شهادات ومذكرات

مصدق الحبيب: منظرو الاقتصاد (23): ثيودور شُلتز

Theodore Schultz

(1902 – 1998)

***

ثيودور شُلتز: هو استاذ الاقتصاد في جامعتي آيوا وشيكاگو لأكثر من أربعة عقود، بضمنها ترؤسه لقسم الاقتصاد في جامعة شيكاگو لخمسة عشر عاما. وخلال مدة رئاسته لقسم الاقتصاد، ارتقى القسم الى مرتبة متقدمة من بين اقسام الاقتصاد في عموم الولايات المتحدة الامريكية وكندا. حاز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1979 عن مساهماته الهامة في علم الاقتصاد، وخاصة في حقل الاقتصاد الزراعي وتنمية الريف في البلدان الفقيرة والنامية، ولريادته في دراسة دور التعليم في النمو الاقتصادي ونظرية رأس المال البشري.

في كتابه المعنون "أعظم الاقتصاديين بعد كـَنز"، يقول مارك بلوگ Mark Blaug: " كان شُلتز في الحقيقة الأب الأول لنظرية رأس المال البشري". كما قالت البروفسورة بَومَن M.J. Bowmanفي مقالها المكثف حول مساهمات شُلتز في النظرية الاقتصادية، المنشور عام 1980:

"منذ مطلع الثلاثينات، كان لشُلتز دورا رائدا في نقل فرع الاقتصاد الزراعي نقلة نوعية اعتمدت النظرية الاقتصادية في التحليل وتبنت الاختبار العلمي عن طريق البحث التطبيقي والتدريب والتأثير على السياسة الاقتصادية".

أما گـَيل جونسن Gale Johnsonفقد كتبت في مقالها المنشور بعد وفاة شُلتز:

" لقد كان بروفسور شُلتز باحثا مبدعا ومعلما متفانيا واداريا ناجحا ومدافعا عنيدا عن الحرية الاكاديمية، وكان في بحثه الاقتصادي لا يكتفي بمراجعة المصادر النظرية، بل يحرص ان يرى بعينه ويلمس بيده ويسمع من الآخرين".

كان شُلتز مؤمنا ان هذا المنهج هو الملائم في دراسة القطاع الزراعي، حيث حرص على زيارة مواقع البحث من اجل ان يلتقي بالمزارعين ليرى حالهم ويسمع مشاكلهم. ولهذا فقد تميز عمله الأكاديمي بالقيام بزيارات متكررة في داخل البلاد وخارجها، الى بلدان فقيرة ونامية عديدة.

ولد ثيودور شُلتز عام 1902 في حقل زراعي في قرية قريبة من مدينة آرلنگتن في ولاية دكوتا الجنوبية. کان متفوقا فی المدرسة ومثابرا على الذهاب اليها كل يوم وهي التي تبعد 2.5 ميلا عن بيته، يقطعها مشيا على الاقدام، في الاجواء المطيرة وقارسة البرد والعاصفة بالثلوج! وحين قامت الحرب العالمية الاولى (1914-1918) وتجند اغلب العمال الزراعيين في حقل العائلة، أقدم والده على اخراجه من المدرسة وهو في المرحلة المتوسطة من أجل أن يساعده في الحقل، وكان قرار الاب في مواجهة الأمر الواقع إذ لم يتمكن لوحده من انجاز ما يتطلبه الحقل من مهمات شاقة. كان ذلك عام 1917 عندما قررت أمريكا دخول الحرب لمجابهة الحليف النمسو-هنگاري لألمانيا.

بعد نهاية الحرب وعودة الامور الى مجاريها الطبيعية، واصل ثيودور دراسته ولو بشكل متأخر، الا انه أكمل كل متطلبات الدراسة ودخل كلية الولاية الحكومية عام 1924 وأكمل البكالوريوس بثلاث سنوات ليتخرج عام 1927، ويُقبل في قسم الدراسات العليا في جامعة وسكنسن ويحصل على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1930. كانت اطروحته بعنوان "التعريفة الگمرگية على علف الحبوب". وفي نفس العام تزوج من احدى زميلاته التي انحدرت من عائلة فلاحية ألمانية الأصل. وقد شاركته فيما بعد اهتماماته في بحوث الاقتصاد الزراعي وعملت على تحرير وتصحيح مسودات بحوثه اثناء تهيئتها للنشر.

