أوركسترا
علاء اللامي: أسوار وبوابات بغداد التاريخية، ماذا تبقى منها اليوم؟
بُنيت بغداد المدورة "العباسية" في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور بين عامي 762-768م. وكانت في بدء أمرها صغيرة المساحة، بلغت مساحتها عند انتهاء بنائها 7945 كم²، وكانت أشبه بالقلعة الكبيرة، وكان "لسورها أربعة أبواب حديد، وعلى كل باب قوة مسلحة قوامها ألف مقاتل، وبين كل باب وآخر خمسة آلاف ذراع، فكان محيط المدينة 10 كم تقريبا". ولكنها أضحت من أعظم مدن العالم "فكان لا يُعرف في أقطار الدنيا مدينة مدورة سواها" على حد قول الخطيب البغدادي.
* لكنَّ التخطيط الدائري الذي اعتمد في بنائها لم يكن يسمح بالنمو السريع والواسع الذي يليق بعاصمة إمبراطورية. فاتجه سكانها بعد ذلك إلى البناء خارج الأسوار، وبُنيت حارة الكرخ خارج باب الكوفة، وأصبحت هذه الحارة مدينة خاصة بالتجار. ثم بنيت الرصافة في الجانب الشرقي من بغداد، وقد بناها المنصور لابنه المهدي وجيشه الذي قدم من خراسان وسميت أولا "معسكر المهدي" ثم تحولت الى حارة. وفيها بنى المهدي، حين استُخْلِفَ في المُلك سنة 158 هـ، جامعا أكبر من الجامع الذي بناه أبوه المنصور، وماتزال مأذنته قائمة إلى اليوم وتسمى "منارة سوق الغزل"، ومن بقاياه جامع الخلفاء في محلة رأس القرية، وقد وسعه الرشيد ومن جاء بعده من خلفاء بني العباس لاحقا، أما وضعه الحالي فهو من بناء وترميم الوالي العثماني سليمان باشا الكبير والذي كان مملوكا لمحمد بك الدفتري الربيعي ثم أعتقه، في القرن الثامن عشر الميلادي وتدرج في المناصب حتى أصبح والي بغداد.
* ظلت بغداد قائمة بهذه الصورة حتى القرن الثالث الهجري الموافق للعاشر الميلادي. وفي القرون اللاحقة تداخلت أقسام المدينة وأبنيتها القديمة والجديدة مع الابنية التي أقيمت خلف أسوارها وحولها كما قلنا، وأهم أبنية شُيِّدَت في بغداد المدورة هي قصر الذهب وجامع المنصور ومكتبة دار الحكمة.
* يقول الآثاري جنيد عامر إن سور العاصمة بغداد - لا أستطيع الجزم إن كان يتحدث هنا عن سور آخر لاحق لسور بغداد المدورة أم عن السور القديم المدور ذاته - هو عبارة عن نصف دائرة يقع على نهر دجلة، فيبدأ من منطقة باب المعظم وينتهي بمنطقة الباب الشرقي، وله أربعة أبواب "هي: باب البصرة المؤدي الى الجنوب، وباب الكوفة المؤدي الى الجنوب الغربي أيضا، وباب الشام المؤدي الى الغرب والشمال، وباب خراسان المؤدي الى الشرق والشمال"؛ ولكن هذه الأبواب الأربعة اندثرت ولم يبق منها في عصرنا إلا باب واحد هو الباب الوسطاني "الأوسط" أما المدينة المدورة فقد تلاشت واندمجت في بغداد المتوسعة باضطراد في العصور اللاحقة.
* يضيف الباحث سالف الذكر "استمر بناء السور 134 سنة، معاصرا حكم عدد من الخلفاء، لكن الزمن والغزوات المتعاقبة على مدينة السلام كانا كفيلين بإزالة وتهديم الأبواب جميعها، باستثناء الباب الأوسط الذي بقي شاخصا بقوة وهيبة، قرب ضريح الشيخ عمر السهروردي شرقي بغداد"، (وهو ليس الشيخ الصوفي الشهير بيحيى السهروردي والملقب بالسهروردي القتيل، والذي قتل سنة 586هـ في قلعة حلب.ع.ل).
* وذكر الباحث أن "أهالي عاصمة الخلافة العباسية ساهموا في تشييد أبواب السور، فقد تمكنوا من ابتداع عدة ابتكارات لتحفيز بعضهم والإسراع بإكمال البناء، من ذلك مثلا أنهم صنعوا تنّورا يسير على عجلات، وعليه خبازون يخبزون ويعطون الناس أرغفة ساخنة/ تحقيق تلفزيوني لفضائية الجزيرة".
