حوارات عامة

أوليفييه بوبينو: الدينيّ والسياسيّ من خلال "اثنا عشر جوابا" لمارسال غوشييه

محادثة: أوليفييه بوبينو

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

مارسال غوشييه: 1946...

"أقابل الدين بالدولة الحديثة، لا بالدولة بوجه عام"(م.غ)

"  تقابلون بوضوح بين الدولة والدين. فالأولى هي إرادة التملّك وتنظيم مصير الجماعة في التاريخ، والثانية هي اختيار التجرّد من التملّك لصالح أصل سيسمح ببناء هَوَوِي للبشر وفق استمرارية تقليدية لنظام اجتماعي." (أ. بوبينو)

"كان للبشرية الاختيار بين دين وسياسة. وكان الدين هو الإجابة عن الوضع السياسي الذي شكّله بتحييده، بطريقة تامة نوعا ما. إنّ خروج الدين يعني من جهة أخرى، الإلزام، بطريقة حيوية أكثر فأكثر، بقبول الوضع السياسي".

"ابدؤوا بقبول وجود السياسيّ (الترتيب الشامل للمجتمع)، الذي تميل مجتمعاتنا إلى رفضه. فهي لا تريد رؤية غير السياسة (الإخراج السياسي)، التي تفهم بوصفها امتدادا لدائرة الخاص للأفراد والتعبير عن المجتمع المدني التي يشكلّ المجموع. بالإضافة إلى وقوعها باستمرار (أي المجتمعات) تحت فعالية عودة المكبوت. إنها إحدى الأسباب العميقة للضائقة الراهنة للديمقراطيات." (م .غ)

" إنّ مجتمعات التقليد، وباقتناعها بالعيش باستمرار مع الماضي، لا تهتمّ بمعرفة هذا الماضي لذاته، بما أنها تعتقد أنها تعيشه داخليا. ويوعيها بالجدّة المتولّدة عن الفعل البشري- الوعي التاريخي " بالمعنى الحديث - وبالتالي الشعور بالابتعاد عن الماضي، تنمو الحاجة إلى معرفته بالتحديد وفهمه جوهريا، بما أن الماضي قد صنعنا  بالرغم من كلّ شيء."(م. غ)

***

أوليفيي بوبينو

- مارسال غوشييه، أريد أن أعود معك إلى بعض الأسئلة المثارة في هذا العرض2. أولا، هذا السؤال: هل أن تاريخ البشرية "، بوصفه محركا فعليا للتاريخ"، تاريخ " علاقة خطرة" بين طرفي الزوج دين وسياسة؟

- مارسال غوشييه

- " علاقات خطرة" ليست العبارة المناسبة. فقد تكون عبارة " فكّ الارتباط" مقبولة أيضا. أقول بالأحرى، بأخذ مسافة قصوى، بأنه كان للبشرية الاختيار بين دين وسياسة. وكان الدين هو الإجابة عن الوضع السياسي الذي شكّله بتحييده، بطريقة تامة نوعا ما. إنّ خروج الدين يعني من جهة أخرى، الإلزام بقبول، بطريقة حيوية أكثر فأكثر، الوضع السياسي. هذا ما نتناقش فيه، لم يكن النجاح حقّا في الموعد، في الوقت الراهن. و الأسوأ، بالرغم من ذلك، ستكون بقربنا، ولكن من حسن الحظّ خلفنا، " الأديان العلمانية"، أي محاولة إعادة صنع تنظيم دينيّ مع السياسيّ.