مباشرة بعد حصوله على الدكتوراه أصبح استاذا مساعدا في قسم الاقتصاد في جامعة آيوا. وخلال ثلاثة عشر عاما، لغاية 1943، أثبت كفاءته الأكاديمية كأستاذ متفان وباحثا مثابر استطاع ان يرسخ تقليد البحوث الاقتصادية الزراعية على المنهج العلمي التطبيقي. ولأنه ابن عائلة فلاحية، ولد ونشأ في حقل والديه، فقد تجذرت قدماه في الارض وأدرك أهمية ما يزرعه الفلاح ويحصده من أجل نفسه ومن أجل الآخرين، وعرف اهمية العمل في الإنتاج، وضرورة المعرفة في العمل، وأدرك ان معالجة الفقر وتنمية الريف وتطويره ينبغي ان تكون من الأولويات الوطنية. وهذا هو منشأ اهتمامه العلمي، ليس فقط بالاقتصاد الزراعي، بل بالتعليم وقيمته، وبأحوال المجتمعات الزراعية. وكذلك أولى اهتمامه لفهم تأثير الحكومات والقوانين المحلية والفدرالية على القطاع الزراعي. وهكذا فهو منذ البداية كان منشغلا بإيجاد الجواب المناسب على السؤال الأزلي: “ لماذا يصبح المرء فقيرا؟ والاهم من ذلك لماذا تنحدر مجتمعات ومناطق وبلدان كاملة الى منحدر الفقر؟ وكيف يمكن تشخيص ذلك؟

وعند تقصي الامر بالبحث وصل شُلتز الى ثلاثة مؤشرات تدل على حالة الفقر:

- نسبة الدخل التي تنفق على الطعام، والقاعدة هي انه كلما ازدادت هذه النسبة كلما اشارت بوضوح الى حالة الفقر. والمعيار الكمي العام هو ان مؤشر الفقر يعني إنفاق نصف الدخل أو أكثر على الطعام.

- معدل عمر الفرد المتوقع Life Expectancy

- حالة المعرفة ومستوى المهارات التي يمتلكها الافراد

وهذا يعني انه كلما تحسن المستوى الصحي العام للناس كلما ازداد معدل العمر، وكلما تحسن التعليم واتسعت دائرة المعارف وتقدمت المهارات كلما زادت الانتاجية وتسارع النمو وتحسن مستوى المعيشة. فالصحة والتعليم هي العجلات الاساسية التي تمكن القطار من مغادرة عالم الفقر والبؤس.

في السنوات الاخيرة من خدمته في جامعة آيوا، دخل شلتز في موجة من الصراعات الادارية والجدال الأكاديمي حول قضية اعتبرها مبدأية لا يمكن ان يحيد عنها، وهي قضية التناقض بين دور العلم والجامعة من ناحية ودور السياسة والشركات الخاصة من ناحية اخرى، وأيهما سيخدم مصالح المزارعين والمستهلكين في نهاية المطاف؟ واين الحرية الاكاديمية من كل ذلك؟ تصاعدت هذه الموجة من الصراعات بسبب كراس أشرف شُلتز على تحريره، فيما اعتبرته الشركات الخاصة بالصناعات الغذائية كراسا سلبيا يقف ضد مصالحها، وقد شنت تلك الشركات حملة تسقيطية ضد شُلتز وقسمه والجامعة جندت فيها المزارعين واقنعتهم بأن ما تنشره الجامعة يخالف مصالحهم وان ذلك الكراس عبارة عن دعوة لقطع ارزاقهم. وشيئا فشيئا دخلت أطراف أخرى، فتعددت الاتهامات وتعقدت الأمور ونشبت نتيجة لذلك ما سمي بـ "حرب الزبد والمارجرين".

