أوركسترا
عدنان حسين أحمد: عاملات الطابوق.. سَلَخانة بشرية
للأطفال القُصَّر وللنساء الأرامل والمُطلّقات
تنهمك المخرجة إيمان خضيّر في فيلمها الوثائقي الجديد "عاملات الطابوق" بالعمل على ثنائية الحقيقة والمجاز، فقد تكون الحقيقة صادمة ولكنّ المجاز قد يكون مروّعًا لأنّ وراءَ الأكمة ما وراءها، فثمة شيء أعظم بكثير من ثيمة الفيلم التي تناولت موضوعات عمل المرأة والأطفال في مهن شاقة وقاسية وغير إنسانية، ليس في هذه الحقبة بالذات، وإنما في حقب تمتد منذ أربعينات القرن الماضي وحتى الآن. فكل الأنظمة كانت مقصّرة وأعطت الأذن الصمّاء لما تعانيه المرأة والطفل العراقي على مدى ثمانية عقود أو يزيد من الزمن البليد الذي لم ينتبه إلى إنسانية الإنسان العراقي ولم يتوجع لأحزانه ومتاعبه التي لا تُعدّ ولا تُحصى.
لا بدّ من إحاطة القارئ الكريم علمًا بأنّ المخرجة الدؤوبة إيمان خضيّر قد لجأت إلى التحايل على غالبية أصحاب معامل الطابوق الذبن لم يسمحوا لها ولفريق عملها بالدخول إلى هذا "الجحيم الأرضي" فلاغرابة أن تحصل على موافقة مزيّفة من قِبل أحد الأساتذة والأكاديميين لإجراء بحث علمي عن صناعة الطابوق في تلك المضارب لتخرق المسكوت عنه، وتفضح المُخبأ الذي تستّر عليه أصحاب المعامل الذين تواطأت معهم السلطة أو غضّت عنهم الطرف منذ بداية إنشاء هذه المعامل وحتى يوم الناس هذا، مع أنّ قانون العمل العراقي لا يسمح بتشغيل النساء والأطفال في الأعمال الشاقة والضارة بالصحة.
اعتمدت المخرجة وكاتبة السيناريو إيمان خضيّر على تقنية "الرؤوس المتكلمة" التي بلغت قرابة 20 شخصًا يغطون جميع مفاصل العمل بدءًا من العاملات والأطفال، مرورًا بمراقبيّ العمل، وسائقي العربات والجرّافات، وانتهاءً بأصحاب المعامل الذين يخرقون القوانين التي اجترحتها الدولة على مدى ثمانية عقود ونصف العقد من دون أن يهتز لهم جنب أو ترتعد لهم فريصة. كما اعتمدت المخرجة على تقنية التعليق الصوتي Voice over لأربع مرات غطّت فيها الجوانب الأساسية لثيمات الفيلم الرئيسة والثانوية وختمتها بتعليق مكتوب وضعت فيه اللمسات الأخيرة على هذا الفيلم الاستقصائي الشجاع والمُثير للمشاعر الإنسانية وكأنّ الدولة برمتها تعيش في وادٍ وهؤلاء الفقراء يعيشون في وادٍ آخر تمامًا ولا صلة أو تواصل بين الاثنين على الإطلاق.
يتمحور التعليق الأول حول منطقة "النهروان" التي تضم 250 - 300 معمل طابوق. وبما أنّ درجة الحرارة عالية جدًا في النهار وقد تصل إلى 60 درجة مئوية في شهريّ تموز وآب فقد خرجت إيمان خضيّر وطاقم عملها ليلًا الأمر الذي يتيح لها إمكانية التصوير المقبول الذي لا يتأثر بدرجات الحرارة العالية جدًا. تعرّفت الراوية على عوائل قادمة من الجنوب غادرت مُدنها بسبب شحّة الماء وجفاف الأراضي الزراعية، أو بسبب مشاكل الحروب المتعاقبة التي دفعت المرأة ثمنها بعد أن فقدت مُعيلها كالأب أو الزوج أو الأخ أو الابن بحيث وصل معدل الفقر إلى نسبة 30 % أو أكثر بقليل. ثم تشدّ المخرجة رحالها وتتهيأ لدخول ما أسمتهُ بـ "السلّخانة البشرية" و"السَلَخانة" تعني "مكان ذبح الماشية وسلخ جلودها" ومعامل الطابوق تذبح النساء والأطفال وحتى الرجال على قلّة وجودهم وتسلخ جلودهم في رابعة النهار. إذًا، هناك مشكلات إضافية مُستعصية منها شحة المياة، والهجرة من القرى إلى المدن، والبحث عن فرص عمل جديدة لتأمين هاجس الطعام لا غير حتى وإن تطلّب العمل في بيئة ملوّثة وظروف صحية غير ملائمة كما هو الحال في معامل طابوق النهروان.
