أوركسترا

عدنان حسين أحمد: مرثية بزيبز.. حنين الأرواح المشرّدة إلى الديار الجريحة

ثمة أفلام وثائقية تأخذ بتلابيب المتلقي منذ الاستهلال ولا يستطيع الفكاك منها قبل الوصول إلى اللحظة الختامية. وفيلم "مرثية بزيبز" للمخرج العراقي علي ريسان، المُقيم في السويد حاليًا، هو من هذا النمط الاستحواذي الذي يهيمن على ذهن المُشاهِد، ويلامس وجدانه، ويهزّ مشاعره الداخلية من الأعماق. كما يُثير فيه أسئلة عديدة من بينها تورّط الحكومة الاتحادية في جرائم القمع، والتهجير القسري، وترك الناس العُزّل يواجهون مصائرهم المحتومة وهم يبحثون عن منفذٍ يُخرجِهم من مثلث الموت الساخن إلى الضفة الآمنة التي لم توفّر لهم، مع الأسف الشديد، سوى حياة بدائية، بسيطة يتسيّد فيها الجوع والعطش، ويتعرّض فيها الجميع إلى الحرّ والقرّ، والأمراض والعِلل، بعدالة غير مسبوقة حيث تشمل الرجال والنساء، والكبار والصغار، والأصحّاء والمُعاقين. أمّا الأغنياء والموسرون فتشفع لهم أرصدتهم البنكية المُتخمة وتأخذهم إلى القصور المُترَفة الحالمة وكأنهم يعيشون في دُنيا خيالية بعيدًا عن الواقع الأسيان. تدور أحداث هذا الفيلم في أماكن عديدة تبدأ بجسر بزيبز، وتمرّ بتكريت، وأطراف الحويجة، وكركوك، ومخيم ديبكا، وتنتهي بمدينة البعّاج. ينطوي الفيلم على تسع شخصيات رئيسة تتحدث على مدار الفيلم أو تجيب أحيانًا على بعض أسئلة المخرج الذي يحاول أن يستقصي كل شيء قدر الإمكان. وثمة مجموعة من الأطفال والصبايا في عمر الزهور يشتركون بآراء جماعية محددة تستنكر وجودها في هذا المخيّم الذي يفتقر لأبسط مقومات الحياة، ويرومون العودة إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم بعد أن شدّهم الشوق إلى مدارسهم وأصدقائهم وذكرياتهم القديمة في البيوت والأزقة والحارات. أمّا ثيمة الفيلم الرئيسة فيمكن اختصارها برغبتهم الجامحة في العودة إلى مدنهم وديارهم حتى وإن تحولت بيوتهم إلى أنقاض مُهدمة. فثمة شوق عارم ينتاب الجميع إلى هذه العودة المُرتقبة؛ فالشيخ الطاعن في السن يريد أن يتمشى في حقله أو مزرعته، والأم تريد أن تشم تراب مدينتها، والصبيّة اليافعة تشتاق لمدرَستها وصديقتها وهكذا دواليك للبقية الباقية من المتحدثين أو النادبين حظوظهم على المصير المُفجع الذي ألمّ بهم جميعًا. يمتد الفيلم زمنيًا منذ عام 2014م والسنوات التي أعقبت هجوم داعش على المدن الغربية برمتها الأمر الذي تسبّب بنزوح عوائلها إلى مدينة كركوك والمحافظات الثلاث لإقليم كوردستان العراق غير أنّ أحداث الفيلم تركّزت على مخيّم النازحين بكركوك، المدينة التي وُلد وترعرع فيها مخرج الفيلم علي ريسان واستوحى منها طباع التسامح والتآلف والمحبة بعيدًا عن التعصب الأعمى والنعرات القومية والدينية والطائفية المقيتة.1101 ali raysan

