آراء

هاني جرجس: القيادة ليست منصبًا.. بل روح تُلهم وتُحرّك

تُعدّ القيادة من أبرز المهارات التي يحتاجها الأفراد في مختلف مجالات الحياة، سواء في بيئات العمل أو المؤسسات التعليمية أو في الأزمات المجتمعية. فالقائد الناجح لا يكتفي بمجرد إصدار الأوامر أو إدارة الفريق إداريًا، بل يمتلك مجموعة من الخصائص النفسية والاجتماعية التي تجعله قادرًا على توجيه الآخرين وتحفيزهم وتحقيق أهداف مشتركة بفعالية.

من أبرز هذه الخصائص، القدرة على اتخاذ القرارات السليمة في الوقت المناسب. القائد الذي يمتلك هذه القدرة يستطيع أن يواجه التحديات بثقة ويعمل على إيجاد حلول عملية للمشكلات التي قد تظهر. ويسهم هذا النهج في بناء بيئة عمل مستقرة تحفّز الفريق على الإبداع والمشاركة الفعّالة.

لقد تناولت العديد من النظريات النفسية والاجتماعية موضوع القيادة بهدف فهم السمات والسلوكيات التي تُميز القادة الناجحين. من بين هذه النظريات "نظرية السمات" التي تركّز على الصفات الشخصية الفطرية للقائد، مثل الثقة بالنفس والقدرة على التأثير. بينما تذهب "نظرية السلوك" إلى التركيز على أفعال القائد بدلًا من صفاته، معتبرة أن القيادة يمكن تعلمها واكتسابها. كما قدّمت "النظرية الموقفية" فهمًا أعمق من خلال التأكيد على أهمية التكيف مع طبيعة الموقف وظروف الفريق. إن إدراك هذه النظريات يساعد في تكوين رؤية شاملة حول طبيعة القيادة الفعّالة وتطويرها بما يتناسب مع السياقات المختلفة.

ويُعتبر الذكاء العاطفي أيضًا من العوامل الأساسية التي تميز القائد الناجح. فالقدرة على فهم مشاعر الأفراد والتفاعل معها بشكل إيجابي تمكّن القائد من تكوين علاقات قوية مع فريقه. كما أن الذكاء العاطفي يساهم في حل النزاعات بطريقة بنّاءة، ويُعزز الثقة المتبادلة، ويحسّن بيئة العمل بشكل عام. القائد الذي يمتلك هذه الصفة يُعدّ مصدر احترام ويُسهم في رفع الروح المعنوية للفريق.

من الخصائص الاجتماعية المهمة أيضًا هي قدرة القائد على التواصل الفعّال. فالتواصل الواضح والاستماع الجيد يعززان بيئة تفاعلية قائمة على الاحترام والتفاهم. القائد الذي يشجّع على الحوار المفتوح ويتيح للآخرين التعبير عن آرائهم ينجح في بناء الثقة، وتحفيز الفريق على العمل بروح التعاون لتحقيق الأهداف المشتركة.

ولا تكتمل فعالية القيادة دون وجود رؤية واضحة للمستقبل. فالقائد الناجح يملك تصورًا استراتيجيًا يوجه من خلاله الفريق نحو تحقيق الأهداف المرجوة. وتمثل هذه الرؤية بوصلة تُحدد الاتجاه وتُحفز الجميع على المضي قدمًا رغم التحديات.

وتتجلى القيادة الحكيمة في مواقف حياتية متعدّدة. نراها مثلًا في قادة الأزمات الذين يتعاملون مع المواقف الطارئة برويّة واتزان، كما حدث مع بعض رؤساء الدول خلال جائحة كورونا، حيث ساعدت قراراتهم السريعة والمتزنة في تقليل الأضرار على المستويين الصحي والاقتصادي. وفي بيئة العمل، قد يتمثل القائد الحكيم في مدير يتعامل مع خلاف داخل الفريق من خلال التواصل الهادئ والاستماع للجميع، مما يُسهم في إعادة الانسجام. كما نراها في المؤسسات التعليمية، في شخص مدير مدرسة يعالج حالات العنف أو الضعف التحصيلي بأساليب تربوية قائمة على الحوار، مما يعكس وعيًا ونضجًا في الرؤية وسعة في الصدر. هذه النماذج الواقعية تُظهر كيف أن القيادة ليست فقط قدرة على إصدار الأوامر، بل وعي بالموقف، وحنكة في التصرف، وبُعد نظر في النتائج.

