قراءات نقدية

الحسين أخدوش: إبراهيم أوحسين ومهمّة الشعر الخطيرة

إنّي محَييكِ يا أرضي بمِحْبرتي

لمّا علمت بأنّ الشِعْرَ يرتشف

(من قصيدة أمام بابك، ديوان قوافل من كلام)

للشاعر إبراهيم أوحسين

***

لكل إنسان مشكلة يود حلها في حياته، أقصد مسألة وجودية حاسمة وليس فقط مشكلة عادية. وفيما يخصّ حالة صديقنا الشاعر إبراهيم أوحسين، فعلى ما أعرف بالقرب منه رحمه الله، فقد كانت قضيته الشعرية مسألةً فكرية في غاية الجدّية؛ إذ كان شعره مرتبطا بصنف من المشكلات التي تلتصق بحياة أولئك الذين يخاطرون بنمط وجودهم الذاتي المسكون شعرا. أولئك الذين يغامرون بالشعر سبيلا لتسوية مشكلاتهم الوجودية والميتافزيقية.

كان الراحل إبراهيم أوحسين ينتمي إلى هذا الصنف دون أن يعلم حجم المغامرة الفكرية التي دخل معتركها شعريا. حقّا، لم يكن ـ رحمه الله عليه ـ يدري أنّ قدرا ما هو من اختار له الاقتراب من دائرة الخطر هذه؛ أي خطر المجازة بالشعر في دوائر صوّفية شأنها أن تُذيب كينونة هَشَّة في أشواق وشطحات صوفية سمّاها هو بنفسه: "هلوسات شاعر".[1]

والواقع أنّ الشاعر هنا فصح عن شقاء ما، شقاء ليس كشقاء سواد الناس، أي شقاء عصره الذي عاشه: عصر ضمور وتيه الكينونة. لذا كانت لغته الشعرية في أحايين كثيرة مسلكا ومعبرا اشاريا لهذا الشقاء المقدّس: أقصد المعنى الذي يفيد كون هذه اللغة نوعا من تجلّي المقدّس في كلامه من حيث كون انفعالاته إشراقات صوفية وليس تعبيرات سيكولوجية. وهذا نجده لديه جليا في قصيدة له بعنوان "غريب أنا"[2]:

[...]

وإنني لمّا استفقت من الكَرَى

علمتُ بأني ما برحتُ مكانيا

وهذا بريقُ الحُلمِ أركبني سدى

على فرسٍ لمّا طردت حماريا!

وخلدني فوق العروش كأنني

إذا مِتُّ يوما لن أعُدَّ عِظاميا

كذا عطشُ المنفى وإنْ فاضَ ماؤُهُ

فلا الماءُ مائي، لا الهواءُ هوائيا

تعجَّلتُ موتي قبل موتي وليس لي

سوى قَوْلِ: ربي لا تزِدْنِي الدَّواهِيَا

وما نفْعُها الأفهامُ تحضرُ بعدَما

بأقلاميَ السَّكرى كَتَبْتُ فنائِيِا؟

كسرْتُ زُجاجاتي ولُمْتُ زُجاجها

فمنْ يا تُرى يَبْكِي الدموعَ مكانيَا؟

يوّد الشاعر في هذه القصيدة قول كلّ شيء دفعة واحدة، كما لو كانت كينونته قوة انفجارية تسعى إلى الاندفاع خارج طورها الزماني. هنا، تريد قصيدة "غريب أنا" تأكيد مهمّة الشعر الأساس، وهي: أن تكون شاعرا هو ما يعني أن تغترب في لغة هي بدورها مغتربة في زمنية لا قبل لها بها. فالضرورة الشعرية هي ما يفرض على الشعراء «زمن الضيق» أن يقولوا "جوهر الشعر".

