شهادات ومذكرات

غريب دوحي: بابلو نيرودا.. شهيد الفكر الثوري

(في أحلك الأزمة حينما يزحف الظلام على العالم تبقى لامعة عيون الأطفال وقصائدا الشعراء)

على طول امتداد الشاطئ الجنوبي للمحيط الهادي تقع جمهورية تشيلي، خيوط الشمس تغازل سواحلها باعثة الدفء والوان الطيف الشمسي التي تلون تلك الشواطئ وحيث تمتد جبال الانديز التي تحتل ثلث مساحة البلاد، أنها لوحة رائعة نسجتها يد الطبيعة حملت نيرودا أن يصفها بتلك النشوة الفريدة التي تسكن الشعراء حين يواجهون الطبيعية وجها لوجه فيرسمون صورتها بأجمل ما يرسم.

يقول نيرودا واصفا أمريكا اللاتينية بأنها محيط لا نهائي من الخضرة والمياه والصخور والحياة الراعشة، قائلا:

يا امريكا، يا معبرا من شجر

ايتها العليقة البرية بين البحار

انك من القطب إلى القطب تهدهدين الكنز الأخضر

غاباتك الكثيفة، انها غابات حتى تفنى النار والفأس

وقمم زرق كأسنان التنين الحديدية

نيرودا... تاريخ حافل بالعطاء الإنساني

ولد نيرودا وسط تشيلي عام 1904 عندما كانت أمريكا اللاتينية ساحة صراع بين التقدمية والرجعية وكانت تحيط بها مخاطر المطامع الأجنبية، منذ صباه مال إلى الشعر فكان شعلة وهاجة تنير دورب العتمة للمناضلين من أبناء وطنه، نشر أول قصيدة له وهو في سن الرابعة عشر من عمره بعنوان (عيناي)، وبعد خمس سنوات نشر اول ديوان بعنوان (شفقيات) وفي عام 1945 أصبح عضوا في برلمان بلاده عن منطقة مناجم النحاس ولكن سلطات بلاده أخذه تضايقه محاولة إبعاده عن مهماته هذه كونه يمثل الطبقة العاملة في البرلمان فاضطر إلى الخروج من تشيلي وحين عبر الحدود صدر امر باعتقاله كونه ناشط شيوعي وعضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في تشيلي، بعد عدة سنوات حيث هدأت الاوضاع في بلاده تزوج من بالمرأة التي احبها وتغنى بها في إشعاره وهي (ماتيلدا) وهكذا كان الشعر والحزب هاجسان لا يفارقاه حتى انه حاز على الدكتوراه الفخرية من الجامعة اوكسفورد ونال العديد من الجوائز التقديرية، ووصفه أدباء عصيره (بانه الشاعر الذي لا يمكن مقارنته باي من شعراء الغرب وانه شاعر سبق عصره..).

في عام 1971 نال جائزة نوبل للآداب اعترافا بنتاجه الأدبي وإبداعه في مجال الشعر حيث كان شاعرا ثوريا ملتزما لقضايا شعبة وشعوب العالم التي كانت تناضل ضد القوى الاستعمارية آنذاك.

كتب نيرادودا قصيدة إلى زوجته (ماتيلدا) بعنوان (الملكة) تفصح عن حبة وعن ما كان يتميز به شعره من رومانسية شفافة يقول بها:

لقد أعلنتك ملكة

ثمة فتيات اطول منك.. اطول

وثمة فتيات أصفى منك.. أصفى

وثمة اجمل منك.. ثمة اجمل

ولكنك انت الملكة

حين تخطرين في الطرقات

لا يتعرف عليك احد

لا احد يرى تاجك البلوري

لا احد يرى البساط الأحمر الذي تخطرين عليه حين تمرين

البساط الذي لا وجود له

وحين تظهرين تهدر جميع الأنهار في جسدي

وتهز النواقيس عنان السماء

وثمة نشيد يملأ الدنيا طولا وعرضا

أنت وانا فحسب

أنت وانا فحسب

يا حبيبتي نسمعه

وله دوواين اخرى مثل (النشيد العالم) و (كل الحب) وقد امتاز شعره بنزعة اجتماعية ثورية.

