ترجمات أدبية

في الشتاء أبتسم تحت المطر البارد

قصة: يوكيكو توميناجا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

استيقظت وأنا أشعر بالبلل، ذلك البلل الذي ظل عالقًا في جسدي. كانت حلمتا صدري متصلبتين، وعندما احتكتا بقميصي، شعر النصف السفلي من جسدي بماضيّ. في حياتي السابقة، كنت أتوق إلى بشرة رجل أتلذذ به، وأتشبث به ؛ من أجل هذه الإحساسات. كنت امرأة ذات يوم.

كان أليكس نائمًا بجانبي، وأرجلنا ملتفة معًا. تحررتُ منه وأمسكتُ بفخذيّ. حاولتُ أن أمنع جسدي من الشعور بهذا الإحساس بالضغط بقوة. لكن نبضي بين فخذيّ استمر في الخفقان بجواره..

أترك الجهة اليسرى من سريري، الأقرب إلى الحمام، فارغة. حتى عندما كان عمره ثماني سنوات، كان أليكس يأتي إلى سريري بعد أن يذهب إلى الحمام في منتصف الليل، وعندما يأتي، كان يدفع قدميه بين فخذيّ. كان وجهه أكثر نعومةً وبراءةً مما هو عليه حين يكون مستيقظاً. كنت أستيقظ عند الفجر، قبل أن يرن المنبه، وأستغل نوم أليكس. كنت أتفقد رأسه بحثًا عن القمل، وعينيه بحثًا من المخاط، وأحصي النمش على وجهه. كنت أتتبع جبهته، وجفنيه وأنفه، الذي كان مثل زلاقة مصنوعة من البورسلين. كان إصبعي ينزلق على جسر أنفه، مرارًا وتكرارًا. ثم كنت ألمس خده بخدي، على إيقاع تنفسه، وأسترجع ليالي الصيف في اليابان، الليالي التي كنت أراقب فيها أمي وهي تزيل القشرة الرقيقة لخوخة بيضاء محمرة، والعصير يتساقط بين أصابعها.

في الحادي والعشرين من سبتمبر من كل عام، في ذكرى وفاة زوجي، أتصل بحماتي. أبدأ حديثنا ببشهيق خفيف، بما يكفي لتسمعني. ورغم أن أنفي نظيف، أتمكن من عزف دويتو شهيق إيقاعي معها. ثم عادة ما تمخط أنفها ثلاث مرات وتختتم المحادثة بقولها: "كيوكو، حان الوقت لكي تجدي سعادتك. لقد ضحيتِ بحياتك بما فيه الكفاية."

أقول لها الحقيقة: "شكرًا، لكنني سعيدة كما أنا." تنفجر حماتي في البكاء. وبينما أسمعها تشكرني على منحي ابنها السعادة التي عرفها، أشعر بطبقة أخرى من الذنب تتراكم في قلبي.

في عيد ميلاد زوجي، أشتري تورتة الكيك بالفراولة من المخبز الإيطالي في شارع ميشين وأدعو الجيران وبعض أصدقائه. يقلبون في ألبومات الصور على طاولة الطعام. بينما يضيء الضوء الخافت وجوههم وضحكاتهم وهم يستمعون لقصة قيام زوجي بتركيب محرك نوفا 1970 في مرآب منزلنا. أجلس بعيداً عنهم، على كرسي بجانب الموقد، وأنا أزيل بقايا عجين الفطائر من سطح المنضدة بينما أنتظر أن يغلي الماء. عندما يبدأ ضيوفي في العبث بصمت بالكريمة المتبقية على قطع الكيك، ينتابني الخوف من أن يُسألوني عن حالي.وأكثر من ذلك، أخشى أن يعانقني أحدهم، ويضغطني إلى جسده حتى أشعر بحرارة جسمه، لأنه في تلك اللحظة قد يلاحظون أنني لست فارغة من الداخل،  أو الأسوأ من ذلك، أنني راضية.

في الصباح الذي اكتشفت فيه أنني حامل بأليكس، التقيت بليفي في سانت فرانسيس. قلت له ألا يقلق، كل شيء تحت السيطرة، المكان للإجهاض، المال، حتى الطريق إلى المنزل. كل شيء تم تدبيره. كنا معًا فقط لبضعة أشهر، فقط بما يكفي لترك فرشاة أسناني في مكانها، لا شيء أكثر.

قلت:

- جائعة؟

وأنا ألوح للنادلة مبتسمة. طلبت قهوة وبسكويتا بالكريمة.