- أما أبواب سور بغداد فكان مصيرها كالآتي عرضه:
* باب المعظم (باب الإمام الأعظم - أبو حنيفة النعمان): يقع في بداية الطريق المؤدي إلى جامع الإمام الأعظم في حي الأعظمية، ولا يوجد اليوم أثر لهذا الباب، حيث هُدمت بقيته بعد دخول الجيش البريطاني إلى بغداد. إنما بقي الاسم علماً للمحلة المحيطة به، وهي الآن تقع في مركز بغداد. وفي عام 1962 زال كثير من معالم هذه المحلة بسبب التطور العمراني وبناء الجامعات والدوائر الحكومية فيها.
* الباب الشرقي: ويقع في الجهة الشرقية من بغداد القديمة حتى منتهى شارع الرشيد، وهو من أبواب سور بغداد الذي بقي قائما في عهد الدولة العثمانية، وكان على شكل برج، جُعِل كنيسة بعد الاحتلال البريطاني لبغداد عام 1917 ثم هُدم في العهد الملكي سنة 1937، ضمن خطة خبيثة لمحو معالم بغداد القديمة.
*باب الآغا: وهو في محلة باب الآغا ببغداد، وزال من الوجود أيضا قبل عدة عقود، ولكنه ظل قائما في أمثال البغداديين: (مثل خبز باب الآغا، أبيض وحار ومگسب ورخيص).
* باب الشيخ: واسمه مختصر لـ (باب الشيخ عبد القدر الكيلاني). وهي محلة كبيرة في بغداد، يقوم فيها جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني/ الجيلاني، الجيلي، ومرقده ما يزال قائما منيفا فيها، وتتصل بهذه المحلة أحياء منها: الصدرية، رأس الساقية، فضوة عرب، الدوكجية، حي الأكراد، والتسابيل.
*الباب الأوسط أو الباب الوسطاني (باب الحلبة): ويقع قربه جامع الشيخ عمر السهروردي، قرب باب الطلسم.
ويقع الباب الوسطاني قرب مقبرة الشيخ عمر؛ نسبة إلى الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي، الذي دفن فيها ومرقده ظاهر وعليه قبة مخروطية الشكل في وسطها. وكان "موعد إغلاق الباب الأوسط يوميا كان عند أذان المغرب، وكانت القوافل التي تصل من مدن ودول بعيدة في هذا الوقت، تضطر إلى البقاء خارج المدينة إلى اليوم التالي، حتى تُفتح بواباته مجددا عند الفجر". وظل هذا الباب البغدادي قائما حتى عشرينات القرن الماضي ثم حولته السلطات التابعة للاستعمار البريطاني هذا الباب إلى "سجن وبقي كذلك حتى عام 1936م". ثم رمّمته مديرية الآثار القديمة، وحوّلته إلى متحف للأسلحة القديمة، وأما عام 1979م فأجريت عليه أعمال ترميم وبناء ليُترك على ما هو عليه الآن" شأنه شأن كل معالم بغداد ورموزها التاريخية التي أهملها أو حطمها عن سابق قصد وتصميم نظامُ الحكم الجديد بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003.
*أعتقد أن باب الطلسم - كما يبدو من سياق كلام الباحثين الآثاريين والتراثيين عنه- هو باب ثانوي أو باب داخلي لمحلة، وقد كُشِفَ عن آثاره من قبل دائرة أمانة بغداد في ثمانينات القرن الماضي، حيث كانت المنطقة المحيطة بالمقبرة والجامع تحتوي على الأنقاض والمخلفات التي تمت إزالتها استعدادا لترميم الباب الأثري لتكون مرفقا سياحيا. وكان باب الطلسم قائماً طيلة فترة الدولة العباسية والعثمانية حتى نسفهُ الجيش العثماني قبل انسحابه من بغداد في 11 آذار /مارس 1917 وذلك خوفاً من استيلاء الجيش البريطاني على مستودعات الذخيرة والأسلحة العثمانية الموجودة فيه، وتوجد آثاره باقية إلى الآن ومطلة من على الخط السريع (محمد القاسم). والصورة لهذا الباب التقطت سنة 1918.
* أما أسوار بغداد القديمة فقد أزيل ما تبقى منها في العهد الملكي، بقرار من أمين العاصمة آنذاك ساطع الحصري. وقد اعتبر الباحث التراثي العراقي الراحل هادي العلوي إزالة الحصري لأسوار بغداد ولمعالمها الأثرية الأخرى جريمة بحق العراق وتراثه القديم الشاخص.
علاء اللامي