أوركسترا
عدنان حسين أحمد: "هوبال".. تمرد الأحفاد على قيم الأجداد

تضمّنت مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الثانية لمهرجان بغداد السينمائي 15 فيلمًا من بينها 5 أفلام عراقية وفيلمين تونسيين إضافة إلى ثمانية أفلام من بلدان عربية مختلفة وهي مصر وسورية ولبنان وفلسطين والمغرب والسعودية. ورغم أن غالبية جوائز هذه المسابقة قد ذهبت إلى العراق ومصر وفلسطين إلّا أنّ الفيلم الروائي السعودي قد نال إعجاب النقّاد والمشاهدين لما يتوفر عليه من جرأة فكرية، وسوية فنية، وجمالية التصوير والموسيقى إضافة إلى المؤثرات السمعية والبصرية الناجحة.
يشكِّل فيلم "هوبال" للمخرج السعودي عبد العزيز الشلاحي انعطافة مهمة في تاريخ السينما السعودية التي بدأت تتناول موضوعات جريئة لا تجد حرجًا في خرق المحظور، وكشف المستور، وانتهاك اللا مُفكر فيه وخاصة ما يتعلّق بالدين ومنظومة القيم الاجتماعية التي عفا عليها الزمن. ولو تأملنا هذا الفيلم الذي كتب قصته السينمائية مُفرج المجفل لوجدناه يتعالق مع ثيمات رئيسة وفرعية كالحُب، والحرب، والموت، والعزلة القسرية، والانعتاق من الهيمنة الأبوية (البطرياركية)، والفجوة بين الأجيال، والتزمّت الديني، إضافة إلى الخرافات والأساطير التي تنتعش في المجتمعات البدائية التي لا تحتك بالمدينة والحياة الحضرية إلّا لِماما. ينطوي فيلم "هوبال" على محمولات رمزية عديدة الأمر الذي انتشل قصة الفيلم من نسقها الواقعي إلى فضائها المجازي الأرحب الذي يعود فيه الفضل إلى السينارست مُفرح المجفل من دون أن ننسى دور المخرج اللمّاح عبدالعزيز الشلاحي الذي يفضّل هذا النوع من المقاربات الفنية المُوحية التي تتفادى المعالجات التقليدية فيجد نفسه منغمسًا في النَفَس التجريبي هنا وهناك.
يدور هذا الفيلم زمنيًا في أوائل التسعينات من القرن الماضي الذي شَهِد حرب الخليج واجتياح دولة الكويت الشقيقة من قِبل قوات النظام الدكتاتوري السابق. والحرب التي ليس فيها منتصر أو خاسر، توحي للكثيرين بأننا جميعًا محاطون بخطر داهم وإذا ما بالغنا في التقدير فسنقول إنّ الساعة قد قامت للتعبير عن الفجيعة الكبرى التي تنتظر البشر جميعًا.
لم يكن اختيار الأمكنة اعتباطيًا فلقد سبق للمخرج الشلاحي أن أمضى عدة أيام في الصحراء السعودية لكي يتأقلم مع المكان فلا غرابة أن ينتقي مكانين أو أكثر وهما صحراء (نيوم) في شماليّ المملكة وصحراء (رماح). وقد أسفرَ هذا الاختيار الدقيق عن توفره على معطيات مذهلة سواء في جمال الطبيعة الصحراوية وسحرها أو في هدوئها الذي يحفِّز على التأمل وإعمال الذهن.
ثمة لقطات ومَشاهد افتتاحية يجب أن تُؤخذ في الاعتبار مثل غزو الكويت، ودفن حفيدة الجد (ليّام) التي تموت بسبب مرض الحصبة المُعدي، ومَقتل الذئب وما إلى ذلك من مَشاهد مُعبرة ودالة لكن حبكة القصة السينمائية تتشعّب لتضع الأسرة برمتها أمام خيارات صعبة تهزّ الجميع ولا تستثني منهم أحدا. يُقرّر الجد الثمانيني (ليّام) الذي أدّى دوره ببراعة وإتقان الفنان (ابراهيم الحساوي) أن يهجر القرية ويعيش في قلب الصحراء لاعتقاده بأنّ القيامة قد اقتربت بسبب ظهور علامات تؤكد صحة ما يذهب إليه أبرزها "تطاول البنيان" لطبقتين في أفضل الأحوال وكذلك "تشييد المخبز" و "بناء مركز صحي" في الديرة فهل تتأكد مزاعمه التي انبجست من مخيلته الدينية التي لا تشذّ عن التفكير الجمعي لأبناء جلدته من الجيل الأول؛ جيل الأجداد الذي سوف يتمرّد عليه جيل الأحفاد بينما يظل جيل الآباء متشبثًا بالقيم الفكرية والأخلاقية والاجتماعية القديمة مع أنّ البعض من النسوة سيحرِّكنَ المياه الساكنة وينتصرن لمبدأ الحريات الشخصية التي تنتشل النساء من خوانقهنّ الضيّقة.
