ترجمات أدبية
إيشغول سافاش: التجوال بحرية
بقلم: إيشغول سافاش
ترجمة: د. صالح الرزوق
***
أقمت في إسطنبول لعدة أيام لزيارة جدي. وأقام فيها ليكون مع والدي في بداية الجائحة، فقد خاف أن يتركه وحيدا، في مدينة البحر الأسود، مكان تقاعده. وألححنا عليه أن يأتي إلى المدينة، فقط لوقت محدود. وكان قرارا حكيما، فقد تدهورت صحته بسرعة في تلك الشهور، وأصبح مكوثه معنا غير مضمون. ولم يعد بمقدوره الخروج بنزهة طويلة كعادته، أو أن يبقى واقفا لفترات مطولة. كان جدي ينفق دائما نهاراته في الخارج. وإذا جاء الى اسطنبول، يستقل حافلات أو عبارات المدينة، وأحيانا يصل إلى أبواب المدينة. ويتنقل في أرجاء البلاد وينام في خيمة. ويمكث في قرى جبلية ويدعو نفسه لطعام الإفطار في بيوت السكان المحليين. كان يحب هذه التصرفات - مقابلة الغرباء، والتعرف على مختلف أنواع الحياة. وغالبا ما يحثنا، نحن أحفاده، لننضم إليه. وعرض علينا صور الناس الذين التقاهم في هذه الرحلات، والذين احتفظ بالتواصل معهم. في إحدى المرات، حينما كنت أتناول فطوري معه في مقهى بحري في إسطنبول، اتصل به، بواسطة الفيديو، صبي يبلغ العاشرة أو الحادية عشرة وتمنى له عطلة طيبة.
قال له الولد:"تفضل ثانية وبأسرع وقت لزيارتنا يا جدي". عشت أنا وأبناء أعمامي في الخارج، ووجدنا صعوبة لتوفير وقت الرحلات والسفر، وكانت زياراتنا لموطننا مختصرة لرؤية ما أمكن من المعارف بأقصر وقت. ولكننا كنا نفتخر بجدنا - بروحه الشابة وبإقباله على المخاطر. وربما كان هذا يعنينا، وكأنه هوية عائلية تميزنا جميعا. منذ وصولي زرت الأقارب والصديقات، وذهبت أيضا إلى البوسفور، ومودا، وجيهانجير - وهي زيارات تفضي إلى زيارات مماثلة، ولكن لم أستمتع بها كالسابق. كانت الأحياء تتبدل بسرعة خلال رحلاتي، وازدحمت جدا. وامتلأت المدينة لدرجة لا تصدق، واحتلها السياح - ترى تيارا غزيرا من الناس يتنقلون ببطء، ويحاصرون كل شيء. وكنت أشعر بالنفور، واشتقت للمدينة التي نشأت فيها. اتصلت بجدي هاتفيا في الليلة السابقة لأخبره بموعد زيارتي في مساء اليوم التالي. سألني لماذا لم أتصل من قبل لنجتمع مباشرة ونحضر وجباتنا معا طيلة فترة الزيارة. حين سافرت عقد والدي عزمه على المغادرة. فقد كانت لديه واجبات، كما أخبرني، بالإضافة إلى ذلك، فضل أن ينفرد بعض الوقت معي، عوضا عن أن يراني برفقة جدي. لم يعجبني ذلك، ولكن شعرت أن تدابير الحياة بدأت تفعل فعلها. ولم يعد من المقبول أن يعود جدي إلى بلدته الصغيرة. طبعا لم يذكر والدي شيئا من ذلك، ولكن توقعته من حواراتنا بالهاتف وأنه يميل للخروج أكثر. لاحقا في تلك الأمسية قابلته لشرب القهوة، قبل أن أذهب إلى بيت أمي لتناول العشاء مع خالاتي. كانت حياة البيت مرهقة، فأنت تشعرين بالتمزق بين الواجبات التي يفرضها ظرف عائلتنا المبعثرة. استقليت سيارة الأجرة حينما اتصل جدي ليستفسر أين أنا.