إنّ الشعر بهذا المفهوم هو الذي بمكنته أن يظهر ما ظلّ خفيا في اللغة العادية، أي ما استعصى على الناس قوله بلغتهم العادية المتداولة. إنّ الشعر ما يحقّق هذا العبور عبر القصيدة إلى العالم. فأينما كان الشعر، فثمة كينونة تكابد مصيرها، وما نشيد الشاعر إلاّ إصغاء أصيل لهذه الكينونة.

فلطالما كلام الشعر لا يتأتى إلاّ خلال صمت الإصغاء، كذلك الشاعر لا يكون قادرا على التقاط نداء القصيد ـ الذي يبتغي أن يفصح عن ذاته في قصيدة ـ إلاّ إذا أحسن وأجاد الإصغاء لنداء الكينونة.

بالنسبة لـ«هيدغر»، مثلا، يظلّ كل شعر يقول جوهره طالما هو في ذات الوقت الجوهر الكشّاف للغة: أي "القصيدة الأصلية"، أو هذا الحشد الصامت للكائن.[3] فهذا ما تحقّقه قصيدة شاعرنا إبراهيم أوحسين، حيث نجد حزنه بمثابة منفاه الاختياري، ومنفاه هذا علة تمرّده، كما تمرّده علّة عذابه، وعذابه آت من فهمه لأكثر مما ينبغي.

تدفّقا من هذا النمط لا يبرّره سوى أنّ كلمات الشاعر التي تصعد من أعماق وجدانه، إنّما هي في حقيقتها اختراق لشيء يكبر قدرته، شيء ما يعجز المرء على قول ما يريد إزاءه بحرية؛ أوليس ذلك بنداء الكينونة التي تتغذّى من أعماق وينابيع ثقافة عصره؟

يقينا، اللغة هنا هي أكبر من أن تكون مجرّد تعبيرات، أو مجرّد نقل لمعلومات ما عن العالم الذي شكل عصره؛ الأمر على خلاف ذلك، لأنّ اللغة هاته هي على الحقيقة تدفّق للكينونة ولزمانية شعرية ما. إنّها على التحقيق ليست تصويرية ولا تعبيرية، بل إشارية صوفية. 

 مسألة فنّية من هذه الشاكلة ستظلّ غير واضحة ولا مفهومة لمن يقرأ الشعر بنظارات الناقد الأدبي صاحب المنهج. وليسمح لي النقاد الذين يطمئنون لعتبات المناهج النقدية بخصوص وجهة النظر هذه، حيث أرى أنّ تذوقا ما وحده الكفيل بأن يمسك بتلابيب القصيد خاصّة عند إجادة الإصغاء للشعر: أوليس الشعر إصغاء لكينونة تأبى إلاّ أن تقيم في بيت شعري داخل هذا العالم؟

إنّ الشعر لدى صديقنا إبراهيم أوحسين يقد اضطلع فعليا بِمَهمة التفكير، ويتجلى ذلك بقوة حين بحثه المستمر عن سبل رتق تمزّقات كينونة أعياها تمظهرها المتلعثم في اللغة, والشاعر إذ سمح لنا كقراء بالمشاركة في هذه اللعبة الخطرة، يكون قد أنجز أخطر مَهَمة يضطلع بها الشعراء ذوي القدرة على إنارة دروب الحياة الميتافيزيقية، حين يكشفون اللثام عن حقيقتها المأساوية بِكلّ أصالة شعرية.

لذلك ليس مُهِمًّا كم عدد الذين سيقرأون هذا الشعر الجاد في طرح قضيته رَفِيعَة الْمَقَامِ هاته، بالقدر الذي يهم نوعيتهم، وكيف سيقدّرون أهميته الميتافيزيقية الخطيرة.

*** 

كتبه الحسين أخدوش / المغرب

......................

[1] أنظر إهداءه في بداية ديوانه: قوافل من كلام، ص 5.

[2]  ديوان قوافل من كلام، ص. ص. 39، 40.

[3] - Heidegger (M) : Acheminement vers la parole; tr Jean Beaufret, éd  Gallimard, Paris, 1976, p.63.

 

في المثقف اليوم