خرائب متهالكة في بيئة ملوثة
تصف المخرجة في تعليقها الصوتي الثاني بأنّ "هذه الهياكل التي يسمّونها مساكنَ هي في الحقيقة زرائب مهلهلة لا تقي من حرٍ ولا تحمي من برد، بعضها لا تتجاوز مساحته 2 × 2م من دون أسرّة ومن دون فراش صالح للنوم. إنها سجون مفتوحة إلّا من خرق بالية تغطي أبوابها". قد تكون "زريبة" كلمة قاسية جدًا وهي تعني من بين ما تعنيه "حظيرة الماشية" ولعلها تعني الأكواخ أو الخرائب التي تفتقر إلى السقوف النظامية والأبواب التي يُستعاض عنها بالبطانيات أو أي مادة قماشية عازلة لا تردع اللصوص والمتطفلين ولا تحمي منْ بداخلها من نساء قاصرات وأطفال عُزّل لا حول لهم ولا قوّة.
تركِّز المخرجة في تعليقها الصوتي الثالث على "المجتمع العراقي وتصفه بالذكوري الذي يرفض أن تعمل المرأة بالمهن الشاقة ولكن الحاجة هي التي غيّرت الكثير من المفاهيم بعد الحروب المتواصلة ولأنّ عملها ما يزال غير مقبول من قِبل البعض فإنّ الراوية لم تجد عبر جولاتها داخل هذه المعامل عاملات من سكنة بغداد أو ضواحيها وأنّ أكثرهنّ قادمات من المناطق الجنوبية أو الوسطى من العراق. ولأنّ المرأة الريفية غير متعلّمة فلم تجد أمامها غير الأعمال الشاقة والوضيعة". وأظنّ أن كلمة "الوضيعة" غير موّفقة هنا وقد جاءت في غير محلها لأنها تعني "الدنيئة" و"الخسيسة" وما إلى ذلك مع أنّ هذا العمل الشاق شريف على الرغم من صعوبته وقساوته وفظاظته اللا إنسانية ولكنه ينطبق عليه توصيف "كدّ اليمين وعَرَق الجبين" لولا الذئاب البشرية من لصوص وفاسدين وأصحاب معامل جشعين إلى حدّ اللعنة.
تختم المخرجة تعليقها الصوتي الرابع بالقول:"خلال فترة التصوير كنتُ أراقب أجساد النساء وكانت تتحرك من دون أرواح، ومن دون ملامح بعد أن أخفينا وجهوهنّ بنُقُب وتحزّمنَ بعباءاتهن عند خصورهنّ، ولبسنَ أحذية بلاستيكية بالية ليتمكنّ من رفع أكبر عدد ممكن من قطع الطابوق. إنه اليأس الذي يخيّم على البشر والمكان، إنه هولوكوست القرن الحادي والعشرين". وفي خاتمة المطاف تضع الراوية الكرة في ملعب أصحاب المعامل بواسطة تعليق مكتوب هذه المرة تقول فيه بالدليل الدامغ: "رفض غالبية أصحاب المعامل تصوير النساء خوفًا من كشف ظروفهنّ للرأي العام حيث يعملن في الصيف اللاهب بدرجة حرارة تتراوح بين 55-60 درجة مئوية في شهريّ تموز وآب اللذين يشكّلان ذروة عملهن، تكلفة باهضة لكسب لُقمة العيش، تحت رحمة الدخان الأسود وأصحاب المعامل".