حرب الزبد والمارجرين

إبان الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وبالذات في عام 1942، طلب وزير الزراعة الامريكي من شُلتز، الاستاذ في جامعة آيوا آنذاك، وباستشارة سلطات الولاية وادارة الجامعة، ان يقود نخبة من الاقتصاديين والخبراء الزراعيين لصياغة السياسة الغذائية لولاية آيوا في وقت الحرب، على ان تُعد وتنشر على شكل مطبوعات وتعمم على الدوائر المختصة. وبعد ان أنهي شُلتز ولجنته اعداد الدراسة وحصل على موافقة رئاسة الجامعة وحكومة الولاية، حصل على منحة من مؤسسة روكفلر لإنتاج وتوزيع الدراسة التي قسمت الى 15 كراسة تتضمن شروح وتعليمات ونصائح وتوصيات حول كل ما يتعلق بإنتاج وتوزيع واستهلاك المواد الغذائية في ظروف الحرب. وكان مواطنو الولاية ومزارعيها واصحاب الصناعات الغذائية فيها قد استقبلوا الكراسات الاربعة الاولى بحرارة وحماس، الا ان الكراسة رقم 5 جاءت كقنبلة موقوتة في بحيرة الرضا والوئام.

كان الهدف الاساسي من هذه الكراسة هو ترشيد استهلاك الحليب ومنتجاته، وخاصة الزبد الذي كان يتمتع بطلب عالي آنذاك، وتوفير ما يمكن توفيره من المستهلكين وتحويله الى جبهات القتال. وقد اقترحت التوصيات ان يصار الى تعويض الاستهلاك المحلي من الزبد بمنتج بديل وهو المارجرين. وكان المارجرين آنذاك قد اجيز انتاجه قبل سنوات من ذلك التاريخ ونجح في الاسواق كبديل صحي يشابه الزبد في صفاته وطعمه إلا انه أرخص بكثير من الزبد. كان ذلك الكراس بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير! فقد ثارت ثائرة اصحاب حقول تربية الابقار واصحاب صناعات منتجات الحليب والمزارعين وأصبح الخبر يتردد في وسائل الاعلام مما حفز المواطنين ان يركبوا موجة السخط على لجنة شُلتز فاتسع الامر وتعقد وتحول الى ضغط على الجامعة من قبل دوائر الحكومة والشركات الخاصة، وكلاهما يساهم مساهمات مالية كبيرة في تمويل الجامعة. وهكذا فقد ابتدأت الجامعة تحول الضغط المسلط على دوائرها الى ضغط على فريق البحث ومحاولة اقناع شُلتز بالعدول عن تلك التوصيات واعادة النظر في الكراس الخامس، لكن شُلتز وفريقه رفضوا ذلك رفضا قاطعا. ثم حاولت الجامعة تشكيل لجان اخرى لتنقيح ما جاء في الكراسة الخامسة، الا ان هذه اللجان لم تنته بنتيجة مقبولة. وهنا تحول الامر عند شُلتز وفريقه من قضية الزبد والمارجرين الى قضية أكبر بكثير وهي الحرية الاكاديمية التي ينبغي ان تصان من قبل الجامعة وحكومة الولاية. وكذلك قضية استقلال العلم عن السياسة التي ينبغي ان يحرص عليها كل مواطن يعيش في ظل النظام الديمقراطي الدستوري.

حين وصل الامر الى مفترق طرق ولم تسفر كل المحاولات عن اي حل يرضي الطرفين، قدم شُلتز استقالته الى الجامعة، وقد استقال معه 19 اقتصاديا. فكان ذلك الحدث قد هز الأوساط الاكاديمية في الولاية وفي عموم البلاد. وعلى أثر استقالة شُلتز من جامعة آيوا، دعته جامعة شيكاگو الى ان يلتحق بالهيئة التدريسية لقسم الاقتصاد. فحقب شُلتز حقائبه وذهب الى شيكاگو عام 1943 ليتسلم مهامه كأستاذ في الاقتصاد. وفي عام 1946 اُنتخب رئيسا لقسم الاقتصاد وبقي يعاد انتخابه لغاية 1961. بقي في جامعة شيكاگو لحين تقاعده من العمل الجامعي عام 1972، لكنه لم يتقاعد من العمل الأكاديمي فقد استمر يزاول نشاطه في البحث والدراسة حتى بعد التسعين من عمره.