قلت له:"أنا بطريقي. ولكن أحتاج لوقت لأصل". تخيلت نفاد صبره. لا بد أنه ارتدى ثيابه واستعد منذ ساعات. وهو ينظر الآن من النافذة، يستطلع ساعة وصولي. اتصل ثانية حينما كانت سيارة الأجرة تعبر الجسر. ونسي أن يخبرني أن الجرس في الأسفل لا يعمل دائما، ولذلك يجب أن أضغط بقوة. ثم خابرني مرة ثالثة ليقول إنه علي أن أتصل حينما أقترب.
قلت بقليل من العصبية:"جدي. سنلتقي حالا".
عند الباب، استقبلتني امرأة وظفها والدي لتكون مدبرة منزل بعد إقامة جدي. قابلتها مرة من قبل، ويحضر في ذهني الآن أنها جورجية، ولكن لم أتذكر اسمها مباشرة. قالت:"الجد قليل الصبر جدا اليوم". وكانت تتكلم بالتركية مع لكنة ثقيلة، وتؤكد على الكلمات بأسلوب غير مألوف، ولكن رأيت أن تمكنها من اللغة أمر مذهل.
تخليت عن حذائي ومعطفي، ثم ذهبت إلى غرفة الجلوس، حيث جلس جدي في كرسي بذراعين. حاول أن ينهض، ولكنني أوعزت له أن لا يتعب نفسه، وقبلت خديه. كان متعبا جدا، وكسرات صغيرة من الخبز ملتصقة بجبينه. وكان لا يزال ببذة من ثلاث قطع وربطة عنق، وبلا شك ارتداها على شرفي. قلت:"انظر لنفسك. انظروا لهذا السيد الأنيق". جلست قبالته، وأنا أعد أيامي الأولى في إسطنبول، والأشخاص الذين قابلتهم حتى الآن. أخبرته أن أمي حضرت له طبقا من لحم الحملان حال وصولي.
قال جدي:"لم تكلف نفسها بزيارتي أبدا. ولم تدعوني أيضا منذ إقامتي هنا".
أسعدني أن والدتي ليست موجودة لتسمع هذا الكلام. شعرت بالغضب في الحال، وأحزنتني رغبة جدي أن يكون ضيفا على كنته السابقة.
قلت له:"إنها تعمل. ولا تملك دقيقة فراغ لنفسها". ولم أكن جاهزة لأشرح له أن أمي لا ترغب برؤية عائلة أبي، ناهيك عن خدمتهم.
كانت قطيفان - الآن تذكرت اسمها - واقفة بالباب، وسألتنا متى نود أن نتناول طعامنا. أخبرتها أنني لست جائعة جدا. فقط أود أن أسكب لنفسي كأسا من الشاي. وإذا رغب جدي بشيء، يمكنني أن أحضر له صينية. ولكن حالما نطقت بهذا الكلام، لاحظت أن طاولة الطعام أصبحت جاهزة كأنها حفلة أول السنة الجديدة، وكان يغطيها خوان أبيض وفوط حمراء، مع إناء يحتوي على زهور القرنفل. قال جدي:"طبعا أنت مزمعة على تناول الطعام معنا. سوف نأكل معا".
شخص آخر ظهر وراء قطيفان، بنت مراهقة، ربما بالخامسة عشر من عمرها. قال جدي:"الأميرة الصغيرة هنا".
مع أن الطاولة مجهزة لأربعة، كررت قطيفان إنها هي وناتيلا - ابنتها - ستتناولان الطعام في المطبخ. قلت لها:"من فضلك جالسينا". وفي نفس الوقت، أزعجني أن جدي وضع هذه الخطة ودفع المرأة للطهي وطلب منها أن نجتمع معا على الطعام. قلت لنفسي بالتأكيد تفضل الأم والابنة الاهتمام بنفسيهما.