هز ليفي رأسه وأعادها دون أن يطلب شيئًا. لم ينظر إليها، بل ظلّت عيناه عليّ طوال الوقت. سألته:

- ما الذي نُشاهده الليلة؟

قال:

- هل فكرتِ أنني قد أريد الطفل؟ هل فكرتِ يومًا أنني أريد الزواج منك؟ أنا وأنتِ؟

ساعد ضجيج المطعم الشعبي في ملء الفراغات في حديثنا. كنت أراقب ليفي وهو يفتح منديله، ويضع الأدوات الفضية، ويعيدها إلى المنديل، ويعيد لفها من جديد. ثم يضغط بأصابعه على زوايا عينيه من الداخل.

مددت يدي نحو يده، وقلت:

- نعم، بالطبع، حبيبي.

ربما كان حبي له هو ما جعلني أكذب. إذا كان الأمر كذلك، فربما كانت نظريتي صحيحة، الحب يعكر السلام.

في الثلث الثاني من حملي، بينما كنت مستلقية على سريري، كنت أتخيل كثيرًا قطع معصمي، ودمي ينقط على الأرض، وحياة جنيني تنتهي ببطء قبل أن يواجه صعوبات الحياة ووالدة لا تحبه. ماذا لو أن الجنين امتص ليس فقط غذائي بل أيضًا مشاعري؟ ماذا لو أن أحلام اليقظة التي تراودني فرضت على الطفل مشكلات في التعلق؟ بدلًا من دمي، كانت دموعي تلطخ وسادتي. استدرت لأنظر إلى ليفي وضعت يدي على أضلاعه، أشعر بتوسعها وانقباضها، وتخيلت رد فعله عندما يجدني بلا حياة بجانبه. لذا، أبقيت الجنين على قيد الحياة. ليس من أجل الطفل. ليس من أجل ليفي. أبقيته من أجلي.

وُلد أليكس بملامح ملاكم ياباني مشهور أصبح فيما بعد كوميديان. وجهه أحمر ومجروح، وجسده مكدم. عندما ضغطته على صدري لأرضعه، كان بالكاد يفتح عينيه، جفونه ما تزال متورمة، وكأنه كائن فضائي... لا بياض في عينيه.

صرخت لأمي في اليابان عبر الهاتف.

-  إنه هنا! إنه بين ذراعي!  أحمر كالمؤخرة، ويبدو مثل جوتس إيشيماتسو. أمي، هو هنا معي، وعندما أضع أصبعي تحت أنفه، أستطيع أن أشعر بالهواء يخرج. إنه حي!

ضحكت أمي أو بكت أو كليهما، وقالت:

- يبدو أنه رائع!

- نعم، رغم أن ذلك لا يُعقل

- ولماذا يجب أن يكون معقولاً؟

مرتان أو ثلاث مرات في الشتاء، عندما يكون سريري باردًا جدًا بحيث لا أستطيع وضع قدميّ فيه، أصعد إلى سرير أليكس العلوي وأوقظه برفق.

- أليكس، ليكس، أليك، ليكسي، لولو. لالا. تعال إلى سريري.

أقول ذلك، وأنا أثيره بالدغدغة تحت ذراعه. يتمتم في نومه ويدير وجهه عني.

- أليكس، تعال ونم مع ماما.

أكرر. لا يتحرك و يبدو جسده كجذع خشبي ثقيل. بعد عدة هزات وهمسات في أذنه، يستيقظ، وعيناه ما تزالان مغلقتين، وينزل عبر السلم. أمسك ظهره لحمايته من السقوط، وعندما يصل إلى الأرض، أحمله إلى سريري. تتشابك أقدامنا، ويده الضعيفة مستلقية على خدي، ولم أعد باردة بعد الآن.

لقد كنت أجمع بطاقات العطلات الخاصة بالأبراج الصينية. كتبت خمسة عشر بطاقة حتى الآن، وأغلقت كل واحدة في ظرف بني. أخي رجل طيب يحتفظ بالأسرار لنفسه. وهو أيضًا رحالة عالمي يقضي كل وقت إجازته خارج اليابان. عندما يذهب أليكس إلى الكلية، سأعطي الظرف لأخي وأطلب منه أن يرسل بطاقة واحدة إلى أليكس كل عام من بلد أجنبي. أتخيل أليكس وهو يقول: "أمي! هي أسعد امرأة أعرفها. العام الماضي كانت البطاقة مختومة في فرنسا، وهذا العام في البرازيل." وسأبتسم تحت المطر البارد مع صورة ابتسامته.

