أقلام حرة

مرتضى السلامي: هندسة الأرواح.. بين القالب الأوحد وفضاء الإمكان

لنتخيّل معاً أن العقل البشري حديقةٌ غنّاء، وأن كل طفل يولد هو بذرةٌ تحمل في داخلها وعداً بشجرةٍ فريدة، وزهرةٍ لا تشبهُ سواها. لهذه الحديقة نوعان من البستانيين: بستانيٌ يخافُ من تنوع الحياة، وآخرٌ يعشق اختلافها.

البستاني الأول هو "المُلقِّن"، الذي يؤمنُ بأن جمال الحديقة يكمنُ في أن تكون كل زهورها بلونٍ واحد، وكل أشجارها مصطفةً في صفوفٍ متراصة، لا تخرجُ إحداها عن الخط المرسوم. هذا البستاني لا يسقي بذوره بماء الحوار، بل بحقن "التلقين"؛ تلك العملية المنهجية التي تغرسُ الأفكار في العقول غرسًا، وتُعلّمها أن تقبل ما يُعطى لها دون تساؤلٍ أو نقد. إنه يبني حول حديقته أسوارًا عالية من الخوف، ويهمسُ في أذن كل نبتة: "إياكِ أن تفكري، إياكِ أن تكوني مختلفة، إياكِ أن تخطئي". وهكذا، ينشأ جيلٌ منقاد، يعيش في حالةٍ من "العبودية الطوعية"، ويظنُ أن هذا السجن المنظم هو جنة الأمان.

أما البستاني الثاني، فهو "المُربي النقدي"، الذي يؤمن بأن جمال الحديقة الحقيقي يكمنُ في تنوعها الثري، وفي قوة كل نبتة على أن تجد طريقها الخاص نحو الشمس. هذا البستاني لا يفرضُ شكلًا واحدًا، بل يُهيئ التربة الخصبة، ويُعلّم الجذور كيف تبحث عن الماء بنفسها. إنه لا يغرسُ الخوف، بل يزرعُ الشجاعة. حديقته ليست صامتة، بل هي فضاءٌ للحوار، حيثُ تتعلم كل زهرة من الأخرى، وتنمو الأشجار قويةً لأنها تجرأت على مد أغصانها نحو آفاقٍ جديدة.

إن الصراع بين هذين النموذجين هو جوهر حكايتنا الإنسانية. فالأنظمة التسلطية لا يمكنها أن تعيش وتترعرع إلا في حديقة الخوف التي يرويها التلقين. فالتسلط، الذي يُعرَّف بأنه نظامٌ يركز السلطة ويقمع المعارضة ويطالب بالطاعة غير المشروطة، يحتاجُ بالضرورة إلى عقولٍ تم "وأد قدرتها على التفكير". ولهذا، يصبح التلقين أداته الاستراتيجية التي يستخدمها عبر شبكة معقدة من الآليات:

 آليات نفسية: حيث يتم التلاعب بمشاعرنا، فيُغرس فينا الخوف من العقاب، أو الخوف من الخروج عن إجماع الجماعة وما يترتب عليه من نبذ. كما يتم تعزيز الطاعة العمياء للسلطة، وتنمية "التفكير الجمعي" الذي يفضل فيه الفرد الانسجام مع المجموعة على قول الحقيقة.

آليات معرفية: حيث يتم التحكم بتدفق المعلومات، فتُحجب عنا الحقائق التي لا تروق للسلطة، وتُضخّم الإنجازات، وتُخفى الإخفاقات. ويتم تثبيط الشك المنهجي والتساؤل، وتشجيع القبول السلبي للمعلومات، حتى يصبح العقل سجين "التفسيرات الجاهزة".

 آليات مؤسسية: حيث يتحول النظام التعليمي إلى أداة لغرس الولاء، وتتحول وسائل الإعلام إلى أبواق للدعاية، وتُستخدم المنظمات السياسية والدينية لتعبئة الجماهير وتلقينها أيديولوجية واحدة مهيمنة.

ولكن، حتى في أكثر الحدائق قمعًا، هناك دائمًا بذرةٌ تتمرد، بذرةٌ ترفض أن تكون نسخةً مكررة، وتشقُّ طريقها نحو النور. هذه البذرة هي روح "التربية النقدية"، تلك الفلسفة التحررية التي تأتي لتكون الترياق الشافي لسموم التلقين.

إن التربية النقدية، كما علمنا روادها الكبار ليست مجرد تعليم، بل هي "ممارسة للحرية". إنها ترفض "التعليم البنكي" الذي يعامل الطالب كوعاء فارغ نصبُّ فيه المعلومات، وتستبدله بـ "التعليم القائم على طرح المشكلات"، حيث يتحول المعلم والطالب إلى شريكين في رحلة استكشافية، يبحثان معًا عن حلول لمشكلات حياتهما الحقيقية. إنها التربية التي تسلحنا بأدوات التحرر:

 الحوار النقدي: الذي يعلّمنا أن نستمع ونفهم ونحترم وجهات النظر المختلفة، وأن نبني قناعاتنا على أساس الحجة لا الفرض.

 الوعي النقدي: الذي يمنحنا القدرة على رؤية الخيوط الخفية للسلطة، وفهم كيف تعمل هياكل الظلم وعدم المساواة في مجتمعنا.

 الاستقلالية الفكرية: التي تمنحنا الشجاعة لنفكر بأنفسنا، ولأنفسنا، ونكوّن أحكامنا الخاصة بناءً على قناعاتنا التي توصلنا إليها بوعي.

إن المقاومة الحقيقية للتسلط لا تبدأ في الشوارع، بل تبدأ هنا، في هذه الحديقة الداخلية، في عقولنا وقلوب أطفالنا. تبدأ حين نقرر أن نكون ذلك البستاني الحكيم الذي يزرع بذور الشجاعة والتساؤل والمحبة. حينها فقط، يمكننا أن نأمل في بناء مجتمعاتٍ حرة، لا تُقدّر الطاعة العمياء، بل تحتفي بجمال كل زهرةٍ فريدة، وبقوة كل عقلٍ مستقل. ففي أي حديقةٍ سنختار أن نعيش، وأن نُربي أجيالنا القادمة؟ إن هذا السؤال هو مسؤوليتنا جميعًا.

***

مرتضى السلامي

 

في المثقف اليوم