قال جدي:"طلبت منها أن تعد طبقها المفضل من أجلك".
أشار لي لأعينه على النهوض، مشينا خطوة خطوة نحو الطاولة، وأحكم وضع يده على ذراعي. وثانية باغتني ضعفه، ولم أكن جاهزة لتقبل ذلك، كما لو أن ذاته الكهلة كانت مختبئة بانتظار هذه الزيارة لتعلن عن نفسها. وسيطر علي شعور غير عاقل أن ما أرى هو مجرد طور انتقالي فقط، وسرعان ما يستعيد نشاطه. لم أكن مرتاحة للجلوس على الطاولة بينما قطيفان وناتيلا تأتيان بالأطباق، ولذلك ذهبت للمساعدة. في المطبخ وجدت صينية من الخبز الذهبي، وسلطة من الجزر المفروم مع شرائح الفاكهة. قلت لقطيفان:"هذا كثير. ما كان عليك ذلك".
هزت رأسها، وابتسمت لي، ثم مدت يدها بصحن طعام لأحمله.
سألت ناتيلا ونحن نتناول غداءنا عدة أسئلة، وترجمت أمها الأجوبة. وصلت إلى إسطنبول قبل ثلاثة شهور، وحاليا تعمل في مكتب في الجهة المقابلة من الشارع. ويمكنها فعليا أن تفهم الكثير من كلامنا، ولكنها حتى الآن تخجل أن ترد باللسان التركي.
سألت:"ما طبيعة عملك في المكتب؟". أخبرتني أمها أنه غالبا التنظيف والطهي. لم تكن ناتالي شابة كما توقعت - وإنما انتهت من المدرسة الثانوية في عامها السابق.
سألتها:"هل تحبين إسطنبول؟".
نفضت ناتيلا كتفيها، وقالت شيئا لأمها، ثم قالت بالإنكليزية "أحب ساحة تقسيم. ولكن ماما لا تهواها".
قلت لها:"لغتك الإنكليزية جيدة جدا". وكررت نفس الكلام بالتركية لقطيفان. فانحنت لي باعتزاز. وقالت إن تقسيم مكان رديء. ولا أحد يعلم أصل الناس الذين يتسكعون هناك.
كانت ناتيلا ترتدي ثوبا أسود ضيقا. وله أساور عند معصميها. وتحت كوعها الأيسر وشم صغير بشكل عصفور. قلت لنفسي إنها صغيرة، ولكنها تتعجل سن النضج. وأستطيع أن أفهم إقبالها على رغباتها، وميولها للتحرر. في الصيف الذي أنهيت فيه مدرستي، خرجت للتجول في ساحة تقسيم مع صديقاتي المعتادات، وعدنا في وقت متأخر من الليل إلى البيت. وحصلت على قبول من جامعة أجنبية ذات سمعة محترمة، وسمحت لنفسي بكل النزوات التي لم يكبتها والداي. أسفت لناتيلا، لأنه يتوجب عليها أن تلتزم بنا. لا بد أن هذا يضجرها جدا.
قلت:"لماذا لا تذهب بالحال؟ اليوم بأوله وهي بعطلة".
قالت قطيفان:"إذا أردت الانصراف يمكنك أن تذهبي".
لامست ناتيلا ذراع أمها بوجهها وقالت:"لقد جهزنا الكيك".
انتبهت لاحقا أنها لا تزال طفلة. سألت قطيفان:"هل شبع ابننا؟". وقدمت إلى جدي لفافة إضافية، ثم سكبت له المزيد من السلطة الملونة.
قالت:"حينما يكون والدك موجودا تصبح حمية جدك شديدة. لا حلويات، لا خبز. ولحم يكفي العصافير. ولكن ابننا شره للطعام. دعيه يمتع نفسه".
قلت:"أفترض ذلك".