ومن المهم التمييز بين القائد والمدير. المدير يهتم عادةً بالجوانب التنظيمية والإدارية مثل التخطيط، والرقابة، ومتابعة الالتزام باللوائح، بينما يُركّز القائد على تحفيز الأفراد وبناء العلاقات وتوجيه الفريق من خلال التأثير والإلهام. لذلك، في بيئة العمل الحديثة، يُفضل أن يجمع الشخص بين دقة التنظيم وروح القيادة، ليكون "قائدًا مديرًا" أو "مديرًا قائدًا"، مما يُحقق التوازن بين الكفاءة والإبداع.

كذلك، تُعدّ المرونة من السمات النفسية المهمة التي تميز القائد الناجح. فالقدرة على التكيّف مع المتغيرات تُمكّن القائد من تحويل التحديات إلى فرص، ومساعدة الفريق على تجاوز العقبات بطريقة إيجابية. وجود قائد مرن يعزز الاستقرار والشعور بالأمان لدى أعضاء الفريق، حتى في أوقات الأزمات.

وأخيرًا، من الخصائص الأساسية التي يمتلكها القائد الناجح القدرة على تحفيز الفريق. القائد الذي يعرف كيف يُلهم أفراده من خلال الكلمات المشجعة والتقدير المناسب يعزز دافعهم الداخلي للعمل. وهذا بدوره يُسهم في تعزيز روح التعاون، وزيادة الشعور بالمسؤولية، والعمل بروح الفريق الواحد.

في ضوء ما سبق، فإن القيادة ليست مجرد منصب أو سلطة، بل مسؤولية تتطلب وعيًا نفسيًا واجتماعيًا، وفهمًا عميقًا للسلوك الإنساني، وقدرة على التكيف والتوجيه. وكلما تمكّن القائد من تطوير هذه الجوانب، كلما كان أثره إيجابيًا ومستدامًا في مجتمعه أو بيئة عمله.

ورغم أهمية القيادة ووضوح أثرها الإيجابي في تطوير الأفراد والمجتمعات، إلّا أننا – في كثير من السياقات المعاصرة – نفتقد إلى القائد الحقيقي الذي يمتلك الرؤية والقدرة على الإلهام. فغالبًا ما تطغى الإدارة الشكلية على روح القيادة، ويغيب عن الساحة من يتمتع بالحكمة والمرونة والقدرة على تحفيز الآخرين بصدق. إن غياب هذا النوع من القادة يُؤثر – بلا شك - سلبًا على الأداء الجماعي ويُفقد المؤسسات والمجتمعات بوصلتها نحو التقدّم. ومن هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى الاستثمار في تكوين قادة حقيقيين يملكون الكفاءة والإنسانية معًا، ويسعون لصناعة الأثر لا الاكتفاء بالمناصب.

وإجمالًا، فإنّ القيادة الحقيقية ليست سلطة تُمارَس، بل تأثير يُلهِم ويزرع الأمل ويصنع الفرق في النفوس قبل المؤسسات. فالقائد الملهم هو من يحوّل التحديات إلى فرص، ويجعل من العمل رسالة، ومن الفريق عائلة، ومن الهدف حلمًا مشتركًا. وقد قال الشاعر في وصف هذا النوع من القيادة:

"إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ

فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ"

فهذا البيت يُجسد روح القائد الذي لا يرضى بالحلول الوسط، بل يرفع سقف الطموح، ويقود من حوله نحو القمم، بالإرادة، والرؤية، والإلهام الصادق.

***

بقلم: أ.د. هاني جرجس

في المثقف اليوم