الانتاج الزراعي واوضاع الريف

منذ الثلاثينات كان الاقتصاد الزراعي هو اهتمام شُلتز الاول في البحث، وحين عمل في جامعة آيوا واصل بحثه في هذا المجال فكان من المتحمسين الاوائل لإدخال تحليل النظرية الاقتصادية لهذا الفرع من الاقتصاد الذي كان قبل ذلك عبارة عن خليط من الادارة والتسويق ومالية القروض. وحين ذهب الى جامعة شيكاگو وتمكن من الحصول على منح تمويل لمشاريع اقتصادية من قبل مؤسسات خاصة اهمها مؤسسة روكفلر، تمكن من السفر الميداني داخل وخارج البلاد ونشر مجموعة من الكتب الرائدة الهامة في الاقتصاد الزراعي منها:

- النظام الاقتصادي في الزراعة (1953)

- التحول في الزراعة التقليدية (1964)

- الازمات الاقتصادية في القطاع الزراعي (1965)

- النمو الاقتصادي في القطاع الزراعي (1968)

- الاختلال في الحوافز الزراعية (1978).

وعبر هذه الدراسات المستفيضة كان صوت شُلتز واضحا ليقول ان تخلف القطاعات الزراعية وتفشي الفقر والاجحاف في الارياف هو قبل كل شيء بسبب عدم اعطاء هذا العالم الزراعي ما يستحقه من اهتمام من قبل مخططي السياسات والحكومات المختلفة وتحويل كل القدرات التنموية الى القطاعات الحضرية. وفي كتابه "التحول في الزراعة التقليدية" الذي اُعتبر فيما بعد من الاصول في هذا المجال، رفض شُلتز بشدة الاعتقاد الذي ساد لدى الاقتصاديين آنذاك بأن تخلف القطاع الزراعي في البلدان الفقيرة والنامية ناشئ عن سوء القرارات الانتاجية التي يتخذها المزارعون المحليون والتي تتسم بعدم العقلانية والدراية والحصافة حيث توارثوا رفض التوسع والتطوير وخشية التغيير والابتكار وادخال التكنولوجيا في حرث وري الاراضي وزراعة وحصاد المحاصيل الزراعية. وقد صرح شُلتز ان من يعرف اولئك المزارعين عن كثب سيرى عقلانيتهم ودرايتهم بالزراعة، وسيدرك ان رفضهم التوسع والتطوير وادخال التكنولوجيا يأتي لأسباب جوهرية منها انتهاز الفرصة من قبل الدوائر الرسمية لزيادة الضرائب على اراضيهم ومحاصيلهم وتسيد الحكومة على تسعير اغلب منتجاتهم بما لا يكفي لتعويض اتعابهم وتحفيزهم لمزيد من الانتاج وتطويره. والمعالجة المنطقية هي تقليل التدخل الحكومي واعطائهم الاعتبار المعنوي قبل المادي والفضاء الشخصي وحرية التصرف التي تمكنهم من اتخاذ قراراتهم بما تمليه ضرورات الانتاج وما يسمح به سوق المحاصيل الزراعية. عندذاك سنراهم يسعون لتبني التكنولوجيا ووسائل التحديث التي تقلل من الكلف وتزيد من ايراداتهم.

كما وقد كشف شُلتز بأن المساعدات الانسانية التي تقدمها البلدان المتقدمة للبلدان الفقيرة والنامية على شكل مواد غذائية او اموال لا تسهم في مساعدة تلك المجتمعات كما يرتجى، بل تضرها في الغالب، ذلك ان المزارعين ومنتجي الغذاء لا يستطيعون منافسة الاغذية الجاهزة التي توزع مجانا. ولمثل هذا السبب يصبح الانتاج المحلي متراجعا بمرور الزمن. ولهذا السبب أيضا كان شُلتز من أوائل من حثوا الولايات المتحدة على تغيير شكل المساعدات الى وسائل ومواد تعليمية وكوادر تدريب وارشاد زراعي ودعم البحوث والتجارب وتقديم المكائن والآلات والاسمدة والمبيدات التي تحفز الانتاج المحلي وتقلل من كلفته فيستطيع المزارعون من بيعه بربح ويتشجعوا لإعادة الانتاج والتوسع فيه وتطويره. وهذا هو الاستثمار الحقيقي الذي يمكّن المجتمعات الفقيرة من ان تعتمد على نفسها وتقف على أرجلها بعزة وفخر بدلا من اغداق العطايا والصدقات.