أضافت:"ماذا لديه ليهتم به الآن؟". انتبهت لصراحتها وبدلت الموضوع بسرعة. ولكن لم يعترض جدي على كلامها. كلما كلمته بالهاتف كنت أكرر بإلحاح إنه سريعا ما يستعيد عافيته ويخرج للنزهة، وعليه أن يستعد ليراقصني في عرس الأقارب في آيفاليك في الصيف.
باشر جدي بالتهام طبقه الثاني، ونظر ليتأكد أنني آكل. قال:"قيسبان طباخة ماهرة".
صححت له:"قطيفان".
قال:"أنا أسميها قيسبان. وهي قيسبان. واسم الأميرة الصغيرة نيهال".
قلت له:"لا يمكن اختراع أسماء جزافا يا جدي".
قالت قطيفان:"لا مانع لدينا".
أخبرتها أنني زرت جورجيا مرة واحدة، منذ سنوات، مع صديقي.
ردت:"آه".
قلت وأنا أعلم أن كلامي كليشيه:"بلدكم رائع". سمعت هذا الكلام عدة مرات من زوار تركيا، وتوجب علي الاستماع لكلامهم عن محطات معروفة مروا بها. ورغم ذلك عددت لها أسماء الأماكن التي سافرت إليها - تبليسي، باتومي، ورحلة يوم واحد إلى متسكيتا.
قالت قطيفان:"رائع. رحلة جميلة".
سألتها: "متى سافرت إلى بلدك آخر مرة؟".
قالت إنها عادت هي وناتيلا قبل شهور قليلة، حالما رفعت موانع السفر، ولكن واجهتا إجراءات قاسية. وعلاوة على ذلك لم يسمح لها والدي إلا بعطلة لمدة عشر أيام، وهذا يعني حينها أن مدة السفر والحجر الصحي الذي استمر لأسبوع، استهلكا وقت الزيارة. ولم يشاهدا الأقارب إلا بصعوبة، وفي اليوم الذي تحررتا به، حصلتا على باقة زهور لزيارة قبر أم قطيفان. وانتبهت أنني أعلم بهذه الرحلة. فوالدي لم يجد بديلة عن قطيفان خلال غيابها. وتوجب عليه أن يعسكر في البيت، ليساعد جدي. وتذمر على الهاتف بقوله:"ذهبت هكذا وتركتني في هذا الحال. جدك إنسان مستحيل. وهو حرفيا يبحث عن وسيلة ليلحق الضرر بنفسه".
كان صبر والدي محدودا أمام أبيه. وكان يتفجع حينما يهمل جدي أبسط المعايير - ويأكل الحلوى، أو لا يستعمل كلتا يديه ليوازن نفسه حينما ينهض عن كرسيه.
سألت قطيفان:"أين أقمت في زيارتك؟".
قالت:"في بيتنا. مع زوجي وابني". وذكرت لي اسم بلدة، وأومأت برأسي مع أنني لم أسمع بها أبدا. وذكرت أنها بنت بيتها مع زوجها، وهو أمام بيت أهل زوجها، وبينهم شراكة على بستان. أما أخوتها فكانوا يقطنون بالجوار. ولكن تلك الأيام مضت. بسبب عدم وجود عمل لهم. سافر أخوها إلى اسبانيا، وأختها إلى أذربيجان. وحاول ابنها أيضا أن يغادر، لينضم لها ولناتيلا في إسطنبول. أما أهل زوجها فقد توفوا مؤخرا. وعلى الأقل بقي زوجها للعناية بالبستان. ولديهم العديد من أشجار الفواكه، وهم يزرعون كروم العنب. ولمست ناتيلا وقالت لها شيئا. أحضرت ناتيلا من المطبخ زجاجة بلاستيكية ملفوفة بالسيلوفان. قالت قطيفان:"نبيذ زوجي". أخذت الزجاجة من ابنتها وبدأت تفك الغلاف.