لا تختلف ظروف النساء ومعاناتهنّ في معامل الطابوق فهي واحدة وإن اختلفت التفاصيل ويمكن تلمّس هذه المخاوف والهواجس لدى جميع العاملات فكلّهن يخشينَ على أنفسهنّ وأطفالهنّ في هذه المتاهة المفتوحة على المخاطر الجديّة التي تتجاوز السرقة والاعتداءات الجنسية إلى الأمراض الفتّاكة الناجمة عن العمل في بيئة ملوثة وظروف صحية سيئة إلى أبعد الحدود. أم سجّاد التي لا تقطع الشك باليقين لا بعمرها ولا بعدد سنوات زواجها فإنها تعتقد أنّ عمرها 27 تقريبًا وأنّ زواجها يمتد إلى حدود الـ 12 سنة. وهي تقوم بكل الأعمال المنزلية إضافة إلى عملها بفرن الطابوق. تجلب أطفالها إلى العمل وتتركهم تحت شمس لاهبة وهّاجة خشية عليهم من الدهس بسيارة أو السقوط في بئر. لا تتعدى وجباتهم اليومية الطمام والبطاطا المقلية ويتناولون اللحم مرة واحدة في الأسبوع، وتقتني لهم الملابس في الأعياد ومناسبات الزواج المتباعدة. أمّا مياه الغسل والتنظيف فهي ملوثة وغير صحية. تشتغل أم سجّاد ست ساعات يوميًا من الساعة الحادية عشرة حتى الساعة الخامسة عصرًا وتتقاضى 80 ألف دينار أسبوعيًا لا تكفي لسد الرمق وتكاليف الطبيب الذي يعالج أمراضهم الكثيرة. أُصيب أحد أطفال أم سجاد الرُضّع بالربو وحساسية القصبات الهوائية مذ كان عمره 40 يومًا وظل يعاني من هذا المرض لمدة سبع سنوات حتى تماثل للشفاء وبدأ العمل في هذه البيئة الملوثة إلى جانب والدته. تعاني أم سحاد من داء الشقيقة والانفعالات العصبية التي تعزوها إلى العمل في فرن الطابوق المعروف بحراته الشديدة.
عوائل فقيرة تعمل لتأمين هاجس الطعام وأجور الطبابة
تعمل بدور جبّار مع أخواتها الأربع في معامل الطابوق منذ 15 سنة تقريبًا، وقد جئنَ من محافظة الديوانية من دون دليل وهنّ لا يمتلكن مصدر رزق آخرَ سوى هذه المهنة الشاقة التي اعتدنَ عليها. سعدية علي وركاب حسين وصبحة علي يعانينَ من الأمراض التي تكلفهنَ أموالًا كثيرة بسبب البيئة الملوثة والمياه غير الصحية؛ فواحدة تعاني من الكُلى المليئة بالحصى والرمل، والثانية تتقيأ بشكل متواصل، والثالثة تعاني من الجرب والأمراض الجلدية، والرابعة أصيبت بمرض السكري ثم التهاب الأمعاء وتلف أعصاب النظر وقد صرف والدها غانم شمخي قرابة المليونيّ دينار لمعالجتها لكن جهوده ذهبت أدراج الرياح. وبما أنّ والدها فقير ولا يمتلك إلّا ما يسدّ الرمق فقد ظلت ابنته "جنان" بلا علاج ينقذها من أوجاع الجسد التي تناوشتها على مدى خمس سنوات. وتعتقد أن أمراضها قابلة للعلاج لو كان والدها بعض النقود فهو يعمل سائق جرّافة في المعمل ويشكو مثل الآخرين من انعدام الخدمات وعدم قدرته على إرسال أبنائه إلى المدرسة التي تبعد عن منزلة قرابة 8 كليومترات علمًا بأنّ الطريق ترابي تتخلله مخاطر الكلاب السائبة وكثرة أنهر البزل والقناطر إضافة إلى مخاوفهم من الاعتداءات الجنسية على الأطفال. ويُلقي باللائمة على شيوخ القبائل والحكومة فهم الذين يحددون مواقع المدارس ولا يأخذون في الاعتبار معاناة الأطفال وذويهم الذين يعملون في معامل الطابوق.
غالبية الأطفال من كلا الجنسين مرضى فأحمد، تمثيلًا لا حصرًا، مُصاب بالتايفوئيد واليرقان ويشعر بالتعب الشديد حينما يعمل. وأنّ الأدوية التي يتناولها لا تفعل شيئًا من وجهة نظره، فالآلام تجتاح بطنه وساقيه وأماكن مختلفة من جسده. وهذا الأمر ينسحب على أطفال آخرين يعانون من أمراض فتّاكة بسبب البيئة الملوثة، والمياه غير الصالحة للشرب، والغازات السامة التي تنبعث بكثرة من أفران المعامل.
