قراءات نقدية

عصام البرام: اللغة كحيلة جمالية.. قراءة في سرديات نوبلية

في مهب السرد، حيث تتكسر الوقائع على صخور الخيال، وحيث تُغزل الحقائق بخيوط الوهم، تتقدم اللغة في النصوص النوبلية، لا بوصفها أداةً ناقلة، بل ككائن عضوي، حيّ، مخاتل، يملك القدرة على التلّون، والتخفي، والإيهام. ليست اللغة في أعمال نوبل الكبرى مجرد وسيلة، وإنما هي غاية جمالية قائمة بذاتها، تنقلب فيها الكلمات إلى ضوء وظلال، إلى مرايا تعكس الداخل أكثر مما ترصد الخارج، وإلى قناع يشفّ ولا يُفصح، يتمنّع ويغوي، في لعبة سردية لا تخلو من مكرٍ ودهاء.

إذا كانت الرواية فناً منفتحاً على الأزمنة والطبقات والرؤى، فإن السرد النوبلي تحديداً يفرض على اللغة أن تتجاوز البلاغة التقليدية إلى نوع من البلاغة الجديدة، التي تتسلل عبر ثغرات المعنى، وتفتعل التباساً دلالياً مقصوداً، بحيث لا يكون القارئ مستهلكاً للنص، بل شريكاً في بنائه وتأويله. هنا تغدو اللغة أشبه بمختبر كيميائي، تتفاعل فيه المفردات ليس وفق قوانين النحو، بل وفق ضرورات الشعر السردي، حيث الصوت الداخلي هو ما يوجّه البناء لا الخطابات الجاهزة.

لقد كانت نوبل الأدب عبر تأريخها جائزة لا تحتفي بالقص الكبير فحسب، بل باللغة التي تشكله، باللغة التي تفتن، تربك، وتحرّض. من غارسيا ماركيز إلى نجيب محفوظ، ومن وول سوينكا إلى هيرتا مولر، تتكرر ظاهرة الوعي باللغة، ليس بوصفها محبرة للعالم، بل بوصفها عالماً بحد ذاتها، لغة لا تكتفي بأن تحكي، بل تفكك الحكاية وتعيد تركيبها، بلغة تُجيد الإيهام بواقع أكثر حياة من الواقع نفسه.

ولعلّ أكثر ما يلفت الانتباه في كثير من هذه السرديات النوبلية هو نزوعها نحو تأزيم العلاقة بين اللغة والمُشار إليه، بحيث لا يعود النص انعكاساً للعالم، بل تأويلاً له، وربما نقيضاً له أحياناً. تتعدد مستويات اللعب اللغوي هنا، من المفارقة الساخرة، إلى التضمين الرمزي، إلى الانزياح الأسلوبي، إلى الخرق المقصود للتراتب السردي، وهي كلّها مظاهر تنبع من رغبة في تحرير اللغة من أسر التوصيل المحض إلى أفق الجمال المراوغ.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، نصوص يوسا، حيث تبدو اللغة ككائن يتكلم وحده، يستعيد سرداً مفقوداً عبر شقوق الذاكرة. فالجملة، ليست عنده أداة لتسجيل حدث، بل عملية إعادة خلق لعالم متشظٍ، تسكنه الرغبات المكبوتة، والهويات الهاربة. تتورط اللغة في صنع هذه الانكسارات، تتحول إلى مرايا متقابلة، تعكس ضياع المعنى أكثر مما تضيئه، وتجعل من القارئ باحثاً دائماً عن الحقيقة خلف كثافة الأسلوب.

أما عند الطيب صالح، فإن اللغة تنقلب إلى ماءٍ أفريقي الطعم، مشبع بالرطوبة الثقافية والتاريخ المنسي. يزرع الطيب في جسد اللغة العربية بذوراً محلية، أفريقية، صوفية، تنبت في النص كأشجار برية، غير مروّضة، تجعل من النص نفسه مكاناً غريباً مألوفاً، يُحاكي قراءتين في آن: قراءة الاستقبال العربي، وقراءة التلقي الغربي. في هذا المفصل بالذات، تتجلى اللغة كحيلة جمالية، قادرة على التمويه والازدواج، لغة مزدوجة اللسان، لكنها موحدة في نبرتها الدفينة.

اللغة في سرديات نوبل لا تأتي محايدة، بل محمّلة بأعباء التأريخ، ومشحونة بشحنات سياسية، قومية، إثنية، طبقية. غير أن السارد النوبلي لا يلجأ إلى الخطاب المباشر، بل يطوّع اللغة لتكون قناعاً للغضب، أو للحنين، أو للتمرد. النص في هذه الحالة يصبح فعلاً سياسياً عبر الجمال، وموقفاً أيديولوجياً عبر البلاغة. فحتى عندما يصمت السارد، فإن اللغة تفضح، تلمّح، تشير بإصبع خفية إلى مكامن الألم.