قلت:"آه، لا. عليك شرب ذلك بنفسك. فهو خاص جدا"
تابعت قطيفان إزالة الغلاف. قال جدي:"أريد أن أتذوقه".
قلت:"جدي. الكحول يضرك. من فضلك لا تشرب".
وقلت لقطيفان:"رجاء لا تفتحيها".
قالت قطيفان:"اليوم يوم خاص".
ألححت:"هذا لطف منك. ولكن لا ضرورة له".
تابعت قطيفان:"إنه يوم خاص. فهو يوم تسجيل ولادة ناتيلا".
كانت حماقة مني أن أفترض أن النبيذ هدية لجدي ولي. وشعرت بالارتباك لأنهما ستمضيان يومهما معنا، وقد حضرا له مطولا.
قلت:" لماذا لم تخبرينا؟". وكررت: بإمكان ناتيلا أن تنصرف، وتنضم لصديقاتها في أي مكان.
وقلت:"هل يوم التسجيل مثل عيد الميلاد؟ وهل تحتفلون به؟".
قالت ناتيلا:"احتفلنا به صباحا. وحضرت ماما الخبز للإفطار. وأشعلنا الشمعة وصلينا. وخابرنا البيت حينما كان الجد نائما".
مجددا شعرت أنني سخيفة لأنني اعتقدت أن كل هذا الطعام تكريما لي. وبدا أن جدي لا يعرف شيئا عن يوم التسجيل، مثلي، وأن قطيفان وناتيلا حرصتا أن يكون مناسبة خاصة.
أحضرت قطيفان أكوابنا الكريستالية من خزانة وراء طاولة الطعام. وتذكرت أن والدي أحضرا هذه الأكواب أثناء رحلة في سلوفينيا. وكانت من بين عدة أشياء تحولت إلى ذكرى عن انفصالهما المرير. وربما لهذا السبب لم أشاهد والدي يستعملها أبدا. وكذلك أمي تجنبت في معظم الحالات المقتنيات التي كانت تشير إليها باعتزاز. ملأت قطيفان أكوابنا، حتى منتصفها، لجدي وأتت ناتيلا بالكيك.
قال جدي:"ممتاز. مطبخهم متنوع جدا".
سألت:"وكيف تقضي التقاليد؟. هل علينا أن نغني أغنية؟".
قالت قطيفان:"نشرب نخبا".
رفعت كأسي وقلت:"نخب يوم تسجيل ناتيلا. أتمنى أن تتحقق كل أحلامها".
كان النبيذ قويا وحلو المذاق.
ثم رفعت قطيفان كأسها. وتكلمت بالجورجية، واستمعت لها ناتيلا باهتمام، ورأسها محني. ثم مجددا ضغطت وجهها على ذراع أمها.
قالت قطيفان:"شربت نخب مستقبلها".
وقالت بالتركية:"مثلك شربت نخب أحلامها. ولذلك يمكننا أن نكون عائلة واحدة، ولا يتوجب علينا أن نحلم بأمور بعيدة". وطبعا كان نخبي عاما، ومفتوحا على كل الاحتمالات. وفوق ذلك ربما تخيلت ناتيلا تحلم بمستقبل في أمريكا أو أوروبا، مستقبل يمكنها به أن ترحل في العالم. وحين كنت بعمرها، رغبت فقط أن أسافر وأن أكون حرة، وأن أبدأ حياتي في مكان آخر.
تابعت قطيفان:"أشرب نخب نهاية تلك الجولات، وأن تنجح بلداننا بحكم نفسها. أشرب نخب شعبنا وأن لا يضطر لمغادرة بلده".
أنهى جدي كعكته، وبدأ يميل على الطاولة.
قلت له:"جدي. أنت تغط بالنوم". ولمست يده.