- أ. بوبيتو

تعرّفون الدين الأوليّ، ماهية الدين بالذات، بوصفه قطيعة مع الماضي اللامرئيّ، غير القابل للتشكيك، الماوراء الحقيقيّ، السابق والأسمى من البشرية . فيم، حينئذ، لا تزال  أديان التوحيد أديانا؟

- مارسال غوشييه

تتطابق أديان التوحيد من غير شكّ، مع انحلال التبعية الأولية. إنها تدمج فيها المشكوك فيه؛ وتسمح بضرب من الاعتبار المستقلّ للخلق الذي يبرز به الخالق الأوحد. لكنها لا تقود إلى تبعية الأساس وفق نمط آخر، إلى حدّ أنها يمكن حتى أن تزيده تعقيدا. هو أثر منظوري لم يُلهم في شيء بتحليلات ممتازة. إنها، على هذا المستوى، تستحقّ فعلا وبجدارة اسم ديانات.

- أ. بوبيتو

لقد حكم عليك منذ بعض السنوات، بكونك " محافظا" قليلا (انظر في هذا الباب كتاب دانيال ليدنبورغ، إيقاظ: بحث حول المحافظين الجدد"، 2002)... وبمعزل عن هذا الجدال  هل يعود هذا بالخصوص إلى المنزلة الهامة التي تعطيها للدين الأوليّ في تاريخ البشرية؟

- مارسال غوشييه

تعطي أهمية كبيرة لا يستحقّها  لقول نقدي مثير . أخشى أن أكون ضمن قائمة " المحافظين الجدد" لأسباب تعود إلى مكائد جامعية رخيصة ومنشورات أكثر منها إلى قراءة عميقة لكتبي. فاسألوا أصحاب الدعوى!

- أ. بوبيتو

تعرّفون المقدّس بوصفه الجزء العينيّ والمرئيّ لللامرئيّ الأصل. أيّ فرق تقيمه بين الرمزيّ والمقدّس؟

- مارسال غوشييه

المقدّس هو أحد الكلمات الرهيبة التي يبدو أن مصيرها هو تمركز لكلّ الالتباسات. استخدم الكلمة بقدر، على أساس تعريف دقيق، يبدو لي في الآن أنه نفسه يفسح المجال لما  تحمله هذه العبارة ممّا لا يستغنى عنه للإشارة إلى مجال مخصوص للتجربة الدينيّة، والاحتماء من التعميمات غير المناسبة. يوجد المقدّس حينما توجد شهادة ملموسة للماوراء عن هذا العالم السفلي، تجسيد اللامرئي في المرئيّ - في حيّز، وجسد وشيء ... ويتعلّق الباقي بامتدادات مجازية غير مراقبة. إنّ المقدّس منظورا إليه بهذا المعنى هو حالة خاصّة للرمزيّ داخل هذا المجال الآخر الخاص الذي هو الدين غير أنّ الرمزيّ هو رداء العالم الإنساني الاجتماعي. الدين نسق رمزي، ليكن، لكن الرياضيات أيضا وقانون الطرقات ليس أقل من ذلك. وبعبارة أخرى لا يساوي المقدّس الدين بقدر ما لا يساوي الدين الرمزيّ.

- أ. بوبيتو

تقابلون بوضوح بين الدولة والدين. فالأولى هي إرادة التملّك وتنظيم مصير الجماعة في التاريخ، والثانية هي اختيار التجرّد من التملّك لصالح أصل سيسمح ببناء هَوَوِيidentitaire للبشر وفق استمرارية تقليدية لنظام اجتماعي. لكن أليست الدولة في جانب منها معرّفة بهذا التجرّد من الحيازة الهَوَوي، فعل التسليم إلى قوّة تقودنا وتنبني وفق قواعد موجّهة لنظام اجتماعي، أليست فنّا نفسيا، أداة للتحكّم في البنية النفسية للبشر؟