هذا الصباح، تركت أليكس دون أن ألمسه وذهبت إلى المطبخ. شغلت الفرن على درجة الشواء، كسرت بيضتين في وعاء، أضفت بعض الحليب، خفقتهما، وصببت المزيج في المقلاة. وضعت قطعة من البطاطا المحمصة المجمدة في الفرن وألقيت شريحتي خبز في المحمصة. حضّرت الفطور لنفسي أيضًا، حتى يكون لأليكس من يتناول الطعام معه. تناول الفطور بمفرده هو ما يفعله الأطفال الوحيدون. ابني ليس وحيدًا. لن أسمح بذلك. أعرف أنني لا أستحق أن آكل، لكن إذا لم آكل فمن سيبقى ليحبّه؟ قطعت شقين على قمة برتقالة لكي أتمكن من تقشيرها، حتى يأكل الفاكهة ولا يقتصر الأمر على امتصاص العصير فقط. صببت بعض الحليب في أكوابنا. لا قهوة في بيتي. أليكس لا يزال صغيرًا جدًا عليها، ولا أشتري هذا المنتج الفاخر لنفسي. أخرجت البطاطا المحمصة من الفرن ووضعتها في طبقه وتساءلت أين أخطأت.

رَنَّ المنبه وحان الوقت ليصحو. انفرجت شفتاه قليلاً؛ استنشقتُ زفيره. أنفاسه التي تشبه رائحة الأعشاب البحرية.  لا أستطيع مقاومتها، لا أستطيع إلا أن أتناولها. قلت له:

- حبيبي، حان وقت الاستيقاظ.

تحرك قليلاً، جذبني إلى سريري، ودفن وجهه في حضني.

تجمدتُ في مكاني. قال في توسل:

- خمس دقائق أخرى.

- لا، الوقت انتهى.

تذمر لكنه نهض من على  السرير ببط ومشى إلى الحمام. رأيت ظهره وهو يقف أمام المرحاض ثم سمعت صوت الماء الجاري. سأل وهو يغسل يديه:

-  ماذا يوجد على الفطور؟

أجبت:

- نفس ما كان بالأمس.

لا أحد في هذا البيت، فقط هو وأنا. لا أحد يراه في هذا البيت، فقط أنا. ولا أحد أراه في هذا البيت، ولا خارج الباب، ولا في أي مكان، سوى هو. من سيحبّه إذا لم أكن أنا؟

جلسنا وجها لوجه. الطعام لا يزال دافئًا، تمامًا كما يجب.

سألته:

- هل تحبني؟

-  نعم، لماذا؟

قلت:

- لأني سعيدة.

هز كتفيه. يؤلمني أن أكون سعيدة.

قال:

- كلمتنا الآنسة سميث عن الجنة والنار بالأمس، هي لا تؤمن بأي منهما، لأن المعلمة في مدرسة الأحد قالت لها عندما كانت طفلة أن كلبها لا يمكنه الذهاب إلى الجنة معها، فالبشر فقط هم من يستطيعون ذلك.

قلت:

- هذا مضحك. بماذا تؤمن أنت؟

-   أؤمن بكل شيء، الجنة، والنار، والتناسخ، وحقل العقاب، وحقل الزنابق. وماذا عنك؟

- لا أؤمن بأيٍّ من ذلك.

أنهينا فطورنا. غسل أسنانه، غير ملابسه، وأخذ حقيبته. فور أن مدّ يده إلى مقبض الباب، استدار، ونظر إليّ. قال:

- بلى، أنتِ تؤمنين يا أمي. أعلم أنكِ تؤمنين بشيء ما.

(تمت)

***

......................

الكاتبة: وُلدت يوكيكو توميناجا / YUKIKO TOMINAGA ونشأت في اليابان. وصلت إلى نهائيات جائزة فلانري أوكونور للقصص القصيرة لعام 2020، التي اختارتها روكسان جاي. رُشِّحت أعمالها لجائزة بوشكارت، ونُشرت في مجلتي شيكاجو كوارترلي ريفيو وبيلينجهام ريفيو، ومنشورات أخرى. تعمل أيضًا في دار نشر كاونتربوينت، حيث تُساهم في تعريف القراء الناطقين باللغة الإنجليزية بكتب يابانية لم تُترجم من قبل.

 

في نصوص اليوم