوراء لتدراك حدوثه ولا حتى تفهم اسبابه ..
لقد اختار كاتب العمل ان تكون الزوجة هي الخائنة ليدخل المشاهد في جو مشاعر الخيانة الصادمة والقاتمة والمؤلمة ، حيث ان شعوب الشرق عموما لا تتسامح مطلقا مع خيانة المرأة، ورد الفعل عليها بشع غالبا قد يصل الى القتل والنبذ عدا عن الوسم بالعار، بينما لا يتلقى الرجل نفس العقاب !!
ولو كان الزوج هو الخائن لتعامل المشاهد مع مشاعر الزوجة نفس تعامله مع مشاعر النساء اللاتي يتعرضن للخيانة في الواقع !!..حيث قليلا ما يسمح للمرأة بالتعبير عن غضبها وتمردها على خيانة زوجها وغالبا ما يطلب منها ان تسامح وان تعود للزوج تحت حجج مختلفة كالاولاد وتأمين المعيشة والمأوى والحماية من النظرة الاجتماعية وغيرها
وقد اختبر كاتب العمل هذا على المشاهد عندما عرض اولا قضية ابو الزوج الذي دأب منذ سنوات طويلة على خيانة زوجته حتى صار كل اولاده يعرفون بقصص خياناته، لكن احدا منهم لم يفكر ان على امه ان تترك ابوه، وبدل ذلك طالبوها ان تكف عن مراقبته وملاحقة خياناته بحجة ان ذلك يرهق مشاعرها ويعكر صفو البيت بالشجار!!
بينما تنقلب كل العائلة وحتى اصدقاء الزوج على الزوجة الخائنة، ويستعرض كل واحد منهم ما يمكن القيام به لو كان بدل الزوج، فيصرح اخو الزوج انه كان سيقتلها لو كان مكان اخيه، بينما اختارت الحماة التبرئ من كنّتها التي دأبت على رعاية ابنتها المشلولة لسبع سنوات وقامت بالهجوم عليها وضربها وسط الشارع، اما صديق الزوج فكان سيختار تطليقها وبأسرع ما يمكن..
ومن هنا تأتي عبقرية الكاتب حين اختار ان يكون سرد الاحداث على لسان الزوج فذلك سيكون ابلغ واكثر وقعا عند المشاهد الشرقي الذي اعتاد مساندة الرجل..
لكن الزوجة تعلن مباشرة وبعد اكتشاف الزوج لخيانتها عن ندمها وتطلب منه مساعدتها لتتجاوز مشاعرها نحو ذلك الاخر الذي تحبه بجانب حبها لزوجها، وانها لا تفهم كيف يمكنها ان تجمع بين حب رجلين في آن واحد..!!
ان هذا لا يحدث في الواقع، فالمرأة بطبيعتها لا تحب ولا تخلص الا لرجل واحد، ولا يمكن لرجل آخر ان يدخل قلبها حتى يخرج الاول منه فاذا خرج لم تطق العيش معه..لكنه يحدث مع الرجال في معظم قصص الخيانة.حيث يصرح الرجل غالبا بأنه مازال يحب زوجته ويريد الاستمرار بحياته الزوجية معها بجانب حبه لاخرى وان على الزوجة مساعدته لتخطي مشاعره لتلك الاخرى وربما القى باللوم عليها واتهمها بالتقصير الذي ادى الى خيانته!!..وهنا ينجح الكاتب مرة اخرى في استخلاص اقصى شعور الرفض عند المشاهد لفعل دأب على قبوله في في الحياة الواقعية !