العودة إلى مضارب الطفولة زحفًا على البطون

لا بد من الإشارة إلى أن كاتب السيناريو والمخرج علي ريسان قد بنى فيلمه بناءً محكمًا حيث استهلّ الفيلم بشخصية العميد الصيدلاني هلال جنداري الذي ترك جامعة الموصل مُضطرًا للحفاظ على عائلته ونزح إلى كركوك وسوف يُنهي المخرج فيلمه بحديث ذي شجون للدكتور نفسه وهو يُشيد بفضائل مدينة الموصل التاريخية والعلمية والاجتماعية. وبين هاتين الإطلالتين نلتقي بثلاثة طلاب من جامعة الموصل يقيمون في المقر البديل بكركوك. ثم نلتقي بأربعة شهود أو أكثر لأن هناك قصصًا جانبية تتناسل على ألسنة رجال ونساء وأطفال يقيمون في مخيّم النزوح ويتذمرون جميعهم من تدهور الأوضاع الصحية، وسوء الخدمات، وقسوة الظروف المناخية، واكتظاظ مخيّمات النزوح بأكثر من طاقتها الاستيعابية. غير أنّ هؤلاء الطلاب الثلاثة وبقية أقرانهم الذين لم يلتقوا بأهلهم وذويهم لمُدد متباينة يتحرّقون شوقًا لمقابلة عوائلهم ولا يجدون ضيرًا في العودة إليهم زحفًا على البطون!

ينطوي هذا الفيلم على قصص متعددة يرويها النازحون سواء أكانوا طلابًا انتقلوا إلى مقرات بديلة أم عوائل فقيرة متواضعة تركت وراءها كل شيء ووجدت نفسها في مخيّم من مخيّمات كركوك المتعددة. فالطالب الجامعي فهد عبد علّاوي الذي لم يُطق العيش في الموصل فقرر الهروب مع شقيقه إلى سورية عبر مدينة "البعّاج" وأوصلهم المهرِّب بعد ست ساعات من المسير في طرق صحراوية إلى قرية "الهزيم" السورية. وما إن يسمع فهد مقطعًا من أغنية ريفية مؤثرة يتساءل فيها المغني قائلًا:"متى يا ليل تاخذنا لَهَلنا؟ المُصايب من وكت صارت لَهَلنا، لو ندري عذاب إحنا لَهَلنا نموت وما نحمّلهم عذاب" حتى يسقط في دائرة الحزن والشجن ويعتذر عن إكمال القصة التي وصلت أحداثها إلى الجانب السوري وتوقفت هناك. أمّا القصة الثانية فتتمحور على طالب جامعي آخر هو زيد أحمد عبدالستار وهو شخصية نرجسية جدًا يتحدث عن جمال وجهه، وتسريحة شعره، وعينيه الخضراوين، وكيفية استدراج الدواعش له إلى المقر، ومحاولة إغرائه بالانتماء إليهم وحينما رفض هذه الدعوة عاقبوه بحلاقة رأسه، وظل مختبئًا في منزلة لمدة ثلاثة أشهر حتى قرّر مغادرة المدينة التي يُحاسِب فيها الدواعشُ الشبابَ على ملابسهم وتسريحات شعورهم. فيما ذهب الطالب الثالث الذي لم نعرف اسمه إلى التنظير بأنّ داعش هي صناعة أمريكية إسرائيلية بحتة هدفها تخريب هذا البلد، وتشويه سمعة الإسلام، وتمزيق الوحدة العراقية.1100 ali raysan

الإحساس بالغُربة المكانية

يصوّر المخرج علي ريسان لواعج الاشتياق إلى المدن والقرى التي هاجر النازحون منها مضطرين سواء أكانوا أثرياء مُوسرين أم فقراء مُعدَمين أم أطفالًا لم يشبّوا عن الطوق. ففي قسم الشهود الأربعة أو الأكثر قليلًا تواجهنا حالة الشاهد الأول الشيخ حمد الفرحان الجبوري من أهالي ناحية الزاب التابعة لقضاء الحويجة الذي يسرد قصة اشتياقة الشخصية بعد سكنه في كركوك مدة عشرين يومًا لا غير. كان هذا الشيخ الشاب يعيش عيشة رخيّة في بلدته المُحببة إلى نفسه. وبعد هذه المدة القصيرة انهالت عليه الذكريات الجميلة التي سبّبت له فراغًا كبيرًا وهو يستذكر الدار والمضيف وموقد القهوة وأبناء العشيرة الذين يتوافدون إليه يوميًا. يروي الشيخ حمد قصة الصبي الصغير الذي فقدَ عائلته المكونة من عشرة أشخاص انفجرت عليهم عبوة ناسفة وماتوا جميعًا وظل هو الناجي الوحيد الذي عاش خمسة أيام بعد الحادثة وكان يأكل التمر التي جلبته العائلة، ويشرب من ماء البزل القريب من مكان الحادث. وكان ينام في حضن أمه الميتة التي لم تتفسح بعد هي وبقية أفراد العائلة كما روى شهود الحادثة. ذات يوم سمعت امرأة طفلًا يبكي فأخبرت ذويها بالأمر. وحينما ذهب أحدهم وجد طفلًا صغيرًا يبكي بالفعل وتبيّن أنه كان يتغذي على التمر الذي جلبته العائلة وينام يوميًا في حضن أمه الميتة في مكان التفجير. يؤكد الشيخ بأنّ هذه القصة لن ينساها أبدًا لأنها واحدة من دلالات التعلّق بالمكان والوطن الأم الذي يحتضن الجميع، ويحدب على الكل من دون استثناء.