نيرودا ضحية الفاشية الجديدة

في عام 1970 أعلن في تشيلي عن نية الحكومة القيام بانتخابات لبرلمان ورئيس الجمهورية وشكلت على اثر ذلك كتلة الجهة الشعبية التي تألفت من الأحزاب اليسارية والديمقراطية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي وكان مرشح هذه الجبهة الماركسي سلفادور الليذي الذي فاز في الانتخابات فكان اول رئيس منتخب خارج اطار دول المعسكر الاشتراكي. لقد انجزت حكومة الوحدة رغم قصر عمرها انجازات تستحق الذكر فقد اعاد اللنيدي العلاقات المقطوعة مع كوبا واقام علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي والصين وقام بتأميم عدد من المؤسسات الامريكية في تشيلي وعمل على البدء بقيام إصلاح زراعي، وكان برنامجه السياسي يقوم على اقامة حكم شعبي ذات نظام اقتصادي هدفه رفع المستوى المعاشي للشعب وهكذا انشأت دولة ماركسيته في بلدها كان يدور في فلك الغرب غير أن هذه التدابير اقضت مضاجع دول الغرب الاستعمارية فبدأت عملية تطويق النظام هذا بهدف إسقاط هذه التجربة ومنع تكرارها مستقبلا لتأثيرها السلبي على مصالح هذه الدول فوجئ العالم صباح يوم 11/9/1973 بنبأ قيام انقلاب عسكري فاشي في تشيلي يقوده الجنرال بنو شيت انقلاب دموي رجعي يشبه إلى حد كبير انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 في العراق الذي أطاح بالحكومة الوطنية التي يقودها عبد الكريم قاسم فقد قتل الفاشيون في تشيلي الآلاف وزجوا بمثالها في المعتقلات وأطاحوا بحكومة الوحدة الوطنية واغتالوا رئيسها المنتخب سلفادور الليندي وقد اخذ قادة الانقلاب يبحثون عن بابلو نيرودا واعتبروه خطرا عليهم، ترى هل كان نيرودا ضابطا كبيرا ليقود انقلابا مضادا او انه عالم فيزياء او الكيمياء؟، انه شاعر ورجل كبير السن قد تجاوز عمره الستين عاما. لكنهم شعروا بخطورة قصائده وافكاره وهكذا يكون الشاعر خطرا ومهددا من قبل السلطات الفاشية في كل زمان ومكان، ولم يكتف الفاشيون بهذا بل اتلفوا اوراق نيرودا الخاصة به ونهب بيته واحرقت جميع الكتب التي الفت عن حياته وإعماله الشعرية، لقد أعادوا إلى الأذهان ما كانت تقوم به محاكم التفتيش في اوربا ابان العصور الوسطى ثم اغتال الانقلابيون الفاشت (فكتور جارا) المغني والملحن الشعبي، وتم اعتقال واضطهاد مئات الصحفيين واساتذه الجامعات والطلبة، لقد كان نظام بينوشيت اسوء كابوس عرفته تشيلي في تاريخها الحديث، وازاء هذه المعاملة القاسية التي مارسها الانقلابيون لم يستطيع نيرودا تحمل هذه الظروف الصعبة فرقد في احدى مستشفيات العاصمة وتوقف قلبه عن الخفقان بعد (12) يوما من مقتل صديقه الحميم سلفادور الليندي.

لقد أثيرت شكوك كثيرة حول وفاته وهل انه مات مسموما في المستشفى الذي كان يرقد فيه حتى اضطرت الحكومة التشيلية إلى إرسال عينه من بقايا نيرودا إلى اسبانيا لغرض فحصها والتأكد من سبب وفاته حيث ادعت سلطات بينوشيت في حينها انه توفي بسبب السرطان، وهكذا انطوت صفحة مجيدة من تاريخ هذا الرجل وقد دفن إلى جانب زوجته مايتلدا على ساحل المحيط الهادي.

وختاما أن في تاريخ الأدب والشعر أسماء لامعه ارتبطت أسماؤهم بماسي شعوبهم وأوطانهم مثل الجواهري وعبد الوهاب البياتي وناظم حكمت و لوركا وأمل دنقل ونيرودا هؤلاء هم نجوم الأرض الذين وهبوا حياتهم لخدمة الإنسانية (فالعظماء لا يموتون انهم يغيبون فقط).

(..فلا تحزن أيها القلب فان وراء الغيوم ما تزال شمس مشرقة..).

***

غريب دوحي

في المثقف اليوم