قالت قطيفان:"الولد الكبير أكل كثيرا". وضعت كأسها من يدها، وكان لا يزال مليئا. ساعدنا جدي على النهوض، وساعدته على الانتقال إلى كرسيه ذي المسندين. وهكذا انتهى شرب الأنخاب. بدأت ناتيلا بتجميع الأطباق. وأغلقت غطاء الزجاجة، وحملت الكيك إلى المطبخ. وما أن جلس جدي حتى أشار إلى الريموت كونترول، ودمدم أن هناك برنامجا على وشك أن يبدأ. كتب والدي رسالة يسأل متى سنلتقي.
قلت لجدي:"سأسمح لك برؤية البرنامج". ولكنه أصر أن أجلس معه. وأهاب بقطيفان، التي تنظف الطاولة، أن تعد الشاي. قالت وربما بقليل من التذمر:"إنها تغلي".
كان البرنامج، مثل كثير غيره، عن شؤون العوائل الكبيرة والغنية. وفي كل مرة تظهر به شخصية على الشاشة، يقدم جدي معلومات عن خلفيات وتاريخ أبنائها غير الشرعيين، والابتزاز واللهو النسائي. وكان من الصعب أن تربط سلسلة العلاقات المعقدة التي كان يعرفها، وكان الموضوع كله يبدو لي بعيدا لدرجة استفزازية. ومع ذلك كنت مهتمة. بعد تنظيف الطاولة وتقديم الشاي، جاءت ناتيلا أيضا لتشاهد البرنامج.
سألتها:"هل تحبين هذا البرنامج؟".
انتفضت وقالت:"لا أفهم كل شيء فيه".
ابتسمت وقلت:"وأنا لا أفهم كل شيء".
كل خمس عشرة دقيقة يقاطع البرنامج الإعلانات.
قلت لجدي:"حلقة واحدة تستغرق اليوم كله".
قال:"هذا أفضل لي. على الأقل يشغل وقتي".
شعرت بالحزن بعد كلامه العلني. كان علي ترتيب طريقة لإخراجه، وربما ليجلس بمحاذاة البوسفور أو أن يأكل في مطعم. وكان علي أن أغادر قريبا لألتقي مع والدي قبل العشاء. وكنت آمل أن يغط جدي بالنوم لأتمكن من التسلل، ولكنه الآن متيقظ، ويشاهد الإعلانات باهتمام.
قلت وأنا أضع يدي على يده:"جدي يجب أن أذهب".
قال:"لم العجلة؟".
قلت له لأرى والدي.
قال:"ولماذا لا يأتي إلى البيت؟".
دمدمت:"أعتقد لديه اجتماع".
قال جدي:"حسنا".
قلت:"سأحاول أن آتي ثانية قبل أن أرحل. إن لم أستطع تذكر أن تخطط لرقصتك في يوم العرس".
قال جدي مجددا:"حسنا. انقلي تحياتي لأمك".
فاجأني وداعه الرسمي، كما لو أن استسلامه علامة على حالته الفيزيائية، ودليل على على قلقه.
كررت:"سأحاول القيام بزيارة ثانية، وسأخبرك".
انحنيت وقبلت خديه. قبلتهما مرة ثانية، وربت على خصلات شعره الممشط على جمجمته. وخلال فترة الإعلان، انضمت ناتيلا إلى أمها في المطبخ، وجلست على مقعد، وهي تثرثر بمرح، وقطيفان تغسل كومة الأواني والصواني. قفزت على قدميها حالما شاهدتني بالباب.
قلت:"علي أن أنصرف. شكرا على الغداء المدهش".
تركت قطيفان أطباقا ثقيلة وجففت يديها بمريولها. قالت:"الوقت مبكر. والجد مهتم جدا برؤيتك".
حنقت عليها، وشعرت بالخزي. قلت لها:"من الصعب أن تري الجميع بشكل لائق في زيارة قصيرة".
أحضرت ناتيلا معطفي، ورفعته من أجلي لأرتديه.