لا أدري إذا كان المخرج أو المونتير قد حذفا قسمًا من بعض الشهادات لأسباب تتعلق بشحة التمويل وضيق ذات اليد. فحقل الشاهد الثاني لا يتضمّن أكثر من مشهد امرأة كبيرة في السن تندب وتتشكّى قائلة وكأنها تخاطب الجميع قائلة:" تقبلون إحنا بايتين للصبح بالزبالة؟ إحنا العراقيين ليش هيج حظنّا؟ وين الشيمة؟ وين الأنبار التي كانت تحامي؟ وكأنها تشير بصريح العبارة إلى انكسار الأنبار وتخلّيها عن مهمة الدفاع عن الوطن والناس الأصلاء الذين ضاعوا بين الفكوك الطائفية المُفترسة التي تعتقد خطأً أنّ بإمكانها أن تمحو خارطة الوطن من الوجود.

أمّا الشاهد الثالث فهو عمر جاسم محمد، وهو طالب جامعي من الموصل أيضًا وقعت له صدمة كبيرة من الناس بسبب عائلة عبرت بالقرب منه وقبضت عليها داعش التي لم تكتفِ بقتلها وإنما أقدمت على حرقها. وقد ظل هذا المَشهد المرعب يؤرِّقه طوال حياته ولم يستطع أن يتجاوزه ويتغلّب عليه.1103 ali raysan

بوصلة عاطلة وزمن مقلوب

ثمة حكايات أخرى تتناسل من قصص الشهود ورواياتهم التي تتعالق بكلمات الأغنية التي وردت في مطلع الفيلم ورافقت سردياته المتتابعة التي تصف الديار المهجورة بأنها قد باتت كئيبة ومُوحشة حيث يصدح صوت المغني قائلًا: "هلج جانوا خيار الناس، وأنا أشوف الوكت بالمقلوب، البُوم يصيد والحُرّ مختفى". تروي أم محمود، وهي من مدينة الفلوجة التي تركتها منذ سنتين ونصف السنة، قصتها المُفجعة حيث أُصيب ابنها بمرض نفسي، وتعرّضت ابنتها للإصابة بشظية قصف جوي، وهي ليس لها راتب، ولا تمتلك بطاقة تموينية، ولا تستطيع أن تتحمل تكاليف علاج ابنها المريض. كما تشكو مثل الآخرين من حرارة المخيّم، وصعوبة جلب الماء. تنتقد أم محمد أعضاء  حكومتيّ الأنبار والفلوجة الذين لا يسألون عن أبناء المخيّمات ولا يعيرونهم أي اهتمام، وتتمنى أن تعود إلى مدينتها بأسرع وقت ممكن لكي تشم رائحة ترابها الزكي وتبكي عليه بكاءً مريرا.

لا يقل الأطفال أهمية في التعبير عن اشتياقهم وحاجتهم إلى المدن والقرى التي ولدوا وعاشوا فيها، فهم الآخرون شهودًا على ما فعلهُ الدواعش بأبناء المدينة حيث قتلوا البعض، وعذبوا البعض الآخر جهارًا نهارًا. وهم يستنكرون أيضًا وجودهم في هذا المخيم الصحراوي الذي يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة واشتراطاتها المتواضعة.