مع أن المرض المُعدي يفتك بالقرية وقد ينتشر في أرجائها إلّا أنّ الجد يحرِّم النزول إلى "الديرة" أو المدينة بالمعنى الأوسع فيترك الأبناء والأحفاد، رجالًا ونساء، صبيانًا وبنات في حيرة من أمرهم لكن التمرد سوف يتسرّب إليهم تباعًا وينتقلوا من الأقوال والرغبات إلى الأفعال الحاسمة التي تضع الهمزة على كرسيّ الكلام.
على الرغم من أهمية شخصية (ليّام) ومحوريتها في هذا الفيلم السينمائي الجميل إلّا أن قصة الحب التي تحدث بصمت بين الصبي عسّاف (حمد فرحان) وابنة عمه ريفة (أمل سامي) هي أشبه بالزهرة التي نبتت في تلك المضارب الصحراوية وبدونهما سوف يكون الفيلم أجدبَ قاحلًا تعوزه الرَقّة والشفافية وجاذبية الحُب غير المردود على نفسه. ومن أجل هذا الحُب البريء والصادق يقرر عسّاف انتهاك أوامر الجد ومغادرة القرية إلى المدينة بحثًا عن علاج لها في المركز الصحي خشية أن يتفشى المرض داخل الأسرة الكبيرة.
تأخذ الحبكة منحىً آخرَ حينما يقرّر الجد (ليّام) أن يختفي ويتوارى عن الأنظار نهائيًا ويختفي في أحد تجاويف الأرض "الدحل" الأمر الذي يفضي إلى خلافات حادة بين من يتمسك بالتقاليد القديمة وبين من يرغب في تقويض جدران العزلة المقيتة والخروج إلى القرية بحثًا عن النجاة. يموت عسّاف، في خاتمة المطاف، في خزّان الماء، ويتوارى (ليام) في أحد التجاويف الأرضية التي تبتلعه، بحسب العقل البدوي الجمعي، وتُظهره من تجويف آخرَ بعيد جدًا.
يحتفي هذا الفيلم بالمرأة السعودية التي حاولت التمرّد غير مرة فهي امرأة شجاعة وذكية لا ترتكن إلى الراحة والهدوء وقد رأيناها تقود السيارة وتقترح حلولًا منطقية للأزمة التي تمر بها العائلة لكن تعنّت الزوج يحول دون تحقيق ذلك حيث يشعر الأبناء بالندم لفقدان والدهم الذي ضاع في تجاويف الأرض الصحراوية.
لا بدّ من الإشارة إلى بعض اللقطات الرمزية حيث تقوم الأم برسم دائرة حول الخيمة التي تضم الطفلة المريضة اعتقادًا منها أنّ هذه الدائرة تمنع عبور الشرّ أو المرض. ولو دققنا في هذا الفيلم فسنجد فيه العديد من اللقطات والمَشاهد الرمزية التي تغني حبكة الفيلم وتُثري قصته السينمائية الجميلة.
قد يتساءل البعض عن معنى كلمة "هوبال" التي انضوى تحتها عنوان الفيلم فهي تعني (الحِداء) أو الصوت الذي يُطلقه صاحب الإبل في أثناء مناداتها. كما تضمّن الفيلم اللهجة البدوية التي تخللتها بعض الأمثال المحلية التي تُحيل إلى الناس الذين يقيمون في الصحراء ويتنقّلون في أرجائها الواسعة بحثًا عن الماء والكلأ.
لم يقتصر التعاون بين المخرج عبد العزيز الشلاحي والسينارست مُفرح المجفل على فيلم "هوبال" وإنما سبق لهما أن تعاونا في ثلاثة أفلام أخرى وهي "المغادرون" و "المسافة صفر" و "حدّ الطار" وفازت أفلامهما بجوائز متعددة في مهرجانات محلية وعربية.
لا بدّ من الإشارة أيضًا إلى أنّ أداء غالبية الممثلين كان مُقنعًا ومستوفيًا للشروط الفنية وخاصة الفنان ابراهيم الحسّاوي ومشعل المطيري وحمدي الفريدي وميلا الزهراني. كما لعب تصوير محمود اليوسف دورًا مهمًا في التقاط جماليات الصحراء التي زرعها في ذاكرة المتلقين من مختلف الأعمار. وفي السياق ذاته لا بدّ من الالتفات إلى الموسيقى التي أبدعتها سعاد بوشناق بحيث تناغمت مع أحداث الفيلم وتساوقت مع القصة السينمائية المطعّمة بوقائع متنوعة وكثيرة.
***
عدنان حسين أحمد - بغداد