- مارسال غوشييه

أعارض أو أقابل الدولة الحديثة بالدين، لا بالدولة بوجه عام، بقدر ما يكون لفظ "التعارض" حسنا- وأقول في الواقع بأنّ الدولة الحديثة هي أحد محاور استئناف البَنْيَنةَ structuration المستقلّة للهيكلة دينية . إنّ الدولة الحديثة  هي التي تسمّى ذاتها " دولة"، منذ حوالي 1600. وسيكون من المناسب بكلّ دقّة أن تحتفظ بالمقولة. لكننا ملزمين بإسقاطها في الماضي، للإشارة إلى أجهزة الهيمنة المؤسّسة التي تنبثق في مواضع مختلفة حوالي 3000 قبل المسيح. يجب ببساطة أن نكون على وعي بالمشكل. هذه " الدول" غامضة:هي تمثّل ثورة دينية، بما أنّ لامرئي الأساس يتجسّد معها،  بين البشر، وهو ما يتضمّن نتائج حاسمة في النهاية، وهي أي الدول في ذات الوقت آليات المحافظة الدينيّة. تشتغل الدولة الحديثة على خلاف ذلك، بوصفها أداة إعادة توطين عقول أو أساس الجماعة الإنسانية في صلبها. لكن ذلك، بالفعل، يتوسّط فصلا يعطي كلّ معناه لسؤالك. توجد مجازفة للتجرّد من الحيازة في اشتغال مستقلّ، مثلما هو في اتجاه آخر، تشتغل التبعية الدينية بشكل مؤكّد بوصفها أداة لضرب من الحيازة لذاتها بالنسبة إلى الجماعات البشرية وبضرب من الحيازة لذواتها بالنسبة للفاعلين فيها- تحفظ هذه الوظيفة الأخيرة كامل حيويتها، والحقّ معك، في المجتمعات التي تحررت من الدين، أي مجتمعاتنا. وحال البشرية أن تفسّر ذاتها بغيرية وخارجية هي مكوّنة لها. لا ينتهي هذا بعد التشكيل الديني لهذه الغيرية على صعيد جماعي- ويظلّ هذا كي نبدأ في السؤال على صعيد فردي. إنّ الاشتغال المستقلّ مشكلة، وليس دخول فاخرا للبشرية إلى السيادة على ذاتها، بعد اغتراب غير مفهوم. وبخلاف ما يقوّله لي بعض النقد، ممن لم يقرؤوا لي، فانا لست ممّن يتغنى بسعادة بالاستقلالية، ولا ساخرا على شاكلة تقليدية بالتبعية. فاللوحة التي أقترحها هنا هي أكثر دقّة. إنّ للإنسانية خيار، في الجملة، بين التملك بالتجرّد منه (التبعية) وبمجازفة التجرد من التملك (الاستقلالية).

- أ. بوبيتو

لقد زعم البعض بأنك تبدو، في ممارسة الفكر البشري، مرتدّا عن أطروحات ميشيل فوكو عن الجنون في كتابه تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، والذي ينقد مؤسسات السلطة. كما لو كنت فيلسوفا مبرّرا لمشروعية المؤسسات...

- مارسال غوشييه

أنا مندهش من ضمنية هذا السؤال، الذي هو، في الأصل، كون كل مؤسسة هي موضوع نقد في مبدئها بالذات. تبدو هذه الفوضوية المنهجيّة فكريا اختزالية قليلا. بماذا يتعلق الأمر في هذه الحال؟ بطبيعة المؤسسة العلاجية النفسية.يمكن أن نتقاسم مع آخرين، نقد فوكو للبؤس في المصحات العقلية، دون تقاسم تشخيصه لأصل هذا البؤس. هل علينا أن نستنتج، بناء على ما أنتجته المصحات العقلية المنشأة في القرن 19، في مؤسسة مريعة وقمعية، أنها أنشأت في البداية  بغرض اختزال الجنون في صمت بتشبيهه بـ"مرض عقلي" مزعوم، على أساس إقصاء أصلي للجنون بواسطة العقل الحديث الناشئ؟ هذا هو التأويل الذي نستنتجه. غلادي سوان غير موجود للحديث عن ذلك لكن أستمرّ في اعتباره خاطئا جذريا. نقترح قراءة أخرى لتاريخ الجنون، من ولادة الطب النفسي وتحوّل المؤسسة العلاجية.  لقد ساءت الأمور لأسباب جد مختلفة عما زعمه فوكو، وقد تولّدت نتائج عملية هامّة لهذا الانحراف النظري. نعم، يجب إصلاح المؤسسات العلاجية النفسية بعمق؛ لا، لا يجب تفكيكها. لقد أدت فوكوية foucaldisme أسيء هضمها إلى تصفية للطب العقلي باسم " فك الحصار" و"تحرير" الجنون. والنتيجة: تخلّ جماعي مخجل، غير مشرّف للمجانين الموجودين في الشارع وفي السجن.أليس هذا شكلا مغايرا أكثر عنفا للإقصاء؟  ترون يجب الانتباه حينما نلدغ بـ"نقد المؤسسات" . النقد، أرغب في ذلك فعلا، لكن باسم ماذا ومن اجل ماذا؟