يعزو أبو حمزة العياشي، وهو مراقب عمل، بأنّ المضايقات موجودة بالنهروان وخاصة من قِبل الشباب العُزّاب، ورغم أنه نفى وجود هذه الظاهرة السلبية في المعمل الذي يشتغل فيه لكنه أكّد على وجودها في معامل أخرى ويجد صعوبة في الحديث عنها لأنها سلوكيات غير أخلاقية. ولعل أم أحمد هي المرأة الشجاعة الوحيدة التي تجرأت في طرح الموضوع وقالت إن شخصًا دهمها في المنزل وحاول أن يغلق فمها لكنها "دفرتهُ" بقوة وطاردته مع أفراد عائلتها لكنه انهزم ولاذ بالفرار. أمّا الأطفال فقد تعرض العديد منهم للتحرش والاغتصاب ومنْ يدقق في ملامح وجوههم سيكتشف من دون عناء انكساراتهم الداخلية التي تنضاف إلى مشاق العمل اليومية، فبدلًا من أن يكونوا في المدارس والأندية الترفيهية والرياضية نراهم ينهمكون في العمل الذي لا يتحمله الرجال في ذروة شبابهم فكيف إذا كان العمّال هنا من الأطفال والفتيات الناعمات اللواتي فقدن أنوثتهنَّ بحيث أصبحت مقاعد الدراسة أو الولوج إلى المدرسة هو الحلم الوحيد الذي يراود مخيلاتهنَّ المتوهجة التي لم يطفئها ضنك العمل ومشقته الخارجة عن المألوف.
إذا كانت مَهمة المخرجة هي وضع الأصبع على الجرح وتشخيص المشكلات التي يعاني منها المجتمع العراقي فقد وفّت إيمان خضير بما عليها من تعهدات أخلاقية ووضعت الكرة في ملعب الحكومة والمسؤولين العراقيين. وكان بإمكان البرلمان أن يلتئم ويشاهد هذا الفيلم الذي تبلغ مدته 44 دقيقة ويشرّع قوانين جديدة تحمي الطفولة والنساء العراقيات من هذا الظلم الكبير الذي يلحق بهن بسبب جشع أصحاب المعامل وأن يعيد لهنّ حقوقهن المستباحة سواء في السكن المريح أو العلاج الشافي أو الأجور المجزية، كما يوفر لهنّ ولأطفالهنَّ الحماية الكاملة من الانتهاكات الأخلاقية والمادية ويعيد لهنّ الاعتبار بوصفهن نساء عراقيات جار عليهنَّ الزمن وحرمهنَّ من أبسط حقوقهنَّ الاجتماعية والمادية والأخلاقية.
مُخرجة تلامس وجدان المتلقّي وتهزّ مشاعرة العميقة
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ إيمان خضيّر هي مخرجة متمكنة من أدواتها الفنية وتستطيع أن تلامس وجدان المتلقي وتهزّ مشاعره الإنسانية العميقة، وتأخذ بتلابيبه كليًا وهو يشاهد فيلمًا من نوع "عاملات الطابوق" ويندغم فيه إلى درجة التعاطف مع كل شخصية تعرضت إلى القمع والظلم والاضطهاد ومُصادرة حقوقها الشخصية والعامة. إنّ أفلامها عمومًا توخر الضمير الإنساني وتُوقظه من سباته العميق وتقذفه في خاتمة المطاف إلى دائرة الاحتجاج بصوت عالٍ من أجل الانتصار لإنسانية الإنسان خصوصًا إذا كان هذا الإنسان طفلًا يتيمًا أو امرأة أرملة أو مُطلّقة جارَ عليها الزمان، ونسيتها الدولة، وهجرها المجتمع.
بقي أن نقول بأنّ إيمان خضيّر هي مخرجة أفلام وثائقية حاصلة على بكالوريوس في كلية الفنون الجميلة، وماجستير في قسم الإخراج، وتحضّر للدكتوراه بجامعة محمد الخامس في المغرب. أنجزت حتى الآن سبعة أفلام وثائقية وفيلم روائي قصير وهي على التوالي: "أنيس الصائغ .. حارس الذاكرة الفلسطينية"، "تاريخ طوابع فلسطين"، "الملك فيصل الأول"، "ظل الكونكريت"، "مقاهي بغداد الأدبية"، "عاملات الطابوق"، "صفر" و"جدارية المطر". كما قدّمت في مجال السيناريو والبحث الوثائقي لقناة "الجزيرة الوثائقية" أربع مواد لأربعة أفلام وثائقية عن "عبد الكريم الخطّابي" و"أحمد الشقيري" و"محمد نجيب" و"العرب في أمريكا". وفي رصيدها الفني العديد من البرامج الإذاعية والمسلسلات التلفازية.
***
عدنان حسين أحمد