لذلك كان كثير من كتّاب نوبل من المنفيين، أو المعذبين، أو المهمشين، أولئك الذين حوّلوا اللغة إلى مأوى، وإلى سلاح. وفي تجارب مثل سفيتلانا أليكسييفيتش، نجد أن اللغة تتخلى عن سلطتها السردية التقليدية لتتحول إلى فضاء تعددي، حيث تنصت لكل الأصوات، الصغيرة منها قبل الكبيرة، وتعيد تركيب التاريخ من شظايا البوح الفردي. هي ليست كتابة من أجل الجمال الخالص، بل من أجل تخليص اللغة من خطاب السلطة، عبر تقنيات التوثيق العاطفي.

ثمة ما يشبه "خيانة اللغة" في هذه السرديات؛ خيانة للمفهوم المدرسي عنها، ولتصنيفاتها التقليدية، خيانة لرتابتها المتوقعة. من هنا تأتي مفاجآت الأسلوب، وفتنة المفردة غير المألوفة، والجمل التي تنتهي حيث لا ينبغي، أو تبدأ حيث لا يُنتظر. اللغة هنا لا تطيع، بل تناور، تُخاتل، تزرع في النص لحظاتٍ من التردد المقصود، والصمت المُفكّر فيه، وتحرر السارد من عبء التفسير.

تسعى اللغة في النصوص النوبلية إلى توريط القارئ، لا استرضائه، إلى خداعه أحياناً بسطحية مصطنعة، أو بانسيابية مدروسة. لكن ما إن يطمئن القارئ إلى ما يظن أنه فهم، حتى تجرّده اللغة من يقينه، وتدفعه إلى الهاوية، إلى السؤال، إلى مراجعة ما قرأه. هي كتابة لا تُرضي القارئ الكسول، بل تحرض القارئ المفكّر، تقوده في متاهات الأسلوب، لتكشف له في النهاية أن الجمال الحقيقي ليس في النهاية، بل في التيه نفسه.

يحدث أحياناً أن تتحول اللغة إلى موضوع النص ذاته. نرى ذلك بوضوح عند بعض كتّاب أمريكا اللاتينية أو أوروبا الشرقية، حيث ينقلب السرد إلى تأمل ميتاسردي في حدود اللغة، في هشاشتها، في عجزها أحياناً عن التقاط فوضى العالم. يطلّ الكاتب من بين السطور ليسأل: ما جدوى السرد؟ ما قدرة اللغة على الإمساك بما لا يُقال؟ وهنا تُصبح الكتابة فعلاً وجودياً، صراعاً مع اللغة لا بها فقط، محاولة دائمة للقبض على لحظة هاربة، على إحساسٍ يوشك أن يتلاشى.

ولعلّ في سرديات مثل تلك التي كتبها كازوو إيشيغورو ما يؤكد هذا الميل، حيث تبدو اللغة مهذبة، باردة، مغلّفة بالحياء الإنجليزي، لكن تحت هذا القناع اللغوي المهذّب، يقبع خوف وجودي هائل، ومآسٍ إنسانية لا تُقال إلا عبر الإيحاء. المفارقة أن البلاغة هنا تنبع من كبت البلاغة، من رفض الفيض، ومن اقتصاد اللغة لا من ثرائها. هنا لا تكون الحيلة الجمالية في كثافة اللغة، بل في صمتها المدروس، في الفجوات، فيما لم يُكتب.

هذه السرديات، بما تحمله من مكر لغوي، لا تقدم فقط تجربة سردية، بل تقدم درساً في أخلاقيات اللغة، في إمكاناتها وقيودها، في قدرتها على قول ما لا يُقال، أو الإحالة إلى ما لا يُحتمل. كل جملة تُكتب هناك تعني أكثر من ذاتها، تُراكم دلالةً فوق دلالة، وتدفع القارئ إلى منطقة وسطى، بين الفهم والحدس، بين الحرف والظل.

اللغة، في جوهرها، لا تُستخدم في هذه الأعمال، بل تُستثمر. يتعامل الكاتب مع مفرداته كما يتعامل النحات مع الحجر، ينحت فيها لا بها، يحفر المعنى من داخل الكلمة لا من خارجها. هذا ما يجعل النص النوبلي قابلاً لإعادة القراءة، لأنه لا يُستنفد في قراءة واحدة، بل ينفتح على احتمالات غير نهائية من الفهم، كل منها يضيء جانباً ويُغفل آخر، في علاقة جدلية لا تنتهي بين القارئ والنص.

إن الحديث عن اللغة كحيلة جمالية في سرديات نوبلية هو، في العمق، حديث عن قلق الكتابة، عن هاجس الأصالة.

***

د. عصام البرّام

 

في المثقف اليوم