- أ. بوبيتو

أيّ فرق تقيمه بين الدين والدينيّ، سوى كونه اختلافا في الوظيفة، فالدين له وظيفة اجتماعية وسياسية قبل دخول البشرية في التاريخ، والدينيّ له وظيفة هوويّة على الصعيد الفردي والجماعي في الديمقراطيات المعاصرة؟

- مارسال غوشييه

كلام جيّد جدا: يبدو لي فعلا أنه من المحبّذ الاحتفاظ بعبارة الدين للحظة - المطوّلة، بما أنه يغطّي الأساسيّ من التاريخ الإنساني - حيث يمارس وظيفة مبنينِة في المجتمعات . لكن لا يمنع خروج الدين، بهذا المعنى، الدينيّ من الاستمرار في البقاء ضمن الضمائر الفردية (في المجتمعات طبعا بموجب التقاسم لهذه المعتقدات الشخصية، لكن على نط آخر غير النمط القديم المؤسس). يوجد الدينيّ بعد الدين لكن لا يحتلّ نفس المكانة ولا يؤدّي نفس الدور. أعتقد انه من المفيد التمييز بينهما. وأضيف فقط بأنّني لا اختزل الدينيّ في وظيفة هوَوَيّة، على أي حال على الصعيد الفردي.373 Marcel Gauchet

- أ. بوبيتو

بالنظر إلى " الخصوصية المسيحية " التي تسلط عليه الضوء، خاصة في نزع الافتتان بالعالم، ألا تكون، بالنسبة إلى المسيحيّة، شاتوبريان القرن 21، بالتأكيد على العبقرية الخاصة لهذا الدين في تاريخ البشر؟

- مارسال غوشييه

المقارنة مشرفة بالنسبة إليّ، لكن لا تبدو لي حقا مناسبة. لم يحصل لدقيقة أن كانت لي فكرة مقارنتي بالساحر من نوع " الفاتن". وفي المقابل، أودّ أن أكون دقيقا قليلا في الأساس أكثر من صاحب عبقرية المسيحية، التي، وهو ما يجب قوله، مع الأسف لا يحلق حجاجها بعيدا. لست مدّاحا، هدفي ليس الدفاع وتوضيح المسيحية، وليس فهم التاريخ الذي نحن ورثته، وأودّ أن أقول، في هذا السياق، أنّني اقتربت فحسب من الحقيقة.