وتستمر احداث المسلسل لنعايش مشاعر الزوج التي بدأت من قمة الغضب والرفض لفعل الزوجة او الاستماع لها او لوجودها في بيته او بقربه ، لتتحول احيانا الى الحزن والشفقة عليها حين يشهد قسوة العائلة والمجتمع واجحافه معها.. لكنه في النهاية يقرر ان يهدأ وان يستمع لها رغم قراره المسبق بنهاية حياتهما الزوجية، ولا يشفع لها معرفته ان علاقتها بالنجار كانت علاقة مشاعر فقط لم تصل الى ممارسة الخيانة الجسدية، وكان تبريره منطقيا ..حيث انها كانت ستعتبره خائنا ايضا ولن تتسامح معه لو عرفت انه احب اخرى دون اقامة علاقة جسدية معها..
وهنا يكون كاتب العمل قد وصل بنا الى شعور الرفض الثالث لفعل الخيانة المعنوي الذي يرتكبه الرجال غالبا ويعتذرون لاحقا بانه ليست بخيانة لانه لم يصل الى ارتكاب الفعل المحرم !!
ويستمر المسلسل في استفزاز المشاهد عبر احداث قد تبدو غير واقعية ، يجتمع خلالها الزوج والزوجة والشاب الاخر في مواقف مختلفة تصل الى ان يقضي النجار في احدى المرات ليلته في بيت عائلة الزوج، لكن هذه الاحداث تصبح واقعية عندنا وتحصل في كل مكان لو فكرنا ان كاتب العمل يريدنا ان نقلب الصور بأستمرار وان نتصور ان الزوج هو الخائن !!.. فكم من رجل يجمع بين زوجته وعشيقته في مكان واحد، وكم من عشيقة تجرأت على حضور المناسبات العائلية لعشيقها وعلى مرآى ومسمع من زوجته المغلوبة على امرها، وكم رجل خان زوجته على نفس فراشها ؟!!
وبالمجمل يمكننا القول ان كاتب العمل قد برع في مناقشة موضوع الخيانة الزوجية باسلوب هادئ بعيد عن مشاهد العنف والصراخ والبكاء عندما تكون الزوجة خائنة؛ او تكريس التبريرات التي تمتهن كرامة المرأة ومشاعرها عندما يكون الزوج هو الخائن، وهذا ما يحصل في معظم المسلسلات العربية مثلا..
كما برع الكاتب في تغيير رأي المشاهد ومشاعره عدة مرات، فمرة يجرّه الى جانب الزوج المحب والمراعي والمخلص الذي ينقلب عالمه رأسا على عقب دون سابق انذار او ذنب منه ، وتارة اخرى الى جانب الزوجة التي نكتشف انها اختارت عدم الانجاب وانكار ذاتها ورغباتها فقط لتتفرغ لرعاية اخت زوجها المشلولة تحت ضغط الشعور بالذنب الذي زرعته فيها ام الزوج..
وتأتي نهاية المسلسل حين يختار الزوج اعطاء الزوجة فرصة ثانية مشروطة بعدم وصوله الى درجة التسامح معها فورا، وانهما يحتاجان الى زمن اطول لمراجعة مجمل حياتهما واعادة فهم ما حصل.
وبمقارنة اخيرة، نجد ان قرار الزوج الاخير هو الابعد عما يحصل عادةً في واقع الحياة، لكننا هذه المرة سنتقبل النهاية التي جاءت متناسبة مع كم النقاشات والمشاعر المتنوعة التي طرحت خلال المسلسل، وكذلك لاننا صرنا نعرف ان الكاتب يريدنا ومع كل حدث يخالف ما يحدث في الواقع ان نقلب الصورة وان نتخيل الرجل هو من قام بفعل الخيانة.. عندها سنجد انفسنا اكثر تسامحا وقبولا حتى لاغرب الحلول!!
وعليه فأن "خيانة المرأة" لن تصبح امراً قابلا للنقاش في اي مجتمع سوي، وان موقفنا منها هو ما يجب ان يعمم على موضوع الخيانة الزوجية بغض النظر عن مرتكبها ..
ان مسلسل (حب مشروع) يستحق المشاهدة بكل تأكيد فهو غني بالافكار والمناقشات التي تحترم عقل المشاهد وترتقي به ..
***
شفق حسن