رأس المال البشري

بموجب مراجعة البروفسور بَومَن للمساهمات النظرية لشُلتز المنشورة في المجلة الاقتصادية الاسكندنافية عام 1980، فإن أول منشور حول رأس المال البشري بمعناه المعاصر كان عام 1958 في الدراسة التي نشرتها جامعة شيكاگو بعنوان "الوضع الاقتصادي والتعليم المدرسي". كانت هذه الدراسة المتأنية بمثابة البذرة الأولى لنشوء وتطور مفهوم رأس المال البشري عند شُلتز ومن تبعه من اقتصاديي مدرسة شيكاگو علما ان الاقتصادي جيكب منسر Jacob Mincer قد طرق الموضوع بشكل مستقل. وقد طور شُلتز الدراسة الى بحث أوسع ألقاه في مؤتمر جمعية الاقتصاديين عند انتخابه رئيسا لها عام 1960، ثم نشره في مجلة AER عام 1961 بعنوان "الاستثمار في رأس المال البشري"، فأصبح هذا المقال المرجع الأساسي الأول في هذا المجال. لكن الدراسة التنويرية الاولى بقيت في الظل مدة طويلة، علما ان شُلتز قد أكد فيها على نقطتين أساسيتين:

- ان النمو الاقتصادي يرفع من قيمة الوقت الانساني

- ان نوعية الوقت الانساني المبذول في اي نشاط مرهون بمعرفة ومهارة المرء التي ينميها ويصقلها التعليم، والتدريب، والمراس، والخبرة.

جاءت هذه النقطة الثانية اجابة على تساؤله عن ما لذي يفسر ما تبقى من الزيادة في النمو الاقتصادي التي عزتها بعض الدراسات الحديثة المنشورة آنذاك:

 (Abramowitz, 1956; Kendrick, 1956; Solow, 1957 )، والتي جاءت بما يلي:

- تعزى 1\2 الزيادة في الناتج المحلي الصافي الى زيادة وقت العمال المبذول في العمل اضافة الى دور رأس المال المادي.

- يعزى 1\8 من الزيادة في الدخل الاجمالي لكل ساعة عمل الى زيادة كمية رأس المال المادي

وبذلك تساءل شُلتز: لمن يعزى، إذاً، الباقي من الزيادة في نمو الناتج او الدخل؟ فكان جوابه ان الباقي لابد ان تفسره التحسينات في نوعية الموارد، وأول هذه الموارد هو نوعية الانسان المحكومة بمعرفته ومهارته وخبرته. كما جاء شُلتز بطريقة لتقدير القيمة الاجمالية لرأس المال البشري بحساب مكونين هما:

- كلفة رأس المال البشري الاستثمارية

- معدل العائد لتلك الكلفة الاستثمارية

وقد اضيفت بعدئذ تقديرات لقيمة كلفة الفرصة Opportunity Costاو الكلفة الفائتة Forgone Cost

هناك ملاحظتان استوقفتا شُلتز، وعلى أثرهما بدأ بالتفكير حول موضوع رأس المال البشري:

1. عندما كان رئيسا لقسم الاقتصاد في جامعة شيكاگو، قاد مشروعا يتمحور حول الاجابة عن السؤال: لماذا استطاعت ألمانيا واليابان أن تعيد الحياة لاقتصاداتها بسرعة مذهلة بعد التدمير الشامل الذي حدث لهما خلال سني الحرب العالمية الثانية، بينما لم تستطع بريطانيا أن تحذو حذوهما! فقد اصاب الاقتصاد البريطاني كساد قاس طويل اعتمد السكان خلاله على العيش على الحصص التموينية الغذائية التي اقرتها الحكومة؟ والجواب يكمن في ان ألمانيا واليابان حظيتا بوجود نسبة عالية من السكان المتعلم تعليما جيدا والمنضبط والذي يتمتع بصحة أفضل. وقد ثبت بالدليل العملي ان التعليم والصحة يرفعان من انتاجية العمل ومن معدلات الاجور وبالتالي يسرعان وتيرة النمو الاقتصادي. ومن هنا اتجهت الانظار الى الاهتمام بالاستثمار في رأس المال البشري، تماما كما يجري الاستثمار في رأس المال المادي من أجل رفع معدلات العائد الاقتصادي.