- أ. بوبيتو

ما هي نقاط الاختلاف والالتقاء بين الدين والشمولية، التي تعرّفها بوصفها نظاما أعلى وتابع، يهدف إلى تشميل كل المجتمع من " الخارج"؟

- مارسال غوشييه

يقودنا السؤال إلى السؤال عن " الأديان العلمانية" فيما سبق. الأنظمة الشمولية أو بالأحرى الإيديولوجيات الشمولية، هي دينيّة زائفة. فهي مهووسة بصورة لا واعية، بالشكل الذي تعطيه الهيكلة الدينيّة للجماعات الدينيّة. إنها تبحث عن إعادة إنشاءه، لكن من داخل دائرة المحايثة، بإقصاء كلّ مرجعية متعالية، على قاعدة فلسفة للتاريخ، وبواسطة أدوات مستمدّة من الهيكلة المستقلّة (الدولة والحزب والتنظيم). ومن هنا في نفس الوقت القرابة والتعارض الأساسيّ مع عالم الدين. كلاهما حقيقيّ في ذات الوقت.

- أ. بوبيتو

ماذا يتوجّب عينا حتى نوفق بين السياسة (الإخراج السياسي) والسياسيّ (الترتيب الشامل للمجتمع) في ديمقراطياتنا؟

- مارسال غوشييه

ابدؤوا بقبول وجود السياسيّ، الذي تميل مجتمعاتنا إلى رفضه. فهي لا تريد رؤية غير السياسة، التي تفهم بوصفها امتدادا لدائرة الخاص للأفراد والتعبير عن المجتمع المدني التي يشكلّ المجموع. بالإضافة إلى وقوعها باستمرار(أي المجتمعات) تحت فعالية عودة المكبوت. إنها إحدى الأسباب العميقة للضائقة الراهنة للديمقراطيات . وليس قابلا للشفاء إلا قليلا ذاك الوعي بما في واقع السياسيّ ممّا يتعذّر تجاوزه.

- أ. بوبيتو

كيف تفسرون المفارقة التالية: بقدر ما نبتعد عن الماضي، زمن الديانات، بقدر ما يفتننا الماضي؛ وبقدر ما يموت هذا الماضي، بقدر ما يأخذ أهمية لدينا؟

- مارسال غوشييه

إنّ مجتمعات التقليد، وباقتناعها بالعيش باستمرار مع الماضي، لا تهتمّ بمعرفة هذا الماضي لذاته، بما أنها تعتقد أنها تعيشه داخليا. ويوعيها بالجدّة المتولّدة عن الفعل البشري- الوعي التاريخي " بالمعنى الحديث - وبالتالي الشعور بالابتعاد عن الماضي، تنمو الحاجة إلى معرفته بالتحديد وفهمه جوهريا، بما أن الماضي قد صنعنا  بالرغم من كلّ شيء. نحن في لحظة حاسمة لهذه الظاهرة، التي ليس لها من وجه مفارقي سوى الظاهر، باعتبار أهمية القطيعة مع الماضي التي هي بصدد التحقّق، و جدّة العالم الذي نلج فيه. ينتج عن هذا بالفعل شيئا ما مثل افتتان بماض نحسّ أنه يهرب منّا بشكل لاراد له، وافتتان يختزل في ردّ فعل تتريب patrimonialisation معمّم . لكن ليس هذا سوى لحظة أولى، في منظور واجب يخلقه لنا هذا الابتعاد الجذريّ . إنّ التتريب patrimonialisation غير كاف. إنه مضلّل حتى حينما يتمثّل في الحفاظ على بقايا ماض ميت نزوره بشعورنا التام بأننا خارجه. لابد فضلا عن هذا من فهم هذا الماضي الذي نحن بعيدين عنه كثيرا والذي مع ذلك يحتوي على جانب من إنسانيتنا. وبشكل فعلي أكثر، نحن أمام واجب، وقد خرجنا من الدين، وقضي الأمر، التساؤل فيم ولماذا كانت البشرية دينيّة؟ فنحن لا يمكننا الفهم دون فهم هذا الاستثمار الهام لأجدادنا في أمر بات غريبا عنا بشكل عفوي (وما أقوله هنا ينسحب أيضا على المؤمنين اليوم، الذي ليس لإيمانهم دخل، في هذا المستوى، في إيمان أجدادهم). إنّ فكرتنا نحن بالذات هي معلّقة بذكاء ما لسنا عليه. لا توجد مفارقة في هذا: يوجد منطق وضعنا التاريخي- شيء آخر يتمثل في معرفة إذا ما كنا في مستواه.

