قراءات نقدية

سوران محمد: الشعر بين النخبة والعامة

لاشك بأن الشعر يعتبر العنصر الرئيسي للتعبير عن الاحاسيس الانسانية منذ القدم، وقد مر بمراحل عدة من النظم الشفهي الى الكتابة عن طريق الأوزان والبحور ثم الى يومنا هذا وتأثير جميع الحركات الحداثوية والفكرية العالمية على نبض الشعر وتدوينه دون انكار الوقع الكبير لجميع انواع الشعر على النفوس قديما وحديثا، فهو الجنس الادبي الاصعب اذا اردنا ان نأتي بعمل مميز ونتاج ابداعي، وقديما كان للشعر حضورا في حياة الناس والمجتمعات بل أثر على الاحداث وأدى دورا فعالا في المناسبات والطقوس .

لكننا في مقالنا هذا نتطرق الى مسألة مختلفة تماما وهي طرح طرق ومعايير النظر والتعامل مع الشعر المعاصر، لكن وقبل كل شيء يجب ان نتعامل بشيء من الاحترام  مع كل ما يكتب باسم الشعر، سهلا أم معقدا، جميلا أم ركيكا، لأنه يعتبر جزءا لا يتجزأ من عالم الروح والشخصية والتجارب لموءلفه وكل نص يعبر عن شيء من عالم الشاعر ومعاناته ولحظاته الروحية الخاصة، لذا جدير بالاهتمام والتقدير. وبما ان الوسيلة الاهم في الشعر هي اللغة وان اللغة تتحرك وتتقدم الى الامام من خلال الشعر والادب وهي في دوامة التجديد مستمرة مع حركة الحياة، لذا نلاحظ احيانا تفاوت طرق الانشاء والتعبير والفهم والاسلوب بشكل عام من حقبة الى الاخرى، وهذا ما يجعلنا ان ننظر الى الشعر کوحدة واحدة وكتلة غير متجزئة منذ منذ بدايات العصر الكلاسيكي  ولحد الان، وهكذا يبني الشعراء المعاصرون على ما بنوا القدماء ولا نرى تنافرا بل اكتمالا للمسيرة الشعرية على مدى العصور وبين الاجيال.

في هذا المقام نحن لسنا بصدد توجيه القراء والتمييز بين الشعر الجيد والرديء، لكن وعلى ضوء التجارب يمكننا القول بأن هنالك قاسما مشتركا للاعمال الشعرية الاصيلة والجادة لوجود وتوافر مقومات ونقاط القوة في تلك النصوص أيما كانت لغة الشاعر، فالشعر في ذاته هو لغة مشتركة عالمية بين بني بشر على خلاف ألوان بشرتهم ومشاربهم وميولهم.

اذ ان هناك ركائز عدة يجب اخذها بالحسبان  عند النظر والتقييم للنصوص الشعرية ومن ثم على ضوئها نتعرف على الطبيعة التكوينية للقصائد. فقوة هذه النقاط تلقي بظلالها علی الاستنتاج والاستكشاف، ومن بين تلك الركائز يجب مراعاة الجودة والتمييز في الثيـمة والتي هي بمثابة العمود الفقري للشعر، كما علينا ان نسأل هل هي متكررة أم متجددة؟ هل تسترعي انتباه اللاوعي أثناء التأمل والدراسة؟ أي خيط فيها تربط بهموم القاريء، ثم هل ان الفكرة وليدة طبيعية لتصورات ورٶی وقناعات الشاعر وانتضجت داخل المختبر الشعري وذهن الشاعر أم لاء؟ الى ان نأتي الى مناقشة نوعية اللغة واساليبها البلاغية من المجاز والاستعارات والتضاد، ثم هل ان للشاعر رٶی شعرية خاصة به بحيث يتميز به دون غيره؟ وما نوع الرسالة التي تحتوي النص وبأي لغة صاغت القصيدة هل هي دارجة يومية أم راقية متفننة؟ وما هي التقنية المستعملة والاسلوب الصياغي للشعر؟ هل هي سائدة أم فيها دلائل وشفيرات يرشد القاريء الى عوالمه الخفية بحيث يحتاج قراءات متأنية وتأملات عميقة. وبما ان الخيال هو المحرك الرئيسي لتحديد خطوات الانجاز الشعري، مع مراعاة تجدد الصور  الشعرية  وندرتها نصل الى حافة الاتيان بالجيد والتمتع بقراءة نصنا كأول قاريء وناقد في آن معا.

بل كلما حاول الشاعر أن يكون نفسه وذاته في نصه كلما كان شعرا أحسن وأجدر بالذكر والتدبر، والشاعر الجيد يحاول دوما ان يتجنب التقليد والتكرار، وفي الاخير ان لكل نوع من الشعر طبقة معينة من القراء، بحيث يتقاسم كل طبقة نوعا محددا من المضامين والاشكال الى نصل الی النص الجاد ولا نجد الاغلبية ترغب بقراءته الا النخبة الشعرية وهم دائما يتابعون كل جديد ويبحثون عن تغذية ذائقتهم بالاختيار الانسب الخاص بهم والمتميز.

عموما ينقسم أصناف الشعراء الی ثلاثة أنواع:

1- الصنف الذي يكتب الشعر كممارسة للهواية.

 2- الذين يجدون في كتابة الشعر ضالتهم للتخلص من الهموم والاحتراق الداخلي.

3- الشعراء الجادين الذين يحاولون اجتياز ومغادرة السابقين بل حتی أنفسهم العتيقة!.

الا ان التعامل مع الاسماء بدلا من الاعمال يعتبر الداء العضال عند القراءة ويفسد علينا موضوعيتنا وينقلب المعايير الابتكارية والجمالية عندنا، في حين ان كل نص شعري له مناخه وتضاريسه الخاصة به وهو في علاقة مترابطة وعضوية بروح الشاعر وأنفاسه الآنية وتعدد أدواته الشعرية وغناء تدفق أفكاره وتخيلاته، وهذا ما سماه الباز بـ (عصير الشاعر) أو بئره الذي يستخرج منه افكاره وصوره أو سماءه التخيلي.

في الختام يجب علينا ان لاننسى بأن الثيمة كلما كانت نادرة وعلى صلة بالمتلقي كلما كانت بداية موفقة لكتابة الشعر، وبما ان الصور الشعرية تعتبر المكون الرئيسي لبناء النصوص فان الشاعر الملهم والمتمكن يعرف كيف يرسم ويصوغ  صوره الشعرية، وهو عالق بين الواقع والخيال لكنه وبمهارته سيصنع خيطا أو حبلا يربط من خلاله بداية نصه بوسطه وآخره ويخرج منه سالما دون الهلاك، ونحن بدورنا نشعر كالقراء بالعذوبة والانسجام وثبات البنية للنص من خلال التعابير الشعرية المتدفقة وصوره المتجددة وبناءه الرصين.

***

سوران محمد

في المثقف اليوم