2. الحكاية التي صادفت شُلتز خلال احدى زياراته الميدانية للحقول الزراعية الذي كان بإدارة زوجين مسنين. تعجب شُلتز على حالة التناقض الواضح بين فقر حالهما وبين علائم القناعة والرضا، ان لم نقل السعادة التي كانت تشرق على محياهما. أثار ذلك التناقض فضول شُلتز فبادر بالسؤال: ما سر هذه القناعة الطاغية وانتما في حال لا تحسدان عليه؟ أجاب الزوجان بثقة عالية: نحن لا نشعر بالحيف او فقر الحال لأننا بعملنا الدؤوب في هذا الحقل المتواضع استطعنا ارسال اربعة اولاد الى أفضل جامعات البلاد! سيتخرجون ويعملون من اجل منفعتهم الشخصية ومن اجل خدمة بلدهم، وهذا هو انتصارنا الاكبر على أية صعوبة.

معيار رأس المال البشري Human Capital Index (HCI)

يراد به المؤشر الذي يقيس كمية رأس المال البشري من ميلاد الطفل لحين بلوغه الثامنة عشر من اجل معاينة سير الحالة الصحية والتعليمية وتأثيرهما على العمل لدى الفرد، وما تفرزه من تأثيرات على الاجيال القادمة. يقوم البنك الدولي بتقدير هذا المعيار سنويا من اجل المقارنة بين البلدان.

تتراوح قيمة هذا المعيار بين واحد وصفر. يعني الواحد ان البلد حقق ما يستطيع من تقدم في مجالي الصحة والتعليم قياسا بما هو مخطط له، فيما يعني الصفر انه لم يتمكن من ان يصل الى ما خطط الوصول اليه. وبينهما درجات متعددة من نسب التنفيذ. علما ان حساب هذا المعيار يقوم على ثلاث مكونات:

- مؤشر البقاء الذي يقاس بنسبة الاطفال الذين يبقون أحياءً بعد سن الخامسة

- مؤشر التعليم ويقاس بـ:

1. عدد سنوات الدراسة المتوقع اجتيازها لحين بلوغ الطفل سن الثامنة عشر

2. نوعية التعليم التي يحددها أداء الاطفال عبر اختبارات معينة

- مؤشر الصحة ويقاس بـ:

- 1. عدد الافراد البالغين الذين يعمرون الى عمر 60 وأكثر

2. الحالة الصحية للأطفال مقاسة بالنمو الجسدي السليم ومدى حسن أو سوء التغذية والتعرض للأمراض الشائعة.

عندما تأكد شُلتز من ان تطور رأس المال البشري المتمثل بازدياد المعرفة والخبرة وتقدم مستويات التعليم والتدريب والصحة عوامل تعمل مجتمعة على زيادة الانتاجية وزيادة الدخل وبالتالي تنوع مصادر العيش والرفاه للمجتمع ككل، كان لابد من ملاحظة التأثير العكسي على ذلك المعزز بالبيانات المسجلة التي تفيد بانه كلما زاد دخل العوائل كلما ازداد الميل الى تقليل الانجاب والاكتفاء بعدد اقل من الاطفال قياسا بحجم العائلة الكبير المطلوب في المجتمعات الزراعية التقليدية. فإضافة الى السبب المتمثل بانتشار الصناعات الصغيرة والحرف والمتاجر التي قللت من الاعتماد الكلي على العمل في الزراعة، فان السبب الاهم هو إدراك الغالبية من العوائل ان عددا اقل من الاطفال سيتيح توفير مستويات اعلى من الرعاية لهم، أي ان نوعية الاطفال ستزداد متمثلة بقدرة العوائل على توفير التعليم الافضل لهم وتوفير كل ما يحتاجونه من وسائل المعرفة اضافة الى الاهتمام الافضل بالرعاية الصحية لهم. وهذا ما اصطلح عليه بالعلاقة العكسية بين كمية الاطفال ونوعياتهم الذي درسه بعمق وطوره زملاء وطلاب شُلتز من مدرسة شيكاگو وعلى رأسهم گـَري بَكَر الذي تخصص باقتصاد العائلة وحاز على جائزة نوبل في هذا المجال.