- أ. بوبيتو

بعد اختيار عصر الدين طيلة آلاف السنين، عصر " سلب التملّك"، وبعد الرغبة في التملك منذ نشأة الدولة والانخراط منذ ذلك الحين في مسار استقلالية أدت إلى الديمقراطية الحديثة، عرفت البشرية منذ سنوات 1970،التجرّد من تملك "جديد. في نظرك، إنّ " نهاية حكم مشترك" بموجب غياب " أفق مشترك" بحكم " هيمنة التفريد" l’individualisation  وبموجب تراجع كل منا " إلى زاويته  ولحسابه،  يفضي اليوم إلى " هذا السلب للتملّك أو الحيازة الذي لا يتأتي أولا من خارج، بل يخرج من داخل خاصيتنا التي هي نحن". يقودك هذا إلى طرح هذا السؤال المخيف عن هذا السلب الجديد  والراهن دوما:" أليس الاسم الحقيقي لهذا هو تجريد  العالم من الإنساني؟" (غوشييه 2007). ما هي حينئذ التمظهرات الرئيسية لهذا التجريد للعالم  من الإنساني" وآثار ذلك، في المستقبل؟

- مارسال غوشييه

نجد المشكل المطروح في السؤال الخامس في شكل نمط أكثر نظرية وأكثر عمومية. وبالنظر إلى الطابع البنيوي للاستقلالية، التي نكتسبها أولا بوصفها تنظيما للفضاء الاجتماعي الإنساني، خطوة إلى الأمام لهذه الأسس، في شكل الحقّ droit،والسياسي والتاريخ، يمكن فعلا أن تُترجم في فقدان التحكّم في نمط هذه الاستقلالية لدى الفاعلين . نحن إزاء هذا. نحن نملك ربما بتزايد ذلك وسائل الاستقلالية، ونحن موضوعيا بتزايد الصانعين لعالمنا ونحن أقلّ سيادة على العالم نصنعه. إنه من " الإنساني" أكثر بالمعنى الذي تكون فيه ثمرة أعمالنا، لكن " تجريدا للإنساني" في هذا، كونه تصرفه يفلت منّا، وانّه، لا فسحب لا نعثر على أنفسنا فيه، بل لأنها نجد فيه هويتنا قد شوشّت. تتسع حرية كل منّا، لكن يكبر عجزنا بنفس القدر. لم تكن قدرتنا كفاعلين تاريخيين في الحاضر بذات القدر من القوّة، لكن بين الماضي الذي يهرب والمستقبل الذي أصبح غير مفكّر فيه، نحن لا نعرف قطّ، في خضم حماس تحوّلنا، من نحن ومن أين أتينا وإلى أين نذهب. ومرة أخرى تكون الاستقلالية، لا حلاّ أو مخرجا، شيئا ما مثل مصالحة عامّة، بل مشكلا، مشكلا ينمو في حدّة مع تعزيز لمبدئه . إنّ السؤال الكبير هو في معرفة إذا ما كنا في مستوى الوسائل التي بواسطتها يمرّ التحكّم الواعي ويتطلبه. وفي نهاية الأمر لا شيء يطمئننا. ماذا لو  كنّا بشكل مؤكّد دون مستوى المهمّة التي تمثّلها قدرتنا على حكم أنفسنا؟  ".

***

.....................

هوامش:

1- مارسال غوشيه: Marcel Gauchet عالم اجتماع ومؤرخ فرنسي معاصر مدير مدرسة الدراسات العليا في علم الاجتماع.

2- إشارة إلى ما ورد في كتاب " الديني والسياسي" من عرض لأفكار مارسال غوشيه، قام به أوليفيه بوبينو.

في المثقف اليوم