قلت:"يوم تسجيل قيود سعيد يا ناتيلا. واشكري والدك على نبيذه الرا ئع".
سألتني قطيفان، وأنا أرتدي حذائي، إن كان بإمكانها التكلم مع والدي: فهي تود العودة لديارها في الربيع. وسبق لها أن سألت والدي مرتين، وكان حازما معها. أخبرها أنها تعلم، منذ البداية، واجبات عملها، وإما أن تلتزم بها أو أن تستقيل.
قالت قطيفان إنها لم تكن تريد إغضابه، ولكن من المهم لها أن ترى عائلتها.
قالت:"لم أطلب منه علاوة منذ سنوات. مع أن ناتيلا تعاونني في رعاية الجد دائما بعد أوقات العمل. ويسعده رؤيتها حوله. فهي تجلب له السعادة".
وطيلة الوقت وهي تتكلم كنت أهز رأسي. مع أنني مدركة أنه لا رأي لي في هذه الأمور. ولكن أخبرتها أنني سأذكر ذلك لوالدي. كان الطقس مشمسا، وصاخبا بالمرور والمشاة والباعة المتجولين: هذا منتصف اليوم. اتجهت إلى جادة بارباروس، حيث يمكنني إيقاف سيارة أجرة. وتقريبا قررت أن لا أذكر طلب قطيفان لوالدي. فهذا بلا شك سيغضبه مجددا، ولم أكن أود إفساد اجتماعنا القصير. عموما لم أكن بموقف يسمح لي بالدفاع عن المرأة، ولا تفسير رغبتها برؤية زوجها وابنها. فأنا سأغادر بغضون أيام قليلة، وسأتحرر من واجباتي. ولم أكن الشخص الذي يتابع احتياجات جدي يوميا. ثم لم أكن أرغب بترك جدي مع غريب خلال غياب قطيفان وناتيلا. فقد كان مرتاحا لصحبة الأم وابنتها. وبالتأكيد يمكنهما السفر في الصيف، حينما يسافر جدي معنا لحضور الزفاف.
فكرت في تلك الأمسية بالكتابة لأبناء عمي المتواجدين في مجموعة واتس أب، من أجل التخطيط لرحلة بعد حفل الزفاف في آيفاليك. كنا في السابق نتكلم غالبا على أشياء مضحكة مرت بنا في الإنترنت، وكذلك على صور الطفولة التي اكتشفناها خلال زياراتنا. وأزمعت أن أقترح اصطحاب جدنا للإقامة في فندق أو للاشتراك بعطلة. كان الجد يعشق البحر ويحب السباحة. ومنذ سنتين، سبح في منتصف الخريف، وأخبرنا باعتزاز كيف كان الماء البارد جيدا لجسمه وعقله. ويمكننا أن نجد مكانا على الشاطئ، بيتا بلا سلالم. ليجلس ويراقب البحر. ولدي رغبة باجتماعنا كلنا حوله على الشرفة، والاستماع لقصصه التي لا نعرفها من قبل أو التي لم نهتم بها في حينه. وفكرت يجب أن نسأله عن كل الرحلات التي قام بها حول تركيا، والخيمة التي نام فيها، والغرباء الذين قابلهم.
وقفت في جادة بارباروس ورفعت يدي، بانتظار سيارة أجرة. وحاولت أن أتناسى الشعور الملح أن جدي لن يعيش حتى يوم العرس. كتب لي والدي بالموبايل: أين أنت؟. أخبريني إذا كانت خطتك لنلتقي قائمة. تجاهلت نبرة الانزعاج، وكتبت له أنا بالطريق، ولكن لا يمكنني المكوث لفترة طويلة.
***
...........................
إيشغول سافاش Ayşegül Savaş: كاتبة تركية مقيمة في باريس. من أهم أعمالها: المسافة البعيدة، المسير على السقف، أبيض على أبيض، الأنثروبولوجيون.
الترجمة عن النيويوركير عدد 12 تموز 2024