واخيرا فان الاستنتاج الاخير هو ان مستقبل الانسانية الزاهر لا تحدده مساحة الارض الصالحة للزراعة ولا عدد السكان ولا كمية الموارد الجاهزة للاستغلال كما كان الاعتقاد سائدا من قبل، انما الثورة العلمية والانفجار المعلوماتي وتوسع المعارف وتطور التكنولوجيا، اضافة الى تنقية سريرة الانسان وتخلصه من الشرور ونبذه النزوع الى الصراعات والحروب والتمسك بإشاعة السلام والمحبة بين الناس هو السر لتأمين مستقبل افضل للإنسانية جمعاء.

وفي الختام لابد ان نذكر أن ثيودور شُلتز فاز بعضوية الاكاديمية الامريكية للعلوم والفنون وجمعية الفلسفة الامريكية عام 1958، وعضوية اكاديمية العلوم الوطنية عام 1974. كما انتخب رئيسا لجمعية الاقتصاديين الأمريكيين عام 1960، وحصل على ثمان شهادات دكتوراه فخرية من جامعات مختلفة. وفي عام 1972 منحته جمعية الاقتصاديين أعلى وسام بإسم Francis Walker Medal. كما قامت حكومة ولاية دكوتا الجنوبية بتشييد مجمعا من الاقسام الداخلية للطلاب الذين يتخصصون بالدراسات الزراعية وأطلقت عليه اسمه T.W. Schultz Residence Halls

تـُوفي شُلتز في إيفانستن – إلينوي عام 1998 عن عمر 96 عاما، ودُفن في مسقط رأسه في قرية باجر- آرلنگتن في ولاية دكوتا الجنوبية.

***

ا. د. مصدق الحبيب

.........................

مصـــادر مختـــارة

Bowman, M.J. (1980). Schultz Contribution to Economic Theory. The Scandinavian Journal of Economics, 82,1, 80-107.

https://en.wikipedia.org/wiki/Theodore_Schultz

https://isubios.pubpub.org/pub/kufrg7hv/release/1

https://la.utexas.edu/users/hcleaver/330T/350kPEESchultzInvestmentHumanCapital.pdf

https://nap.nationalacademies.org/read/9681/chapter/19

https://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=2456903

https://sdexcellence.org/Dr._Theodore_Schultz_1995

https://swcplib.com/about/theodore-schultz-gem-collection/

https://www.aaea.org/about-aaea/awards-and-honors/aaea-annual-awards/tw-schultz-memorial-lecture--award

https://www.britannica.com/money/Theodore-Schultz

https://www.econlib.org/library/Enc1/bios/Schultz.html

https://www.hetwebsite.net/het/profiles/twschultz.htm

https://www.investopedia.com/terms/t/theodore-w-schultz.asp

https://www.journals.uchicago.edu/doi/abs/10.1086/452393

https://www.nobelprize.org/prizes/economic-sciences/1979/schultz/facts/

https://www.nytimes.com/1979/10/17/archives/theodore-william-schultz-oleomargarine-greased-skids.html

https://www.queensu.ca/dunning-trust/theodore-w-schultz-1966-1967

https://www.ubs.com/microsites/nobel-perspectives/en/laureates/theodore-schultz.html

Johnson, G.D (1998). Theodore Schultz. In Memoriam, University of Chicago.

Schultz, T & Letiche, J. (1982). Investing in People: The Economics of Population Quality. University of California Press.

Schultz, T (1953). The Economic Organization in Agriculture. McGraw-Hill.

Schultz, T (1963). The Economic Value of Education. Columbia University Press.

Schultz, T (1964).Transforming traditional agriculture. Yale University Press.

Schultz, T (1965). Economic Crises in World Agriculture. University of Michigan Press.

Schultz, T (1967). Investment in Poor People. Generic Publisher (2021).

Schultz, T (1971). Investment in Human Capital: The Role of Education and of Research. Free Press.

Schultz, T (1978). Distortions of agricultural incentives. Indiana University Press.

Schultz, T (1993). The Economics of Being Poor. Blackwell.

Schultz, T (2018).Production and Welfare of Agriculture (Reprint). Forgotten Books.

Transforming traditional agriculture ('Studies in comparative economics

 

في المثقف اليوم