تشكو أم محمد، وهي امرأة من بيجي، بأنها كانت تعبى قبل النزوح حيث أُصيب زوجها بانفجار سيارة مفخخة واختلّ عقله، كما أنّ ابنها محمد مُعاق، وليس لديها راتب يُعينها على معيشة الأسرة، وتتمنى من الله أن تُعيد الحكومة لها الراتب الذي قطعتهُ عن زوجها، وأن يُطفئ اللهُ النارَ التي أحرقت البلد، وأن يعيش العراقيون بأمن وسلام لأنهم سئموا من الحروب المتواصلة، وأن يتمتعوا مثل الدول الأجنبية بنعمة الأمن، والاستقرار، والرفاه الاقتصادي.

لا يتمنى أبو مصطفى، وهو الشاهد الرابع، أكثر من العودة إلى مدينة الصقلاوية التي يشتاق إليها كثيرًا وهو يطمح لأن يتجول في أرضه، ويتنزّه في أرجاء مزرعته، ويتأمل ما حدث لبيوت مدينته التي كانت عامرة ذات يوم.1104 ali raysan

نينوى مدينة جميلة لا تستحق هذا الدمار

يُنهي المخرج علي ريسان فيلمه الوثائقي بإطلالة الدكتور هلال جنداري ثانية فهو يتحدّر من مدينة الموصل التي يمحضها حُبًا من نوع خاص لكنه أُضطر إلى تركها ومُغادرتها بعد الهجمة الوحشية التي كشفت عن وجهها الداعشي القبيح، فهي صفحة مظلمة قوّضت مدينة الموصل المتحضرة والتهمت صيدليته وذكرياته الحميمة مع أهله وذويه وأصدقائه وزملائه في الجامعة الكبيرة التي خرّجت العلماء واجترحت براءات الاختراع الكثيرة التي خدمت البشرية وأثْرت المدينة بتاريخها الأكاديمي والإنساني. لقد اضطر الدكتور هلال جنداري لأن يترك المدينة بعد أن قبض الدواعش على صفوة الأكاديميين والعلماء والأدباء والفنانين الذين لم يجدوا بُدًا من ترك المدينة حفاطًا على الأرواح البريئة لأبنائهم وعوائلهم. يبدو الدكتور هلال جنداري في خاتمة المطاف وكأنه يكلِّم نفسه ويقول: "الموصل جميلة ولا تستحق هذا الدمار والخراب". وحينما يعترف باشتياقه اللامحدود إليها يتهدج صوته وينخرط في النشيج لكنه يُصرّ على الرجوع إلى المدينة والعيش بين جوانحها مهما كلّف الثمن.

حاز فيلم "مرثية بزيبز" على الجائزة الثانية في مهرجان الأردن السينمائي الأول. كما حصد الجائزة الكبرى في مهرجان كلميم في المغرب. وعُرض في العراق والعديد من المراكز الثقافية في أوروبا، ومنحت الأمم المتحدة مُخرجه لقب سفير السلام في مملكة السويد. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ علي ريسان يمتلك رؤية سينمائية مُرهفة تعِدنا بالكثير إن توفر له الدعم المادي الذي يغطي مفاصل الفيلم برمته ولعل فيلمه الرابع "دابادا.. صرخة حسن مطلك" يكشف عن هذه الرؤية السينمائية المتقدمة سواء في كتابة السيناريو، أو إدارة الممثلين أو تجسيد رؤيته الإخراجية التي تميل إلى الدقة والحِرَفية والجمال.

بقي أن نقول بأنّ علي ريسان هو كاتب وممثل ومخرج سينمائي ومسرحي من مواليد كركوك عام 1964م. مثّل وأخرج العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية داخل الوطن وفي محل إقامته في السويد. بلغ رصيده من الأفلام السينمائية حتى الآن أربعة أفلام وهي على التوالي: "الأمكنة المشاكسة"، "صاعد السلالم"، "مرثية بزيبز" و"دابادا.. صرخة حسن مطلك". وينهمك حاليًا بمشروع فيلم وثائقي جديد عن حياة الأديب الراحل محمود جندراي. 1099 ali raysan

عدنان حسين أحمد - لندن

في المثقف اليوم